المكانة الإقليمية لمصر في الذكرى الثامنة لاندلاع الثورة المصرية: هل مصر "قوة إقليمية"؟

تبحث الورقة في دور مصر الإقليمي لاسيما بعد ثورة يناير، وهل تلعب القاهرة فعلًا دورًا استراتيجيًّا بوصفها "قوة إقليمية" كما يفترض البعض في المنطقة؟ وإذا كان الأمر كذلك هل هذا الدور الموسوم هو في تصاعد أو تراجع؟ ولماذا؟ وما حدوده وآفاقه؟
29 يناير 2019
86200a0c421545fbb4bbf9a56a7acabd_18.jpg
النظام المصري أنفق مليارات الدولارات على أسلحة ومعدات من دول مختلفة بحثًا عن شرعية دولية (رويترز)

مقدمة

لعبت مصر فيما مضى دورًا محوريًّا في محيطها الجيوبوليتيكي في العالم العربي وذلك بالنظر إلى حجمها وعدد سكانها وقوتها الاقتصادية والعسكرية. وقد اكتسبت القاهرة بهذا المعنى أهمية متزايدة إبَّان الحرب الباردة لاسيما من الناحية السياسية، لكن المتغيرات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ التسعينات من القرن الماضي وحتى اليوم أسهمت في تآكل موقع ودور مصر الإقليمي بشكل سريع لصالح دول أخرى.

الطفرة المالية التي شهدتها دول الخليج في بداية الألفية نتيجة ارتفاع أسعار النفط جعلت منها قوة اقتصادية صاعدة، فيما أدى احتلال التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية العراق في العام 2003 إلى انهيار تام للبوابة الشرقية للعالم العربي؛ الأمر الذي سمح بتعاظم أهمية ودور القوى الإقليمية الأخرى كإسرائيل وإيران التي تمدد نفوذها بشكل سريع في المشرق العربي، وذلك بموازاة صعود تركيا كقوة إقليمية لاسيما في الفترة من 2007 إلى 2010، تلاها موجة أخرى من التحولات الإقليمية مع اندلاع الثورات العربية في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011.

خلال كل هذه المحطات كان دور مصر الإقليمي يتراجع، لكن العامل الأساسي لهذا التراجع لم يكن مرتبطًا بالتحولات الخارجية فقط، وإنما كان -وما زال- يكمن في المشاكل البنيوية التي تعاني منها الدولة المصرية، وهي المشاكل التي تراكمت بسبب سيطرة العسكر على مفاصل الدولة المصرية واستنزاف قدراتها لمصالح خاصة بالإضافة إلى عجز السلطة السياسية عن إدارة البلاد للنهوض بها بالشكل الذي يتناسب مع حجمها ومواردها وهو الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى انفجار ثورة 25 يناير/كانون الثاني من العام 2011 في سياق دومينو الثورات العربية الذي بدأ مع ثورة تونس في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010.

تبحث هذه الورقة في دور مصر الإقليمي لاسيما بعد ثورة يناير/كانون الثاني من العام 2011، وهل تلعب القاهرة فعلًا دورًا استراتيجيًّا بوصفها "قوة إقليمية" كما يفترض البعض في المنطقة؟ وإذا كان الأمر كذلك هل هذا الدور الموسوم هو في تصاعد أو تراجع؟ ولماذا؟ وما حدوده وآفاقه؟

مصر كـ “قوة إقليمية"؟

مناقشة دور مصر الإقليمي يفترض الانطلاق من كونها "قوة إقليمية"، وفي مثل هذا الافتراض إشكالية نظرية على اعتبار أن "القوة الإقليمية" ليست معطى ثابتًا في الزمان والمكان أولًا، كما أنها ليست منفصلة عن الظروف ثانيًا. بمعنى آخر، إذا كانت (أ) من الدول "قوة إقليمية" في عصر ما، لا يعني هذا بالضرورة أنها "قوة إقليمية" الآن، فتحديد إذا ما كانت الدولة "قوة إقليمية" لا يرتبط بتاريخها وإنما يرتبط بعوامل أخرى أكثر حسمًا يتم مناقشتها في مكان وزمان وظروف محددة.

علاوةً على ذلك، فإن مفهوم "القوة الإقليمية" هو مفهوم مركَّب يتطلب الدمج بين منظور العلاقات الدولية ومنظور الجغرافيا السياسية وهي مسألة معقدة ومتعددة الأوجه، ومعالجتها من الناحية النظرية تنطوي على عناصر مرتبطة باتجاهات مدارس مختلفة في العلاقات الدولية من الليبرالية إلى الواقعية إلى البنائية، كالعناصر المتعلقة بالقوة الداخلية للدولة المعنية والموارد الطبيعية التي تمتلكها وطريقة توظيفها ودور السياسات والاستراتيجيات المتبعة ووجود مؤسسات أو نظام سياسي قادر على توظيف الموارد بالإضافة إلى التفاعل مع المحيط الإقليمي...إلخ.

ويعد مفهوم القوة أساسيًّا في العلاقات الدولية، وهو يفسَّر وفق المدرسة الواقعية على أنه سيطرة الدولة على مواردها ولاسيما العسكرية منها، فيما يتناول آخرون المفهوم من خلال العلاقة مع الآخر أو من خلال ارتباطه بمفهوم الهيمنة.

ومن الأمور التي يجب أخذها بعين الاعتبار أيضًا أن مفهوم "القوة" بحد ذاته تعرض لتغييرات كبيرة خلال العقود الماضية وهذا بدوره يتطلب تحديد ماهية القوة سواءً في ذاتها لدى الدولة (أ) أو قياسًا بما لدى الفاعل الآخر في الإقليم أي الدولة (ب). 

بمعنى آخر، هل تمتلك الدولة (أ) موارد تؤهلها فيما لو تم استغلالها بشكل صحيح عبر مؤسسات/نظام سياسي وتوظيفها في استراتيجيات محددة أن تجعل منها قوة؟ وفي هذه الحالة: ما مدى القوة الذاتية للدولة؟ وما مدى قوتها قياسًا بدولة أخرى في الإقليم؟ لكن يبقى الأهم في كل ما تقدم هو ضرورة عدم الخلط بين مقومات ومصادر القوة من جهة، وبين القوة ذاتها من جهة أخرى؛ فتوافر الأولى بشكلها الخام لا يعني أن الدولة أصبحت قوية بذاتها بشكل آلي.

تكمن أهمية مصر الجيوبوليتيكية في كونها منفتحة على أبعاد جيوسياسية مختلفة في آن واحد، فهي تشرف على منطقة شمال إفريقيا من الشرق، وتتصل بالعمق الإفريقي من الشمال، وتخولها سيناء الاتصال بالشرق الأوسط وبلاد الشام برًّا وبحرًا من خلال البحر الأحمر والبحر المتوسط، وهي مُطلَّة في نفس الوقت على شبه الجزيرة العربية من خلال البحر الأحمر قبالة غرب السعودية، وهو ما يعطيها الخيارات للعب أدوار على أكثر من منصة إقليمية في وقت واحد. وتمتلك مصر ثروات طبيعية أهمها الغاز والنفط والقطن، وتعتبر واحدة من أغنى دول العالم بالآثار التاريخية الأمر الذي يؤهلها لأن تحتل مراتب متقدمة عالميًّا لناحية جذب السياح وتاليًا العملات الصعبة، كما تمتلك قناة السويس التي تدر عليها دخلًا منتظمًا إضافة إلى كونها الأكبر في العالم العربي من حيث عدد السكان، وتمتلك قوة عسكرية لا يستهان بها من ناحية التعداد البشري. وهنا، يطرح السؤال الأساسي نفسه: "هل مصر قوة إقليمية؟" الجواب هو: لا.

هناك عدد كبير من التعريفات المتعلقة بتحديد ماهية "القوة الإقليمية" في حقل العلاقات الدولية لعل أشملها هو ذلك الذي يقول: إن "القوة الإقليمية" هي(1) دولة جزء من منطقة محددة جغرافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، متداخلة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا مع المنطقة، لديها انطباع ذاتي عن كونها قائدة إقليمية، تُؤثِّر بشكل كبير على الحدود الجيوسياسية وعلى التركيب السياسي للمنطقة، وتعكس/تمارس مواردها المادية (العسكرية والاقتصادية والديمغرافية) وقدراتها التنظيمية (السياسية) والأيديولوجية على الساحة الإقليمية كقوة، لديها تأثير حقيقي على الشؤون الإقليمية من حيث "التحركات والنتائج"، وتمارس تأثيرها ونفوذها هذا من خلال هياكل الحكم الإقليمية، وتحدد الأجندة الأمنية الإقليمية إلى حدٍّ بعيد بنفسها، موقعها القيادي في الإقليم معترف به من قبل الآخرين أو على الأقل محترم من قبلهم، وتتحرك بتعبير ليس عن مصالحها الخاصة فقط وإنما تعمل مبدئيًّا على الأقل كممثل لمصالح الإقليم أيضًا.

جدول رقم (1) مؤشرات أساسية مصر مقارنة بعدد من القوى الإقليمية

 

المساحة

عدد السكان 

(2018)

الناتج المحلي الإجمالي

(2017)

معدل دخل الفرد

(دولار أميركي)

الإنفاق العسكري
( مليار دولار)

(2017)

مصر

1001450

101168745

235369

3010

7.85

السعودية

2149690

34140622

683827

20080

63.7

تركيا

783562

82961805

851102

10930

18.2

إيران

1648195

82820766

439514

5400

14

إسرائيل

20770

8583916

350851

37270

17.8

المصدر: تجميع الباحث من مصادر مختلفة*

دور مصر الإقليمي إبَّان الثورة المصرية

بالرغم من الانطباع السائد لدى كثيرين في العالم العربي، إلا أن مصر لم تكن -بالمعنى الذي شرحناه آنفًا- قوة إقليمية مهيمنة على الدوام، واقتصر ذلك ربما على فترة وجيزة فقط من عمرها في الفترة ما بعد الانقلاب العسكري عام 1952 أو ما يُعرف باسم ثورة الضباط الأحرار؛ حيث استطاع النظام المصري آنذاك توظيف موارد الدولة بشكل يخدم تطلعاته خارج حدود الدولة المصرية مدعومة بأيديولوجية تنادي بالوحدة العربية ومستعدًّا لممارسة دور قيادي في المنطقة انطلاقًا من تطلعاته الإقليمية من جهة، وعزمه على تصدر القيادة في الصراع العربي-الإسرائيلي من جهة أخرى؛ حيث كان لمصر تأثيرها الإقليمي الواضح.

موقع ودور مصر كقوة إقليمية تم تقويضه بعد ذلك بشكل منهجي من الداخل (النظام المصري) والخارج (الإقليم)، لاسيما بعد تعرضها لهزائم عسكرية مع إسرائيل في حروب عام 1956 وعام 1967. وبالرغم من الانتصار في حرب 1973، إلا أنها لم تستطع الحصول على زخم كامل، وسرعان ما دخلت في عزلة إقليمية بعد أن تمت مقاطعتها في الفترة بين 1978 و1989 بسبب توقيعها على اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل. ومنذ تلك الفترة -أي العام 1990 وحتى العام 2011- بقي لمصر تأثير على بعض الملفات الإقليمية، لكنها (أي مصر) كانت بمثابة عامل توزان وإدارة وليس قوة إقليمية مهيمنة (2). بمعنى آخر، لم تكن تمتلك القدرة التي تؤهلها لأن تعكس قوتها المفترضة إقليميًّا لكي تحصل على النتائج التي تريدها لصالحها.

في العام 2011، اندلعت الثورة المصرية لأسباب اقتصادية وسياسية بالدرجة الأولى، ونتيجةً لتراكم الفشل في أداء النظام السياسي مترافقًا مع تراجع مكانة الدولية المصرية داخليًّا وخارجيًّا إثر استنزافها بشكل غير مسبوق من قبل ما بات يعرف من قبل كثيرين بـ"جمهورية الضباط"(3) أو "أرض الجنرالات"، وسيطرة العسكر على المفاصل الأساسية للبلاد وعلى مقدرات الدولة المصرية حيث بات الجيش وكبار منسوبيه بمنزلة شركة خاصة لها مصالحها المنفصلة عن الدولة المصرية بل التي لا تقوم إلا على حساب الكيان المصري.

وبهذا المعنى، فقد كان من المأمول أن يصبح الانفجار القصير الأجل في يناير/كانون الثاني 2011 بمثابة بداية لإعادة تصحيح مسار أكثر من نصف قرن من حكم الجيش. أثناء المرحلة الانتقالية تراجع الاستقرار في البلاد بشكل أكبر، وقد انعكس ذلك على مؤشرات أداء الدولة المصرية وعلى دورها الإقليمي أيضًا. ترافقت أزمة مصر الداخلية مع تحولات إقليمية عميقة في النظام العربي مع خروج دول مثل العراق وسوريا من المشهد بسبب وضعها الداخلي أيضًا؛ الأمر الذي أدى إلى صعود بارز في هذه المرحلة لدور دول مجلس التعاون الخليجي لاسيما السعودية والإمارات وقطر وذلك كبديل عن دور القوى التقليدية في المنطقة، كما برز مجلس التعاون الخليجي كبديل عن دور الجامعة العربية.

مع تسلم محمد مرسي سدة الحكم، بتاريخ 30 يونيو/حزيران 2012، كأول رئيس مدني منتخب بطريقة ديمقراطية في تاريخ مصر الحديث، بدا أن هناك تحركات باتجاه تمتين العلاقات مع القوى الإقليمية فكانت أول زيارة خارجية للسعودية (4)، وكذلك تم تطوير العلاقات مع تركيا بشكل كبير (5)، وحافظ موضوع العلاقة مع إيران على طابعه الجدلي بالرغم من وجود جهود لمعالجته (6)، أما العلاقة مع إسرائيل فقد بقيت قائمة لكن سادها توتر باطني متزايد، وتم تحقيق خرق على صعيد الدفع باتجاه مصالحة وطنية فلسطينية.

لكن يمكن القول بأن نشاط السلطة السياسية الجديدة لم يكن يعبِّر عن رؤية، فمصر حاولت الحضور في بعض الملفات الإقليمية من خلال الشرعية السياسية الداخلية والعامل النفسي/السيكولوجي فقط، لكن الدولة لم تكن حاضرة نتيجة الانقسام العميق بين السلطة الوليدة نتيجة الانتخابات الديمقراطية والسلطة الحاكمة فعليًّا والمتغلغلة في الدولة المصرية وهي سلطة العسكر، وتعطل أدوات ومصادر قوة الدولة المصرية.

حاولت السلطات المصرية كذلك الدفع باتجاه دعم بعض الثورات بصفتها وليدة ثورة لكن هذا الأمر أثار مخاوف كبيرة لدى الدولة العميقة المصرية ولدى عدد من الدول الإقليمية. وبالرغم من ذلك فقد كانت مصر في هذه المرحلة محطَّ استقطاب إقليمي من قبل محاور وقوى إقليمية متعددة (7)؛ وذلك لسببين رئيسيين: الأول: هو أن ظفر أي محور من المحاور المتنافسة آنذاك بمصر -على وهنها- كان يعني ترجيح كفته إقليميًّا، وبهذا المعنى، كانت مصر بمثابة بيضة القبان. أما السبب الثاني، وهو السبب الأهم، فهو مراهنة هؤلاء على أنه إذا ما استطاعت الثورة تصحيح مسار الدولة المصرية، فإن تحول مصر إلى قوة إقليمية سيكون مجرد وقت وهذا سيكون مكسبًا للطرف الذي يريد لمثل هذا التحول أن يحصل وخسارة للطرف الذي يخشى وقوعه. هذا الاستقطاب بالتحديد أدى إلى تحفيز الانقلاب العسكري الذي بات هو الآخر يخشى على مصالحه العميقة في الدولة المصرية.

دور مصر الإقليمي منذ الانقلاب العسكري وحتى اليوم

في 3 يوليو/تموز 2013، قام وزير الدفاع، عبد الفتاح السيسي، بالإطاحة بالرئيس، محمد مرسي، متذرِّعًا بوجود ثورة شعبية، واعدًا المصريين بتحقيق الاستقرار وتحسين الوضع الاقتصادي والأمني. وبالرغم من أن السيسي كان قد قال إنه غير طامع بالسلطة (8)، إلا أنه سرعان ما استولى عليها مشرِّعًا موقعه فيها بانتخابات شكلية عام 2014، تلاها انتخابات أخرى هزلية (9) في عام 2018، مهَّد لها بالتخلص من أي منافس محتمل من أي اتجاه كان بمن في ذلك أولئك الذين دعموه و/أو أيدوه في انقلابه العسكري، وانتهى الأمر بأن يتنافس ضد نفسه.

خلال هذه المدة اعتمدت مصر بشكل كبير على المعونات الخارجية. ومع أن موضوع المعونات لم يكن جديدًا؛ إذ تُعتبر مصر واحدة من أكبر متلقي المعونات الأميركية في العالم بواقع 78.3 مليار دولار منذ العام 1946 وحتى العام 2016، من ضمنها حوالي 1.5 مليار دولار سنويًّا منذ توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل (10)، إلا أنها أصبحت تعتمد بشكل شبه كلي على أموال الدول الخليجية (السعودية والإمارات والكويت) لمنع الانهيار الاقتصادي. وتشير الأرقام إلى تلقي مصر خلال (2013 و2014) فقط حوالي 25 مليار دولار (11)، في حين يقدِّر آخرون بأن يكون الرقم الحقيقي عن تلك الفترة قد وصل إلى 47.5 مليار دولار (12)، ناهيك عن الأموال التي جاءت من تلك الدول في الفترة اللاحقة، أي منذ 2014 وحتى عام 2018، والقروض الدولية التي أُعطيت لمصر ومن بينها قروض صندوق النقد الدولي.

وبموازاة هذه القروض، توسعت جمهورية الضباط في امتصاصها قدرات مصر بشكل كبير سياسيًّا (13) واقتصاديًّا وعسكريًّا. فعلى سبيل المثال، أظهر تحقيق استقصائي في العام 2014 أن حوالي 70% من محافظات البلاد يقودها جنرال عسكري برتبة لواء، وقس على ذلك، فالعسكريون يحتلون مناصب سياسية واقتصادية مختلفة في مفاصل الدولة الأساسية، ويمتلكون شركات تنخرط في العمل التجاري في مجالات مثل البنى التحتية والمقاولات والصناعة والطاقة والقطاع السمكي والمياه والتعليم والأغذية...إلخ، ويديرون مجالس إدارتها ويسيطرون من خلالها على جزء كبير من حجم الاقتصاد المصري. وفقًا للسيسي، فإن جمهورية العسكر تسيطر على حوالي 1.5% فقط من حجم الاقتصاد المصري (14)، لكن آخرين يؤكدون أن هذه النسبة هي الفتات الذي يراد له أن يظهر في الدفاتر فقط، وأن الحجم يصل إلى حوالي20%(15)، فيما يرفع آخرون هذه النسبة إلى 40%(16) لاسيما مع تضاعف أرباح شركات المؤسسة العسكرية في عهد السيسي والتي لا يعلم أحد أين تذهب بها (17). ومع أنه لم يكن هناك وجود لأية معارضة بعد أن نجحت السلطة المصرية بإسكات الجميع وفرض رغبتها فيما تريد على الشعب المصري، استمر الوضع الداخلي بالتراجع.

ترافق الغرق الداخلي لمصر مع اختفاء تام لها على الصعيد الإقليمي سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، ولم تكن حاضرة أو موجودة كقوة إقليمية مفترضة في أي من الملفات الحساسة والمحورية في المنطقة. لم يكن هذا الغياب اختياريًّا كما يحب أن يوحي بذلك البعض، وإنما هو غياب ناجم عن مشاكل بنيوية متراكمة تعاني منها الدولة المصرية وهي مشاكل تعمقت مع نظام السيسي ويصعب معها تصنيف مصر على أنها قوة إقليمية فضلًا عن أن تكون قوة. حجم الناتج المحلي الإجمالي المصري متواضع قياسًا بموارد مصر من جهة أو بالناتج المحلي الإجمالي للقوى الإقليمية من جهة أخرى فضلًا عن عدد آخر من الدول الصغيرة. وفي الوقت الذي كانت فيه دول مثل السعودية والإمارات وإيران وتركيا تنفق مليارات الدولارات (18) على قضايا إقليمية لتعزيز نفوذها، لم يكن للقاهرة وجود على الإطلاق.

جدول رقم (2) اللاعبون الأساسيون في الإقليم

الدولة

اللاعب الرئيسي

سوريا

تركيا وإيران

العراق

إيران وتركيا

اليمن

إيران/السعودية والإمارات

الصومال

تركيا وقطر/الإمارات

ليبيا

الإمارات والسعودية/تركيا وقطر

لبنان

إيران/السعودية

المصدر: الباحث 

في الأعوام منذ يوليو/تموز 2013 وحتى اليوم، بدا أن السلطات المصرية تحاول أن تعوِّض غياب مصر الإقليمي بالبحث عن دور وظيفي تؤدي من خلاله خدمات أمنية/عسكرية لقوى إقليمية ودولية (السعودية وإسرائيل وروسيا والولايات المتحدة)، وغالبًا ما تمثَّل ذلك في كلمة السر الأكثر جاذبية وهي "محاربة الإرهاب" تارة تحت عنوان مواجهة الإخوان المسلمين وطورًا تحت عنوان محاربة "القاعدة" و"تنظيم الدولة". هدف هذا التصرف إلى تحقيق أمرين: الأول: هو القول للمصريين: إن مصر دولة قوية، والثاني: هو القول للخارج: إن مصر تستطيع أن تلعب دورًا محوريًّا، وفي خلفية الرسالتين كان النظام يبحث عن شرعية له فقط لا غير.

لكن حتى في هذا الملف، لم يلق الدور المصري أي اهتمام يُذكَر، وقد انتهى به الأمر لأن يكون بمنزلة ترس في آلة الآخرين السياسية سواء في غزة أو في ليبيا أو في سوريا. وبالرغم من أن كثيرين يَعتَدُّون بالقوات المسلحة المصرية إلا أن الإشارة إلى قوتها غالبًا ما تُختزل بتعدادها البشري فقط. فمصر لا تمتلك أحدث المعدات العسكرية كدول الخليج العربي على سبيل المثال، ولا التفوق العسكري التكنولوجي كإسرائيل، كما لا تمتلك القدرات غير التناظرية أو البالستية كإيران مثلًا، وليست بكفاءة القوات المسلحة التركية التي تعتبر ثاني أكبر جيش في الناتو. وفي الوقت الذي كانت فيه القوات المسلحة لهذه الدول تقوم بعمليات عسكرية خارج حدودها في السنوات القليلة الماضية، شهدت مصر في العام 2017 أعلى معدل في تاريخها لناحية سقوط قتلى جرَّاء عمليات إرهابية، وقد عانى الجيش المصري في مواجهة ما يُقدَّر بأنه ألف من المتطرفين في سيناء (19).

جدول رقم (3) دول لديها قواعد عسكرية إقليمية و/أو تقوم بعمليات عسكرية خارج أراضيها

الدولة

القواعد العسكرية

تركيا

قواعد في 6 بلدان

إيران

تنتشر في 4 بلدان على الأقل عبر أذرعها العسكرية

إسرائيل

الجولان المحتل

الإمارات

قواعد في 3 بلدان على الأقل

المصدر: الباحث

المفارقة أنه وبموازاة تدهور الاقتصاد المصري وتسجيل أعلى معدل للدين الخارجي في تاريخ البلاد (20)، تحولت مصر في عهد السيسي إلى واحدة من أكبر مستوردي السلاح في العالم، فأنفقت مليارات الدولارات على أسلحة ومعدات من روسيا وفرنسا وألمانيا وغيرها من الدول دون حاجة فعلية لذلك (21)، على اعتبار أن مصر ليست في حالة حرب أو صراع حتى تستورد هذا الكمَّ المكلف من المعدات، فضلًا عن أن زيادة القدرات القتالية التقليدية ليس بالضرورة أمرًا مفيدًا في محاربة الإرهاب. علاوةً على ذلك، فإن تنويع مصدر أنظمة القتال ليس أمرًا مفضلًا لدى الدول للوصول إلى كفاءة قتالية عالية. لذلك، فإن الهدف لم يكن رفع كفاءة القوات المسلحة المصرية أو جاهزيتها بقدر ما كان شراءً لشرعية سياسية من الخارج.

غياب مصر الإقليمي لم يكن الدليل الوحيد على ضعفها الشديد؛ إذ إن هناك مؤشرات أخرى تفيد بأن فقدانها للقوة واعتمادها على الآخرين دفعها للتنازل عن سيادتها لقوى أخرى وجعل منها مجرد تابع إقليمي للمرة الأولى تاريخيًّا. وفي هذا السياق، يُضرب المثال بتنازل السلطات المصرية عن جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر للمملكة العربية السعودية؛ ففي 8 أبريل/نيسان 2016، وأثناء زيارة الملك سلمان لمصر، تم توقيع اتفاقية تتخلى القاهرة بموجبها عن الجزيرتين للرياض، وتم التصديق على هذه الاتفاقية في 14 يونيو/حزيران 2017(22). علاوةً على ذلك، هناك من يشير إلى أن النظام المصري قد تنازل أيضًا عن حقوق مصرية لإسرائيل في غاز شرق المتوسط ومنح مساحة بحرية واسعة لليونان أيضًا (23). هذه التنازلات تبعها موقف ضعيف في مواجهة المخاطر المستقبلية لسد النهضة الإثيوبي على مياه النيل التي توفر 90% من احتياجات مصر من المياه.

جدول رقم (4) دول تستخدم قوتها الصلبة في الإقليم حاليًّا

الدولة

المسرح الإقليمي

تركيا

سوريا والعراق

إيران

سوريا والعراق ولبنان واليمن

إسرائيل

سوريا ولبنان

السعودية/الإمارات

اليمن

المصدر : الباحث 

ولإخفاء حالة العجز المشار إليها، قامت السلطات المصرية بالاعتماد على تحالفات جماعية مع لاعبين آخرين أكثر قوة منها في مجالات متعددة. في شرق البحر المتوسط على سبيل المثال، تحاول القاهرة الانخراط في مثلث يجمعها مع إسرائيل واليونان، وهو مثلث يوحي بأنه موجه باتجاه قوة إقليمية مجاورة وهي تركيا. مصر ليست قائدة هذا المثلث؛ إذ تعتبر إسرائيل القوة الأكبر فيه سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا أيضًا. كذلك الأمر، تنجر مصر إلى مثلث آخر يضمها إلى جانب السعودية والإمارات موجه ضد قوى إقليمية غير عربية لاسيما إيران وتركيا. وبالرغم من أنها القوة العسكرية الأكبر فيه، إلا أنها ليست قائدة لهذا المثلث أيضًا. وبعكس إسرائيل وتركيا وإيران وحتى السعودية والإمارات، التي تقوم بعمليات عسكرية خارج حدودها تعبِّر إما عن طموحها أو عن قدرتها في فرض نفسها قوة إقليمية وبالتالي محاولة التأثير على الأحداث بالشكل الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى خدمة مصالحها، فإن الجيش المصري لا يخوض حروبًا خارجية، وتجاربه الداخلية مؤخرًا كانت سيئة من الناحية العسكرية.

خاتمة
في كتابهما الشهير جدًّا "لماذا تفشل الأمم؟"، يقول دوران عجم أوغلو وجايمس روبنسن: إن الجواب على هذا السؤال يكمن في المؤسسات. لقد كان هناك نماذج تستطيع فيها أنظمة ديكتاتورية توظيف قوة الدولة من أجل تطلعات وأدوار إقليمية لكنها لم تكن تدوم طويلًا بسبب غياب المؤسسات. علاوةً على ذلك، فإن نوعية النظام السياسي تساعد إلى حد كبير على استنهاض قدرات الدولة من خلال إشراك المواطنين فيها وتحقيق مصالحهم بدلًا من عزلهم وتحقيق مصالح الطبقات الخاصة القبلية أو العسكرية أو النخبوية.

خلال السنوات الثماني الماضية، لم تخسر مصر ما كان قد تبقى لديها من دور إقليمي فقط، بل إنها خسرت إجمالي قوتها. لا يوجد أدنى شك بأن مصر كدولة لديها موارد قوة، لكنها تفتقد إلى النظام السياسي القادر على توظيف هذه الموارد فضلًا عن إرادة التوظيف والسياسات الصحيحة والاستراتيجيات الناجعة لجعلها قوة إقليمية. ظهور أي استثناءات مستقبلية يؤكد قاعدة أن مصر ليست قوة إقليمية ولا ينقضها وذلك إلى أن يتم تغيير الوضع السياسي والاقتصادي لمصر بشكل جذري وهو أمر من الصعب تصور حصوله في ظل سيطرة العسكر على مفاصل الدولة. الاستقرار الناجم عن تحول الدولة إلى دولة بوليسية هو استقرار مزيف، وليس بإمكانه مساعدة الدولة على استثمار طاقتها. تنامي حجم أرض الجنرالات يأكل من رصيد الكيان المصري ويبدو أن هذا الوحش سيستمر في النمو إلى حين التصحيح طوعًا أو الانفجار مجددًا. في السابق، كان هذا الكيان يركز على إسرائيل ليصرف انتباه الناس عن المشاكل الحقيقية، لكنه لم يعد اليوم قادرًا على ذلك واستبدل بعامل الإلهاء هذا الإرهابَ، لكن تجربة العقد السابق على الثورات العربية التي اندلعت عام 2010 تقول: إن مراهنة الأنظمة على هذه الورقة للتغطية على المشاكل البنيوية التي تعاني منها الدولة سينتهي بشكل سيء.

___________________________________________

*د. علي حسين باكير- باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1)     Nolte, Detlef, How to Compare Regional Powers: Analytical Concepts and Research Topics, GIGA German Institute of Global and Area Studies, May 2007, p.15.

المصادر المستخدمة من قبل الباحث:

السكان: ورلدوميترز، استنادًا إلى تقديرات شعبة السكان (الأمم المتحدة).

الناتج المحلي الإجمالي: استنادًا إلى قاعدة بيانات البنك الدولي.

معدل دخل الفرد: استنادًا إلى قاعدة بيانات البنك الدولي.

الإنفاق العسكري: استنادًا إلى موقع آرمد فورسز إي يو.

(2)     Abdou, Mahmoud, Is Egypt a Regional Hegemon?, LSE Student Union – Politics and Forum Journal, May 2014, p. 64 – 69.

(3)     Sayigh, Yezid, Above the State: The Officers’ Republic in Egypt, Carnegie Middle East Center, 1 August 2012, p.1-38.

(4)     "زيارة مرسي للسعودية تعيد تاريخ علاقة الرياض بجماعة الإخوان المسلمين في مصر"، الشرق الأوسط، 9 يوليو/تموز 2012، (تاريخ الدخول: 7 يناير/كانون الثاني 2019): https://goo.gl/p8cavm

(5)     باكير، علي حسين، "مصر في السياسة الخارجية التركية.. واقع ما بعد الثورة والآفاق المستقبلي"، مركز الجزيرة للدراسات، 3 يناير/كانون الثاني 2013، (تاريخ الدخول: 5 يناير/كانون الثاني 2019):http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2013/01/201313103459814100.html

(6)     نافع، بشير موسى، "جدل مصري صاخب حول العلاقات مع إيران"، القدس العربي، 17 أبريل/نيسان 2013، (تاريخ الدخول: 10 يناير/كانون الثاني 2019):https://goo.gl/V4qSj3

(7)     انظر على سبيل المثال: محاولات تركيا وإيران ستقطاب مصر:BAKIR, Ali, Turkish-Iranian relations in the shadow of the Arab revolutions: A vision of the present and the future, Aljazeera Center for Studies, 4 July 2011, p 7-8, (Visited on 5 January 2019):https://www.aljazeera.net/mritems/streams/2011/7/4/1_1071856_1_51.pdf(تاريخ

(8)     "السيسي.. قصة حلم قديم بالسلطة"، الجزيرة، 30 مايو/أيار 2014، (تاريخ الدخول: 15 يناير/كانون الثاني 2019): https://goo.gl/TD3zrq

(9)     Egypt’s ‘Democracy’: Only Rival Presidential Candidate Has Sisi as His Cover Photo, Albawaba, 30 January 2018, (Visited on 16 January 2019):

(10)  Sharp, Jeremy, Egypt: Background and U.S. Relations, CRS, 7 June 2018, p. 24.

(11)  Adly, Amr, Egypt’s Regime Faces an Authoritarian Catch, Carnegie Middle East Center, 21 July 2016, p.7.

(12)  يوسف، محمود، "المساعدات الخليجية لمصر: التقديرات وسيناريوهات المستقبل"، مركز الجزيرة للدراسات، 26 أبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 20 يناير/كانون الثاني 2019): http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2015/04/20154267348308411.html

(13)  للمزيد، انظر:

Stevenson, Tom, Egypt: Land of the Generals, MEE, 13 February 2015, (Visited on 21 January 2019):

https://www.middleeasteye.net/in-depth/features/land-generals-1661973598

(14)  حمامة، محمد، كم يساوي نشاط الجيش الاقتصادي عندما يقدره السيسي بـ1.5% من الاقتصاد؟، مدى مصر، 31 أكتوبر/تشرين الأول 2016، (تاريخ الدخول: 21 يناير/كانون الثاني 2019): https://madamasr.com/ar/2016/10/31/feature/اقتصاد/كم-يساوي-نشاط-الجيش-الاقتصادي-عندما-يق/

(15)  Miller, Laurel, and others, Democratization in the Arab World: Prospects and Lessons from Around the Globe, RAND, 2012, p.83.

(16)  The Officer’s Republic: The Egyptian Military and Abuse of Power, Transparency International (Defence and Security), March 2018, p.8

(17)  From war room to boardroom. Military firms flourish in Sisi’s Egypt, Reuters, 16 May 2018, (Visited on 22 January 2019):

https://www.reuters.com/investigates/special-report/egypt-economy-military/

(18)  Young, Karen, Game on: The new politics of Gulf financial intervention, AEI, 18 December 2018, (Visited on 18 January 2019):http://www.aei.org/publication/game-on-the-new-politics-of-gulf-financial-intervention/

(19)  Miller, Andrew, Commentary: Five myths about U.S. aid to Egypt, Reuters, 13 Augustus 2018, (Visited on 16 January 2019):https://www.reuters.com/article/us-miller-egypt-commentary/commentary-five-myths-about-u-s-aid-to-egypt-idUSKBN1KY1WJ

(20)  بالرغم من الكم الهائل من المساعدات والقروض، إلا أن الدَّيْن الخارجي ارتفع إلى 60.1 مليار دولار، انظر:

(21)  Mandour, Maged, The weakening of Egypt’s regional role, Open Democracy, 24 April 2017.https://www.opendemocracy.net/north-africa-west-asia/maged-mandour/weakening-of-egypt-s-regional-role (تاريخ الدخول: 22 يناير/كانون الثاني 2019):The Officer’s Republic: The Egyptian Military and Abuse of Power, Op. cit, p. 14-15.

(22)  "تيران وصنافير: رحلة التنازل عن السيادة المصرية"، عرب 48، 15 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 22 يناير/كانون الثاني 2019):https://goo.gl/8r9oUM

(23)   باكير، علي حسين، "النزاع على الغاز في شرق المتوسط ومخاطر الاشتباك"، مركز الجزيرة للدراسات، 22 أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 22 يناير/كانون الثاني 2019): http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2018/04/180419092055183.html