تمثَّل الاحتجاجات بالعراق أول تحدٍّ واسع النطاق للبنية التوافقية للنظام السياسي العراقي عقب الاحتلال الأميركي ولسياساته الاقتصادية (رويترز) |
ملخص انطلقت في العراق، وتحديدًا في المدن ذات الغالبية الشيعية، أوسع موجة احتجاجات شعبية ضد تردي الخدمات والفساد الحكومي، وقد فرضت تلك الاحتجاجات على الطبقة السياسية أن تغيِّر من أجندتها وتعلن عن حزمة إصلاحات، خصوصًا بعد إعلان المرجعية الشيعية دعمها لمطالب المحتجين. وتمثل موجة الاحتجاجات تحديًا لمنظومة المحاصصة المرتبطة بآليات التوافق الإثني والطائفي والحزبي، وتؤثر وتتأثر بالانقسامات الشيعية البينية والصراع بين التيارات المقربة من إيران، والتي تسعى لتحسين موقعها في توازنات القوى، وبين المرجعية الشيعية والتيارات القريبة من الأسر الدينية والتي تسعى لاستقرار النظام وتتبنَّى إصلاحًا تدريجيًّا له. ذلك أن مستقبل الإصلاح يتعلق بقدرة الحركة الاحتجاجية على الحفاظ على زخمها، وبالمدى الذي يمكن فيه لرئيس الوزراء، حيدر العبادي، تحدي النظام التوافقي ومنظومة المحاصصة الحزبية. |
مقدمة
يمكن النظر إلى موجة الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في بغداد والمدن ذات الغالبية الشيعية في العراق من زاويتين، تتمثل الأولى في كون هذه الاحتجاجات أول تحدي شعبي واسع النطاق للبنية التوافقية للنظام السياسي الذي أقيم في العراق عقب الاحتلال الأميركي، بينما تتمثل الثانية في أنها تعبر عن توتر وانقسام شيعي داخلي على مستويين، مستوى العلاقة بين القواعد الشعبية والنخبة السياسية الشيعية ومراكز القوى المرتبطة بها، ومستوى العلاقة فيما بين هذه المراكز حول توزيع السلطة والموارد والنفوذ، وحول الأيديولوجيا السياسية للنظام وعلاقاته الخارجية.
جذور المحاصصة
أُقيم النظام السياسي العراقي بعد عام 2003 على أساس الترتيبات التوافقية التي استهدفت نظريًّا توزيع السلطة وعدم تمركزها وإقامة حكومات شراكة وطنية تتمثَّل فيها الهويات الإثنية والدينية والمذهبية للنسيج الاجتماعي العراقي. لكن عمليًّا تحولت الترتيبات التوافقية وفكرة تقاسم السلطة إلى ما صار يُسمَّى من قِبل المنتقدين بـ "المحاصصة"؛ حيث جرى اقتسام السيطرة على مؤسسات الدولة والهيئات الحكومية والمستقلة وفق معادلة التمثيل النسبي لـ "المكونات"، وغدا ضمان أن يكون هناك ممثلون للقوى الرئيسية المهيمنة في كل جماعة فرعية ضمن مؤسسات الحكم والإدارة هو المحور الأساسي في الصفقات التي تشكَّلت على أساسها الحكومات المتعاقبة منذ ذلك الحين.
وإلى جانب هذا النوع من تقاسم السلطة، جرى أيضًا اعتماد التقاسم الحزبي حيث إن كل "مكوِّن" أدار أيضًا عملية توزيع للمناصب بين أحزابه وقواه المختلفة، وتدريجيًّا أخذ بعض تلك المناصب يستقر في أحزاب معينة ويصبح "حصتها"، كما هي حال منصب رئيس الجمهورية الذي استقر لدى الاتحاد الوطني الكردستاني، ومنصب رئيس الوزراء الذي استقر لدى حزب الدعوة. وبسبب هذه الترتيبات اتصفت الحكومات المتعاقبة بعدم التجانس، وجرى ملء المناصب العليا والمتوسطة فيها على أساس توطيد شبكات الأتباع والولاءات الخاصة بكل حزب عبر تقديم عنصر الولاء على الكفاءة والخبرة. واستخدمت الأحزاب السياسية سيطرتها على مفاصل الوزارات والمؤسسات الحكومية لاستخراج الموارد من خلال توجيه عقود الدولة نحو شركات ورجال أعمال مقرَّبين من تلك القوى، وتوسيع شبكات الولاء الخاصة بها عبر التوظيف الحكومي.
وبسبب الطابع الريعي للاقتصاد العراقي؛ حيث تشكِّل عوائد النفط 96% من مصادر الدخل الحكومي، ولكون النفط سلعة سيادية تسيطر عليها الحكومة، فإن توزيع العوائد النفطية على المؤسسات التي تسيطر عليها الأحزاب يعني ضمنيًّا توزيع جزء منها على تلك الأحزاب، وأصبح مسعى الحزب لانتزاع أكبر حصة ممكنة من الموارد وسيلة لتوسيع نفوذه السياسي. ومن المعروف أن النخب المهيمنة في الدول الريعية تنجح في توجيه النشاط الاقتصادي بما يكرِّس تلك الهيمنة، وتتحرك باستقلالية كبيرة عن احتياجات ومطالب المجتمع (1).
ولكون الترتيبات التوافقية هي ذاتها ترتيبات نخبوية تقوم على ما يسميه أريند ليبهارت، المنظِّر الأبرز للنظام التوافقي، بتحالف النخب Elite Cartel (2)، فإن الالتقاء بين "المحاصصة" و"الاقتصاد الريعي" أنتج حكومات غير فاعلة وفسادًا بمستوى قياسي على الصعيد الدولي، وكرَّس التقاليد الزبائنية في العمل السياسي وإدارة العملية الاقتصادية، كما أفضى إلى سلوك إنفاقي من قِبل النخبة السياسية، اتسم بالتسيب والسعي للإثراء السريع عن طريق الرواتب والمخصصات الضخمة والأعداد الكبيرة من أفراد الحماية، فضلًا عن الفرص الواسعة لسوء استخدام السلطة.
الأزمة الاقتصادية
كان هذا الوضع يُواجَه بنقد شعبي طوال السنوات الماضية، لكن هذا النقد بدأ يتخذ شكل السخط في الأشهر الأخيرة بسبب الأزمة الاقتصادية التي بات العراق يعاني منها منذ هبوط أسعار النفط في النصف الثاني من عام 2014؛ حيث تراجع سعر برميل النفط تدريجيًّا ليصل إلى 45 بالمائة من قيمته السابقة. وقد صار على العراق بشكل مفاجئ أن ينتقل من اقتصاد البذخ والإسراف والنزعة الاستهلاكية التي تفاقمت في السنوات الماضية مع انتعاش أسعار النفط، إلى اقتصاد التقشف وضبط النفقات. وبسبب المحاصصة وسوء الإدارة وغياب المحاسبة، وهي نتيجة طبيعية لتوزيع مؤسسات الدولة إلى مناطق نفوذ بين الأحزاب، فقد تم إهدار مئات المليارات من الدولارات في السنوات الماضية عبر الفساد والمشاريع الفاشلة.
ويشير الخبير الاقتصادي العراقي ومستشار رئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، إلى أن نسبة المشاريع الاستثمارية التي رُصدت لها نفقات بعد عام 2003 وجرى تنفيذها فعلًا لم تتجاوز الـ 20%، وأن حوالي 90% من تلك المشاريع جرى إقرارها بدون دراسة علمية لجدواها الاقتصادية والفنية (3). ومن الواضح أن غياب الكفاءة الإدارية لدى المدراء المعينين بسبب ولاءاتهم الحزبية، وتعطيل الدور المحاسبي للبرلمان ولمؤسسات الرقابة كهيئة النزاهة، بفعل الاتفاق الضمني بين النخب على غضِّ النظر عمَّا يفعله كل منها في منطقة نفوذه، فتح المجال واسعًا أمام شبكات الفساد لتستنزف الموارد. وقد ظهرت في السنوات الأخيرة طبقة من رجال الأعمال الجدد الذين أثْرَوا عبر العقود الحكومية أو علاقات التخادم مع المسؤولين الحكوميين لتتشكَّل منظومة العلاقات السياسية-المالية على أساس النهب المنظم للفائض المالي الذي لا يجري دفعه لتمويل النفقات الجارية.
وبسبب أعمال العنف وعدم استقرار الوضع الأمني، وعدم تحديث القوانين المتعلقة بالاستثمار الخارجي، وضعف البنية التحتية والتخلُّف الكبير في قطاعي الكهرباء والنقل، لم يتطور النشاط الاقتصادي الخاص، وظلَّ سوق العمل ضيقًا وغير قادر على استيعاب الطلب الجديد، خصوصًا في مجتمع شاب يدخل أكثر من نصف مليون من مواطنيه إلى هذا السوق سنويًّا (4). وقد اتَّبعت القوى الحاكمة سياسة التوظيف الحكومي كطريقة للحد من البطالة ممَّا أدَّى إلى زيادة عدد العاملين في القطاع العام من حوالي 800 ألف عام 2003 إلى أكثر من أربعة ملايين حاليًا، يضاف إليهم أكثر من مليون ونصف مليون متقاعد فضلًا عن آلاف المتطوعين في قوات الحشد الشعبي. ويشير بعض الإحصائيات إلى أن إنتاجية الموظف العراقي لا تتجاوز 17 دقيقة في اليوم، غير أن من يتمكن من الحصول على وظيفة حكومية ثابتة يحظى براتب مستقر وضمان لمستقبله عبر التقاعد؛ مما جعل من شريحة الموظفين قوة جديدة تسعى للحفاظ على امتيازاتها وتقاوم المس بحقوقها (5).
أُقِرَّت الموازنة المالية لعام 2015 بمبلغ يقارب الـ 105 بلايين دولار مع التأكيد على بعض السياسات التقشفية وضبط النفقات (6)، لكن استمرار الحرب مع تنظيم داعش وتزايد النفقات العسكرية المرتبطة بها، فضلًا عن تواصل التراجع في سعر النفط، أخذ ينعكس بشكل مباشر على قدرة الدولة على إشباع الاحتياجات والمطالب السكانية، بل إن الحكومة بدأت تتَّبع سياسات ضريبية جديدة تنقل جزءًا مهمًّا من العبء إلى كاهل المواطن. والأهم من ذلك، أنَّه لم يطرأ تغيير مهم على طريقة سلوك النخبة وأنماطها الإنفاقية وتعاملاتها، فقد تم تشكيل حكومة كبيرة بأكثر من ثلاثين عضوًا، وتعيين ثلاثة نواب لرئيس الجمهورية، واستحداث مؤسسات جديدة كنوع من التسويات السياسية، ولم يتم تخفيض الامتيازات الضخمة التي يحصل عليها المسؤولون الحكوميون وأعضاء البرلمان.
أصبح دخول البرلمان أو الحكومة أو مجالس المحافظات بابًا للإثراء السريع والوجاهة الاجتماعية بشكل أخذ يُعمِّق من إحساس المواطنين العاديين بأن المسؤولين الحكوميين يخدمون مصالحهم الشخصية أكثر من أي شيء آخر، خصوصًا مع استمرار سوء الخدمات وتفشي البطالة في أوساط الشباب التي تقدر بـ 30% (7)، وهي نسبة سابقة للأزمة الاقتصادية، ويُحتمل أن تتزايد مع التراجع الاضطراري في معدلات التعيين في المؤسسات الحكومية، والتسريح المحتمل للمتعاقدين مع الحكومة وعدم الاستقرار الأمني.
تنامي عوامل السخط الاجتماعي
كان لسيطرة تنظيم داعش على مدينة الموصل وعدد من المدن الأخرى أثر نفسي كبير؛ حيث فشل الجيش العراقي الذي أنفقت الولايات المتحدة حوالي 25 بليون دولار على تشكيله (8) في الدفاع عن تلك المدن، وكشف معظم عورات النظام السياسي، واخترق الفساد ومنظوماته الجيشَ بطريقة عميقة كما تجسَّد في وجود أسماء أكثر من خمسين ألف منتسب وهمي تُصرف لهم رواتب شهرية؛ الأمر الذي دفع المرجعية الشيعية إلى إصدار فتوى "الجهاد الكفائي" التي أسهمت بتشكيل قوة عسكرية موازية من الميليشيات والمتطوعين لتسند -وأحيانًا تحل محل- القوات الرسمية في مواجهة تنظيم داعش. وأسهم ذلك في تعميق الفجوة بين الشارع والنخب الحاكمة التي صار يُنظر إليها باعتبارها بلا جدوى، بل وتُشكِّل مصدرًا لاستنزاف موارد البلاد دون أن تتمكن من الدفاع عن مواطنيها أو إصلاح الخدمات، بينما أخذ نفوذ الميليشيات والتشكيلات العسكرية غير الرسمية بالتصاعد.
وجاءت أزمة الكهرباء، حيث لا يتوفر لدى العراقيين أكثر من 12 ساعة من التيار الكهربائي يوميًّا في درجات حرارة مرتفعة جدًّا تجاوزت الخمسين درجة في النهار، لتحرك عوامل السخط والغضب الكامنة تجاه الطبقة السياسية. وانطلقت الشرارة الفعلية للاحتجاجات في مدينة البصرة التي تعد أغنى مدينة عراقية بثرواتها الطبيعية والميناء الوحيد للعراق، إلا أنها تعيش وضعًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وخدميًّا متدنيًا. وحدثت صدامات بين الشرطة والمتظاهرين يوم 16 يوليو/تموز 2015 تسببت بمقتل شاب وجرح اثنين آخرين (9)، ثم أخذت الاحتجاجات تمتد إلى مدن أخرى قبل أن تنطلق في ساحة التحرير ببغداد يوم 31 يوليو/تموز بعد أن دعا إليها إعلاميون ونشطاء في الفيسبوك، واكتسبت زخمًا أكبر يوم 7 أغسطس/آب حينما ازداد عدد المشاركين وتصاعد الخطاب الاحتجاجي وصار يُشكِّل مصدر قلق لدى النخبة السياسية، خصوصًا بعد أن تبنَّت المرجعية الشيعية مطالب المحتجين في خطبة ألقاها ممثلها في كربلاء، السيد أحمد الصافي، ودعا فيها رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى وضع خطة إصلاح حقيقية لمواجهة الفساد و"أن يكون أكثر جرأة وشجاعة في خطواته الإصلاحية، وأن لا يكتفي بالقرارات والإجراءات الثانوية التي أعلنها مؤخرًا، وإنما يصدر قرارات مهمة وإجراءات صارمة لمكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية" (10).
أعلن العبادي بعد ساعات من بيان المرجعية التزامه بتوصياتها والشروع بخطة إصلاح تجسدت في إصداره يوم 9 أغسطس/آب "حزمة الإصلاحات الأولى" (11) التي تضمَّنت إلغاء بعض المناصب العليا غير الضرورية التي تكلِّف الكثير من النفقات مثل منصب نائب رئيس الجمهورية (مما يعني تجريد ثلاثة من كبار السياسيين العراقيين، هم: نوري المالكي وإياد علاوي وأسامة النجيفي من صفاتهم الرسمية)، وكذلك منصب نائب رئيس الوزراء الذي جرَّد كلًّا من السياسي الصدري المثير للجدل، والذي طالته تهم فساد، بهاء الأعرجي، والسياسي السنِّي الذي طالته أيضًا تهم فساد تتعلق بسوء إدارته للأموال المخصصة للنازحين من المدن ذات الغالبية السنية، صالح المطلك، والسياسي الكردي روز نوري شاويس من مناصبهم. وتضمنت الحزمة أيضًا الإعلان عن تقليص شامل وفوري في عدد حمايات المسؤولين وإبعاد المناصب العليا دون درجة وزير عن المحاصصة، وتقليص عدد الوزارات، وتشكيل مجلس لمكافحة الفساد يتولى رئيس الوزراء رئاسته.
تحت ضغط الشارع ونداء المرجعية، وانضمام زعيم التيار الصدري إلى المهدِّدين بدعم الاحتجاجات في حال عدم تمرير الإصلاحات، صوَّت البرلمان العراقي بالموافقة على تطبيقها يوم 11 أغسطس/آب. كما أعلن مجلس النواب على لسان رئيسه ورقة إصلاح خاصة به تتضمن التأكيد على إنهاء التعيينات للمناصب العليا بالوكالة واعتماد الكفاءة والخبرة كأساس لشغل تلك المناصب بدلًا من الولاء الحزبي، وإصدار قانون يفرض على المسؤولين مزدوجي الجنسية التخلي عن جنسيتهم غير العراقية ومحاسبة النواب الذي يتغيبون عن جلسات البرلمان بدون عذر (12).
حتى الآن، يصعب الجزم بما إذا كانت هذه الإصلاحات ستُطبَّق، خاصة أن العديد منها يتطلب إصدار تشريعات قد تستغرق وقتًا من النقاش وربما المساومات بين الكتل السياسية. ومعظم ما أُعلن عنه حتى الآن يندرج ضمن الوعود اللفظية الأسيرة لرغبة تخفيف سخط الشارع والاستجابة لدعوة المرجعية، مما يضع علامات استفهام حول إمكانية المضي بها، وإلى أي حدٍّ سيتمكن العبادي من تغيير طبيعة النظام القائم وبنية المحاصصة فيه دون الاصطدام بتوازنات سياسية داخلية وإقليمية.
وفي يوم 16 أغسطس/ آب، أصدر العبادي ما قد يعتبر حزمة إصلاح ثانية تقضي بإجراء ترشيق كبير في وزارته، حيث قلص عدد أعضاء مجلس الوزراء من 33 إلى 22 وألغى أربع وزارات ودمج وزارات أخرى، وبدا لافتاً أن الحزمة الثانية قد صدرت كأمر ديواني واجب التنفيذ من تاريخ الصدور، رغم أنه يرقى إلى مستوى التعديل الوزاري الذي يفترض أن يصوت عليه البرلمان.
انقسام شيعي-شيعي
يكتسب الصراع الشيعي-الشيعي أهمية خاصة في هذا السياق؛ فقد اقتصرت الاحتجاجات حتى الآن على مدن ذات غالبية شيعية، ومثَّلت في بعض جوانبها تحديًا من الشارع الشيعي للنخبة الإسلامية الشيعية التي تصدَّرت المشهد السياسي منذ عام 2003. فالمناطق ذات الغالبية السنية يخضع معظمها لسيطرة تنظيم داعش أو تشهد صراعًا مسلحًا بين التنظيم والقوات العراقية، وهي منقطعة إلى حدٍّ كبيرٍ عن مجريات الأحداث في بغداد. أمَّا إقليم كردستان فهو يعيش إشكالياته وصراعاته الخاصة المتعلقة بالتمديد لرئيس الإقليم مسعود البارزاني في موقعه، وما يتطلبه ذلك من تغيير لدستور الإقليم ومساومات مع القوى الأخرى حول شكل الدستور. ورغم وجود بعض التشابه بين نظامي التوافق الحزبي الريعي في بغداد وأربيل، وأشكال مشابهة من الفساد والعلاقات الزبائنية، إلا أن تركيز الشارع الكردي على إشكالياته الخاصة يجعل اهتماماته منفصلة إلى حدٍّ كبيرٍ عن اهتمامات الشارع الشيعي.
يثير هذا الأمر تساؤلًا مهمًّا حول المدى الذي يمكن فيه إجراء إصلاحات بدون الإخلال بنظام التوافق القائم على صفقة نخبوية بين القادة الشيعة والكرد والسنَّة؛ فالإصلاحات تطول الحكومة الاتحادية استجابة لضغط من الشارع الشيعي، لكن كما صرَّح بعض النواب والمسؤولين الكرد فإن أي تغييرات يجب أن لا تمس بنظام التوافق بين "المكوِّنات". ويضع هذا الأمر قيدًا كبيرًا على قدرة العبادي على إجراء إصلاحات تُرضي شارعه الشيعي، ويحدد سقف حركته بما لا يهدد التسويات بين ممثلي المكونات، فأي اصطدام مباشر بالنظام التوافقي في هذه الظروف قد يهدد وحدة البلد، مع افتقار بغداد لقدرة فرض سيطرتها أو قوانينها على إقليم كردستان ومعظم المناطق ذات الغالبية السنية، وهنا تكمن المفارقة الكبيرة في أن نظام التوافق رغم الدور الكبير الذي لعبه في إعادة إنتاج الانقسام السياسي والمجتمعي، يبدو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على العراق ككيان سياسي موحد.
ويضاف إلى ما تقدم البعد الخاص بعلاقة تلك الاحتجاجات أو بالشكل المستقبلي الذي قد تأخذه في حال تصاعدها، مع التنافسات الشيعية البينية؛ فالتحولات التي حصلت في العراق منذ سيطرة تنظيم داعش على مدينة الموصل، أطلقت تنافسات شيعية داخلية تحت سقف الاتفاق الشيعي العام على مواجهة هذا التنظيم ودعم الحشد الشعبي؛ فالحشد هو مظلة واسعة تدخل تحتها عدَّة تنظيمات وتشكيلات عسكرية، ولبعض تلك التنظيمات مطامح سياسية وتصورات أيديولوجية مختلفة حول شكل عراق ما بعد داعش والدور الإقليمي للعراق. والتنظيمات القريبة من التيار الثوري الإيراني، مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، ترى نفسها جزءًا من محور إقليمي بقيادة إيران، وهو تيار يتبنَّى مقولات جذرية ومعاد للغرب. في المقابل، هناك القوى المرتبطة بالمرجعية الشيعية أو بالأحزاب التي تقودها أسر شيعية دينية مثل التيار الصدري والمجلس الأعلى، وهي تميل إلى ضبط سلوك الاتجاهات الراديكالية والحفاظ على توازنات القوى القائمة في الوسط الشيعي.
يأخذ التنافس بين التيارين شكل الصراع غير المفتوح؛ حيث يسعى التيار الأول إلى تحسين موقعه في توازنات القوى مستقويًا بالدعم الإيراني وبالدور العسكري الذي يلعبه داخل مظلة الحشد الشعبي. وقد انتظم مؤقتًا وراء رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي دخل كل من تنظيمي بدر والعصائب في ائتلافه خلال الانتخابات الأخيرة، بينما يسعى التيار الثاني إلى الحفاظ على نفوذه في الخريطة الشيعية ويتكئ إلى حدٍّ كبير على المرجعية الشيعية بوصفها قوة ضامنة للتوازن الشيعي، ومحافِظة على قدر من الاستقلال السياسي عن إيران.
بناء على هذه المعطيات يمكن فهم محاولة تنظيم العصائب استثمار الاحتجاجات عبر النزول إلى الشارع، وتبني الدعوة لتحويل العراق من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، متصورًا على الأرجح أن هذا النظام سيؤكد حكم الأغلبية الشيعية ويسمح بمزيد من التركيز للسلطة في يد القوى الشيعية. وتلتقي هذه الدعوة جزئيًّا مع دعوة المتظاهرين المستقلين إلى نبذ وإنهاء نظام المحاصصة، لأنه نظام خلق حكومات غير منسجمة وغير فعَّالة وسمح بصناعة الإقطاعيات الحزبية، لكن هذا الالتقاء الجزئي لا يعني اتفاقًا على الأهداف. وقد استشعر الكثير من الناشطين المدنيين و"العلمانيين" خطورة السماح لتنظيم مثل العصائب بركوب موجة التظاهرات وتحريفها عن أهدافها الأصلية، فحاولوا التأكيد على اختلاف الأجندات والمنطلقات، كما أن التظاهرات الأخيرة لم تمنح زخمًا كبيرًا لمطالب العصائب التي ما زالت أبعد عن أن تكون تيارًا شعبيًّا كبيرًا في الشارع الشيعي.
يبدو أن زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الذي انشق قادة تنظيم العصائب من تياره، استشعر التهديد الذي مثَّلته مساعي هذا التنظيم لتوظيف الاحتجاجات لصالحه فتبنى -متأخرًا- فكرة الإصلاح إلى حدِّ تهديد البرلمان بدفع أنصاره إلى القيام بتظاهرات كبرى في حال امتناعه عن دعم ورقة الإصلاح الأولى التي قدَّمها العبادي، على الرغم من أن تلك الورقة أقصت واحدًا من أكبر سياسيي تياره (بهاء الأعرجي) (13).
ويُثار في هذا السياق سؤال مهم حول الكيفية التي يفكر بها حيدر العبادي وهو يؤسس مشروعه الإصلاحي. وقد لا يبدو للوهلة الأولى أن العبادي في موقع مرتاح بسبب ضغط الشارع عليه، ولأنه مضطر للدخول في مواجهات مع خصوم أقوياء، لكن من ناحية أخرى قدَّمت له الاحتجاجات وتبني المرجعية الشيعية بعض مطالبها فرصة كبيرة للقيام بتغييرات سياسية وإدارية تساعده على أن يعمل براحة أكبر. ويبدو أن إزاحته لنوري المالكي من منصب نائب رئيس الجمهورية هو الخطوة الأكثر تأثيرًا بالمعنى المباشر، لأنها قد تقود إلى انشطار نهائي داخل حزب الدعوة بين تياري العبادي والمالكي، وتقوِّي الشعور لدى القوى المتحالفة مع المالكي بأن العبادي يستغل الجو الذي خلقته الاحتجاجات والتفويض الذي منحته له المرجعية للتخلص من منافسيه الشيعة.
على الأرجح، سيتعمق هذا الانقسام ممَّا سيدفع العبادي إلى الاحتماء أكثر بالتحالف مع المرجعية الدينية التي ما زالت الطرف الأقوى في المعادلة السياسية الشيعية، وهذه الأخيرة ورغم سعيها إلى عدم التدخل المباشر بالعمل السياسي اليومي ستدعم العبادي ولو ضمنيًّا، لأن هدفها الأساسي في هذه المرحلة هو إصلاح النظام والحيلولة دون انهياره مما يخلق فراغ سلطة كبيرًا يسمح للقوى الراديكالية والميليشيات القوية بتعزيز نفوذها.
اتجاهات ممكنة
استقبل الجمهور حزمة إصلاحات العبادي بمظاهرات داعمة له، وأشاع تمرير الحزمة في البرلمان جوًّا من التفاؤل وبنفس الوقت مخاوف من أن تؤدي إلى إضعاف زخم الاحتجاجات، خصوصًا أن العديد من الفقرات التي تم التصويت عليها يتطلب وقتًا قبل إقراره كقوانين. من هنا، يبدو مبرَّرًا الاعتقاد بأن الطبقة السياسية قد تتجه إلى التراجع عن بعض الإصلاحات أو تتمهل في تنفيذها إن شعرت بتراجع زخم الاحتجاج كما حصل في مرات سابقة، وبالتالي تغدو التحركات المقبلة للمحتجين وقدرتهم على إدامة الزخم مسألة مهمة لتقرير مستقبل وعود الإصلاح في البلاد.
وإذا كان التحدي الأكبر أمام المحتجين هو مواصلة الضغط على الطبقة السياسية، فإن التحدي الأكبر أمام العبادي يتمثل في قدرته على الاستفادة من ضغط الشارع لانتزاع إصلاحات حقيقية والمضي نحو نقاط أكثر حساسية تتعلق بطبيعة عمل النظام التوافقي ومنهج المحاصصة، وبنفس الوقت ضمان عدم انقلاب القوى السياسية عليه إن شعرت بأنه ينتزع بعض موارد قوتها. حتى الآن يبدو العبادي حذرًا وما زال يتحرك من خلال الكتلة الحزبية الصغيرة المحيطة به، بينما تراقبه القوى الأخرى وهدفها التأكد من أن أي تنازلات تقدمها لن تتحول إلى رصيد لصالح العبادي وحزبه.
ويمكن قياس قدرة ورغبة العبادي بالمضي في إصلاحات جذرية بثلاث صيغ: طبيعة الإصلاحات المستقبلية التي وعد بإصدارها، وطبيعة الأسماء التي سيقترحها لشغل المناصب الحكومية، وتعامله مع ملف الفساد، وبشكل خاص ذلك الذي يستهدف عددا من المسؤولين الكبار. وتضمنت حزمة الإصلاحات الثانية إجراءات لترشيق الجهاز الحكومي وتقليص عدد الوزارات، إلّا أن العبادي قد يعمل على إجراء التعديل بطريقة لا تخلّ جذرياً بتوازنات القوى بين الأحزاب الكبيرة (حتى الآن فإن المتضرر الأكبر من عملية إلغاء الوزرارات هي الأقليات كالتركمان والمسيحيين)، حيث إن أي حزب رئيسي لن يكون مستعداً لدعم تغييرات يتضرر منها أكثر من غيره، وهو ما يعني أن العبادي سيكون في موضع الاختيار بين إدارة عملية الإصلاح عبر التوافق مع الأحزاب الأخرى، وهو ما سيجعل مثل هذا الإصلاح عملية بطيئة وصعبة، أو المضي في إجراء تغييرات دون مشاورة تلك الأحزاب، وهو ما قد يعرضه للانتقام السياسي أو الشخصي، وقد يصبح ذلك مصدراً لزعزعة ما تبقى من الاستقرار في البلاد إن انتقل الصراع إلى الشارع واستخدمت فيه الوسائل غير السياسية.
بخصوص شغل المناصب الحكومية فحتى الآن لم يعلن العبادي عن تعيين أي شخص جديد، وهناك ضغط من المحتجين للدفع بشخصيات من التكنوقراط لشغل المناصب الشاغرة، وهو ما تبنَّاه العبادي أصلًا في ورقته الأولى، لكن ضبابية مفهوم "التكنوقراط" واستمرار العبادي بالاستعانة بالمقربين السياسيين له في إدارة ملف الإصلاحات، وحاجته دستوريًّا لمصادقة البرلمان، سيعقِّد عمليات الاستبدال وقد يؤدي إلى مزيد من الشلل المؤسسي.
أمَّا فيما يتعلق بملف الفساد فقد وعد العبادي بتشكيل مجلس أعلى للفساد وتحريك ملفات المتورطين في عمليات فساد خلال المرحلة السابقة، وهذا النوع من الوعود كان رئيس الوزراء السابق نوري المالكي قد أطلقه أيضًا، لكنه في معظم الأحيان وجَّهه نحو خصومه السياسيين. فهل بإمكان العبادي المضي قدمًا بهذا الاتجاه حتى لو طالت الاتهامات مقرَّبين إليه بل وقادة في حزبه مثل المالكي نفسه؟ وهل يمتلك الأدوات لتنفيذ قرارات إلقاء القبض وجهازًا قضائيًّا مستقلًّا بما يكفي لعمل ذلك.
لقد تزامن إصدار العبادي حزمة الإصلاحات الثانية مع صدور تقرير لجنة التحقيق البرلمانية بسقوط الموصل، وقد حمّل التقرير المالكي وعددا من قادة الجيش الذين عيّنهم مسؤولية أساسية في التسبب بسقوط ثاني كبرى المدن العراقية بيد تنظيم داعش، وأوصى بإحالتهم جميعاً إلى القضاء. ومازال من غير الواضح ما الذي يمكن أن يترتب على صدور التقرير، لكن المالكي استبق الإعلان عنه بالذهاب إلى إيران في زيارة "رسمية" رغم أنه نظرياً لم يعد نائباً لرئيس الجمهورية، وحظي فيها باستقبال حافل يوحي بأن الإيرانيين ليسوا بوارد التخلي عنه تماماً، لكنه يشير بنفس القدر إلى تصاعد حدة الاستقطاب الشيعي-الشيعي بين الفئات المقربة للتيار الثوري في إيران والتي يبدو المالكي الممثّل السياسي لها، وتيار القوى التي تضررت من فترة حكم المالكي (المجلس الأعلى، حركة الصدر) والمدعوم من مرجعية النجف. وعلى الأرجح فإن العبادي يميل إلى الموازنة بين التيارين بدلاً من الانحياز المطلق إلى أحدهما، لكن تزايد حدة هذا الاستقطاب قد يجبره في النهاية على الانضواء في أحدهما.
ومع الاتفاق على أن ما لا يقل عن ثلاثمائة مليار دولار قد أُهدرت في زمن الحكومات السابقة، فإن فتح ملفات الفساد يعني عمليًّا مساءلة مجمل الطبقة السياسية التي أدارت البلاد خلال تلك السنوات ومساءلة النظام السياسي، وهي حرب لا يُتوقع من العبادي أن يخوضها وقد كان جزءًا من تلك الطبقة بأية حال، وفي ظروف حرب عسكرية مستمرة مع تنظيم داعش.
لقد قامت العملية السياسية العراقية على حصانة الرؤوس، وقد يُسقط الاصطدام بتلك الرؤوس العملية كلها، ويخلق فراغًا سيكون العبادي على الأرجح أحد ضحاياه.
_________________________________
حارث حسن - باحث ومحلل سياسي عراقي
المصادر
1- Frank R. Gutner. Political Economy of Iraq: Restoring Balance in a Post- conflict Society. (UK: Edwards Elgar Publishing, 2013).
2- Arend Lijphart, "Consociational Democracy." World Politics 21 (January 1969).
Arend Lijphart, "Constitutional Design for Divided Societies." Journal of Democracy 15.2 (2004).
3- مظهر محمد صالح، محاضرة عن الموازنة الحكومية للعام 2015:
https://www.youtube.com/watch?v=jHVSpYB2UwU
4- Gutner. Political Economy of Iraq.
5- مظهر محمد صالح، الموازنة الحكومية للعام 2015.
6- Reuters, “Iraq adopts revised 2015 budget curbed by low oil prices”, 29 January 2015:
http://www.reuters.com/article/2015/01/29/iraq-budget-idUSL6N0V86ML20150129
7- مظهر محمد صالح، الموازنة الحكومية للعام 2015.
8- Michael Knights, “The Long Haul: Rebooting US Strategy in Iraq”, The Washington Institute for Near East Policy, 2015.
9- السومرية، "لجنة الأمن البصرية: مقتل متظاهر وإصابة اثنين بتظاهرة احتجاجية شمال المحافظة"، 17 يوليو/تموز 2015.
10- السفير، "السيستاني يدعو العبادي لضرب الفساد بيد من حديد"، 7 أغسطس/آب 2015.
11- رئيس الوزراء حيدر العبادي، "نص الحزمة الأولى للإصلاحات"، 9 أغسطس/آب 2015:
http://www.pmo.iq/press2015/9-8-201503.htm
12- السومرية، "ورقة الإصلاح النيابية"، 10 أغسطس/آب 2015:
http://www.alsumaria.tv/mobile/news/142845/السومرية-نيوز-تنشر-ورقة-الإصلاح-النيابية/ar
13- البغدادية، "الصدر يهدد بتظاهرات مليونية أمام البرلمان في حالة عدم تصويته على حزمة الإصلاحات"، 9 أغسطس/آب 2015.