"صفقة القرن": السلام بلا فلسطينيين وبشروط إسرائيلية

توشك الإدارة الأميركية على الإعلان عن خطة جديدة للسلام، باتت تُعرف إعلاميًّا بصفقة القرن، وقد تحقق بعضها، مثل: الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والتمهيد لتطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية. ومع ذلك، لا تزال مجموعة من التحديات، من أهمها: التحولات الاستراتيجية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
22 مايو 2019
6b5c1739ba854c84893eba8eda5f559a_18.jpg
فرضت إسرائيل مجموعة قوانين وإجراءات لتهويد القدس وطمس معالمها الإسلامية مثل تغيير أسماء الأماكن، وحفر أنفاق تحت البلدة القديمة (الأناضول).

لابد من التأكيد في البداية على أن الإدارة الأميركية لم تنشر رسميًّا بنود خطتها للسلام حتى الآن وأن جميع ما يتم تناوله حول ما يطلق عليه "صفقة القرن" هو عبارة عن تسريبات صحفية بالأساس أعلنت الإدارة الأميركية مرارًا وتكرارًا أنها "غير دقيقة". وبدلًا من مناقشة أفكار غير معلنة وسرية، تهدف هذه الورقة إلى تحليل الخطوات الأميركية-الإسرائيلية العملية والتي تم إنجازها ضمن المساعي الأميركية للاعتراف بما قامت إسرائيل بفرضه بالقوة، ومن طرف واحد، تجاه إنهاء المسألة الفلسطينية. بعكس الإدارات الأميركية السابقة، يبدو أن إدارة ترامب عكست استراتيجيتها في التعامل مع المسائل الشائكة التي كانت سببًا كافيًا في تفجر المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية السابقة، وهي: حسم مصير مدينة القدس لصالح إسرائيل، وتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وتشريع التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والتمهيد لضم مساحات منها تحت السيادة الإسرائيلية. تعالج الورقة أولًا الملفات الأكثر صعوبة (مصير مدينة القدس، ومسألة اللاجئين، والتوسع الاستيطاني)؛ ومن ثم تعرض مواقف السلطة الفلسطينية الملتبسة تجاه الخطة. وتناقش أخيرًا التحديات التي تعترض تطبيق الخطة والتطورات المستقبلية المتوقع حصولها.

مصير مدينة القدس
اعترفت إدارة ترامب، في ديسمبر/كانون الأول 2017، بمدينة القدس موحدة بقسميها الشرقي والغربي عاصمة لإسرائيل، وقامت بالفعل بنقل سفارتها إلى المدينة، في مايو/أيار 2018، بهدف حسم مصيرها قبل أية مفاوضات مستقبلية مع تأكيد السيادة الإسرائيلية على كامل المدينة بلا منازع. تشير بعض التسريبات الإعلامية الإسرائيلية إلى أن الخطة الأميركية للحل تقوم على تقسيم مدينة القدس مع احتفاظ إسرائيل بالسيادة على القدس الغربية وبعض الأجزاء من القدس الشرقية بما يشمل البلدة القديمة ومحيطها مع وجود إدارة مشتركة تضم إسرائيل، والفلسطينيين، والأردن، وربما دولًا أخرى. وبدلًا من مدينة القدس، فإن الخطة الأميركية تطمح إلى منح الفلسطينيين عاصمة في بلدة أبو ديس، التي تبعد حدودها الغربية فقط كيلومترين عن المسجد الأقصى.

تتطابق التسريبات حول مصير مدينة القدس مع ما قامت به إسرائيل على مدار أكثر من خمسة عقود من احتلالها للمدينة سواء فيما يتعلق بالاستيطان أو سياسات التهويد. احتلت إسرائيل في عام 1948 ما مجمله 84% من مساحة مدينة القدس، والتي أصبح يطلق عليها القدس الغربية، وأعلنتها عاصمة لها. خضع القسم الشرقي من المدينة، والذي يضم المدينة القديمة وما تحتويه من أماكن مقدسة، مثل: المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحائط البراق، لحكم الأردن حتى قامت إسرائيل باحتلاله في 5 يونيو/حزيران 1967. ومنذ ذلك الحين، اتبعت إسرائيل استراتيجية ممنهجة ترتكز على محورين أساسيين وذلك من أجل تهويد المدينة وتثبيت السيادة الإسرائيلية عليها:

  • أولًا: تقليص الوجود الفلسطيني مع زيادة أعداد اليهود وطمس معالم المدينة الإسلامية: تبنت إسرائيل في عام 1973 استراتيجية تقوم على عدم السماح بأن تتجاوز نسبة السكان الفلسطينيين 22% من مجموع سكان المدينة. ومنذ ذلك الحين، قامت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بمجموعة متنوعة من الإجراءات العقابية ضد الوجود العربي تضمنت سحب هويات آلاف المقدسيين، وهدم البيوت بحجة عدم الترخيص، ومصادرة الأراضي والممتلكات الفلسطينية. تمثَّلت الحلقة الأخطر في مسلسل تهويد المدينة في بناء إسرائيل للجدار العازل حول المدينة، في عام 2002، والذي أدى إلى فصل أكثر من 125 ألف مقدسي عن مراكز حياتهم داخل أسوار مدينة القدس القديمة بينما ضَمِنَ ضمَّ عدد من المستوطنات المحيطة إلى حدود القدس وذلك في مسعى لتغيير الميزان الديمغرافي لصالح التركيبة اليهودية. اليوم، يعيش في شرق القدس 320 ألف فلسطيني يشكِّلون 36% من مجمل سكان القدس بشطريها. في المقابل، يعيش نحو مئتي ألف مستوطن شرق القدس. وفي مقابل الدعم غير المحدود الذي يتلقاه المستوطنون، يعيش حوالي 80% في المئة من الفلسطينيين -بحسب الإحصاءات الإسرائيلية الرسمية- في الفقر والتهميش، حيث يبلغ معدل دخل الفلسطيني شهريًّا نحو ألف دولار، وهو أقل من نصف تكلفة المعيشة بالمدينة(1). علاوة على ذلك، فرضت إسرائيل مجموعة من القوانين والإجراءات الهادفة إلى تهويد المدينة وطمس معالمها الإسلامية مثل تغيير أسماء الأماكن والأحياء، وحفر الأنفاق تحت البلدة القديمة.
  • ثانيًا: محاربة تأسيس وجود فلسطيني رسمي في مدينة القدس عن طريق تفكيك البنية الأمنية والسياسية والمؤسساتية للسلطة الفلسطينية: استثنى اتفاق أوسلو مدينة القدس الشرقية من أية سيطرة أمنية أو سياسية للسلطة الفلسطينية وأبقاها تحت السيادة الفعلية الإسرائيلية الحصرية. ومنذ اتفاق أوسلو، فشلت السلطة في بناء أي وجود سياسي أو مؤسساتي فاعل في المدينة. وزاد من تهميش المدينة استثناؤها من الانتخابات المحلية الفلسطينية، عامي 2005 و2012، ليرسخ ذلك الفراغ السياسي الفلسطيني في المدينة التي تغيب عن أولويات التخطيط والتنمية ضمن ميزانيات السلطة الفلسطينية. فبينما تخصص إسرائيل أربعة مليارات شيكل سنويًّا للقدس، تبلغ ميزانية المدينة المخصصة من قِبَل السلطة 25 مليون شيكل فقط. ويزيد من متاعب المدينة وتهميشها تعدد المرجعيات الفلسطينية فيها، حيث تتوزع هذه المرجعيات على عدد كبير من الأطر التي تتراوح ما بين منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الوطنية الفلسطينية، والحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر، والأوقاف الإسلامية التي تتبع للأردن. تعاني هذه المرجعيات في الأغلب من التنافس والتصارع وغياب التنسيق وتشرذمها والتداخل في الصلاحيات فيما بينها(2).
     

لا لعودة اللاجئين!
شكَّلت مسألة حل قضية اللاجئين الفلسطينيين أحد أعقد المسائل في المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية منذ انطلاقتها مطلع تسعينات القرن الماضي. يطالب الفلسطينيون بعودة اللاجئين إلى الأماكن التي طُردوا منها سواء في حرب عام 1948 أو حرب عام 1967. في المقابل، ترفض إسرائيل أية عودة للاجئين الفلسطينيين وتعتبر عودتهم نهاية عملية "للطابع اليهودي للدولة" ومطلبًا يهدف إلى تدمير إسرائيل داخليًّا عن طريق قلب المعادلة الديمغرافية لصالح الفلسطينيين. يعيش في إسرائيل حوالي تسعة ملايين نسمة، منهم حوالي 1.8 مليون عربي، أي حوالي 20 بالمئة من عدد السكان.

وبالرغم من غموض الرؤية الأميركية تجاه مسألة اللاجئين، تُظهر بعض المؤشرات والإجراءات الأميركية والإسرائيلية المخطَّط تجاه هذه المسألة، وخاصة العمل على تدمير وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المعروفة اختصارًا بـ "الأونروا" والتي تعمل منذ تأسيسها كإطار مؤسساتي يهتم باللاجئين الفلسطينيين. فبعد عام واحد من انتهاء حرب عام 1948، صوَّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح إنشاء وكالة الأونروا وذلك بهدف مساعدة اللاجئين الفلسطينيين المهجَّرين من أراضيهم وقراهم. يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الأونروا اليوم 5.15 ملايين لاجئ موزعين على مجموعة من المناطق، أهمها: الضفة الغربية، وقطاع غزة، والأردن، ولبنان، وسوريا. تقدم وكالة الأونروا مجموعة من الخدمات الأساسية للاجئين تتعلق بالرعاية الصحية، والتعليم، وشبكة أمان اجتماعية، ودعم البنية التحتية في المخيمات الفلسطينية(3).

تعتبر الوكالة اليوم المؤسسة الأكثر "كرهًا في إسرائيل" وعقبة أساسية أمام تحقيق السلام بنظر الولايات المتحدة الأميركية، حيث تتهم إدارة ترامب وكالة الأونروا بأنها مؤسسة "معيبة بشكل لا يمكن إصلاحه"(4) وأنها تعمل على إدامة أزمة اللاجئين عن طريق توفير الخدمات الأساسية لهم بدلًا من العمل على إعادة توطينهم بشكل دائم في مكان آخر، أي في الدول التي تستضيفهم. ففي رسائل بريد إلكترونية داخلية مسربة من جاريد كوشنر إلى زميله، جيسون غرينبلات، ظهرت نية الإدارة الأميركية بالعمل على بذل مجهودات لعرقلة عمل الأونروا ونشاطاتها(5). بدأت الولايات المتحدة الأميركية بتطبيق ذلك بالفعل في عام 2018 وذلك عن طريق قطع مساعداتها المالية للوكالة؛ حيث سحبت الولايات المتحدة 300 مليون دولار من قيمة تمويلها وهو ما سبَّب أزمة مالية غير مسبوقة للوكالة ووضع نشاطاتها في كافة أقاليم العمليات في دائرة الخطر(6) لولا المساعدات الطارئة التي استطاعت الوكالة تجنيدها. تعتبر الولايات المتحدة الأميركية أكبر مساهم في ميزانية الأونروا التي تبلغ 1.2 مليار دولار؛ حيث وصلت المساعدات الأميركية 319 مليون دولار عام 2016.

لم تكتف الولايات المتحدة بوقف تمويل وكالة الأونروا، بل تعمل -وبالتعاون مع إسرائيل- على تفكيكها ونقل صلاحياتها لهيئات أممية أخرى وذلك عن طريق إعادة تعريف من هو اللاجئ الفلسطيني. يتهم الطرفان، الأميركي والإسرائيلي، وكالة الأونروا بمساعدة الفلسطينيين في إدامة روايتهم المتعلقة بالصراع وأسبابه وذلك عن طريق توريث مكانة اللاجئ لنسل اللاجئين، حتى أولئك الذين يتمتعون بجنسية دول أخرى وهو ما أدى إلى مضاعفة أعداد اللاجئين أكثر من مرة خلال العقود الماضية. فقد تم إنشاء الأونروا لخدمة اللاجئين الفلسطينيين حصرًا وهي تعتبر أن جميع اللاجئين وأحفادهم يندرجون ضمن إطار اختصاصاتها ومسؤوليتها القانونية، وهذا بالتحديد ما تحاول تل أبيب وواشنطن تغييره حاليًّا.

تطالب إسرائيل والولايات المتحدة الأممَ المتحدة بإعادة تعريف اللاجئين وصلاحيات الأونروا بحيث يتم استخدم ذات المعايير التي تنطبق على مجموعات اللاجئين الأخرى في العالم والتي تشرف عليها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي تم إنشاؤها في عام 1950. بخلاف الأونروا، لا تمنح المفوضية السامية اللاجئين مكانة ووضع لاجئ بصورة مباشرة لأبناء اللاجئين، وخاصة في حال كان لديهم جنسية دولة أخرى. وفي حال تحقق المطلب الإسرائيلي-الأميركي وتم إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني ونقل مسؤولية اللاجئين الفلسطينيين تحت إطار المفوضية السامية، فإن ذلك سيعني إزالة وضع لاجي عن كل اللاجئين الفلسطينيين باستثناء اللاجئين القلائل الذين هاجروا في عام 1948. فمن بين مئات آلاف اللاجئين الذين أُجبروا على الرحيل في عام 1948، يُعتقد أن نسبة قليلة منهم لا يزالون على قيد الحياة(7). وبناء على تقييمات جيمس ليندسي، مستشار قانوني وخبير سابق للأونروا، فإن تحويل اللاجئين من صلاحيات الأونروا إلى المفوضية السامية يعني أن غالبية اللاجئين الفلسطينيين سوف يفقدون وضعية اللاجئ القانونية التي يتمتعون بها ضمن إطار وكالة الأونروا. فعلى سبيل المثال، سوف يفقد 1.8 مليون لاجئ في الأردن من حوالي 2.2 مليون صفة اللجوء وذلك بسبب كونهم يحملون الجنسية الأردنية. ينطبق هذا أيضًا بصورة كبيرة على وضع اللاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وبصورة أقل على اللاجئين في لبنان وسوريا والتي لا يتمتع فيهما اللاجئون الفلسطينيون بكامل حقوق المواطنة(8).

سيسهِّل ذلك، من وجهة النظر الإسرائيلية والأميركية، تطبيق حلول إقليمية لمشكلة اللاجئين أو على الأقل عدم اعتبارها عقبة أساسية لتحقيق السلام.

استغلت إسرائيل الموقف الأميركي المتواطئ معها لتبدأ في إجراءات عملية تهدف لتهميش الأونروا وإنهاء دورها. ففي سبتمبر/أيلول 2018، صرَّح رئيس بلدية القدس، نير بركات، بأنه سيعمل على طرد وكالة الأونروا من مدينة القدس وذلك عن طريق الاستعاضة في جميع مهامها بخدمات البلدية وذلك بهدف "أسرلة" شرقي المدينة وتثبيت السيادة الإسرائيلية على جميع مدينة القدس(9). وكشفت تقارير صحفية في حينه أن هذه الخطة سوف يتم تنفيذها اعتبارًا من العام المقبل وذلك بإغلاق جميع مدارس ومؤسسات الأونروا في القدس(10). علاوة على ذلك، عملت إسرائيل، في يوليو/تموز 2018، على إقرار قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل والذي يعرِّف إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي ويزيد من صعوبة أي حلول تتضمن عودة اللاجئين أو جزء منهم إلى أراضيهم التي هُجِّروا منها عام 1948. وينص قانون الدولة القومية على أن إسرائيل هي "دولة قومية للشعب اليهودي" وعلى أن "ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودي"(11).

وبدلًا من تعويض اللاجئين الفلسطينيين، تسعى إسرائيل، ضمن إطار صفقة القرن، إلى مطالبة الدول العربية بـ250 مليار دولار تعويضات عن ممتلكات اليهود الذين تزعم إسرائيل أنهم كانوا يملكونها قبل نقلهم إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. ففي عام 2010، سنَّ الكنيست الإسرائيلي قانونًا يلزم الحكومة بتضمين ملف "تعويض أملاك اليهود" في كل مفاوضات سلام تجريها مع الدول العربية. ومع زيادة الحديث عن "صفقة القرن"، بدأت إسرائيل فقط قبل عشرين شهرًا بالعمل على حصر وتقدير الممتلكات اليهودية في الدول العربية والإسلامية(12).
 

الاستيطان
منذ احتلال الضفة الغربية في عام 1967، تضاعف عدد المستوطنين عدة مرات ليصل اليوم إلى أكثر من 600 ألف مستوطن يعيشون في أكثر من 238 مستوطنة. ومع وصول الرئيس الأميركي وبداية حديثة عن خطته للسلام، بدأت إسرائيل تسابق الزمن في تسريع عمليات البناء الاستيطاني في الضفة الغربية. ففي تقرير لها نُشر مع نهاية العام 2018، أشارت حركة "السلام الآن"، وهي حركة إسرائيلية ترصد النشاطات الاستيطانية في الضفة الغربية، إلى أن عام 2018 يعتبر قياسيًّا في طرح مناقصات البناء في المستوطنات الإسرائيلية منذ بدأ تسجيل هذه الأرقام في عام 2002. فمنذ بداية العام 2018، تم إصدار مناقصات لما مجموعه 5.618 وحدة سكنية في جميع أنحاء الضفة الغربية، مقارنة مع 3.154 وحدة سكنية في عام 2017. وفسرت حركة "السلام الآن" مضاعفة إسرائيل للاستيطان بزيادة الضغوط داخل الائتلاف الحاكم المكون من أحزاب يمينية داعمة للتوسع الاستيطاني وتشجيع الولايات المتحدة للخطوات الإسرائيلية. ولا تكتفي إسرائيل بالخطط الاستيطانية المعلنة، بل لم تتوقف عن التوسع فيما يطلق عليه "الاستيطان الصامت" والذي لا يتم الإعلان عنه رسميًّا من قبل الحكومة الإسرائيلية ولكنه يحظى بالدعم المالي واللوجستي ويعمل على مصادرة مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية دون أن يثير انتقادات، وخاصة في مناطق الأغوار والمناطق الشمالية من الضفة الغربية(13).

تتقاسم الإدارة الأميركية الحالية والحكومة الإسرائيلية موقفًا موحدًا تجاه عدم معارضة التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية. فعلى عكس إدارة الرئيس، باراك أوباما، الذي سمح في آخر أيام إدارته بإصدار قرار يطالب اسرائيل بوقف الاستيطان فورًا بتأييد 14 من الدول الأعضاء في مجلس الأمن مع امتناع الولايات المتحدة عن التصويت للمرة الأولى منذ 1979، لم تعد الإدارة الأميركية الحالية ترى في الاستيطان عقبة تقف أمام استئناف المفاوضات الثنائية ما بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؛ حيث يُعتبر سفير ترامب لدى إسرائيل، ديفيد فريدمان، من أبرز داعمي الاستيطان في الأراضي الفلسطينية. تُظهر التسريبات المتعلقة بالاستيطان أن الرؤية الأميركية تقوم على تقسيم المستوطنات إلى ثلاث مجموعات؛ تشمل المجموعة الأولى الكتل الاستيطانية الكبرى والتي ستضمها إسرائيل إليها، والثانية هي المستوطنات النائية التي لن يُسمح لها بالتوسع، والثالثة هي المستوطنات العشوائية التي سيتوجب إخلاؤها(14).

ولكن، من الناحية العملية، يبدو أن إسرائيل تتجه إلى ضم مناطق أوسع من المستوطنات تحت سيادتها وليس فقط المستوطنات الكبرى. أظهرت نتائج الانتخابات الإسرائيلية التي أُجريت في 9 أبريل/نيسان 2019، فوزًا واضحًا لقوى اليمين واليمين المتطرف والتي تضع على رأس جدول أعمالها مخططات لضم الضفة الغربية -أو أجزاء واسعة منها- تحت السيادة الإسرائيلية(15). ففي العام الماضي، تبنَّى حزب "الليكود"، الفائز في الانتخابات والذي من المتوقع أن يشكل الحكومة القادمة، مشروع قرار ينص على فرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات وامتداداتها في الضفة الغربية المحتلة؛ بما فيها القدس، وضمها إلى نطاق السيطرة الإسرائيلية(16). أكد بنيامين نتنياهو أيضًا على هذا التوجه قبل الانتخابات الإسرائيلية بأيام قليلة عندما أعلن دعمه لضم التكتلات الاستيطانية والمناطق الاستراتيجية إلى إسرائيل، وتأكيده بأنه لن يقوم بإخراج أي مستوطن إسرائيلي من الضفة الغربية بالقوة معلنًا أنه سيطبق "السيادة الإسرائيلية" في التكتلات اليهودية في الضفة الغربية. ومع أن نتنياهو أوضح أنه لا ينوي ضم كامل الضفة الغربية فإنه أكد أنه لن يزيل أية مستوطنة وأفصح عن نيته الاحتفاظ بسيطرة أمنية وإدارية كاملة على المنطقة (ج) والتي تشكل 60% من مناطق الضفة الغربية(17). وأظهرت الولايات المتحدة إشارات متعددة على عدم معارضتها للخطوات الإسرائيلية لضم الضفة الغربية وتفهمًا لمواقف نتنياهو.
 

السلام الإقليمي
لم تكتف الخطوات الأميركية بالعمل على تصفية القضايا العالقة الكبرى عمليًّا، بل تعمل على عكس أجندة السلام بحيث تضمن تحقيق سلام إقليمي وتطبيع عربي-إسرائيلي كمقدمة لحل القضية الفلسطينية. تبدأ الخطوة الأولى في هذه الاستراتيجية بتمتين وتطبيع العلاقات الإسرائيلية-العربية، وخاصة مع دول الخليج العربي، التي يُتوقع منها أن تلعب دورًا محوريًّا في تمويل أي صفقات سلام إسرائيلية-فلسطينية. يمكن أن يُستشف هذا التوجه من مجموعة متنوعة من التصريحات الأميركية/الإسرائيلية التي تهمِّش القيادة الفلسطينية مقابل الدعوة للانفتاح على العرب. ففي ديسمبر/كانون الأول 2018، صرَّح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأن تل أبيب "في طور مشروع تطبيع العلاقات مع العالم العربي، وذلك دون تحقيق أي تقدم مع الفلسطينيين. فمن وجهة نظر نتنياهو، فإن تحسن العلاقات مع العالم العربي "ربما يقود ... إلى ظروف جديدة تؤدي إلى تطوير العلاقات مع الفلسطينيين"(18).

مؤخرًا، استطاعت إسرائيل تعزيز شبكة علاقاتها الإقليمية والتي تم ترجمتها بانفتاح خليجي وإفريقي على إسرائيل. توجت إسرائيل هذه التوجهات بزيارة رئيس وزرائها السابق والمكلف الحالي بتشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة، بنيامين نتنياهو، إلى سلطنة عُمان في أكتوبر/تشرين الأول 2018، ومن ثم زيارة إدريس ديبي، رئيس تشاد، الدولة الإفريقية ذات الأغلبية المسلمة والتي يتحدث سكانها العربية، تل أبيب، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، والاحتفال بعهد جديد من التعاون ما بين الطرفين بعد 46 سنة من قطع العلاقات(19)، وإعلان نتنياهو عن زيارة إلى تشاد في 20 يناير/كانون الثاني 2019. وبينما تأمل تل أبيب أن تكون تشاد مفتاحًا لعلاقات استراتيجية أوسع مع إفريقيا، تلعب سلطنة عُمان دور الوسيط في العلاقات الخليجية-الإسرائيلية.

فخلافًا لما نصت عليه المبادرة والإجماع العربي الصادرين عن القمة العربية في بيروت عام 2002، والتي اشترطت التطبيع مع إسرائيل مقابل إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بدأت بعض الدول العربية، وخاصة الخليجية، بتجاوز هذه المواقف وكسرها. فلم يكتف نتنياهو بزيارة سلطنة عُمان، إحدى دول مجلس التعاون الخليجي، بل توالت الاختراقات الإسرائيلية لدول الخليج مع زيارة وزيرة الثقافة والرياضة، ميري ريغيف، صاحبة المواقف العنصرية ضد الفلسطينيين والعرب، دولة الإمارات العربية المتحدة لحضور مباريات جودو دولية وتجولت في مسجد الشيخ زايد بأبوظبي في إشارة إلى حسن الاستقبال. أيوب قرا، وهو وزير الاتصالات الإسرائيلي ويُعتبر من صقور القيادات الإسرائيلية، حضر بدوره مؤتمرًا حول الاتصالات في دبي(20).

علاوة على ذلك، بدت المملكة العربية السعودية، ذات النفوذ الواسع عربيًّا وإسلاميًّا، أكثر تفهمًا للمواقف الإسرائيلية أكثر من أي وقت مضى. يعتقد على نطاق واسع في إسرائيل أن ولي العهد الجديد، محمد بن سلمان، يسعى إلى التقارب مع إسرائيل على حساب الفلسطينيين وذلك لاعتبارات مرتبطة بسعيه إلى تثبيت حكمه في ظل عدم استقرار أوضاعه داخل المملكة وسرعة التحولات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط مع استعداد الولايات المتحدة الأميركية للانسحاب من سوريا والذي قد يعني تعزيز نفوذ إيران الإقليمي. صدرت عن ولي العهد خلال الفترة الماضية مجموعة من الإشارات التي اعتبرتها إسرائيل علامات مهمة على التقارب ما بين الطرفين الإسرائيلي-والسعودي. ففي مقابلة مع صحيفة "ذا أتلانتيك"، في أبريل/نيسان 2018، أعلن ولي العهد أن للإسرائيليين الحق في العيش على أرضهم؛ وهو ما بدا وكأنه اعتراف بحق إسرائيل في الوجود بصورة تخالف مواقف المملكة التقليدية تجاه إسرائيل. كما لم يتوقف ولي العهد عن الإشارة إلى أن المملكة وإسرائيل تتقاسمان عدوًّا مشتركًا، وهو إيران(21).

يتقاسم ولي العهد الجديد أيضًا مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية الموقف نفسه تجاه "صفقة القرن" وضرورة فرضها على الفلسطينيين إذا تطلب الأمر. ففي أبريل/نيسان 2018، نشر العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية تصريحات منسوبة لولي العهد، محمد بن سلمان، وجَّه فيها انتقادات حادة وغير مسبوقة للفلسطينيين وبلهجة قاسية أمام منظمات يهودية في نيويورك، حيث حمَّل القيادة الفلسطينية المسؤولية عن فشل صنع السلام. وفي إشارة إلى صفقة القرن، قال ابن سلمان: إن على الفلسطينيين قبول اقتراحات السلام أو "فليصمتوا". وبحسب التقارير الإسرائيلية المختلفة، فإن ولي العهد حمَّل كامل المسؤولية للجانب الفلسطيني عن تضييع ورفض عروض السلام خلال العقود الأربعة الماضية(22).
 

مواقف السلطة الملتبسة
يرفض الفلسطينيون بكافة أطيافهم الرؤية الأميركية للحل طالما لم تحتو على دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية بما فيها البلدة القديمة. في استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله في ديسمبر/كانون الأول 2018، أظهرت النتائج تشكيك غالبية الفلسطينيين (%73) في فرص نجاح خطة ترامب. فغالبية الفلسطينيين العظمى (%72) يعتقدون بأن خطة ترامب لن تدعو إلى قيام دولة فلسطينية وبالتالي فإن 74% من الفلسطينيين يطالبون القيادة الفلسطينية برفض الخطة وغالبية كبيرة (%59) يعارضون عودة الاتصالات مع الإدارة الأميركية والتي أوقفتها السلطة الفلسطينية بعد اعتراف إدارة ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، في ديسمبر/كانون الأول 2018، وأعلنت في أكثر من مناسبة رفضها التعاطي مع الخطة الأميركية أو قبول الولايات المتحدة الأميركية كراع رئيسي لعملية السلام(23). فبدلًا من فرض حلول من طرف إسرائيل والولايات المتحدة، تطالب السلطة بتنفيذ خطة سلام تعتمد على قرارات الأمم المتحدة وأهمها تطبيق الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية طبقًا لحدود عام 1967.

ولكن، تُظهر الولايات المتحدة الأميركية عدم اكتراث لمواقف السلطة؛ حيث تسعى لتجاوزها والعمل على إخضاعها بدلًا من اعتبارها شريكًا في عملية السلام. ففي يونيو/حزيران 2018، زار كوشنر الأردن والسعودية وقطر ومصر وإسرائيل لكنه لم يجتمع مع عباس على إثر رفض الأخير لقاء فريق ترامب بعد نقل السفارة الأميركية للقدس، وأوضح كوشنر أن خطة السلام ستمضي قدمًا بعباس أو بدونه(24).

ترجمت واشنطن تهميشها للقيادة الفلسطينية بخطوتين في غاية الأهمية:

  • أولًا: إغلاق الولايات المتحدة مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
  • ثانيًا: وقف جميع المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية -باستثناء الأجهزة الأمنية- بما فيها المستشفيات الفلسطينية في شرقي مدينة القدس.

وبالرغم من الرفض الفلسطيني الرسمي للخطوات الأميركية، إلا أن سياسات القيادة الفلسطينية تساعد واشنطن في تطبيق خطتها بدل تعطيلها. فبدلًا من تمتين الجبهة الفلسطينية الداخلية للتصدي "للمشروع الأميركي-الإسرائيلي"، تسعى السلطة حاليًّا للانفكاك عن حركة حماس التي تدير قطاع غزة وبالتالي ترسيخ الانفصال ما بين الضفة وغزة وهو ما سيسهل على الإدارة الأميركية بحث حلول منفصلة لكل من الضفة الغربية وقطاع غزة. ففي نهاية ديسمبر/كانون الأول 2018، أعلن الرئيس أبو مازن عن حل المجلس التشريعي ودعا إلى انتخابات تشريعية خلال ستة أشهر وهو ما رفضته حركة حماس بشدة. ارتفع أيضًا التوتر ما بين حركتي فتح وحماس بصورة كبيرة على خلفية توترات سادت مهرجان إيقاد الشعلة في مدينة غزة بمناسبة الذكرى الرابعة والخمسين لانطلاقة حركة فتح. وزاد التوتر مع اقتحام مقر تليفزيون فلسطين الرسمي في قطاع غزة وتحطيم محتوياته من قبل 5 أشخاص، قالت حركة حماس: إنهم ينتمون لحركة فتح(25). ومن أجل مراكمة الضغوط على حركة حماس وتعميق الانقسام معها، سحبت السلطة الفلسطينية، في أوائل يناير/كانون الثاني 2019، قواتها من إدارة معبر رفح الحدودي مع مصر، والذي كانت السلطة الفلسطينية قد استعادت السيطرة عليه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 بعد تفاهمات مع حركة حماس، وسلمته لوزارة الداخلية في القطاع الذي تهيمن عليه حركة حماس. رفضت معظم الفصائل الفلسطينية في غزة قرار السلطة، واعتبرته خطوة تعمِّق الانقسام وتخدم الولايات المتحدة في تطبيق صفقة القرن(26).
 

تحديات الخطة
حققت الخطة الأميركية حتى الآن إنجازات مهمة على صعيد تطبيقها، مثل: الاعتراف بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل، وغضِّ الطرف عن الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، وقطع التمويل الأميركي عن وكالة الأونروا كمقدمة لتصفية قضية اللاجئين، والتمهيد لتطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية. ومع ذلك، لا تزال مجموعة من التحديات الشائكة تواجه المساعي الأميركية وتهدد بفشلها، وأهمها: المعارضة الإسرائيلية المتوقعة، وتردد الأردن ومصر في التعاون، والتحولات الاستراتيجية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.

إسرائيل "ترفض": لم تنتظر إسرائيل إعلان الخطة الأميركية وبدأت منذ سنوات العمل على تغيير الواقع على الأرض بهدف تثبيت سيطرتها وسيادتها. وفي حال تضمنت الخطة الأميركية عناصر يمكن أن تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية عاصمتها القدس الشرقية أو جزء منها -وهذا أمر مستبعد-، فإن إسرائيل سوف تعمل على عرقلة الخطة ورفضها. فمن المؤكد أن ترفض الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة -والتي تسعى حاليًّا لتشكيل حكومة ائتلافية مع نتنياهو- أية خطة أميركية تتضمن ما تعتبره تنازلات للفلسطينيين، مثل: تفكيك الاستيطان أو تجميده أو إقامة دولة فلسطينية. ولا يقتصر الرفض على أحزاب اليمين، بل تشمل التحفظات أيضًا حزب الليكود الحاكم وقيادات من معسكر الوسط والتي لن تتجاوب على الأغلب مع أي مقترحات للسلام تتضمن ما تعتبره تنازلات للفلسطينيين وخاصة في مسائل القدس، واللاجئين، والاستيطان(27).

الأردن ومصر تمانعان: بالرغم من سعي بعض الدول العربية للمساهمة في بلورة "صفقة القرن" ودعمها إلا أن دولًا أخرى سوف ترفضها على الأغلب إذا لم تحقق مصالحها الداخلية والإقليمية. وهنا، يبرز موقف الأردن بشكل أساسي والذي يعتبر أحد أقرب حلفاء واشنطن في المنطقة وهي بحاجة إلى التنسيق معه في مرحلة ما بعد انسحاب القوات الأميركية من سوريا وخاصة فيما يتعلق بالحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية. يرفض الأردن أية تسوية لا تتضمن حلولًا لمسألة اللاجئين الفلسطينيين تستجيب لمصالح عمَّان الاستراتيجية. منح الأردن غالبية اللاجئين الفلسطينيين حق المواطنة وسهَّل لهم عملية الاندماج في سوق العمل، ومع ذلك، لا يزال الأردن ينظر إلى توطين اللاجئين كمصدر قلق حيوي للأمن القومي. يعيش في الأردن أكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين؛ حيث يقدر عددهم بحوالي 2.2 مليون لاجئ مسجل منهم حوالي 1.8 مليون يحملون الجنسية الأردنية. لذلك، فإن تصفية قضية اللاجئين يمكن أن تزعزع على الأغلب استقرار الأردن الداخلي الذي يشهد حاليًّا اضطرابات اقتصادية وسياسية غير مسبوقة مع زيادة في الدَّيْن، وارتفاع مستويات التضخم، والأسعار، والإضرابات التي رافقت الإصلاحات الضريبية المقترحة في ربيع 2018(28).

فهناك تسريبات تُظهر أن كوشنر عرض تسليم الأردن ملايين الدولارات التي تمنحها الولايات المتحدة سنويًّا للأونروا مقابل استيعاب المسؤولية الكاملة عن اللاجئين الفلسطينيين. ولكن، رفض الملك عبد الله العرض مباشرة، وقال وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي: إن مثل هذا التحرك كان سيترتب عليه "عواقب إنسانية وسياسية وأمنية بالغة الخطورة بالنسبة للاجئين والمنطقة برمتها"(29). فعلى مدار ما يقرب من سبعة عقود، تولت الأونروا رعاية اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، حيث تدير 171 مدرسة تخدم أكثر من 122.000 طالب. وتتولى مراكز الصحة الأولية البالغ عددها 25 مركزًا أكثر من 1.6 مليون زيارة في السنة، كما أن 10 مخيمات معتَرَف بها للاجئين و3 غير رسمية تقع تحت مسؤولية الأونروا(30). فتفكيك الأونروا أو إعادة توطين اللاجئين سوف يعني إضافة مزيد من الأعباء الاقتصادية على الحكومة الأردنية والتي من المتوقع أن تقاوم ذلك.

من المتوقع أيضًا أن ترفض مصر أية خطة سلام أميركية لا تتضمن حلولًا لقطاع غزة. فهناك تسريبات تشير إلى اقتراح واشنطن إقامة مشاريع في شبه جزيرة سيناء باستثمارات خليجية وذلك من أجل مساعدة الاقتصاد في غزة. فمن غير المرجح أن يذهب المصريون إلى قبول مثل هذه الخطط خوفًا من أن تصبح غزة معتمِدة اقتصاديًّا بشكل متزايد على مصر، فتصبح بالتالي مشكلة مصرية بدلًا من إسرائيلية(31).

الإقليم غير مستقر: تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات جذرية على صعيد موازين القوى الإقليمية والدولية مع استعادة نظام الأسد وحلفائه (إيران وحزب الله) زمام السيطرة وإعلان الولايات المتحدة البدء في سحب قواتها من سوريا وهو ما يهدد بتراجع واسع لتأثير السياسة الأميركية في الشرق الأوسط؛ حيث يُعتقد بأن عصر الهيمنة الأميركية على المنطقة وصل نهايته. فبدلًا من طرح خطة سلام قد لا تكون مقبولة من الفلسطينيين وبعض الدول العربية، ستحتاج واشنطن وحلفاؤها للتركيز على قضايا أكثر إلحاحًا مثل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية ومجابهة الصعود الإيراني في الإقليم. لقد كان من المفترض أن تلعب المملكة العربية السعودية دورًا مهمًّا في تنفيذ الخطة الأميركية، ولكن يبدو أن ولي العهد، محمد بن سلمان، أصبح أكثر حذرًا في اتباع سياسات خارجية متهورة ومحفوفة بالمخاطر قد تطيح بمستقبله السياسي الداخلي وطموحاته للعب دور قيادي في منطقة الشرق الأوسط وذلك بعد مقتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، والحرب على اليمن، الذي يشهد أسوأ كارثة إنسانية في العصر الحديث.
 

التطورات المستقبلية
 أما أبرز التطورات المتوقعة حيال الخطة الأميركية في الفترة القادمة، فهي:

  • إعلان الخطة: تشير كافة التصريحات الأميركية إلى نية الإدارة الأميركية الإعلان عن الخطة في شهر يونيو/حزيران 2019، أي بعد شهر رمضان والإعلان المتوقع عن تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة.
  • مواصلة العمل: سواء تم الإعلان عن الخطة في شهر يونيو/حزيران أو تم تأجيل الإعلان عنها مجددًا، سوف تستمر إسرائيل والولايات المتحدة بالعمل سويًّا لتسوية الملفات الشائكة وحسمها من الناحية الإجرائية وذلك لكي يتم إخراجها من أية مفاوضات مستقبلية. على صعيد مدينة القدس، سوف تستمر إسرائيل والولايات المتحدة بتشجيع المزيد من الدول على نقل سفاراتها إلى مدينة القدس الشرقية والاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل. فمنذ الاعتراف الأميركي بالمدينة عاصمة لإسرائيل، اتخذ عدد من الدول خطوات لنقل سفاراتها إلى القدس، وخاصة دول أميركا اللاتينية. فعلى ما يبدو، فإن هناك مجموعة من الدول، تقف على رأسها البرازيل، التي زارها نتنياهو في ديسمبر/كانون الأول 2018، والتي بدأت تبدي رغبتها في نقل سفاراتها إلى القدس. أما على صعيد ملف الاستيطان، فلن تتوقف إسرائيل عن التوسع في استيطان الضفة الغربية والقدس الشرقية في مسعى لترسيخ حقائق الاستيطان على الأرض قبل أية مفاوضات مستقبلية مع الفلسطينيين. فبدلًا من وقف الاستيطان، تتحضر إسرائيل لاستيعاب عشرات آلاف العائلات اليهودية في مستوطنات الضفة الغربية وبناء عدد آخر من المستوطنات في وسط الضفة الغربية. أما مسألة اللاجئين، فسيواصل الجانبان، الإسرائيلي والأميركي، العمل على تفكيك وكالة الأونروا ونقل صلاحياتها للمفوضية السامية للاجئين في مسعى لإنهاء هذا الملف وطمسه. ومن المتوقع أن تضغط الولايات المتحدة على دول أخرى لوقف مساعداتها للأونروا، في العام 2019، بهدف مراكمة الضغوط على الأونروا وهو ما قد يسبب المزيد من المشقة وربما الاضطرابات في أماكن عمل المنظمة التي تعاني من عجز في ميزانيتها وتقليص لخدماتها وهو ما يمكن أن يؤدي إلى زيادة زعزعة الاستقرار الإقليمي(32).
  • التفكك الفلسطيني: من المرجح أن ترفض القيادة الفلسطينية قبول الخطة الأميركية في ظل واقع فلسطيني مفكك يسوده التمزق. ومن المتوقع أن يستمر التفسخ الفلسطيني مما سيؤدي إلى تشكُّل فصل كامل ما بين الضفة وقطاع غزة وبروز نظامين سياسيين وتشريعيين منفصلين وهو ما سيسهل على الأغلب المخططات الأميركية-الإسرائيلية في تجزئة الحلول عن طريق إنشاء كيانين فلسطينيين: واحد في الضفة الغربية وآخر في قطاع غزة. سيشكل ذلك فرصة لتطبيق المخطط الأميركي في الضفة الغربية عن طريق إنشاء حكم ذاتي يتبع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في أجزاء من الضفة الغربية، خاصة المدن الكبيرة والمكتظة بالسكان، والبحث عن حلول "إنسانية" في قطاع غزة لتسهيل حياة الغزيين.
     

خاتمة
بعد عامين من التسريبات المتكررة حول عناصر "صفقة القرن" والتي ما لبث مهندسو الاتفاق يصرحون بأن الكشف عنها صار قريبًا، يجري بالفعل تنفيذ إجراءات ملموسة على الأرض في محاولة لتعزيز مواقف إسرائيل على حساب الفلسطينيين الذين يعانون مزيدًا من التهميش الإقليمي والصراعات الداخلية الحادة. وسواء قبل الفلسطينيون أم رفضوا الخطة، فإن إسرائيل والولايات المتحدة ماضيتان في تطبيق إجراءات عملية على الأرض وذلك بهدف خلق واقع جديد يجعل من إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة خيارًا غير متوقع.

_____________________________________________________________
الدكتور محمود جرابعة، معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا الاجتماعية، ألمانيا.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) الخليج أون لاين، القدس.. ساحة انتقام إسرائيلية عنوانها التطهير والقمع، 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019):   http://khaleej.online/gEvav6

(2) محمود جرابعة وليهي بن شطريت، القدس في استراتيجيات أطراف الصراع، مركز الجزيرة للدراسات، 31 يوليو/تموز 2018، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019):   http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2017/07/170730114924439.html

(3) للمزيد حول الخدمات التي تقدمها وكالة الأونروا، انظر إلى موقعهم الرسمي على الإنترنت والذي يشمل معلومات مفصلة وإحصاءات عن نشاطاتهم المختلفة، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://www.unrwa.org/ar/what-we-do

(4) رفائيل أهرين، مدير مكتب الأونروا في نيويورك: أدافع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين والإسرائيليين سوية، تايمز أوف إسرائيل، 10 أكتوبر/تشرين الأول 2018، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://bit.ly/2Dkm43t

(5)Robbie Gramer Columlynch, Trump and Allies Seek End to Refugee Status for Millions of Palestinians, Foreign Policy, AUGUST 3, 2018, https://bit.ly/2vAEUxY

(6) انظر: موقع الأونروا الرسمي على الإنترنت، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019):  https://www.unrwa.org/ar/our-partners/government-partners

(7) خالد أبو طعمة، وسط تقليص تمويل الأونروا، السلطة الفلسطينية تؤكد قدسية مكانة اللاجئين وحق العودة، تايمز أوف إسرائيل، 2 فبراير/شباط 2018، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://bit.ly/2CsWAz4

(8) آدم راسغون، الأخذ بمعايير المفوضية السامية سوف يجرد ملايين الفلسطينيين من مكانة لاجئ، تايمز أوف إسرائيل، 7 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://bit.ly/2sBDYs3

(9) ستيوارت وينر وطاقم تايمز أوف إسرائيل، رئيس بلدية القدس، نير بركات، يعد بطرد وكالة "الأونروا" من المدينة، تايمز أوف إسرائيل، 4 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://bit.ly/2R01VTB

(10) وكالة معًا الإخبارية، إسرائيل تقرر إغلاق مدارس الأونروا في القدس، 19 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): http://www.maannews.net/Content.aspx?id=973407 

(11) راؤول ووتليف، غانتس يخرج عن صمته ويؤكد أنه سيقوم "بإصلاح" قانون الدولة القومية المثير للجدل، تايمز أوف إسرائيل، 14 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://bit.ly/2HkMtSD

(12) قناة الجزيرة الإخبارية، إسرائيل تسعى لمطالبة دول عربية بـ250 مليار دولار تعويضات، 6 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://bit.ly/2SM8qLq

(13) الخليج أون لاين، "الاستيطان الصامت".. وحش مُتخفٍّ يبتلع ما تبقى من القدس والضفة، 14 أكتوبر/تشرين الأول 2018، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): http://khaleej.online/gVWxQJ

(14) قناة الجزيرة الإخبارية، تفاصيل جديدة لـ"صفقة القرن" والسلطة تتمسك بالقدس الشرقية، 17 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://bit.ly/2RVE4cc

(15) للمزيد حول الانتخابات الإسرائيلية وأجندة الأحزاب الفائرة تجاه القضية الفلسطينية، انظر: محمود جرابعة وليهي بن شطريت، الانتخابات الإسرائيلية 2019: التفاعلات الداخلية والانعكاسات الخارجية، مركز الجزيرة للدراسات، 25 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول 19 مايو/أيار 2019): http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2019/04/2019-190425053728591.html#a17

(16) وكالة معًا الإخبارية، كتلة استيطانية جديدة وسط الضفة، 19 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): http://www.maannews.net/Content.aspx?id=973369

(17) موقع رام الله الإخباري، نتنياهو عن غزة: لم يُقتل إسرائيلي واحد خلال السنوات الأربع الماضية، 8 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول 15 أبريل/نيسان 2019):  https://bit.ly/2UX0qfg  

(18) أري تي، نتنياهو: تطبيع العلاقات مع العالم العربي ربما يفضي لتفاهمات مع الفلسطينيين، 16 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019):  https://bit.ly/2RVhCQE

(19) محمود جرابعة، مرحلة جديدة من التطبيع العربي الإسرائيلي وآفاقه، مركز الجزيرة للدراسات،  26 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019):  https://bit.ly/2Mm2kPw

(20) نفس المصدر السابق.

(21) نفس المصدر السابق.

(22) نفس المصدر السابق.

(23) المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، نتائج استطلاع الرأي العام رقم – 70، 27 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): http://pcpsr.org/ar/node/741

(24) قناة الجزيرة الإخبارية، هل يوجد خلاف بين العاهل السعودي وولي العهد حول "صفقة القرن"؟، 29 يوليو/تموز 2018، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://bit.ly/2W30SGe

(25) قناة الجزيرة الإخبارية، اقتحام تليفزيون فلسطين بغزة يؤجج التوتر بين فتح وحماس، 5 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://bit.ly/2DkGbyv

(26) قناة الجزيرة الإخبارية، "حماس" تستلم إدارة معبر رفح وتنديد فصائلي بانسحاب السلطة، 7 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://bit.ly/2CyyoLT

(27) محمد محسن وتد، تسريبات صفقة القرن.. الأهداف والدلالات، قناة الجزيرة الإخبارية، 17 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://bit.ly/2ASWBMV 

(28) Khlil E. Jahshan, Jared Kushner’s Peace Plan Would Turn Jordan Upside Down, Foreign Policy, October 5, 2018. https://foreignpolicy.com/2018/10/05/jared-kushners-peace-plan-would-turn-jordan-upside-down-trump-israel-king-abdullah-palestinians-unrwa /

(29) نفس المصدر السابق

(30) انظر: موقع وكالة الأونروا الرسمي، https://bit.ly/2RACsph

(31)Ilan Goldenberg, Kushner’s Peace Plan Is a Disaster Waiting to Happen, June 25, 2018, https://foreignpolicy.com/2018/06/25/kushners-peace-plan-is-a-disaster-waiting-to-happen-israel-palestine-trump /

(32) أ ف ب، مدير الأونروا ينتقد "البُعد السياسي" وراء تجميد واشنطن مساعداتها للفلسطينيين، تايمز أوف إسرائيل، 30 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول 19 يناير/كانون الثاني 2019): https://bit.ly/2nGwp0H