كثيرًا ما أثارت العلاقة بين السلطة السياسية والدينية، في أغلب أنحاء العالم وعبر التاريخ، خلافات لا تخلو من حماس، ونجد ذلك في التحليلات الجيوستراتيجية الدولية وفي المناقشات التي تهز بانتظام النخبة السياسية والإعلامية والفكرية في السنغال.
وفي الواقع، وخارجًا عن المشكلة العامة التي يطرحها اليوم في جميع أنحاء العالم الموقف السياسي القائم على "نمط إسلامي" يتمثل المنظور الديمقراطي والعلماني السائد حاليًّا، والمشاركة النشطة والواضحة للطرق الصوفية في السنغال في الحياة السياسية الوطنية، فإن هذا "النمط الإسلامي" لا يزال يثير ردود أفعال مختلفة في الوسط الفكري. وتتراوح ردود الأفعال تلك ما بين التحليل النقدي الذي يصل أحيانًا إلى اتهام "شيوخ" تلك الطرق بالزبونية، واتهام النخبة السياسية بتقديم تنازلات سياسية لهؤلاء الشيوخ، وهو تنازل يمس بشكل غير مسموح به بـ"القيم الجمهورية"...إلخ. وبهذا المعنى، يبدو لنا أن حالة "المريديين" (أتباع المريدية، وهي الطريقة الصوفية السنغالية الأكثر نفوذًا) تعتبر أكثر إثارة للاهتمام من غيرها من الطرق الصوفية في غرب إفريقيا، حيث ظلت الطريقة المريدية في قلب هذه الإشكالية المتعلقة بالتداخل بين الديني والسياسي. وقد نشأ عن هذه الوضعية سرديات كثيرة في دراسات وأطروحات في العلوم السياسية والاجتماعية، كما تناولتها مقالات وتحليلات صحفية تنطلق في الغالب الأعم من منظور نقدي.
إن الإدانة العامة لـ"تدخل اللوبي الديني" في اللعبة السياسية بالسنغال، وإدانة هذا "الولاء" الصادر عن "القائد" الباحث عن الأصوات الانتخابية لـ"المرابط" لهو أمر يعبِّر عن التميز السنغالي الذي صاغ هذا "العقد الاجتماعي" الوحيد من نوعه، وهو عقد يُعتبر في جوهره خروجًا على المبادئ "الجمهورية". وقد تفاقم العمل بهذا العقد بشكل كبير منذ أوائل 2000، من خلال الموقف الذي أعلنه بجلاء الرئيس السنغالي السابق، عبد الله واد، وهو موقف اعتُبر حينها من باب "تأييد الطريقة المريدية". إن هذا الموقف ما فتئ يثير سخط جزء كبير من المتهمين بالشأن السنغالي حيث يرون أن الرئيس واد قام بـ"محاباة إحدى الطرق الصوفية" على حساب غيرها، وقد طُرِح حينها سؤال مُلح يتعلق بالطبيعة العلمانية للمؤسسات الجمهورية بالسنغال، وبمستقبل التوازن الاجتماعي للأمة السنغالية(1).
تم هذا في وقت أدان فيه علماء ومحلِّلون سياسيون بشدة "تلاعب" السلطة السياسية بالوسط الديني، كما أدانوا بشدة "الاتفاق المتواطئ" أو "الصمت المشبوه" لرجال الدين السنغاليين تجاه بعض "الانحرافات" السياسية أو المؤسسية أو الأخلاقية في البلد. إنه موقف يمكن تفسيره، وفقًا لهؤلاء المحللين، بما يُشاهَد من "شراء الضمائر"، فضلًا عن استفحال "رشوة" السياسيين و"ابتزازهم المالي" للفاعلين في الوسط الديني، ويتم ذلك على شكل هبات سخية ومنح منافع مختلفة، وفي بعض الأحيان يحدث نوع من غض الطرف عن الفاعلين الدينيين حتى "يفلتوا من العقاب" وبحكم الواقع يكون هؤلاء اللاعبون الدينيون "فوق" القضاء الشرعي(2).
وهكذا، فإن الرهان الأكبر يبقى ما يسمى "التصويت الطرقي" الذي ينظر إليه البعض دائمًا على أنه الورقة الحاسمة في اللعبة السياسية السنغالية، في حين يرى البعض فيه تهديدًا يُغيِّر بعمق مبدأ الاختيار الانتخابي الحر للمواطنين والذي هو القاعدة الأساسية للنظام الديمقراطي. وفي نفس الوقت تبقى الدينامية المعقدة المعروفة في اللغة الولفية بكلمة "انديغل" (Ndigel) أي: أمر مشايخ الطرق بالتصويت، تبقى مستمرة، وعلى الرغم من التشهير الدائم بهذه الدينامية إلا أنها تبقى أشبه بسيف ديموقليس في كل حدث انتخابي.
وعلى النقيض من هذه النظرة النقدية، يقوم محللون آخرون بتضخيم الدور المهم للتنظيم والاستقرار الاجتماعي -وكأنه الحصن الحصين ضد "الراديكالية"- ويؤكد هؤلاء المحللون على أن ميزان التناغم بين القوتين السياسية والدينية ما فتئ يلعب وبشكل مستمر -حسب رأيهم- دور المهدئ في السنغال؛ لاسيما أن السنغال يوجد في وسط إقليمي غير مستقر. وقد عبَّرت عن هذا الرأي الباحثة الأميركية، ميشيل كيمبال (Michelle Kimball)، التي تعتقد أن "السنغال يعتبر نموذجًا للديمقراطية في إفريقيا (...) كما أنه لن يكون من الممكن فهم كيف أن هذه الديمقراطية البراقة والنشطة وذات الطابع الجمهوري قد خلقت مثابةَ أمن وأمل في فضاء مضطرب؛ إذا لم يُقَدِّر المرءُ بالكامل دور هذه الحركات الدينية. ثم إن لدى السنغال أيضًا تقليدًا راسخًا من التعايش السلمي والتسامح بين الأغلبية المسلمة وبين الأقلية المسيحية والأقليات الدينية الأخرى. وهكذا يمكن أن نعزو مباشرةً الاستقرار المذهل للسنغال إلى التوازن النادر بين القوى الرسمية السنغالية وبين الطائفة المريدية وغيرها من الطرق الصوفية الأخرى"(3).
كيف نفسر طبيعة العلاقات بين الطرق الصوفية والسلطة السياسية في السنغال؟ كيف نفهم "التوفيق السنغالي" بين ما هو صوفي وما هو سياسي؟ ما التطورات أو التحولات التي كان يجب على المبادئ "الجمهورية والعلمانية" أن تخضع لها عند التفاوض على "العقد الاجتماعي السنغالي"؟ مَن مِن بين الأطراف السياسية أو الدينية يحصل على أقصى استفادة من اللعبة السياسية؟ كيف يعيش المواطنون/المريدون هذه الازدواجية في علاقتهم بالسلطة الروحية وبالسلطة السياسية؟ هل يستطيع "العقد الاجتماعي السنغالي" تحمل التغيرات العميقة التي تحدث في المجتمع السنغالي؟
من أجل فهم هذه القضايا بشكل أفضل، يبدو من المناسب أولًا محاولة إعادة النظر بإيجاز وفي مرحلة أولى في مفهوم "السياسة". وإذا ما استطعنا توضيح هذا المفهوم وتصوره بشكل أفضل، فإننا سنحاول أن نحلِّل بشكل أدق مسألة الالتزام السياسي لدى الطرق الصوفية بالسنغال وذلك من خلال ثلاثة مفاتيح أساسية لا نرى حسب علمنا أن البحوث القائمة قد تناولتها بما فيه الكفاية حتى الآن، وهذه المفاتيح هي:
- المفهوم السياسي للإسلام في جوهره وتطوراته التاريخية.
- الديناميات المعقدة الكامنة وراء التطورات الحالية وربما المستقبلية والمتعلقة بـ"العقد الاجتماعي السنغالي".
"السياسة-المدينة" و"السياسة-السلطة"
عادة ما يتم تعريف "السياسة" على أنها "فن إدارة وتنظيم المدينة"، أي مجموع وسائل وأساليب التنظيم والتشغيل التي من خلالها يتم توجيه أو إدارة مجموعة بشرية من طرف دولة أو مجتمع أو نظام اجتماعي، وذلك لضمان أقصى قدر من الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والأمنية... وبعبارة موجزة: ضمان "السعادة" لأكبر عدد من أعضاء المجموعة.
وهنالك تعريف آخر للسياسة يبدو لنا اليوم أنه التعريف الأكثر انتشارًا لدى العموم، ونحن نميل إلى وصفه بأنه التعريف "المتسيس" أكثر، وهو تعريف يستدعي أن نتصور البُعد المتعلق باكتساح السلطة والحفاظ عليها، أي ما يتضمنه التسيير السياسي، مع الإصرار على الشكل المؤسسي لممارسة هذه السلطة نفسها. وهو ما يقترحه عبد اللطيف امباكى حين يقول: إن "السياسة تعني فعلًا وبرنامجًا حكوميًّا، إنها ممارسة الحكم من قبل السياسيين. ومن هذا المنطلق، غالبًا ما يُنظر إليها على أنها مكان صراع، أو تناقضات بين مختلف الجهات السياسية الفاعلة. وفي هذا السياق، تصبح السياسة مجالًا للتنافس والاستيلاء على السلطة"(4). إن القوة ينبغي، من حيث المبدأ والأخلاق، أن توضع في خدمة المدينة؛ وهذه الأخيرة تمثل النهاية التي يكون تسيير السلطة -نظريًّا وتطبيقيًّا- وسيلة تستخدم فقط لتنظيمها وإدارتها بشكل أفضل.
لن نخوض لأغراض تحليلية في تفاصيل العلاقات المعقدة بين هذين المفهومين المتكاملين (اللذين سنشير إليهما على التوالي بـ "السياسة/المدينة" و"السياسة/السلطة. في هذا السياق، يمكن أن نلاحظ أنه غالبًا ما عَرَف تاريخ البشرية محاولات للمزج بين هاتين الوظيفتين (أي السلطة السياسية التي تهتم غالبًا بالغاية الحقيقية لهذه القوة، أي رفاهية المدينة)، ويكون ذلك إما بتفضيل إحدى الوظيفتين (الاهتمام بامتلاك السلطة والامتيازات المهيمنة على الغاية الاجتماعية)، أو الوظيفة الثانية (الاهتمام برفاهية المدينة دون أن يكون من الضروري امتلاك السلطة السياسية أو المطالبة بممارستها). من الناحية العملية، فإن الخيار الأخير، غالبًا ما يتوافق مع البديل الذي يختاره ما يسمى الآن بـ"المجتمع المدني"، الذي كثيرًا ما يتعارض مع الحاجة إلى التعاون أو الاعتراض أو التأثير بطريقة أو بأخرى على السلطة السياسية القائمة وعلى الجهات الفاعلة الأخرى في اللعبة الديمقراطية من أجل تحقيق الأهداف المحددة ضمن أجندتها. ويتحقق هذا الأمر بقدر ما يكون تدخل الدولة أو حيادها أو تعاونها النشط، في غالب الأحيان، أمرًا لا غنى عنه للكيانات التي تشكل المدينة للقيام بعمل فعَّال في هذه المدينة؛ أيًّا كان تقدير الشرعية الحقيقية لتلك الدولة. ويبدو لنا أن العقيدة السياسية التي تدرسها معظم الشخصيات التاريخية الدينية السنغالية تتجه إلى هذه الطريقة الثانية، وفقًا لبعض التطورات والتكيفات الزمانية المكانية لمفهوم "السياسة" في البلدان الإسلامية.
المجال "السياسي" للإسلام
إسلاميًّا، وبالنسبة للأمة، ظلت السياسة-المدينة في صلب الرسالة المحمدية، هذه الرسالة التي من شأنها العمل من أجل الإنسانية جمعاء. إن محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو قائد هذه الأمة، وبمساعدة من أصحابه، قام ببناء مؤسسات سلطة سياسية (دولة، وجيش، وهيئات قانونية واجتماعية وغيرها...) من أجل تجسيد السياسة-المدينة المقدسة التي ستجعل في يوم من الأيام من جميع الرجال المؤمنين الصادقين ومن جميع المسلمين رجالًا مثاليين أخلاقيًّا ويتمتعون بحرية بمزايا الكون كله في سلام وإخاء ورخاء. على أنه ينبغي أن يظل الهدف الديني الغائي لسياسة-المدينة (وينبغي أن نفهم أن المدينة هنا هي العالم بأسره) هو تحقيق مهمة خلافة الله على الأرض؛ حيث أسند الله جل جلاله تلك الخلافة إلى الإنسان "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الأحزاب، الآية 72). إن مهمة الخلافة تقتضي تعزيز أو "تسيير" الإمكانات الهائلة للكون الذي أخضعه الخالق للإنسان: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ" (سورة لقمان، الآية 20). وكل ذلك عن طريق اختيار الله للإنسان وتكريمه له من بين جميع المخلوقات، وقد أنعم عليه بنور المعرفة، وبقلب يفهم الحقائق الباطنة، وجعله حرًّا ليدير العالم بحرية. إن هذه الخلافة، التي من السهل أن نفهم أنها سياسية في جوهرها، إنما هي لمنع الفوضى عند السيطرة على الأرض، ومنع الفساد المطلق، حتى تتم عبادة الله التي هي غاية الخلق: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" (سورة الذاريات، الآية 56)، فعبادة الله هي وحدها سبيل الفوز في الدارين(5).
إن التمييز اللاحق بين "الدنيوي" و"المقدس" لا يوجد بالفعل في الإسلام، وكذلك الفصل اللاحق بين "الدين" و"الدولة". على أن عدم المبالاة بشأن المدينة التي تعني بمعنى من المعاني "الأخوة في الإسلام" قد أدانها الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم(6)، وهو ما يعني أن المؤمن تتراجع جنسيته الإسلامية عندما يضعف اهتمامه بشأن إخوته في العقيدة. وهذا ما يفسِّر أن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم كان: الملهمَ الدينيَّ ورئيسَ الدولة والقاضي وقائدَ الجيش. في هذا السياق، نجد في الإسلام عند نشأته تآلفًا ثلاثيًّا "السياسة-المدينة-السلطة" مع الغاية من المدينة ووسائل الدولة. وانطلاقًا من هذا التحليل، تبقى قضية فصل العلاقة بين السلطات السياسية والسلطات الدينية لا معنى لها إطلاقًا على الأقل في أشكالها المطروحة حاليًّا.
بيد أنه بعد وفاة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، تحطم هذا المجال السياسي المشبع بالمثالية والتجانس جرَّاء الفتن "السياسية" التي جرت بين الصحابة رضوان الله عليهم وبين التابعين من بعدهم، كما سرت تلك الفتن إلى الأسر والسلالات التي تولت الخلافة، والتي انتهى بها الأمر إلى أن تفرض تدريجيًّا نموذج سياسة-سلطة أي "الملك العضوض" الذي لم يكن معروفًا من قبل في الإسلام. إن هذا التطور، أو بالأحرى هذا التحول، رجَّح بدوره ظهور نماذج مضادة وحركات مقاومة روحية وصوفية، فظهرت الطرق الصوفية التي حاولت استعادة نموذج الزهد والنقاء الأخلاقي الذي يستلهم التجربة النبوية، والذي بدا أن الدولة تفتقده(7).
في هذا السياق الجديد من انعدام الثقة في المؤسسة السياسية، يأخذ النموذج الروحاني الأثيري لحظة تأملية ترتكز على الاهتمام المادي بإدارة المدينة، وقد أصبحت أي علاقة بين "الديني" و"الزمني" مشبوهة من الآن فصاعدًا في عيون أكابر الشيوخ. ومع ذلك، وبعد اجتياز مرحلة نشوة الانعزال والتعبد في الغابات وانتهاء العزلة التأملية والحضارية في الكهوف البرية، اضطر العديد من شيوخ الصوفية، بطريقة ما، إلى إعادة اكتشاف حقائق المدينة البشرية، وذلك من أجل مقايضة لبسة "الصوف" المتقشفة(8) التي يرتديها الدراويش بالمعاطف الاجتماعية الرقيقة، حتى يتسنى للشيخ الصوفي، وبشكل أفضل، تربية النفوس الضالة والمتعطشة، أي نفوس شعب مُسلم تسلِّم نفسها للشيخ.
إن المعطيات الاجتماعية الجديدة المتعلقة بالطوائف الكبيرة ذات الأتباع الكثيرين الذين من المفترض أن يكونوا قادة، ولديهم مصالح، سواء أكانت روحية أو مادية، صارت توجب المحافظة على هذه المصالح، وهو ما يعني أن على الطرق الصوفية أن تُجبر العديد من شيوخها على أن يعيدوا النظر، في ظل عدم وجود توحد ممكن في مجال السياسة-المدينة-السلطة التي تعد أصلًا إسلاميًّا، في فرص للتعاون مع السلطة الزمنية، وبدون هذا التعاون أدرك هؤلاء الأتباع استحالة تحقيق أهداف المدينة المثالية التي أسسها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
ومع ذلك، ولتجنب الكثير من المخاطر والسلبيات والتي من بينها وقوف رجال الدين أمام أبواب السلاطين وإبرام علاقات مع من هم في السلطة، ممن يوصفون في كثير من الأحيان بأنهم "فاسدون ومفسدون"، فإن علماء المسلمين ذكروا نهيًا شديدًا للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم عن التقرب من السلاطين، كما حذر منه السلف الصالح، وذلك من خلال وضع سلسلة من القواعد الاحترازية التي تهدف إلى الحفاظ على ورع رجال الدين، لما في ذلك من مصلحة الأمة، ويتمثَّل ذلك في عدم الوقوف بأبواب الحكام الجائرين.
ثم إن بعض المسلمين يرفض وبشكل حاد هذه الدبلوماسية الدينية التي يسميها مداراة أو مصالحة، ويرى أن فيها شبهة ومساومة، فنرى هذه الطائفة من المسلمين تختار نهج المواجهة الحربية ضد السلطة، ولا يزال هذا الخيار مستمرًّا إلى يومنا هذا ويتجسد في النضال السياسي لـ"الإسلاميين".
إن الطابع المؤسسي للتصوف المتمثل في الطرق الصوفية الكبيرة، ذات الهيكلة الاجتماعية، أدى إلى بناء علاقات متقلبة مع السلطة العمومية لكنها سلمية في عمومها، وقد صارت تلك العلاقات أمرًا مفروضًا لا بسبب الخلافات الأيديولوجية العميقة بين السلطة العمومية وبين الطرق الصوفية، وإنما أساسًا بسبب متطلبات تنشئة شعبية حقيقية للعقيدة، وهو ما يضمن نجاح سياسة المدينة المسلمة الحقيقية. إن هذا النموذج الوسيط من التعايش السلمي والحياد السياسي أو التعاون، حسب الاقتضاء، مع السلطة، على الرغم من تقلبه، شكَّل -خاصة مع عولمة الإسلام- تقدمًا هائلًا في كثير من بلدان العالم الإسلامي. ولاسيما في آسيا الصغرى، وإفريقيا السوداء وشمال إفريقيا (وخصوصًا مع الطريقة القادرية والتجانية)، وأثَّر إلى حد كبير على موقف الغالبية العظمى من الشيوخ المعلِّمين أو ما يعرف في السنغال بـ"سيرين فاك تال" (Seri? Fàkk-taal)، وهذه الفئة التي يرتبط بها معظم "الآباء المؤسسين" الصوفيين في السنغال.
العلاقات بين السياسة والدين في تاريخ السنغال
من دون الخوض في التفاصيل التاريخية، يمكن القول: إن الإسلام في السنغال (دخل الإسلام السنغال مع القرن الحادي عشر الميلادي أي قبل أكثر من ألف عام) لم ينتشر بين عموم الناس، لاسيما في منطقة الولوف، إلا من خلال الربط بين القوى الدينية والسياسية، وتم ذلك الربط عبر أشكال وتطورات مختلفة، أحيانًا تعاونية وأحيانًا أخرى عدائية(9). على أن المؤرخين ينبِّهون إلى كثافة هذه العلاقات في القرن السادس عشر، ولاسيما مع خلع إمبراطور منطقة ديولوف الذي هيمن على المشهد السياسي للبلاد قرابة قرنين من الزمن، وبعد إزاحته ظهرت دول ولفية في مناطق كايور وباول ووالو وديولوف. والملاحظ أن حكام هذه الممالك الجديدة لم تكن لديهم الخبرة الكافية في كثير من الأحيان وهذا ما جعلهم يطلبون بشكل خاص مساعدة رجال الدين المسلمين (الذين كانوا عمومًا تجارًا من البيضان(10)، وهم الطبقة الوحيدة غير الأمية في البلاد) لإدارة ممالكهم، وللقضاء، وللاستشارة، والحماية الغيبية.. إلخ، في مقابل استقلال إداري معين ومزايا مختلفة. وهكذا، ومن وجهة النظر التاريخية، فإن التقليد السنغالي المتمثل في "تبادل الخدمات الجيدة" والتعاون بين القوى السياسية والدينية لا يبدو أنه يعود إلى الفترة الأخيرة، خلافًا لما توحي به ضمنًا سرديات النقد المعاصر، بل إن هذا التعاون يعود إلى ما قبل ذلك. ويمكن القول: إنه تعاون عاصر بداية تأسيس الأمة السنغالية الذي يعود لأكثر من أربعمئة عام، أي قبل قرنين من الثورة الفرنسية أو الاستعمار الأوروبي. بالإضافة إلى ذلك ووفقًا لكثير من المؤرخين، فإن هذا الحضور الديني في المجالات العليا للسلطة زاد بشكل كبير من هيبة الإسلام السياسية والتي كانت حتى الآن، كما يجب علينا تذكره، محصورة في أقلية مشكَّلة أساسًا من الطبقات الأرستقراطية، وما لبثت هذه الهيبة أن سمحت للإسلام بالانتشار تدريجيًّا في الطبقات الاجتماعية الدنيا.
أصبح الإسلام قوة سياسية مؤثرة بشكل متزايد في مجتمع الولوف، خاصة مع القرن السابع عشر، بل إن سواد الشعب من السكان الضعفاء الذين كانوا أول ضحايا عنف حروب الأسر المالكة والذين مورست بحقهم تجارة الرقيق وتعرضوا لتنكيل الغزو الاستعماري في بداياته قد وجدوا في الدين الإسلامي خلاصًا من هذا الاضطهاد. شكَّل الإسلام لواء تستظل به قوى المعارضة وقوى التمرد المنحدرة من الأرستقراطية الدينية المعروفة محليًّا باسم "دومي سخنا" (Doomi Sokhna)، والتي ثارت ضد الأنظمة المحلية الفاقدة للشرعية أخلاقيًّا ودينيًّا(11). اختار بعض الزوايا طريق الجهاد العنيف والاستقلال السياسي، في محاولة منهم لإقامة دولة إسلامية مستقلة (مثل السلطة الدينية التي أقامتها فئة "التورودو" في إقليم فوتا) للتغلب على العيوب القاتلة التي يتسم بها النظام السياسي والاجتماعي في ذلك الوقت. وكانت في تلك التجربة محاولة لإقامة المدينة الإسلامية الأصلية (دار الإسلام) في بيئة معادية (دار الكفر). وفي الوقت نفسه، فضَّلت طائفة من رجال الدين، كـ"الشيوخ المعلمين" (Serigne fakk-taal) الابتعاد بشكل عام عن مراكز السلطة، ونشر تعاليم الإسلام بسلام بين الجماهير الكادحة، وتدريس العامة العلوم والأخلاق الإسلامية، فكان هؤلاء الشيوخ المعلمون بمثابة زعماء الدهماء المعروفين محليًّا باسم "بادولا" (baadoola)، وقد أسهموا بشكل كبير جدًّا في خلق دينامية استنبات سلمي وتدريجي للإسلام الصوفي في بلاد الولوف، وهو ما يسميه الباحث جيمس سيرينغ "الثورة الهادئة" للإسلام في السنغال(12).
حصل شيوخ الزوايا على هيبة كبيرة بين الجماهير وصار يُنظر إليهم على أنهم "أولياء" وهو ما جعلهم بطبيعة الحال ذوي مكانة في عيون أرباب السلطة، فكان السلاطين يرون أن هنالك مصلحة استراتيجية واضحة في التحالف مع هؤلاء الشيوخ والسعي إلى كسب ودهم لإضفاء الشرعية بين الناس والحفاظ على قوتهم بشكل أفضل. وبالنظر إلى تاريخ هذه الشخصيات الدينية، نجد أن بعضهم كان يُبدي استعدادًا للتعاون مع الملوك وعلى مستويات مختلفة بدءًا بدور المستشار، وأحيانًا دور الحامي من الشرور، وأحيانًا دور القاضي أو الممثل الرسمي، كما هي حال الشيخ لامب(13)، وأحيانًا يقوم بتعليم الأمراء الشبان أو يكون كاتب الملك أو أحد حاشيته. في حين نجد بعض رجال الدين اختار النأي المتصلب بنفسه عن أبواب السلاطين متخذًا موقف عدم الثقة بالسلاطين أو الحياد أو رفض أي مصالحة مع السلطة قد توصف بأن فيها شبهة.
وهكذا، يُظهر تاريخ السنغال بجلاء أن الوظائف الدينية والسياسية قد ظلت تتشارك الفضاء العام وتتقاسم إدارة المدينة بشكل دائم، وذلك قبل الاستعمار وأثناءه ومع الاستقلال وما بعده، على الرغم من بعض الاختلالات في مواقف سياسية معينة، أو بعض الأخطاء الاستراتيجية المتنوعة أو بعض المقاربات العقدية، أو العديد من التسويات أو التنازلات سواء من الفاعلين الدينيين أو من الفاعلين في السلطة. على الرغم من كل هذا فقد بات التعاون سمة العلاقة بين السياسي وبين الديني في السنغال. وقد حاولت الأنظمة السياسية المختلفة التي قادت البلاد على التوالي، ومن وقت لآخر، أن تستغل هيبة وقوة الفاعلين الدينيين للحد من تأثيرهم (عن طريق الاحتواء)، وللتمكين للسلطة السياسية والحفاظ عليها.
السنغال الحديث
تبدو مسألة العلاقة بين السياسة والدين من أكثر القضايا أهمية في السنغال، ويتضح ذلك من المناقشات العامة المتكررة والمثيرة حول ما يُنظر إليه في كثير من الأحيان على أنه "تلاعب بالوسط الديني" من قبل نظام الرئيس، ماكي صال (يبدو على الأقل في هذه المرحلة الراهنة أن نظام ماكي صال لا يريد إعادة ما جرت به العادة مع الأنظمة السابقة على الرغم من تصريحات مسؤولي هذا النظام بالتزامهم التعاون مع الفاعلين في الحقل الصوفي)(14)، وكذلك حول "التمالؤ" أو "التواطؤ المشبوه" لبعض فئات وسائل الإعلام الدينية التي يُنظر إليها على أنها تحابي "النظام" أكثر من أي وقت، ونفس الشيء ينطبق على نزاهة انتماء بعض السياسيين أو عدمها، وانتمائهم لجماعات، مثل: الماسونية، الإخوان، السلفيين...إلخ.
يبدو أن تحليل مختلف الخطابات والوقوف على الجدل حول هذه الأسئلة وخاصة في الشبكات الاجتماعية ووسائل الإعلام، ينتهي به الأمر إلى عدد معين من الاتجاهات ذات الدلالة لدى جزء كبير من الرأي العام وخصوصًا لدى الشباب(15) ولدى النخب المثقفة. وتتميز هذه الاتجاهات بديناميات متقاربة في بعض الأحيان ويعزز بعضها بعضًا، كما تكون في أحيان أخرى متنافرة (في المظهر)؛ ويمكن أن يُنظر إلى هذه الاتجاهات على أنها مظهر من مظاهر "الحب/الحقد/الرفض" للنموذج الصوفي السنغالي. إن تعقيد هذه الديناميات، المتشابكة والمتعددة في نفس الوقت في المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والخاضعة لرياح العولمة العنيفة في "مجتمع مفتوح"، يجعل بعضها يعتاش على بعض ويعتمد عليه ويقدم صورة مثيرة جدًّا للتطورات الأخيرة التي عرفها "العقد الاجتماعي السنغالي" الذي صار اليوم في مفترق طرق.
العودة إلى مصادر التصوف
يبدو أن العقود الماضية تميزت من جهة بطموح عارم لدى جزء كبير من الشباب السنغالي ومن النخب السنغالية كذلك نحو التعلق بقيم "الهوية" الثقافية والدينية التي يعتبرونها "قيمًا مؤسِّسة" لأمتهم. وجاء هذا كرد فعل على "القيم المناهضة" التي تُعتبر وافدة وغازية ومدمرة وقد جاءت بها العولمة وتبنَّاها جزء من النخبة السنغالية. ويتم تحقيق "العودة إلى الأصول"، التي تهدف إلى احتواء أو كبح "أزمة القيم" بالنسبة للكثيرين من خلال القيم الأساسية الموروثة من "المتدينين القدماء" ممن يُنظر إليهم على أنهم المؤسسون والمحافظون المحليون على تأسيس الطرق الصوفية، ويَنظر إليهم علم النفس الجماعي على أنهم "الآباء المؤسسون" الحقيقيون وأنهم "حُماة"(16) الأمة السنغالية.
يدعو أنصار "القومية الدينية" في السنغال إلى الاعتراف بالدور التاريخي الذي لعبته الطرق الصوفية والشيوخ الصوفيون لتدعيم الوحدة الوطنية ونشر روح التسامح وإشاعة القيم الأخلاقية وبسط الاستقرار الاجتماعي الملحوظ في البلاد (وخاصة في أوقات الأزمات السياسية)، وأنصار "القومية الدينية" هؤلاء ينتمون إما للأوساط الدينية التقليدية، أو هم من "المعرَّبين السنغاليين"، وبعضهم -وبشكل متزايد- ممن تخرج من التعليم النظامي "المتفرنس، العلماني والجمهوري" (وقد أصبحت المهمة "الحضارية" لهؤلاء هي محاولة الاستيعاب الثقافي الذي هو موضع شجب متزايد).
وينبغي لكي يستمر الدور البارز للقوى الدينية والاجتماعية المرتبطة بـ"المدينة-السياسة"، وفقًا لهذه النخب، أن تظل تلك القوى بعيدة عن الانجرافات ذات الطابع السياسي، حتى لا تشوه سمعة المؤسسة الدينية وتنتزع منها سلطاتها وقدرتها على التأثير في الجماهير. ومن هنا جاءت الفكرة المضطربة بشكل مطَّرد والقائمة على الاسترشاد بنحو متزايد بالتراث الثقافي والديني القومي الذي تركه "الآباء المؤسسون الصوفيون"، بهدف إقامة "مشروع اجتماعي" جديد لـ"الجمهورية السنغالية"(17) والذي لم يعد من شأنه أن يكون منبعثًا من فكر خارجي مرتبط بالنخب الفكرية والسياسية المرتبطة بالاستعمار الجديد والتي ألَّفت المُثل الإنسانية التنويرية لـ"لماسونية".
على أن بعض المنتمين لهذا التيار الفكري ممن هم أكثر راديكالية يذهبون في طرحهم إلى استعاضة النخب "المستلبة" المذكورة (والتي لم تعد حدودها خافية) بعناصر أنتجها النظام الديني التقليدي(18)، هذه العناصر يبدو أن وقت استبدالها قد حان في نظرهم. وتنعكس بعض هذه المطالب، من بين أمور أخرى، في الاقتراح المتكرر "بإضفاء الطابع المؤسسي" الرسمي (المنصوص عليه في الدستور) على العلاقات بين الدولة والدين في السنغال، وفي جميع الميادين (السياسية والتعليمية والاجتماعية وما إلى ذلك..)، من أجل إخراج التصوف من المستوى الرسمي ومن الشخصنة المفرطة التي تفتح الآن الباب أمام كل التجاوزات والتوليفات التي تضر بتقدم الأمة. وباختصار، ينبغي محاولة القيام بمفاصلة متناغمة بين "المواطنة" و"الطريقة الصوفية".
الصوفية في مقابل السلفية: صدمات التمثيل أو إعادة التفاوض على العقد الاجتماعي السنغالي
لم تكتف الاتجاهات "الطرقية" الجديدة بدور "ناقل الأصوات" ولا بدور "الناخبين الكبار" الذي خصصه "العقد الاجتماعي السنغالي" (العلماني) فيما يبدو للطوائف الدينية، بل تمددت جنبًا إلى جنب اتجاهات دينية أخرى استثمرت المجال العام السياسي والديني للبلاد. في الواقع، فإنه بالنسبة لبعض المسلمين السنغاليين الآخرين باتت العودة إلى الأصول الدينية، التي تمثل "هجرة" يحلم بها كل مؤمن، أمرًا لا يمكن أن يتم إلا من خلال العودة إلى "النموذج النبوي الأصلي" أي العودة إلى "السنة المطهرة"، تلك السنة ذات المصادر والمتون العربية والتي لا تتماشى في رأيهم مع العديد من "التجاوزات" والممارسات المحلية ذات الطابع "البدعي" الذي ميز "الإسلام الصوفي السنغالي". إن هذا "الإسلام الصوفي السنغالي" نموذج مضاد لما هو معروف، ويُنظر إليه على أنه يجسد ما يمكن تسميته بـ"الإسلام الأسود" المتأسس على ممارسات "بدعية" و"شركية" (تقوم على التبجيل المفرط لرجال الدين وعلى تقديس الأشخاص).
يوصف هذا الاتجاه النقدي (المناهض للتصوف) بأنه اتجاه "سلفي" و"وهابي" و"سُنِّي"، أو في اللغة المتداولة بالسنغال يسمى أصحابه بـ"حركة عباد الرحمن" ويسمَّوْن اختصارًا "عِبَادُو"(19)، حيث يختلف "سلفهم الصالح" عن "أوائل الصالحين المحليين". وكانت حركة عباد الرحمن قد حظيت بشعبية واسعة بالسنغال في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وساعدها في ذلك التاريخ السياقُ المناهض بشدة لنظام الرئيس، عبدو ضيوف، الآيل حينها للزوال (خصوصًا أن الكثير من الشباب كان يرى أن رجال الدين متواطئون مع الرئيس ضيوف). وشهدت الحركة في وقت لاحق تراجعًا وانحدارًا لأسباب مختلفة كالانقسامات الداخلية والعقدية، ومن بين تلك الأسباب أن المؤسسة الطرقية الصوفية أو من هم في دوائرها كانوا يعطون أجوية أيديولوجية وفكرية ونقدية أو سياسية أكثر "عقلانية"(20)، بالإضافة إلى ديناميات "علمانية" أخرى يتميز بها المجتمع السنغالي. ويظهر الانبعاث الجديد لحركات "أهل السنة"(21) الذي عززه ظهور وسائل الاتصال الجديدة؛ حين سارع أنصار هذه الحركات لاستغلالها في "الدعوة" وفي تنظيمهم الجيد نسبيًّا؛ مما ساعد في تمددهم في المجال السياسي والديني، وظهورهم في مختلف السجالات المثيرة للاهتمام والتي من شأنها على المستوى الطويل إعادة رسم المشهد الديني والسياسي التقليدي في البلاد. وقد لا يفهم البعض أهمية دور هذه العداوات بين الصوفية والسلفية في تشكيل السياق السياسي السنغالي الجديد، وقد لا يقدرها بما فيه الكفاية، مع أنها في رأينا تشكِّل الأسس القوية والآفاق الحقيقية للمشهد الديني السنغالي.
إن أحد أكثر العوامل إثارة للاهتمام والمتعلق بـ"التهديد السلفي" في السنغال هو ردود الفعل المتسمة بالمرونة داخل الطرق الصوفية، خاصة على مستوى النخبة. وبالنظر للخطاب البسيط/التبسيطي، "العقلاني" والحرفي لجماعة "عبادو" والقادر على إقناع الشباب بسهولة (وكثير من أعضاء هذه الجماعة درس في المدارس العلمانية، وتكاد معرفتهم الدينية تكون أولية وهو ما يحد من فاعليتهم)، فإن خطابهم الإقناعي يبقى مستلهمًا من سجل الاحتجاج على تجاوزات وسائل الإعلام، وكذلك الميوعة البارزة للطرق الصوفية، على أن الطرق الصوفية السنغالية التي يوجد بينها تنافس تقليدي وصراعات سياسية ودينية مزمنة، يبدو أنها أحست بـ"الخطر المشترك"؛ وهذا ما شجَّع الطرق الصوفية لا على تحسين وتكييف خطابهم وتكييف أدوات اتصالهم مع جماهير جديدة فقط بل وكذلك على الاستثمار في تثمين تراثهم الصوفي والفكري والعلمي (من خلال المنشورات العلمية، والندوات، والإعلام الجديد، وما إلى ذلك) بوصفه تراثًا يقدم مقاربة لطريقة سجالية وتقليدية و"أسطورية" وأكثر شعبية من غيرها. وهذا التقارب في المصالح بين الطرق الصوفية بالسنغال المتمثل في مواجهة أيديولوجيات عازمة على تقويض الأسس المشتركة بين هذه الطرق، كان وراء "الوفاق" بين بعض الزعماء الصوفيين، وشكَّل عاملًا مهمًّا في تقوية علاقاتهم، كما أسهم في الاعتراف المتبادل والمشاورات (حول التقويم القمري، وما إلى ذلك)، وأسهم أيضًا في التخفيف من التنافس بين الطرق الذي كثيرًا ما استغلته السلطات السياسية معتمدة على استراتيجية "فرِّقْ تَسُد" الموروثة من عهد الاستعمار. ومن هنا، ظهرت أكثر فأكثر في الفضاء العام مواقف اجتماعية ودينية وسياسية تتجاوز الأطر الطائفية الخاصة وتطالب بمزيد من خلق فضاءات مشتركة(22)، باسم الصوفية أو الإسلام بشكل عام.
لقد تعززت دينامية "جبهة الطرق الصوفية الموحدة" (المماثلة في بعض النواحي للوحدة التي ميزت في سبعينات القرن الماضي معركة بعض الزعماء الدينيين ضد القانون المدني الذي استصدره الرئيس السابق، سنغور)، وتعززت بشكل ملحوظ بسبب قضية الإرهاب المشتعلة والتي تهدد منطقة غرب إفريقيا ودول الإقليم عمومًا. كما أن الشكوك والاشتباه تجاه بعض تيارات السلفية المتشددة (سواء صحت أم لم تصح) تعد نذيرًا يهدد استقرار البلاد(23)، وهذه العوامل ساعدت على التضامن الصوفي، وشرعتْ إنشاء "جبهة الطرق الصوفية"، كما أنها دفعت بالدولة وخصوصًا السلطة السياسية إلى أن تلعب بحسن نية أو بسوئها(24) على إيقاع الهواجس الصوفية والترويج لنفسها على أنها "حصن ضد التطرف" والتماس أفضل السبل للتعاون والتحالف (السياسي) مع الطرق الصوفية. وهذا الأمر ليس سوى تكريس للشروط الأصلية لـ"العقد الاجتماعي السنغالي" في ظل الأبعاد الأمنية وفي ظل تحقيق "مصلحة الأمة" التي يتم تعزيزها عن طريق الوقوف في وجه السنغاليين ذوي الميول السلفية والحاملين لخطاب احتجاجي، وذلك بجعلهم في موقف المشتبه فيه.
وبالإضافة إلى "العامل الإرهابي"، فإن عناصر التحليل الأخرى تسهم في تطور ميزان القوى الديني. والواقع أن "نهاية الأيديولوجيا" (الماركسية، وتراجع -واستغلال- مبدأ "حقوق الإنسان"، وغيرها) دفعت عناصر عديدة من النخبة المتخرجة من المدرسة الغربية للبحث عن جذورهم الاجتماعية والدينية، قد وجدت هذه العناصر أن نظيرها المقابل من النخب الأخرى هم من يطلق عليهم "المعرَّبون"، ممن تكونوا في المدارس المشرقية. ومن الملاحظ أن دعاة السلفيين يقاومون في خطبهم ومواقفهم صراحة أو ضمنًا -وبشكل أكثر فأكثر- الانفتاحَ الإعلامي والروحَ التحليلية التي كانت حتى وقت قريب أفضل أسلحة دعايتهم، ويقاومون ذلك بتمجيد المملكة العربية السعودية المفرط بوصفها مثابة رمزية وأساسية لـ"الإسلام النقي"، كما يمجدون النهج الوهابي في مقابل "الإسلام البدعي" بالسنغال. وفي المقابل، تسلِّط الحركات الصوفية السنغالية علنًا وبانتظام الضوء من خلال الشبكات الاجتماعية على بعض السياسات والانتهاكات الأخيرة التي تمثلت في انتكاسات مثيرة تمارسها السعودية رافعة لواء النهج الوهابي (خصوصًا الموقف من القضية الفلسطينية، وما يحدث من مجازر في حرب اليمن، والإصلاحات الاجتماعية والدينية للأمير محمد بن سلمان، في ظل ما تمليه التوجهات الأميركية.. إلخ)(25). وهي أمور تقوِّض من الصميم وبشكل متزايد فكر ومرجعية بعض الشباب السنغالي من المجندين السلفيين المتحمسين.
ومن هنا، نفهم أن مصداقية الافتراضات السابقة المتعلقة بالنقاء المطلق لـ"توحيد أمير" الوهابيين صارت مهزوزة، وهكذا خف ألق ثنائية "السعودية/الأصولية/السنة" في مقابل "السنغال/الانحراف/البدعة". وإلى جانب عمليات "إزالة الغموض" عما يتعلق بالمرجعية الرمزية للنهج السعودي الوهابي (في الوقت الذي صارت فيه الإعانات السعودية شحيحة بشكل متزايد، كما أصبح النهج الوهابي نفسه في الجغرافيا السياسية الدولية الراهنة في خانة الاتهام)، أصبح خطابُ الطرق الصوفية المتمثل في تثمين قيم التراث الروحي المحلي، وعلى نحو متزايد، "الخطَّ الرسمي" للوسائل الإعلامية السنغالية الكبيرة، مزحزحًا بذلك الخطابات الأخرى التي صارت توصف بأنها هامشية و"غير صحيحة شرعًا". ولعل هذا ما شجع العديد من أعضاء حركة "عباد الرحمن" ممن كان نشطًا في تسعينات القرن الماضي إلى أن يصبح بحكم الخبرة في هذه الأثناء أكثر نضجًا وأقل حدية، بل وأعمق وعيًا بضرورة التعايش مع القوى الاجتماعية والطرقية في السنغال الحديث، وذلك بتقديم تنازلات قوامها الاعتراف بالطرق الصوفية (في حدود معينة ومع مقاربة استراتيجية تتغير بحسب الظروف)(26). إن أساس هذه الحركات السلفية، المكونة في العموم من "ذئاب شابة"، لا يزال خطابها شديد القسوة تجاه الطرق الصوفية، بل وينتقدون بشدة "التنازلات" التي تطبع مواقف شيوخهم وما يلاحَظ من تصالح هؤلاء الشيوخ السلفيين مع الطرق الصوفية وتعاون معها، حيث يصف هؤلاء الشباب شيوخهم بالوقوع في "البدعة".
في نقد شيوخ التصوف
إن هناك دينامية أخرى مثيرة للاهتمام في السنغال الحديث، وهي دينامية متزامنة (أو منتَجة) من طرف الالتزام المؤكد للنخب الشبابية الحديثة بتراثهم الثقافي والديني، ومن مظاهر هذا الالتزام التشكيك على نحو متزايد وحاسم في النموذج الذي يعتمده بعض رجال الدين ورجال السياسة والذي يهدد، في نظر هؤلاء الشباب، استقرار البلاد. ويسعى هذا الموقف إلى الرفض العلني بل والعنيف أحيانًا إلى عدم السماح لهذه العناصر، باستخدام الدين والتلاعب به للإفلات من العقاب، ولتحقيق غايات سياسية بالتخفي خلف الستار الديني وليس في ذلك أية مصلحة للأمة أو الدين. وقد يذهب هذا الخطاب النقدي إلى حد الطعن الفاضح في بعض السلطات الدينية التي ينظر إليها على أنها "فاسدة" ومتواطئة مع "النظام"، وأن السلطات الدينية التقليدية لا تثق فيها بل تصل إلى حد قطع عرى التواصل معها(27). وهناك آخرون أكثر توازنًا يفضلون فصلًا بين المجالات السياسية والدينية أكثر وضوحًا (ذا طبيعة علمانية، للحفاظ على الدين الذي يعتبر الأكثر حيوية بالنسبة لهم ولا ينبغي من الناحية الأخلاقية تدنيسه). فمصلحة الوطن تتطلب فك الارتباط بين الشأن العام وبين المصالح الشخصية، أو، في حال فشل ذلك، تحسين العلاقات بين الطرفين بشكل جذري (مصلحة البلد، ومصلحة الطائفة والحواضر الدينية(28)).
يكتسح هذا الموقف الحرِج (والذي نسميه بالنسبة للحالة المريدية "الوعي المريدي الجديد") باطِّراد فضاءات جديدة تصل إلى حد التبني من طرف بعض الأنظمة الطرقية وبعض نخب "شيوخ الزوايا" المثقفة(29)، وهذا الموقف لا يشكِّل في رأينا قضية مهمة غابت عن تحليل أغلب المتابعين للشأن الصوفي السنغال فحسب، بل هو تشكيك مطلق ومنهجي في السلطة الدينية في حد ذاتها؛ مما يعني في النهاية أن تطورات حقيقية في عالمنا المعاصر قد طالت السنغال وهو أمر يستدعي أن يُفكَّر فيه. على أن الانتقاد اللاذع لـ"شيوخ الطرق" لا يعد هجومًا سافرًا ضد المؤسسة الدينية في حد ذاتها أو ضد (الشيوخ العريقين) ما دام الزعماء الدينيون العظماء يحظون بقيمة عالية في الذاكرة الجمعية السنغالية(30)، على أن دعاة السلفية بالسنغال لا يفتؤون يصرِّحون بذلك النقد علنًا في بعض كتاباتهم من أجل توصيل رسالتهم بشكل أفضل. ويبدو هذا النقد موجَّهًا أساسًا ضد "الشيوخ المزيفين" (الذين يسمون في الشبكة العنكبوتية باللغة الفرنسية "mare-à-boue" وتعني "بحيرة-الطين"، وهذه العبارة من المشترك اللفظي مع الكلمة الفرنسية "marabout" التي تعني شيخ الطريقة)، فهؤلاء الشيوخ الصوفيون -بالإضافة إلى شخصيات أخرى من صميم زعامة الطائفة الصوفية أو من أطرافها- تُنسب لهم ممارسات تندرج في باب الخيانة واستمراء البذخ المادي الذي لا يتماشى، في نظر ناقديهم، مع الممارسة والأخلاق الملائمة للوظيفة الدينية. على أن قوة هذه الانتقادات الشعبية، وانتشارها في الشبكات الاجتماعية، وتأثيرها الكامن، أمورٌ بدأت تجعل من مريدي الطرق الصوفية موازِنًا حقيقيًّا لتوجه الطريقة نفسها، وهو ما يصلح أن يطلق عليه: "المجتمع المدني الطرقي"، خاصة موقف هؤلاء المريدين من التوجيهات والقرارات السياسية لزعمائهم(31). إن هذا التحول يجعل الأمر أكثر خطورة وستكون له نتائج عكسية(32) خصوصًا فيما يتعلق بالالتزامات السياسية للزعماء الدينيين، الذين يكابدون أكثر من أي وقت مضى من التبرؤ العام ومن العقوبات الانتخابية لأعضاء طائفتهم، وهو تمرد ضد ما يعتبره شيوخ المريدية خيانة للمثل العليا المشتركة. وهذا ما يلزم السياسيين السنغاليين بقراءة جديدة لعلاقاتهم الحالية والمستقبلية مع الشيوخ الدينيين ومع الشأن الديني نفسه.
خاتمة
إن السنغال، وبحكم المكانة التاريخية التي يلعبها الإسلام في نسيجه الاجتماعي وفي الاستقرار السياسي للبلاد، يقدم نموذجًا مهمًّا جدًّا للعلاقات بين السلطة السياسية والدينية. لكن هذا النموذج الديمقراطي يواجه تحديًا متزايدًا نظرًا للتطورات الداخلية والخارجية معًا، بما في ذلك ظهور ما يمكن تسميته "العروض الدينية" في الفضاء العام والتي تشكل بديلًا للطرق الصوفية التقليدية، تلك الطرق التي بات لزامًا على خطاباتها ومواقفها وتحولاتها وخصوصًا السياسية منها، أكثر من أي وقت، أن تتأقلم مع هذا السياق الجديد.
إن "التحدي السلفيَّ"، وظواهرَ التقلبات الداخلية التي باتت الطرق الصوفية تعيشها فضلًا عن الانحرافات الأخرى التي تحيد أحيانًا عن "العقد الاجتماعي السنغالي" تطرح جملة من الأسئلة على نحو متزايد على هذا العقد، كما أنها سبَّبت مشاركة مفاجئة للاعبين جدد (حركات وقادة غير منتمين إلى طريقة معينة، فضلًا عن الرأي العام للمواطنين، وما إلى ذلك)، وهؤلاء الفاعلون الجدد أصبحوا بشكل أو بآخر متعاقدين جددًا.
ويبقى السؤال المحوري والذي سيحدَّد في المستقبل هو معرفة: كيف يمكن أن نقيس قدرة الطرق الصوفية على الصمود وعلى تجديد نفسها وعلى التكيف، وكيف يمكن لزعماء هذه الطرق احتواء الأمر والتفاوض حول تأثير هذه الوضعية الجديدة وما فيها من لاعبين جدد، خصوصًا أن الطرق الصوفية باتت في خطر فقدان دورها الذي كانت تلعبه في الميدان السياسي.
إن على الزعماء الدينيين والقادة السياسيين السنغاليين إدراك وقبول التحولات التي عرفها المجال الاجتماعي-السياسي في السنغال الحديث، والعمل على ألا تشكل هذه التحولات تهديدًا "متصلبًا" للوضع السياسي والديني، بل جعلها فرصًا جديدة للتقدم، في إطار "حركة الحياة" اللازمة؛ ذلك أن مستقبل السنغال يعتمد على هذا الأمر.
_______ _______
عبد العزيز مجالس: باحث سنغالي مختص بالقضايا السياسية