مقدمة
على غرار محمد علي باشا في مصر وغيره من رجال السياسة عبر التاريخ، نَكَب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ثُلَّة من الأمراء والساسة ورجال الأعمال النافذين ليلة الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، مدشنًا بذلك حلقة جديدة في مسلسل طويل لم ينته بعدُ عنوانه احتكار السلطة ومركزتها. إن إقدام رجل الرياض القوي على مثل هذا الفعل الجذري الذي فاجأ الكثيرين يطرح أسئلة عديدة تتعلق ليس فقط بسياقاته ودواعيه بل كذلك بتداعياته على المدى القصير والمتوسط. يمكن تقديم أجوبة سريعة لفهم ما يجري حاليًّا في المملكة العربية السعودية بالاعتماد على مجموعة من المعطيات الذاتية، لاسيما طموح وتسرع الأمير الشاب، لكن الفهم الدقيق لهذه اللحظة المفصلية يقتضي الاعتماد على معطيات موضوعية لا يتسنى استنباطها إلا بالرجوع إلى تاريخ وبنية المنظومة السياسية السعودية، وخصوصًا طريقة توزيع وتوريث السلطة داخل العائلة المالكة، وهو ما سنسعى إلى بيانه في هذه الورقة.
مشكلة التوريث
تعتبر مسألة التوريث أهم نقاط ضعف النظام السعودي منذ مطلع القرن التاسع عشر. ويرجع ذلك بالأساس إلى المنظومة الصـنْوية المعتمدة (adelphic system). فوِفْقًا لهذه الطريقة الأفقية لنقل السلطة -المعمول بها على نطاق واسع في العالم الإسلامي ومناطق أخرى من المعمورة-، يمكن نظريًّا لجميع أعضاء البيت الحاكم الذكور الولوج إلى سدة الملك؛ وهو ما يؤدي بشكل شبه طبيعي إلى صراعات وأزمات لاسيما أثناء الانتقال من جيل إلى جيل؛ إذ يحاول كل مُتطلع إلى السلطة الاستبداد بالأمر وحصره في ذريته دون باقي بطون عشيرته. يؤدي تكرار هذه الأزمات إلى إضعاف المجموعة المهيمنة وتسهيل التدخل الأجنبي مما يفضي إلى انهيار الكيان في آخر المطاف، كما توضح ذلك بجلاء حالة الدولة السعودية الثانية؛ فقد اغتيل أميران (تركي ومشاري)، وعُزل ثلاثة (فيصل وخالد وثنيان)، ونشبت عدة حروب أهلية دام آخرها ربع قرن، وتدخلت قوى أجنبية عدة مرات كالعثمانيين وآل رشيد في شؤون الإمارة الداخلية. والحاصل أن الدولة انهارت سنة 1891 أساسًا بسبب مسألة التوريث(1).
بعد انبعاث الدولة السعودية في مستهل القرن العشرين، لم يغيِّر الملك عبد العزيز قواعد انتقال الحكم لتفادي ظهور الأزمات من جديد عندما تطل مرحلة الانتقال الجيلي؛ فقد اكتفى بتهميش فروع البيت المالك لفسح المجال أمام ذريته(2).
ظهور الأجنحة
لما فرغ عبد العزيز من تأسيس مملكته في العشرينات، أرسى نظامًا سلطويًّا تقليديًّا يقوم على تركيز جميع السلطات بين يديه بصفته قائدًا سياسيًّا وزعيمًا دينيًّا معتمِدًا على تحالف حاكم ضيق. لكن عندما تقدمت به السن، ارتأى أن أفضل وسيلة لاستدامة ملك آل سعود هي إشراك بعض أولاده في الحكم رغم تسمية ابنه سعود وليًّا للعهد. كانت نتيجة ذلك على المدى المتوسط تفتُّت سلطة الأب وظهور منظومة سلطة جديدة يمكن تسميتها بـ"الهيمنة متعددة الأطراف" (multi-domination). زد على ذلك أن عدم تغيير نظام التوريث الصنْوي زاد الأمور تعقيدًا؛ إذ أصبح كل أولاد الملك الأحياء نظريًّا، (وعددهم 34)، مرشحين للجلوس على العرش بعد وفاته.
تميزت السنوات الأولى من حكم سعود بنوع من تقاسم السلطة بين أعضاء العائلة البارزين لكن العاهل أراد إحياء التقليد المحلي: إزاحة إخوته لاحتكار السلطة وإفساح المجال لأبنائه ومواليه. وهو ما اضطرهم إلى تشكيل تحالف عائلي قوي مدعوم من العلماء استطاع عزله بعد ست سنوات من الصراع(3).
ترسخت منظومة الهيمنة متعددة الأطراف على عهد الملك فيصل؛ فقد أمسى كل أمير على رأس معقل حصين (وزارة، إمارة، جهاز أمني، شركة، ..إلخ) يديره بشكل شبه مستقل. ولئن كانت هذه المنظومة تسمح للعائلة بالسيطرة الفعلية على كل مفاصل الدولة، فإنها تسببت في مجموعة من الاختلالات المهمة. لهذا، كان من الضروري إيجاد أداة لتجاوز هذه المعضلة تجسدت في مجلس العائلة الذي سرعان ما غدا مركزًا مهمًّا لاتخاذ القرارات(4).
ولضمان مكانتهم في مسلسل صناعة القرار الأفقي هذا، أصبح لزامًا على كبار الأمراء تشكيل أجنحة من أفراد العائلة المالكة ومحاسيب من كافة أطياف الشعب لاسيما العلماء والتكنوقراط والضباط ورجال الأعمال وشيوخ القبائل. حتى الملك نفسه، رغم مكانته القانونية والرمزية، يجب أن يعتمد من الآن فصاعدًا على جناح يُحْكِم السيطرة على قطاعات مختلفة لكي تكون كلمته مسموعة. وبعبارة أخرى، فالعاهل في هذا النظام السلطوي الأفقي ليس إلا الأول بين أقرانه (primus inter pares) مما يجعل النظام السعودي مجمعًا عائليًّا(5).
وهكذا، تحالف فيصل أساسًا مع الجناح الذي يتزعمه إخوته غير الأشقاء، فهد وسلطان ونايف وعبد الرحمن وأحمد وتركي وسلمان (الملك الحالي). يُطلَق على هؤلاء الإخوة الأشقاء اسم السديريين (نسبة إلى أمهم حصة السديري). تنامى نفوذ هذا الجناح بشكل مطَّرد خصوصًا بعد وصول فهد إلى منصب ولي العهد سنة 1975 ثم منصب الملك سنة 1982. رغم أن السديريين تقبلوا على مضض وصول أخيهم غير الشقيق، عبد الله، إلى منصب ولي العهد في نفس العام إلا أن كل المؤشرات كانت تدل على أنهم سيحتكرون السلطة عاجلًا أم آجلًا؛ مما سيمكِّنهم من تهميش أو إقصاء أجنحة العائلة الأخرى. لكن حدثًا غير منتظر سيوقف لسنوات هذا الطموح: إصابة فهد بجلطة دماغية سنة 1995 وبزوغ نجم الأمير عبد الله الذي أصبح الوصي الفعلي على العرش لعشر سنوات. وهو ما مكَّن الأجنحة الأخرى من العودة إلى دائرة المنافسة.
محاولات التقنين
لمواجهة المطالب السياسية التي أعقبت غزو الكويت سنة 1990، اضطر آل سعود إلى اتخاذ مجموعة من التدابير لاسيما إصدار نظام أساسي للحكم سنة 1992. تعتبر هذه الوثيقة هي أول نص قانوني حديث يسعى إلى تأطير مسألة التوريث ولو بطريقة مقتضبة؛ إذ تنص النقطة الثانية من المادة الخامسة على أن "يكون الحكم في أبناء الملك المؤسِّس عبد العزيز [...] وأبناء الأبناء، ويُبايَع الأصلح منهم للحكم [...]". والواقع أن هذا البند لا يحل مشكلة انتقال السلطة بقدر ما يزيدها تعقيدًا. فعند وفاة الملك عبد العزيز كان عدد المرشحين نظريًّا للجلوس على العرش 34 أميرًا، وهو أمر مكلف جدًّا سياسيًّا واقتصاديًّا. أما الآن فقد فُتح باب المنافسة نظريًّا للمئات من أمراء جيل الأحفاد.
بعد وصول عبد الله إلى الحكم رسميًّا، عام 2005، عادت صراعات الأجنحة مجددًا؛ فقد استخدم العاهل الجديد كل الموارد المتاحة لكسر شوكة السديريين وبالتالي الحفاظ على منظومة الهيمنة متعددة الأطراف. فعلى سبيل المثال، أنشأ الملك هيئة البيعة، سنة 2006، وأناط بأعضائها تعيين حكام المملكة المستقبليين لكن هدفها الأساسي هو منع وصول سديري آخر إلى ولاية العهد بعد الأمير سلطان، خاصة أن هذا الأخير كان مريضًا حينها. رغم كل مناوراته السياسية والقانونية والرمزية، فشل الملك في قلب موازين القوى؛ لأن إخوته غير الأشقاء يتحكمون في جزء مهم من مفاصل الدولة (وزارة الدفاع، ووزارة الداخلية، وأهم مناطق المملكة بما فيها الرياض، ووسائل الإعلام، ...إلخ). لذلك، أُجبر العاهل على تعيين السديري، نايف، في منصب النائب الثاني لرئيس الوزراء أي ولي العهد المقبل؛ وهو الأمر الذي أَفْقَد هيئة البيعة مصداقيتها نهائيًّا(6).
يبدو أن وفاة الأميرين، سلطان ونايف، في عامي 2011 و2012، أحيت آمال عبد الله في الحفاظ على منظومة الهيمنة القائمة رغم وصول السديري، سلمان، إلى ولاية العهد؛ فقد أحدث منصبًا جديدًا أسماه: ولي ولي العهد، وعيَّن فيه أصغر إخوته غير الأشقاء، مُقرن، الذي لا ينتمي إلى الجناح السديري. أهداف هذه المناورة واضحة: قطع الطريق أمام السديريين وتأخير الانتقال إلى الجيل الثالث للسماح لأمراء جناحه، لاسيما أولاده، بالاستعداد للمعركة الحاسمة (عيَّن العاهل ابنه متعب وزيرًا للحرس الوطني وأخويه حاكمين على منطقتين).
الانتقال إلى الجيل الثالث
لم يكن عبد الله هو الوحيد الذي يدفع بأبنائه نحو الصدارة؛ فمنذ سنوات، وأمراء الجيل الثالث يشغلون مناصب مهمة(7). ورغم أن الانتقال الجيلي بدأ يتسارع سنة 2011 لأسباب واضحة فإن رأس الدولة كان لا يزال بيد المُسنِّين. فبعد وفاة عبد الله سنة 2015، أمسى سلمان (81 سنة حينذاك) ملكًا ومُقرن (72 سنة حينذاك) وليًّا للعهد. يمكن للمرء أن يتصور بسهولة أنه إذا ما حكم هذان الرجلان لمدة طويلة فإن دور المتطلعين إلى الملك من الجيل الثالث (ومعظمهم خمسينيون وستينيون) لن يصل إلا وهم في مثل سِنهم. وهكذا كان يمكن لدورة حكم المسنين (gerontocracy) أن تستمر على المدى المتوسط دون قطيعة -طبيعية أو اصطناعية- لابد منها كي تستطيع السعودية مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية.
ساعات فقط بعد تربعه على عرش المملكة، جعل سلمان ابن أخيه محمدًا بن نايف (55 سنة حينذاك) وليًّا لولي العهد. يُظهر هذا التعيين أن الانتقال الجيلي وصل إلى مرحلة متطورة كما يبيِّن استعداد السديريين إلى تقليم أظافر الأجنحة الأخرى في انتظار تهميشها نهائيًّا. كانت ظواهر الأمور تشير إلى أن الطريق ممهدة لكي يكون ابن نايف، وزير الداخلية ورجل النظام القوي والشريك المفضل للإدارة الأميركية، هو أول عاهل من الجيل الثالث. لكن الملك سلمان كان يرى غير ذلك منذ زمن غير بعيد؛ ليبدأ صراع جديد؛ هذه المرة داخل الجناح السديري نفسه.
الحصان الأسود
منذ سنوات والكثير من متتبعي الشأن السعودي يتكهنون بشخص الأمير "الشاب" الذي سيتمكن من إحكام القبضة على العرش. كان عدد المرشحين كبيرًا في أول الأمر، لكن اللائحة بدأت تتناقص مع مرور الوقت، لتشمل عددًا ضئيلًا من الأمراء، أهمهم محمد بن نايف ومتعب بن عبد الله. في مثل هذه الحالات عادة ما يظهر حصان أسود يقلب الموازين ويبدد التنبؤات لاسيما إذا ما ساعدته بعض الصدف السعيدة. وهو ما جرى فعلًا مع محمد بن سلمان المولود سنة 1985. فعلى الورق على الأقل، لم يكن هذا الشاب مؤهلًا لكي يصبح رجل الدولة القوي لكن مجموعة من الأحداث غير المنتظرة، وتدبير أبيه المحكم في السنوات القليلة الماضية، قذفا به إلى قلب المعترك السياسي.
محمد ليس بأكبر أبناء سلمان ولا أصغرهم ولا أجودهم تعليمًا ولا أكثرهم خبرة لكنه الأقرب إلى قلبه. وهذا أمر كاف في الأنظمة الملكية (Patrimonial regimes) لضمان ترقٍّ بسرعة البرق؛ لأن العلاقات الشخصية تتفوق على كل العلاقات الأخرى لاسيما الاستحقاق. بدأ صعود نجم هذا الأمير، الحاصل فقط على إجازة في القانون من جامعة الملك سعود سنة 2009، عندما عيَّنه والده مستشارًا له في إمارة الرياض مما يسَّر له الحصول على نفوذ في أهم مناطق المملكة والاطلاع بشكل مكثف على ما يجري داخل المطبخ السياسي السعودي.
كان يمكن لابن سلمان أن يبقى محصورًا في هذا المنصب لسنوات لولا محاسن الصدف (والصدفة عامل مهم في التاريخ)؛ فقد تسارعت وتيرة الأحداث بشكل كبير بين سنتي 2011 و2012 عندما تُوفي الأميران، سلطان ونايف، على التوالي ليجد سلمان نفسه وليًّا للعهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع. فما كان منه إلا تعيين ابنه المحبوب رئيس ديوانه ومستشاره الخاص بمرتبة وزير والمشرف العام على مكتبه في وزارة الدفاع سنة 2013(8). بدأ صراع خفي بين جناح سلمان وجناح أبناء سلطان انتهى بطرد هؤلاء من وزارة الدفاع ليصبح محمد على رأس واحد من أهم مفاصل الدولة: الجيش النظامي؛ ما جعله بين ليلة وضحاها أحد أهم اللاعبين على الرقعة السعودية وأحد المرشحين المستقبليين للجلوس على العرش، وقد تأكد ذلك بعد تعيينه سنة 2014 في مجلس الوزراء بمرتبة وزير دولة(9).
بدأ المشهد السياسي السعودي يتغير بشكل جذري في مطلع 2015؛ فقد تربع سلمان على العرش بعد أن وافت المنية عبد الله. كل المؤشرات تدل على أن الملك الجديد وضع مخططًا محكمًا لتمهيد الطريق لابنه للسيطرة على الحكم. فقد استغل بسرعة مفرطة اضطراب بل ضعف الأجنحة الأخرى بسبب كبر سنِّ معظم الأمراء النافذين، ومرضهم واستكانتهم للدعة، وسوء قراءتهم للوضع السياسي، لتوسيع سلطات ونفوذ ابنه بشكل غير مسبوق وبطريقة أحادية؛ وهو ما كسر نهائيًّا قاعدة الإجماع العائلي التي تقوم عليها منظومة الهيمنة متعددة الأطراف؛ فقد عينه وزيرًا للدفاع ومستشارًا خاصًّا ورئيسًا للديوان الملكي ساعات بعد وصوله إلى الحكم(10). كما أضاف له بعد ذلك بقليل رئاسة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية ومجلس الشؤون السياسية والأمنية(11). لكن ذلك لم يكن كافيًا؛ فقد تم الضغط على الأمير مقرن حتى يتنازل عن ولاية العهد. رضخ أصغر أبناء الملك عبد العزيز الأحياء، الذي لا يتوفر على جناح لحمايته، للأمر الواقع وتنازل عن منصبه بعد أربعة أشهر فقط من تعيينه لتتم تسمية ابن سلمان وليًّا لولي العهد ونائبًا ثانيًا لرئيس مجلس الوزراء في ربيع 2015 مع احتفاظه بحقيبة الدفاع(12).
باختصار شديد، أمسى محمد بن سلمان، بعد أشهر من تولي والده الملك، يسيطر على أكثر دواليب صناعة القرار؛ إذ لم يبق له إلا وزارة الداخلية والحرس الوطني وبعض وسائل الإعلام وجزء من رؤوس المال الكبرى ليستفرد بالأمر نهائيًّا، فتتحول المملكة من نظام سلطوي أفقي إلى نظام سلطوي عمودي.
المُلك عقيم
منذ 2015، ومحمد بن سلمان يسابق الزمن لاحتكار ومَرْكَزَة السلطة؛ لأنه يعلم حق المعرفة أن موازين القوى هشة ويمكن أن تنقلب الأمور على عقبها، خصوصًا إذا ما تُوفي والده وغدا محمد بن نايف عاهلًا للبلاد. فحينذاك ستتصدى له العائلة التي يسعى أهم أجنحتها إلى الحفاظ على منظومة الهيمنة متعددة الأطراف. لذلك، كان هدفه الأساسي هو تجاوز عقبة ابن نايف بكل الوسائل المتاحة. فقد انبرى لمحاصرة هذا الأخير وتهميشه في انتظار الوقت المناسب لعزله، لاسيما عن طريق تعتيم أخباره ومنعه من مقابلة الملك وإبعاده عن مركز اتخاذ القرار والتخلص من محاسيبه وأنصاره.
بالمقابل، حرص ابن سلمان على الظهور بمظهر الحاكم الفعلي للبلاد عن طريق الإكثار من التعيينات في مختلف مرافق الدولة والخرجات الإعلامية والمبادرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية التي يُسَوِّق لها مناصروه وأتباعه على أنها استثنائية باعتبار أنها ستُحدث قطيعة في المسار التاريخي السعودي.
ولئن نجح الأمير الشاب في تهميش ابن عمه إلا أنه لم يستطع عزله؛ لأن هذا الأخير كان ما زال يحظى بدعم جزء من العائلة والنخب السعودية وثقة الإدارة الأميركية. لكنَّ حدثًا غير منتظر سيسرِّع الأمور مرة أخرى: وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في مستهل 2017. على عكس المؤسسة الأميركية الحاكمة، سيساند الرئيس الجديد ابن سلمان لأسباب موضوعية وذاتية لا يسعنا بسطها في هذه الورقة. وهو ما سيسمح لهذا الأخير بالمضي قدمًا في مخططه خصوصًا أن غريمه يعاني من مشاكل صحية؛ ففي أواخر يونيو/حزيران 2017، عُزل محمد بن نايف من ولاية العهد وجُرِّد من كل مناصبه لاسيما الداخلية وعُيِّن مكانه محمد بن سلمان(13).
لم تُثنِ نشوة النصر الأمير الصاعد عن الاستمرار في مسلسله الاحتكاري؛ فتطبيقًا لمقولة: "المُلك عقيم"، أصرَّ هذا الأخير على تحقيق مبتغاه -أي تأسيس نظام سلطوي عمودي- عبر الاستيلاء على ما تبقى من المؤسسات والموارد المهمة العامة منها والخاصة وتصفية كل جيوب المقاومة الحقيقية والمحتملة والمفترضة داخل وخارج العائلة المالكة خصوصًا أن عزل ابن نايف لم يحرِّك ساكنًا. وقد بدأت الحملة في خريف 2017 عندما أُلقي القبض على مجموعة من الفقهاء والدعاة والمثقفين المنتمين إلى عدة مشارب لاسيما الإخوان المسلمين(14)، تلاها بعد أسابيع زلزال سياسي حقيقي: نَكَبَ رجل الرياض القوي العشرات من الأمراء والساسة ورجال الأعمال النافذين، لاسيما متعب بن عبد الله، وزير الحرس الوطني والمتطلع للمُلك تحت ذريعة مكافحة الفساد. وهو ما مكَّنه من احتكار السلطة بشكل غير مسبوق في تاريخ المملكة العربية السعودية(15)؛ فهذه النكبة مكنت ابن سلمان من إحكام القبضة على القوة الردعية (الجيش والحرس الوطني وأجهزة الأمن) والاقتصاد الوطني ووسائل الإعلام المحلية والمؤسسات الإدارية والقضائية دون شريك أو رقيب وكل ذلك بمباركة المؤسسة الدينية النافذة.
نحو سلطوية جديدة
مما لا شك فيه أن ما قام به محمد بن سلمان بمساعدة والده منذ 2015 ليس إلا فصلًا في مسلسل سياسي طويل لا يمكن التنبؤ بكل تجلياته ومآلاته على المدى الطويل؛ لأن ذلك يتوقف على مجموعة كبيرة من العوامل الذاتية والموضوعية يصعب التحكم في مساراتها المعقدة والمتشابكة. لكن لا بأس من الرجوع إلى أهم البواعث التي تدفع الأمير الشاب إلى التطلع لخلق منظومة سلطوية عمودية تقوم على احتكار ومركزة القرار دون إصدار أحكام قيمية. هناك على الأقل ثلاثة عوامل متكاملة يمكن أن تفسِّر ما يجري حاليًّا في السعودية.
• العامل الأول: هو الباعث الشخصي؛ فكل القرائن تدل على أن طموح الأمير الشاب للاضطلاع بدور محوري في تاريخ بلاده غير محدود. فرغم أنه ثمرة من ثمار النظام القائم وإحدى أدواته، إلا أنه اختار بطريقة متعمدة أن يتجاهل جزءًا مهمًّا من قواعد اللعبة السياسية المحلية لاسيما عادات العائلة المالكة في سبيل الاستبداد بالأمر. زد على ذلك دوافع نفسية أخرى يصعب قياسها بطريقة علمية مثل الغيرة والحسد وحب المال وغريزة الانتقام والخوف. وهذه الأمور كلها طبيعية لا يخلو منها أي نظام سياسي فما بالك بالأنظمة المِلكوية التي تقوم أساسًا على العلائق الشخصية.
• العامل الثاني، فيتعلق بالظرفية الزمنية. لقد استغل ابن سلمان مدفوعًا بأبيه وأنصاره كل المتغيرات التي طرأت منذ 2011 لتقوية مكانته. فلئن سرَّعت وفاة سلطان ونايف وعبد الله عملية الانتقال إلى الجيل الثالث، إلا أنها خلخلت التوازنات داخل العائلة المالكة عبر إضعاف غالبية الأجنحة. وهو ما سهَّل على الأمير إقصاء أهم منافسيه، لاسيما عن طريق استعمال مجموعة من الفزاعات التي أفرزتها الأحداث كالحفاظ على استقرار المملكة من ارتدادات الربيع العربي وتحصينها من المد الإيراني والخطر الإخواني والتهديد الجهادي ومكافحة الفساد... إلخ. زد على ذلك بطبيعة الحال انتخاب دونالد ترامب غير المنتظر الذي أتى بما لا تشتهي معظم أجنحة آل سعود.
• العامل الثالث: يرجع إلى الإكراهات البنيوية والمعوقات الهيكلية. من المعروف أن السعودية بلد يغلب على سكانه عنصر الشباب، فما زالت أبعد ما تكون عن تحقيق التحول الديمغرافي؛ إذ إن حوالي 70% من مواطني المملكة، الذين يتجاوز عددهم 21 مليونًا، هم دون الثلاثين. أضف إلى ذلك أكثر من 12 مليون مقيم(16). ومن المرجح أن ينمو عدد سكان المملكة الإجمالي بشكل كبير في العقد المقبل. وبما أنهم معتادون على دولة الرفاه، فإن لمواطني المملكة، الذين يعيش معظمهم في المدن (?.5) وفي بيئة متعلمة (%5.3 فقط من الأميين) سقف مطالب اجتماعية واقتصادية عاليًا جدًّا(17). لكن يبدو أن دولة الرفاه تعيش أزمة حادة؛ فقد انخفض مستوى المعيشة إلى النصف تقريبًا في العقدين الأخيرين. كما وصلت نسبة البطالة سنة 2017 رسميًّا إلى 12.8% (50% من العاطلين عن العمل من خريجي التعليم العالي و34.2% منهم تتراوح أعمارهم بين 25 و29 سنة)(18).
كيف يمكن إذن تفسير هذه الأزمة رغم أن المملكة من أهم مصدِّري النفط في العالم؟ يعود ذلك إلى عدة أسباب من بينها طبيعة المجتمع المحافظة (منع المرأة من العمل في عدة مجالات)، والنظام التعليمي الذي لا يستجيب كمًّا وكيفًا إلى متطلبات سوق العمل (حوالي 83% من مستخدمي القطاع الخاص من الأجانب؛ لأن تكلفتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أقل)(19)، والاعتماد شبه الكلي على مداخيل النفط المتذبذبة. لكن المشكل الأساسي يكمن في شكل النظام الملكوي ومنظومة الهيمنة متعددة الأطراف وطريقة التوريث الصنوية التي خلقت أعطابًا بنيوية في جميع المجالات. فتعدد الأجنحة وصراعاتها لا يتسبب فقط في اختلال مسلسل صناعة القرار بل كذلك في هدر مالي كبير؛ إذ يستحوذ أعضاء العائلة المالكة المكونة من آلاف الأشخاص بطريقة أو بأخرى على جزء مهم من مداخيل الدولة (بين 10% و30% حسب بعض التقديرات). زد على ذلك أن الفساد يأكل جزءًا آخر من تلك المداخيل (10% حسب تقدير ابن سلمان)(20).
هذا الوضع غير مرجَّح للتغيير في المستقبل المنظور إذا بقيت دار لقمان على حالها. ففي حين أن عدد السكان لا يتوقف عن النمو، يتناقص الريع بالقيمتين المطلقة والنسبية. وفي هذا السياق، قد يمكن للمطالب الاجتماعية والاقتصادية أن تتحول إلى مطالب سياسية، خاصة أن الأجيال الشابة أكثر انفتاحًا على العالم (أكثر من 126 ألف سعودي يدرسون حاليًّا في الخارج، والمجتمع الافتراضي جد متطور)(21).
وللخروج من هذا المأزق والحفاظ على المنظومة السلطوية اقترح جزء من النخبة الحاكمة مجموعة من الحلول منذ مطلع الألفية الثالثة لاسيما خلال عهد الملك الراحل، عبد الله. فإصدار الرؤى الاستراتيجية، وتعيين جيل الشباب في المناصب العامة، والدعوات إلى إسلام وسطي معتدل، ومنح المرأة بعض الحقوق والإعلان عن نية مكافحة الفساد، وإنشاء مشاريع ضخمة لتنويع مصادر الدخل والخصخصة والسعودة والإصلاحات القانونية والمالية ليست وليدة الأمس. لم يقم محمد بن سلمان إذن إلا بإعادة تدوير أفكار وتصورات معروفة وبعضها مُجرب لكن الفرق بينه وبين سلفه وأقرانه يكمن في إدراكه نقطة مهمة: لا يمكن الإقبال على هذه التغييرات الهيكلية، نظريًّا على الأقل، دون تدمير منظومة الهيمنة متعددة الأطراف وإرساء منظومة سلطوية عمودية، همها الأول هو الفعالية ضمانًا لبقاء النظام. وهو ما اعتبره البعض شجاعة والبعض الآخر تهورًا.
مهما يكن من أمر، لا أحد يدري ما إذا كانت محاولات الأمير الشاب لإعادة تشكيل المنظومة السلطوية المهترئة التي يقودها ستنجح أم لا. لكن الأمر المؤكد هو أن مسألة التوريث ستظل في السنوات المقبلة هي المدخل الأساسي لكل أنواع التغيير في المملكة العربية السعودية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د.محمد نبيل مُـلين، كبير الباحثين في المركز القومي الفرنسي للبحوث العلمية
(1) Mouline, N, “Pouvoir et transition générationnelle en Arabie Saoudite”, Critique internationale, (n° 46, 2010), p. 125-146.
(2) Troeller, G. The Birth of Saudi Arabia:Britain and the Rise of the House of Sa'ud, (Frank Cass Publishers, 1976), p. 60-61 and p. 85-86; Jacob Goldberg, J., “The 1914 Saudi-Ottoman Treaty: Myth or Reality?”, Journal of Contemporary History, (n°19, 1984), p. 289-314;
العيدروس، محمد حسن درين، "اتفاقية دارين لعام 1915 بين ابن سعود وبريطانيا: دراسة وثائقية"، مجلة جامعة دمشق، (العدد 21، 2005)، ص 93-124.
(3) Bligh, A., From Prince to King: Royal Succession in the House of Saud in the Twentieth Century, (New York University Press, 1984).
مُلين، محمد نبيل، علماء الإسلام: تاريخ وبنية المؤسسة الدينية في السعودية بين القرنين الثامن عشر والحادي والعشرين، ترجمة محمد الحاج سالم وعادل بن عبد الله، (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2011)، ص 189-198.
(4) Al Rasheed, M., “Circles of Power: Royals and Society in Saudi Arabia”, in Paul Aarts, Gerd Nonneman (eds.), Saudi Arabia in the Balance: Political Economy, Society, Foreign Affairs, (Hurst, 2005), p. 185-213.
(5) Herb, M., All in the Family: Absolutism, Revolution, and Democracy in the Middle East, (State University of New York Press, 1999), p. 87-108; Samore, G. S., Royal Family Politics in Saudi Arabia (1953-1982), (PhD dissertation), Harvard University, 1983.
(6) Mouline, N, “Pouvoir et transition générationnelle en Arabie Saoudite”, Critique internationale, (n° 46, 2010), p. 125-146.
(7) Kechichian, J., Power and Succession in Arab Monarchies, (Lynne Rienner Publishers, 2008), p. 244-268.
(8) "الأمير محمد بن سلمان رئيساً لديوان ولي العهد ومستشاراً خاصاً لسموه بمرتبة وزير"، الرياض، 3 مارس/آذار 2013، (تاريخ الدخول:7 ديسمبر/كانون الأول 2017):http://www.alriyadh.com/814353
(9) "إعفاء الأمير عبد العزيز بن فهد من منصبه وتعيين الأمير محمد بن سلمان وزير دولة وعضوًا في مجلس الوزراء بالإضافة إلى عمله"، وكالة الأنباء السعودية، 25 أبريل/نيسان 2014، (تاريخ الدخول:7 ديسمبر/كانون الأول 2017).http://www.spa.gov.sa/viewstory.php?newsid=1225049
(10) “Saudi Prince Mohammad bin Salman named defense minister”, Al Arabiya News Friday, 23 January 2015, (Visited on 7 December 2017):
(11) https://english.alarabiya.net/en/News/middle-east/2015/01/23/Saudi-Prince-Mohammad-bin- Salman-appointed-defense-minister-head-of-Royal-Court.html "صندوق الاستثمارات العامة بصدد إطلاق شركة رؤى المدينة"، وكالة الأنباء السعودية، 2 أكتوبر/تشرين الأول 2017، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2017): http://www.spa.gov.sa/viewstory.php?newsid=132223
(12) "صدور حزمة من الأوامر الملكية: محمد بن نايف وليًّا للعهد ومحمد بن سلمان وليًّا لولي العهد"، الرياض، 29 أبريل/نيسان 2017، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2017): http://www.alriyadh.com/1043741
(13) "حصل على 31 صوتًا من أصل 34 صوتًا: بأعلى نسبة تصويت في هيئة البيعة منذ إنشائها: محمد بن سلمان ولياً للعهد، سبق، 21 يونيو/حزيران 2017. (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2017):https://goo.gl/TwYztC
(14) "الرياض تعتقل عشرين شخصية أبرزها سلمان العودة"، الجزيرة نت، 11 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2017):https://goo.gl/tys3Hn
"أبرز الدعاة المعتقلين والممنوعين من السفر في السعودية"، الجزيرة نت، 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 07 ديسمبر/كانون الأول 2017):
"السعودية: ما وراء حملة الاعتقالات؟" BBC عربي، 14 سبتمبر/أيلول 2017. (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر 2017): http://www.bbc.com/arabic/interactivity-41273217
(15) "الأمراء والمسؤولون السعوديون المعتقلون"، الجزيرة نت، 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول2017): http://www.aljazeera.net/news/arabic/2017/11/5
(16) “Population in Saudi Arabia by Gender, Age, Nationality”, (Saudi / Non-Saudi); Statistical Yearbook of 2016, Issue Number: 52. https://www.stats.gov.sa/en/5305
هيئة الإحصاء: "32.6 مليون نسمة عدد سكان السعودية في النصف الأول 2017. 37% منهم أجانب"، أرقام، 26 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 7 ديسمبر/كانون الأول 2017): https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/488235
(17) “The world fact book. Middle East, Saudi Arabia”, (Visited on 7 December 2017): https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/sa.html
(18) “Saudi unemployment 12.8% in 2Q 2017”, Arab news, 2 October 2017, (Visited on 7 December 2017): http://www.arabnews.com/node/1170866/saudi-arabia .
(19) http://gulfnews.com/news/gulf/saudi-arabia/11-1-million-expats-employed-in-saudi-arabia-s-private-sector-1.2053086
(20) “Saudi Arabia’s Arab Spring, at Last”, The New York Times, 23 23 Novembre 2017, (Visited on 7 December 2017):. https://www.nytimes.com/2017/11/23/opinion/saudi-prince-mbs-arab-spring.html
(21) "60% من المبتعثين السعوديين منتشرون في الجامعات الأميركية"، الاقتصادية، 20 مايو/أيار 2017، (تاريخ: 7 ديسمبر /كانون الأول 2017): http://www.aleqt.com/2017/05/20/article_1190196.html