تحولت الطائفية في العراق بعد الاحتلال الأميركي إلى ظاهرة سياسية اكتسبت بُعدًا رسميًّا من خلال توزيع المناصب فيما سُمي بالمحاصصة منذ مجلس الحكم في يوليو/تموز 2003، لكن أثر ذلك ظل محصورًا لفترة من الزمن بالنخب السياسية ولم تشهد امتدادًا اجتماعيًّا مباشرًا.
وجاء الاحتلال الأميركي للعراق ليحوِّل الظاهرة الطائفية المتصاعدة في المنطقة إلى حالة مؤسسية، سرعان ما فرضت أنماطها، وانتشرت تداعياتها الدموية في دول الإقليم، وظهرت بوضوح مع أول فرصة لضعف الدولة في سوريا، وخلقت توترًا متواصلًا في البحرين والسعودية، وحربًا مدمرة في اليمن.
وسواء كان تصاعد ظاهرة الانقسام الطائفي في العراق سببًا في نشرها ضمن سياق إقليمي أم إنها كانت نتيجة لهذا السياق، فإن الظاهرة بحد ذاتها صارت سببًا مباشرًا للانقسام العمودي في عدة مجتمعات عربية، وتسببت في تغيير عميق للأولويات الوطنية والقومية وفي النظرة للذات وللآخر.
وقد أدت مأسسة الهويات الطائفية إلى نشوب صراعات حول مكانة وحدود وقوة كل طائفة، وقد كان لهذه الصراعات أثر مزعزع للاستقرار، خاصة عندما كانت تضفي مشروعية على أعمال الجماعات التي تمارس العنف وتدعي تمثيل طوائفها.
لقد انتقلت عدوى الانقسام في العراق من الطبقة السياسية إلى المجتمع، ورغم أن هذا الانتقال تأخر نسبيًّا بسبب الرفض الاجتماعي له، لاسيما في العام الأول بعد الغزو الأميركي، لكن إصرار مؤسسات الحكم وتنظيماتها المسلحة وسلطة الاحتلال على تكريسها، وكذلك ظهور تنظيمات مسلحة متطرفة حاربت الاحتلال بدعاوى طائفية (سُنية) عابرة للوطنية، تجسدت بتنظيم القاعدة.
ويطرح هذا التطور في الانقسام الطائفي الذي حصل في المجتمع العراقي بعد الاحتلال الأميركي تساؤلات عن مرجعية هذا الانقسام وجذوره، والأسباب التي مكَّنته من اختراق الكيان الاجتماعي، برغم وجود ميراث طويل ومهم من التعايش والقبول، وهل بات من المقدَّر للحالة الطائفية أن تكون نمطًا اجتماعيًّا مسيطرًا في المستقبل؟
وإذا ما تخطينا ملامح المراحل التاريخية المختلفة، فإنه مع حلول القرن العشرين، بدا المجتمع العراقي، الذي تعرض لضربات عنيفة مستمرة دامت نحو ألف عام، مقسَّمًا بطريقة حادة إلى عدد كبير من الجماعات القائمة على أساس القومية أو الدين أو الطائفة أو القبيلة، لكن هذا الواقع لم يتضمن انزلاقًا نحو صراع طائفي أهلي واسع، باستثناء العنف الطائفي الذي مارسته قوى أجنبية أبرزها الصفويون والعثمانيون، وكل منهما اعتمد على قواه أو استعان بقوى محلية، لتنفيذ بطشه تجاه الطائفة الأخرى.
لا تلغي محدودية مظاهر الصراع الطائفي وجود الطائفية ذاتها بل والتعصب الطائفي في بعض الأحيان، لكن هذا الوجود للحالة الطائفية كان يختبئ في معظم المراحل التاريخية في قعر الكيان الاجتماعي؛ مما كان يسمح بالتعايش والحياة المشتركة، والقبول بالطبيعة الاجتماعية والطقوس العبادية للطرف الآخر، بل والمشاركة فيها في كثير من الأحيان. وعلى هذا الأساس، لم يكن المتغير الطائفي في معظم الأوقات سببًا جوهريًّا لتحريك الأحداث الكبرى في العراق حتى لو كان يتأثر بها أحيانًا، وقد تضاءل دور المتغير الطائفي بشكل أكبر خلال ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني التي اندلعت في صيف عام 1920 واعتمدت بشكل جوهري على القوة القتالية للقبائل العراقية الشيعية والسُنيَّة وكذلك الكردية.
لكن غياب الخلافات الجدية لا يعني بطبيعة الحال تلاشي الفوارق الطائفية، لاسيما أن وجود الطائفتين الكبيرتين في العراق جزء من سماته العامة منذ قرون.
ولقد شهدت المراحل الأولى لتأسيس الدولة العراقية، في عام 1921، مواقف وأحداثًا هيأت لظهور اختلافات وخلافات مؤثرة تمركزت حول توزيع السلطة والنفوذ والموارد في العراق المعاصر، ورغم خفوت هذه الاختلافات والخلافات في مراحل لاحقة، إلا أن تأثيراتها تواصلت على شكل الدولة وهياكلها وعلى العلاقات الاجتماعية.
بين الطائفية السياسية والاجتماعية
تشكلت الطائفية السياسية في العراق المعاصر في أوقات متقاربة نسبيًّا منذ نهاية الأربعينات، من خلال الأحزاب الإسلامية (السنية والشيعية) ضمن مناخ سياسي تهيمن عليه القوى اليسارية والقومية، ولذلك فقد ظلت القوى الإسلامية محدودة الأثر والتأثير، لكن ذلك وفر لها تجنب انتباه السلطات الحاكمة ومنحها فرصة البقاء وتعزيز القدرات التنظيمية. وقد يمكن اعتبار حزب الدعوة أول التنظيمات السياسية الشيعية الواضحة والمباشرة في التعبير عن المرجعية العقائدية الشيعية (تأسس عام 1957)، كما يمكن اعتبار تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في العراق عام 1949، وبعد ذلك تأسيس جناحها السياسي (الحزب الإسلامي)، عام 1960، أول تكريس للطائفية السياسية في المحيط السني.
وظل تأثير هذه الأحزاب محدودًا، ولم تظهر أنشطتها أو تداعياتها في الانقسام الطائفي ضمن الكيان الاجتماعي لأسباب عديدة، من بينها: استمرار هيمنة التيارات السياسية اليسارية والقومية على المناخ السياسي العام، وعدم انخراط النظم الحاكمة في الموضوع الطائفي، أو في التحريض عليه، أو حتى التعامل معه.
واستمر تراجع الزخم الطائفي خلال السنوات العشر الأولى من حكم نظام البعث في العراق بعد العام 1968، لكن قوى الطائفية السياسية تمكنت قبل نهاية السبعينات من تحريك المشاعر الطائفية على المستوى الاجتماعي من خلال ما عُرف بحادثة (خان النص) عام 1977، وبعد ذلك الثورة الإسلامية في إيران المجاورة عام 1979، وكلا الحادثين ترافقا معبدء ظهور التنظيمات (الجهادية) السُنية، وتوسعها، وتأسيس تنظيم القاعدة خلال حرب أفغانستان.
المواجهة مع إيران
استخدمت السلطات العراقية إجراءات أمنية شديدة في مواجهة تصاعد موجة الطائفية السياسية، توازت مع حملة إعلامية واسعة، واعتبرت مشروع (تصدير الثورة) الإيراني تهديدًا مباشرًا للعراق. وقد كانت الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) من تداعيات هذه المرحلة المعقدة من التصاعد في الموجة الطائفية.
وبرغم ما تسببت به الحرب من خسائر فادحة للبلدين، فقد كان من نتائجها المباشرة تمكين السلطات العراقية من قمع قوى الطائفية السياسية، وتعطيل الجهود الإيرانية حول (تصدير الثورة)، وضمان تراجع الطائفية الاجتماعية بشكل واضح.
لم تدم هذه النتائج طويلًا؛ حيث خلقت تداعيات الدمار الذي لحق بالعراق وجيشه في حرب تحرير الكويت، عام 1991، مناخًا جديدًا كان من أول وأسرع مظاهره التمرد الشعبي الذي حصل، في مطلع مارس/آذار من ذلك العام، في 14 محافظة عراقية من أصل 18 تشمل جميع المحافظات ذات الغالبية الشيعية. خرجت هذه المحافظات من سيطرة الحكومة المركزية، ودعمتها إيران والأحزاب العراقية الشيعية، قبل أن تقمعها السلطات بقوة، وتستعيد السيطرة على المحافظات الجنوبية، لكن بعد أن تسبب الأمر بضرر كبير هيَّأ لعودة الطائفية السياسية والاجتماعية التي تغذت من فترة العقوبات الدولية خلال التسعينات.
وخلال هذه الفترة اجتهد الإعلام الغربي الذي بدأ حملة ضد السلطات العراقية، بتكريس الطائفية كمحور دعائي ونفسي، ونشر مفهوم "المظلومية" الشيعية بشكل واسع النطاق، وترافق ذلك مع جهد ميداني وسياسي فاعل ومؤثر لقوى التشيع السياسي التي كانت تنشط في إيران ودول الغرب إلى جانب القوى الكردية، ومعها قوى الإسلام السياسي السني ممثلًا بالحزب الإسلامي العراقي الذي كان جزءًا من (المعارضة العراقية) لكنه لم يكن بنفس التأثير ولا جزءًا مهمًّا من آلية الدعاية، التي اعتبرت النظام العراقي وحزب البعث سُنيًّا "يضطهد الأغلبية الشيعية والأقلية الكردية".
أسهمت هذه الدعاية إلى جانب العقوبات الدولية القاسية وعوامل أخرى في إضعاف الدولة لصالح قوى المجتمع البدائية، ومنها تقوية الهوية الطائفية، وهو ما تغذَّى أيضًا -وبشكل مركَّز- من دعم أميركي مباشر بوصفه من العناصر الممهِّدة لإسقاط النظام العراقي، ولاحقًا لغزو العراق.
الصراع الطائفي
وتجلى الاستخدام الأميركي للقوى الطائفية في تمكينها من السيطرة على شؤون البلاد بعد الغزو، عام 2003، وتحويل الطائفية السياسية إلى سياق ثابت ودائم في التمثيل السياسي، بدءًا من تشكيل مجلس الحكم على أساس (محاصصة) طائفية وعرقية، إلى جعل كل مرافق الدولة الإدارية رهينة لهذا النمط من التقسيم الذي ما لبث أن تحول انقسامًا اجتماعيًّا يتصاعد أو يخبو، لكنه صار واقعًا حقيقيًّا مسيطرًا.
وقد تعززت الطائفية الاجتماعية، بعد انفجار المرقد العسكري في سامراء، في فبراير/شباط 2006، حيث جرى صراعال طائفي دموي واسع، تراجع لاحقًا، لكنه ترك خلفه انقسامًا حادًّا، تكرس من خلال السياسات الحكومية الطائفية اللاحقة، التي كان من تداعياتها سيطرة تنظيم الدولة على الموصل وأجزاء كبيرة من المحافظات السُنيَّة، وتأسيس الحشد الشعبي كميليشيات شيعية شعبية لمواجهته.
تسببت الممارسات العنيفة المتبادلة بتصاعد الانقسام الطائفي، لكن المعركة التي انتهت باندحار تنظيم الدولة، تسببت أيضًا بدمار المدن السُنيَّة الكبرى، ونزوح الملايين من أبنائها، وحصول تغييرات مهمة ذات طبيعة ديموغرافية وسياسية واجتماعية في هذه المناطق، أضعفت كثيرا من القوى السُنيَّة وقدراتها التمثيلية في الدولة.
غير أن الطائفية السياسية أصبحت أقل جاذبية وتأثيرًا في المرحلة التالية لاندحار تنظيم الدولة؛ ففي الانتخابات العامة، في مايو/أيار 2018، تراجع دور وهيمنة القوى الطائفية في قيادة العملية الانتخابية ومزاج الناخب، وتشظَّت القوائم الانتخابية الشيعية والسُنيَّة والكردية ومن ثم القوى الفائزة منها في قوائم مختلفة، وتوزعت لاحقًا بين تيارات تنازعت (الاستحقاقات) السياسية والمناصب، أو اتبعت قوى خارجية تجسدت في إيران من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، حتى إن الخلافات داخل الطائفة الواحدة بدت وكأنها تسير على وقع الخلاف الأميركي-الإيراني الذي تسبب، للمرة الأولى منذ عام 2003، بفشل الدولتين في الاتفاق على شكل الحكومة العراقية وهويات أعضائها.
وتوازت هذه الظاهرة مع الاحتجاجات التي شهدتها مدن الجنوب العراقي الشيعية ضد الحكومة بسبب نقص الخدمات وفشل الدولة في إدارة شؤون البلاد، وكان ذلك أيضًا تطورًا مهمًّا ولافتًا في آليات الاحتجاجات وفي خرق الحالة الطائفية التي استندت إليها قوى التشيع السياسي كأساس لشرعية سلطتها، وقد كانت مهاجمة المحتجين، وهم السكان الشيعة، لمقرات الأحزاب الشيعية والميليشيات المرتبطة بإيران، بل ومهاجمة وحرق القنصلية الإيرانية ذاتها، كان كل ذلك مؤشرًا مهمًّا على أن حالة التحشيد الطائفي لم تكن فعالة في السيطرة على الانقسام الطائفي، وبالتالي بقاء الجماهير الشيعية في حالة اختباء خلف الأحزاب الشيعية وميليشياتها التي قدمت نفسها كحامية للشيعة في "مواجهة البعث والتطرف والإرهاب"، و(الآخر السُّنِّي)
للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا)، وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا(اضغط هنا)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*د. لقاء مكي، باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات.