سارت الرباعية في حصارها على قطر في مسارين متعاضدين؛ مسار معلن يغطي على المسار الحقيقي، حرصت في هذا المسار المعلن على أن تدرج تصرفاتها ومطالبها في إطار الشرعية الدولية، فأقامت تظلمها على التشكي من السلوك القطري باعتباره يهدد استقرار المنطقة وينتهك قواعد حسن السلوك الدولية، واستندت في ذلك إلى خطاب مُفَبْرَك لأمير قطر، تبين فيما بعد أن دولة الإمارات اخترقت وكالة الأنباء القطرية في عملية قرصنة لبثِّه، أعقبته بقائمة مطالب تضع قطر فعليًّا تحت الوصاية الدولية.
انهار هذا المسار سريعًا لأن ركائزه كانت هشة من حيث الشكل والمضمون؛ من حيث الشكل، كشف التحقيق القطري-الأميركي المشترك أن وكالة الأنباء القطرية تعرضت لعملية اختراق إجرامية يعاقب عليها القانون الدولي، وأن الخطاب المنسوب للأمير كان ملفقًا. نشرت بعد ذلك صحيفة الواشنطن بوست تقريرًا ينقل عن مسؤولين أميركيين أن قيادة الإمارات على أعلى مستوى كانت المسؤول عن هذا الاعتداء(1) أما من حيث المضمون، فإن هناك توافقًا دوليًّا على أن المطالب الثلاثة عشر لدول الحصار صُمِّمت أصلًا لتُرفَض، لأنها تنتهك أبسط شروط السيادة كما تحددها المواثيق الدولية، وتضع قطر في نهاية المطاف تحت الوصاية الدولية. ولا توجد دولة في العالم يمكن أن تساند ذلك لأنها ستؤسس لسابقة قد تنطبق عليها في المستقبل.
اضطرت دول الحصار إلى إبراز المسار الثاني المستتر بعد فشل رهانها على المسار المعلن. ويتكون هذا المسار من جانبين: جانب يتعلق بإعطاء شرعية للحصار لكن هذه المرة بناء على الحق الذي تعطيه القدرات الكبيرة لدول الحصار على قطر ذات القدرات الصغيرة، وجانب يتعلق بثقة دول الحصار في أن نتائج المواجهة ستكون لصالحها لأنها أقوى وأكبر من قطر.
يندرج هذا المنظور في صميم المنظور الجيوبوليتيكي لأنه يستند في تحليل سلوك الدول وتصرفاتها وخطابها ليس إلى الجوانب السياسية أو القانونية أو الأخلاقية أو الأيديولوجية وإنما على مقاييس القدرات، مثل المساحة الجغرافية وعدد السكان والثروات والموقع، وما يتفرع عنها من حقوق وأدوار وشرعيات ومكانة ووجاهة في العلاقات الدولية.
تعددت تصريحات قيادات دول الحصار في هذا الشأن، لكن سنختار أكثرها دلالة لإلقاء الضوء على المحرك الحقيقي لحصارها على قطر سواء من حيث شرعيته أو نتيجته النهائية.
نقل المستشار في الديوان الملكي السعودي، سعود القحطاني، بعض ما دار في حوار الأمير محمد بن سلمان، بمجموعة من الإعلاميين البارزين في مصر، على هامش زيارته إلى القاهرة، من أن الأمير أكد على أنه "لا يشغل نفسه بأزمة قطر" مضيفًا: "من يتولى الملف أقل من رتبة وزير، وعدد سكانها (قطر) لا يساوي شارعًا في مصر، وأي وزير عندنا يستطيع أن يحل أزمتهم"، وفق تعبيره(2).
المعنى أن صغر عدد سكان قطر يجعلها في نظر محمد بن سلمان ليست مهمة ولا ترقى لمستوى دولة، وأن من يتولى شأنها ينبغي أن يكون أقل من رتبة وزير. يتضح الربط في ذهن القيادة السعودية بين عدد السكان من جهة والأهمية ومواصفات الدولة من جهة أخرى. بالطبع، يتعارض هذا المنظور مع المنظور الحديث للدولة كما حددته المواثيق الدولية التي تعطي لكل الدول مهما اختلفت أحجامها نفس المساواة السياسية.
غرَّد سعود القحطاني عقب الإعلان عن مشروع نيوم على حسابه بالتويتر: "#مشروع-نيومو #مشروعالقدية أعلن عنها بحوالي 3 أشهر. مساحتهما أكبر من قطر بحوالي 6 مرات. اعرف حجمك يا صغير؛ فهذه هي السعودية".
الربط واضح بين الحجم الجغرافي والمكانة السياسية أو الحقوق، فكلما كان حجمك كبيرًا كانت حقوقك وأدوارك أكبر، وأما من كان حجمه الجغرافي صغيرًا فينبغي أن يلتزم الحدود التي يضعها له الكبير(3)
تآكل مسار الشرعية الدولية وبروز مسار شرعية القوة الصلبة هو الذي جعل قيادة دول الحصار تنقل التعامل مع الحصار من المستوى الدولي إلى المستوى الخليجي، لأن على المستوى الدولي لا يمكن الدفاع عن الحق الذي يعتقد الكبير أنه يمتلكه على الصغير، أما على المستوى الخليجي فيمكن تسويقه بمبررات تقليدية كثيرة كاعتبار الكبير في الحجم بمثابة الأخ الكبير الذي ينبغي أن يحظى بحقوق لا يحظى بها غيره، علاوة على أن المستوى الخليجي يحرم قطر من حلفاء أقوياء يمكن أن يسندوها على المستوى الإقليمي كتركيا أو المستوى الدولي كالولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا.
عبَّر عن هذا الانتقال في مستوى التعامل مع الأزمة الخليجية وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، في 11 أبريل/نيسان 2018، في تغريدة على حسابه في تويتر: "لا يوجد اختراق في أزمة قطر بعد زيارة أميرها العادية إلى الولايات المتحدة" وأكد أن "حلَّ الأزمة بوابته الرياض وسيتم بجهود خليجية ويشمل مصر، وإطاره السياسي المبادئ والمطالب. الدول الأربع مجمعة على ذلك"(4).
منظور اختزالي
اعتمدت دول الحصار في قياس التفاوت في القوة على منظور اختزالي، يعطي أهمية للعوامل التي تتفوق فيها على العوامل التي تتفوق فيها قطر. ويمكن أن نشير إلى عوامل رئيسية يبدو أن دول الحصار اعتبرتها المحدد الرئيسي للقوة والتفوق، وهي: الحجم الجغرافي وعدد السكان والقوة العسكرية والاقتصادية. لو أخذنا دولة واحدة مثل السعودية لوجدناها تتفوق على قطر بمراحل كثيرة في هذه المقاييس. تبلغ مساحة السعودية 2.150.000كم² أما مساحة قطر 11.521كم²، الفارق نحو مئتي ضعف. ويبلغ عدد سكان السعودية 32.6 مليون نسمة بينما يبلغ سكان قطر 2.7 مليون، بفارق 16 ضعفًا. وحلَّت السعودية في المرتبة الثالثة في نفقات التسلح متقدمة على روسيا، وذلك حسبما ذكر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، حيث أنفقت 69.4 مليار دولار عام 2017. أما قطر فحلت في المرتبة 64(5).
أعلنت الحكومة السعودية أن موازنة 2018 ستكون "الأكبر في تاريخ" المملكة مع توقع أن تبلغ النفقات 978 مليار ريال (حوالي 260.8 مليار دولار)، والإيرادات المقدرة عند783 مليار ريال (حوالي 208.8 مليارات دولار)(6) أما قطر فقدَّرت أن ميزانية 2018، تتضمن إنفاقًا إجماليًّا قدره 203.2 مليارات ريال تساوي نحو 55.8 مليار دولار، بزيادة 2.4% عن خطة ميزانية 2017، مع زيادة الإيرادات بنسبة 2.9% إلى 175.1 مليار ريال(7)
أغفلت دول الحصار عوامل أخرى تتفوق فيها قطر، مثل امتلاكها ثالث أكبر احتياطي للغاز في العالم بعد روسيا وإيران، وتصدُّرها المرتبة الأول في تصدير الغاز المسال، واعتلائها المرتبة الأولى عالميًّا من حيث الدخل الفردي، وحصولها في مؤشر التنمية البشرية السنوي الذي تصدره الأمم المتحدة على أفضل نتيجة بين الدول العربية قاطبة بحلولها في المرتبة 33 دوليًّا، أي نفس نتيجة قبرص لكن أفضل من دول أخرى في دول الاتحاد الأوروبي مثل بولندا والبرتغال.
ميلوس: قوة الحق وحق القوة
نوسع النظر إلى الأزمة الخليجية بوضعها في سياق تاريخي عريض حتى نحدد طبيعتها: هل هي طارئة تتعلق بالسلوك السياسي للحكومات أم بالتفاوت في القدرات بين الكيانات السياسية وما توحيه من مشاعر وتطلعات؟ تناول المؤرخ اليوناني، ثوسيديدس، حالة مشابهة في كتابه عن الحرب البلوبونيزية، لما تطرَّق لمأساة جزيرة ميلوس الصغيرة التي أرادت الحياد في الصراع بين أثينا وإسبرطة، لكن أثينا الديمقراطية أرسلت مبعوثها يطالب قادة ميلوس بالانضمام إليهم لقتال إسبرطة وأفهمهم أن عليهم الانصياع لأن أثينا وحلفاءها أكبر منهم وأقوى، وأنْ ليس لهم من خيار إلا بين الانصياع أو الهلاك، فرفض قادة ميلوس الانصياع، وجادلوا بأن الرب معهم لأنهم على حق ولكن مبعوث أثينا رد عليهم بأن الحق يقرره القوي. وبالفعل، اجتاحتهم أثينا وقتلت رجالهم وباعت نساءهم وأطفالهم في أسواق العبيد. واستخلص ثوسيديدس من هذا الحالة مقولة باتت شهيرة، وهي: القوي يفعل ما يشاء والضعيف يقاسي بقدر ما يُفرَض عليه من معاناة(8)
تنحصر الحجج عن شرعية الأفعال وجدواها في المقارنة بين قدرات وقوة المتصارعين، وتتجاهل المصادر الأخرى للشرعية والجدوى مثل الأخلاق والقانون والدين، وهي نفس اللغة التي نجدها أيضًا في التصريحات المنقولة عن محمد بن سلمان أو أعوانه، مما يبين أن الأزمة الخليجية يمكن إرجاعها إلى حالة ميلوس التي جعل منها ثوسيديدس نموذجًا للعلاقة بين الكبير والصغير، مهما اختلفت الأزمان والأيديولوجيات والأنظمة السياسية، لأنها حالة تتعلق بعوامل تتحكم في خيارات القادة السياسيين، وباختلاف الخيارات بين الاتساع والضيق تختلف مشاعر القادة وتطلعاتهم من الخوف إذا شعروا أنهم ضعفاء وقدراتهم محدودة إلى التهور أو (Hubris)، كما يسمى في اليونانية، إذا شعروا بالتفوق في القدرات واتساع الحيلة والخيارات.
أنواع القوة
تميز اللغة الفرنسية، بخلاف الإنجليزية، في قياس القوة بين نوعين: القوة بمعنى القدرات قبل استعمالها وتسمى "pouvoir" والقوة بمعنى الانتقال إلى الفعل وتسمى "puissance". والقوة هي تركيب بين الجانبين؛ فقد تكون القدرات كبيرة لكن استعمالها غير مجد، كما وقع في الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق، وقد تكون القدرات بسيطة لكنها مجدية كما فعلت طالبان في مقاتلة الولايات المتحدة والحلف الأطلسي منذ احتلال أفغانستان في 2001.
اعتقدت دول الحصار أن الكبر في القوة بمقاييس الحجم والقدرات تجعل الحق معك والنصر يسير في ركابك، لكنها اختزلت مفهوم القوة في القدرات الصلبة وفي جزء منها فقط، وأهملت الجانب الثاني من القوة هو الذي شرحنا أن اللغة الفرنسية تسميه قوة الإنجاز أو العمل؛ فواجهت عددًا كبيرًا من العقبات أضعفت قوتها واستهلكت قدراتها.
أغفلت دول الحصار أن قطر تعد من الناحية الاقتصادية قوة كبيرة لأنها، كما قلنا، تتحكم إلى حد كبير في سوق الغاز، وستتأثر اقتصاديات كبيرة مثل الاقتصاديات الآسيوية تأثيرًا بالغًا إن حدث مكروه لقطر، علاوة على أن قطر تمتلك احتياطيات مالية كبيرة تمكِّنها، من جانب، من إيجاد بدائل توفر الحاجات التي حرمتها دول الحصار منها، ومن جانب آخر يلعب هذا الاحتياطي المالي، خاصة الجزء الموضوع في الصندوق السيادي، دورًا مهمًّا في اقتصاديات دول كبيرة، مثل بريطانيا، تعاني من الآثار السلبية للأزمة الاقتصادية وتحرص على الاستثمارات القطرية.
تختلف قطر بالطبع عن حالة ميلوس التي خلَّدها ثوسيديدس؛ فقطر تمتلك قناة الجزيرة التي فنَّدت رواية دول الحصار، ونقلت للرأي العام رواية مختلفة تستند إلى القانون الدولي والأخلاق، وهو ما لم تتمكن ميلوس من إيصاله فلم تكسب الرأي العام إلى جانبها بل ظل النقاش في غرف مغلقة وظل الرأي العام مبعدًا عن الصراع الجاري.
حظيت قطر بحلفاء لم تحظ بهم ميلوس، هما الحليفان الأميركي والتركي، وكلاهما أقام قواعد عسكرية تعبيرًا عن التزامه بأمن قطر واستقلالها وسيادتها. وقد قيَّد ذلك خيارات دول الحصار، فانتزع منها خيار العمل العسكري مما حيَّد إحدى القدرات التي تتفوق فيها، وحصر خياراتها في العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية.
لم تكن ميلوس تلعب دور الوساطات للتقريب بين الأطراف المتنازعة فلم تحصل على القوة الناعمة التي حصلت عليها قطر من مساعيها في إعلاء قيمة السلم والتفاوض لتسوية النزاعات والاقتتال، فتفوقت في ذلك على دول الحصار، وتمكنت من كسب دول كثيرة لجانبها أو استعادتها مثل السودان الذي ذكر لقطر دورها في محادثات السلام بدارفور، وجيبوتي، ولبنان، علاوة على العمل الخيري الذي أكسبها سمعة حسنة في المحافل الدولية.
تتناول أوراق الكتاب بالتحليل جوانب عديدة من هذه التقديرات المختلفة بين طرفي الأزمة الخليجية، لاستكشاف استراتيجية كل طرف في استعمال أوراق القوة التي بيده ليفرض خياراته على خصمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الحواس تقية، باحث في مركز الجزيرة للدراسات.
(1) DeYoung, Karen and Nakashima, Ellen, “UAE orchestrated hacking of Qatari government sites, sparking regional upheaval, according to U.S. intelligence officials”, the Washington Post, 16 July 2017, (Visited on 30 May 2018):https://wapo.st/2J4tCHM
(2) - "الأمير محمد بن سلمان يحاور الصحفيين.. ماذا قال عن قطر وخطر العثمانيين؟"، سي إن إن عربية، 6 مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول: 30 مايو/أيار 2018(:https://arabic.cnn.com/middle-east/2018/03/06/salman-egypt-visit
(3) - القحطاني، سعود، "#مشروع-نيوم و #مشروع القدية أعلن عنها بحوالي 3 أشهر..."، تويتر، 24 أكتوبر/تشرين الأول 2017، (تاريخ الدخول: 30 مايو/أيار 2018): https://twitter.com/saudq1978/status/922765134413664256?lang=ar
(4) - "قرقاش: حل الأزمة القطرية بوابته الرياض"، سكاي نيوز عربية، 11 أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 30 مايو/أيار 2018(: https://bit.ly/2xqeXFB
(5) - "السعودية تتقدم على روسيا بالإنفاق العسكري"، الجزيرة نت، 2 مايو/أيار 2018، (تاريخ الدخول: 30 مايو/أيار 2018(: https://bit.ly/2HJ28en
(6) - "موازنة السعودية 2018... الأكبر في تاريخها"، سي إن إن عربية، 20 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تاريخ الدخول: 30 مايو/أيار 2018(:https://bit.ly/2kuehGv
(7) - "أهم مؤشرات موازنة قطر 2018.. الإيرادات تصعد والعجز يتراجع"، عربي 21، 13 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تاريخ الدخول: 30 مايو/أيار 2018): https://bit.ly/2IWMQ6o
(8) - Vickers, Michael, “Alcibiades and Melos: Thucydides”, Historia: Zeitschrift für Alte Geschichte, (3rd Qtr, 1999), p. 265-281