بين الزطاط وقاطع الطريق

هذا الكتاب في الأصل أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في التاريخ، وهو يثري المكتبة العربية بالتعريف بأمن الطرق وتحديدا في مغرب ما قبل الاستعمار، ويضع بين يدي القارئ عملا جادا يدرس موضوعا يكتنفه الكثير من اللبس وتثار بصدده العديد من التمثلات
18 October 2009


عرض: عبد الرحيم العطري








آثر الباحث المغربي عبد الأحد السبتي في منجزه البحثي الجديد أن يسائل موضوعة أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار، منتصرا بذلك لمشروعه الفكري الذي يخرج التاريخ من المنغلق إلى المفتوح، ومستفيدا في الآن ذاته، من "فتوحات الدرس الأنثروبولوجي وإمكانات الحفر الأركيولوجي للمتون والوقائع التاريخية".


غموض وشواغل
آليات ومتون
الحاجة إلى "الزطاط"
من الزطاطة إلى الرشوة
مغامرة السبتي


ففي كتابه الجديد الذي اجترح له العنوان التالي: "بين الزطاط وقاطع الطريق: أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار"، الصادر أخيرا في نحو 374 صفحة من القطع الكبير عن دار توبقال للنشر بالدار البيضاء، يؤكد السبتي وفاءه لهذا النهج المعرفي الذي يجعل من المادة التاريخية مدخلا لقراءة الفائت والراهن واكتشاف الأعطاب وممكنات الإصلاح.


والكتاب في الأصل هو أطروحة جامعية أعدها السبتي لنيل دكتوراه الدولة في التاريخ، وقد نوقشت بتاريخ 9 فبراير 2005 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ولم يكتب له إصدارها بين دفتي كتاب إلا في العام 2009، ليسهم بذلك في إثراء الخزانة المغربية والعربية التي تعرف خصاصا مهولا في باب أمن الطرق وتحديدا في مغرب ما قبل الاستعمار، ويضع بين يدي القارئ العربي عموما عملا جديرا بالقراءة يتوجه بالدرس والتحليل إلى تيمة يكتنفها الكثير من اللبس والغموض، وتثار بصددها العديد من التمثلات والمواقف والمواقف المضادة.



غموض وشواغل





"
من أجل استجلاء غموض مبنى ومعنى الزطاطة يقترح علينا السبتي مغامرة معرفية تستنجد بالوثيقة التاريخية وتتوسل بثمرات العلوم الاجتماعية من أجل تنضيد معرفة دقيقة بأمن الطرق خصوصا وأن هناك صلة بين قيام الدولة المركزية، وبين مراقبة المحاور التجارية

"
يقول عبد الأحد السبتي بأن "الأجيال الجديدة غالبا ما تجهل الدلالة التاريخية لمصطلح الزطاطة، ولا تعرف سوى المعنى المتصل بالرشوة. كما أن فعلل "زطط" كثيرا ما يستعمل حاليا في العامية المغربية، بمعنى الخبرة العملية، والقدرة على إيجاد المخرج المناسب في الظروف الصعبة. وقد نلتقي من حين لآخر بهذه الدلالات في الخطاب الصحفي والسياسي الذي يسعى أحيانا إلى استعمال اللغة اليومية ، مثلما نلتقي بمصطلح المخزن الذي يحيل على الدولة البعيدة عن مفهوم وممارسة المؤسسة العمومية، أو مفهوم السيبة الذي يحيل على وضعية تسود فيها أنماط سلوكية تتجاهل الضوابط القانونية"ص.17.

من أجل استجلاء غموض مبنى ومعنى الزطاطة يقترح علينا السبتي مغامرة معرفية تستنجد بالوثيقة التاريخية وتتوسل بثمرات العلوم الاجتماعية من أجل تنضيد معرفة دقيقة بأمن الطرق خصوصا وأن هناك صلة بين قيام الدولة المركزية، وبين مراقبة المحاور التجارية، بل إن تطور المحاور التجارية يساعد على فهم مراحل الانتقال بين مختلف الدول التي تعاقبت على الحكم، واستجلاء عدد من الأزمات المتعددة الأوجه، وكذلك بعض الاختيارات السياسية" لصناع القرار في سياقات ثقافية وسياسية معينة.


تتوزع شواغل هذا الكتاب على خمسة فصول مسبوقة بمنطلقات ومتن وقراءات، فالفصل الأول منها ينشغل بالزطاطة وآليات الحماية، وذلك عن طريق الانفتاح على التدبير القبلي والخفر والقوى الدينية فضلا عن التدبير المخزني وتعارض الأدوار.


أما الفصل الثاني فقد خصصه الباحث للنظام والاختلال محللا سياسات وأحكام الآداب السلطانية والسياسة الشرعية في المرحلة الموحدية المرينية والمرحلة العلوية، فيما الفصل الثالث يأخذنا إلى المناقب والمواقع التي تهم الكرامة ونفي إكراهات المجال ومواجهة مشاق السفر مرورا بالرمز وفعاليته الاجتماعية.


في الفصل الرابع الموسوم ب "حدود وآفاق" يحلل الباحث أوفاق الحماية المتمثلة في "تاكمات" و"الذبيحة" و"تايسا" و"أمور" و"المزراك"، موضحا حقيقة الزطاطة بين العرف والفقه وثمن الجاه في رحاب السلطة والاستعارة. منتهيا بعدئذ إلى الفصل الخامس والأخير الذي خصصه لاستجماع الحصيلة والامتدادات عبر محاورة المجال والتراب وزمن المجال وروافد المؤسسة ووظائفها في مسالك التعبير والدلالة.



آليات ومتون






"
"لقد اتبعنا طريقة مختلفة لا تخلو من تجريبية، وجعلنا من تقديم شبكة من النصوص عنصرا أساسا في هذا البحث ، فعلى امتداد أربعة فصول، سوف نعطي الكلمة للنصوص كوثائق وأصوات من الماضي، وسوف يقتصر تدخلنا في مستوى انتقاء النصوص وتبويبها والربط فيما بينها، وهي عملية أشبه في بعض الأحيان بالتوضيب montage الذي يستعير منهج اللقطات السينمائية"


عبد الأحد السبتي

"

ومن أجل الاشتغال على كل هذه الانفتاحات، انطلق الباحث من تساؤل مركزي يحدد معالم براديغمه الخاص وهو بالتحديد: "هل ينبغي على المؤرخ أن يتعامل مع القرن التاسع عشر على أساس رصد النسق الاجتماعي والسياسي التقليدي، أو على أساس رصد التحولات التي عرفها ذلك النسق بفعل التسرب الأوروبي؟

إنه سؤال يدعو إلى التأمل وإلى قدر كبير من مراجعة المسلمات برأي السبتي الذي يرى أن التركيز المعلن أو الضمني على العامل الخارجي قد يحجب فهم بعض الظواهر والبنيات التي ورثها المجتمع المغربي على امتداد قرون عديدة، منتهيا إلى اعتبار ذات القرن مرحلة "توطين وتحديد الخطوط العامة لقضية أمن السفر، من خلال موضوع الزطاطة وصيغ تأمين الطريق.


في باب "متن وقراءات" يعلن السبتي عن استراتيجيته المعرفية ويحدد خارطة طريقه لمجابه موضوع شائك كان يطرق قبلا على سبيل الإشارة والاقتضاب، يقول السبتي" لقد اتبعنا طريقة مختلفة لا تخلو من تجريبية، وجعلنا من تقديم شبكة من النصوص عنصرا أساسا في هذا البحث ، فعلى امتداد أربعة فصول، سوف نعطي الكلمة للنصوص كوثائق وأصوات من الماضي، وسوف يقتصر تدخلنا في مستوى انتقاء النصوص وتبويبها والربط فيما بينها، وهي عملية أشبه في بعض الأحيان بالتوضيب montage الذي يستعير منهج اللقطات السينمائية".


ومن أجل توضيب هذا "العمل التاريخي الأنثروبولوجي" المختلف سيهرع السبتي إلى الاعتماد على متون الرحلة والاستكشاف، وذلك بالرجوع قصدا إلى مؤلف شارل دو فوكو الموسوم ب "استكشاف المغرب" والذي ينتمي إلى أدبيات الاستكشاف التي رافقت التغلغل الأوروبي بالمغرب خلال القرن التاسع عشر، وهي أدبيات احتفظت في كثير من الأحيان بقيمة هامة، ولا سيما بالنسبة للمواضيع التي تتصل بالحياة اليومية.


أخبار الدول والسلاطين أفادت السبتي أيضا في توفير مادته الخام، لهذا سنجده يستعير نصوصه من الآداب السلطانية والسياسة الشرعية، حيث سنلتقي بمقتطفات من "تسهيل النظر" لأبي الحسن الماوردي و"سلوك المالك" لابن أبي الربيع و"الشهب اللامعة" لابن رضوان، فضلا عن "الأحكام السلطانية" للماوردي و"السياسة الشرعية" لابن تيمية و"روض القرطاس" لابن أبي زرع و"روضة التعريف" للإفراني و"نشر المثاني" للقادري و"البستان الظريف" للزياني و"الاستقصا" للناصري و"إتحاف أعلام" الناس لابن زيدان و"زهر الأكم" للريفي.


في المستوى الثالث من تدبير متون التوضيب والاشتغال يقترح السبتي على قرائه موضوعة السفر في تاريخ الصلاج والولاية، خصوصا وأن موضوع أمن السفر كان كثير الحضور في هذا التأليف، نظرا لكثرة التنقل في سير الصلحاء والأولياء وقيامهم أيضا بوظيفة حماية المسافرين، بالإضافة إلى كون أدب الكرامة يؤرخ في كثير من جوانبه لكرامات نفي إكراهات المجال وطي الطريق والتغلب على قطاعها.


في الفصل الرابع من الكتاب سيهتم السبتي بصيغ النص القانوني وأشكال تناوله لأمن الطرق، مميزا بين عملية زجر اللصوصية والحرابة وبين إرساء مؤسسات تهتم بإقامة علاقات الحماية بين الأفراد والمجموعات، عبر تتبع خريطة الأعراف والمواثيق التي تؤسس وتبرر "الزطاطة" في المجتمع المغربي والعربي عموما.



الحاجة إلى "الزطاط"





"
إلى جانب النفوذ القبلي، يمكن القول بأن حماية المسافر والقافلة تقوم على النفوذ الديني والزاوياتي تحديدا، فأهم المحاور التجارية ومراقبة الطرق كانا من بين أهم المرتكزات التي قامت عليها رباطات وطوائف العصر الوسيط ثم الزوايا التي نشأت ابتداء من القرن السادس عشر

"
يقول شارل دو فوكو في استكشافه للمغرب متحدثا عن الزطاط "ينبغي أن يكون الزطاط رجلا وله ما يكفي من القوة لكي يحترم الآخرون عنايته، وينبغي في نفس الوقت أن لا تبلغ قوته درجة لا تجعله لا يأبه بنوع من السمعة التي يحظى بها عند قومه، وهكذا وبعد خمسة عشر يوما من البحث، وجدت رجلا يتوفر فيه هذان الشرطان وله في الجنوب علاقات تسمح له بالذهاب إلى هناك بدون أن يعرض نفسه لخطر كبير".

فمن خلال مشاهد متعددة يخبرنا فوكو بالمكان الذي بحث فيه عن الزطاط والمعايير التي تساعد على تحديد الرجل الأمثل، وفيما يخص أداء المقابل، ميز فوكو بشكل واضح بين الثمن الذي يتقاضاه الرجل الذي يخفر المسافر وبين واجب أقرب إلى رسم المرور péage يجبر المسافر على أدائه في نقط معينة من طرف رجال القبيلة التي تتحكم في الطريق.


لكن السبتي يوضح أنه إلى جانب النفوذ القبلي، يمكن القول بأن حماية المسافر والقافلة تقوم على النفوذ الديني والزاوياتي تحديدا، ففي بعض المناطق اضطر فوكو للاستعانة بزطاطين ينتمون إلى زوايا معينة أو وسط الشرفاء، وهو ما يتأكد بالنظر إلى كون أهم المحاور التجارية ومراقبة الطرق كانا من بين أهم المرتكزات التي قامت عليها رباطات وطوائف العصر الوسيط ثم الزوايا التي نشأت ابتداء من القرن السادس عشر. فالشريف كان مؤهلا لحماية المسافر، لأن هيبته الدينية كانت تجعله يتمتع بامتياز أمن التنقل في وسط يعيش التوتر واختلال أمن الطرق إلى درجة أن الشرفاء ورجال الزوايا كانوا يحتكرون نقل السلع وامتهان التجارة في بعض المراكز المرتبطة بالأسواق داخل المجال القروي.



من الزطاطة إلى الرشوة


إن الزطاطة حسب تخريج السبتي كانت عنصرا ينتمي إلى شبكة من الأعراف الاجتماعية والسياسية التي ابتكرها المجتمع القبلي من أجل تنظيم السلم والتضامن وحماية الطارئ والغريب، وهذا التأمين بالطبع سوف يتوزع على كثير من المقتربات التي تتوزع على التدبير المحلي المخزني وآليات النفوذ القبلي والديني المتمثل في الشرفاء والزوايا، لكن سوف تعرف الزطاطة نوعا من التحوير منذ أوساط القرن العشرين، لتنتقل من معنى حماية المسافر في الطرق المخوفة إلى معنى الرشوة.


فالزطاطة تعني حماية المسافر أو ما يؤدى مقابل تلك الحماية، وقد تعني رسم المرور الذي يحصله الخواص أو ممثلو السلطان، وسواء كانت الحماية بالخفر أو بإقامة "النزايل" فإن التحصيل يتطور إلى ابتزاز، مثلما تدل الزطاطة في بعض الأحيان على ثمن النجاة، أي ما يبتزه قاطع الطريق من المسافر خلال هجومه على مسافر ، أو قافلة، أو حي داخل المدينة, فالزطاطة إذن ، حسب سياق الاستعمال، تدل على ثمن الحماية أو الإتاوة أو الجباية أو المكس أو الرشوة أو استغلال النفوذ.


إن اختلال منطق أمن الطرق وصياغة بعض أشكال تأمين السفر وتعارض الأدوار من جانب القوى القبلية والسلطة المخزنية يرجعه السبتي إلى ثلاثة عناصر على الأقل وهي: حركية السلطة المخزنية من خلال الحركة وتعدد العواصم، ثم حركية المجموعات القبلية لأسباب تعود إلى إكراهات المناخ أو جاذبية المرعى أو القرارات الأمنية للحكام، هذا فضلا عن عنصر حركة التحالفات بين المجموعات القبلية أو بين المجموعات القبلية والدولة.



مغامرة السبتي





"
يكشف الكتاب الجاد عن ملامح المشروع الفكري الذي ارتضاه لنفسه الأستاذ عبد الأحد السبتي، والذي يستمر في الانتصار له في صمت صوفي باذخ

"
كتاب"بين الزطاط وقاطع الطريق: أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار" الذي جاء مذيلا أيضا بكشاف الأعلام الجغرافية والبشرية والمصطلحات والمؤسسات والخرائط، ومعززا ببيبليوغرافيا مهمة عربية وأجنبية، يعتبر منجزا غنيا بموضوعاته وأسئلته، ورصينا بمنهجه ومقاربته، لا نكتفي فيه فقط بقراءة آليات تدبير الزطاطة وأمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار، ولكن نقرأ فيه أيضا ملامح المشروع الفكري الذي ارتضاه لنفسه الأستاذ عبد الأحد السبتي، والذي يستمر في الانتصار له في صمت صوفي باذخ.

يذكر أن عبد الأحد السبتي يمارس التدريس الجامعي بجامعة محمد الخامس بالرباط، وقد سبق أن صدرت له مجموعة من المؤلفات القيمة من أبرزها: النفوذ وصراعاته في مجتمع فاس: من القرن السابع عشر حتى بداية القرن العشرين، الأنثروبولوجيا والتاريخ( ترجمة بالاشتراك مع عبد اللطيف الفلق) والمجتمع الحضري والسلطة بالمغرب( بالاشتراك مع حليمة فرحات)، فضلا عن مساهمته في ترجمة كتاب "المغرب والاستعمار: حصيلة السيطرة الفرنسية" لألبير عياش، بمعية عبد القادر الشاوي، نور الدين سعودي ومراجعة وتقديم: إدريس بنسعيد، وكتاب "أمير المؤمنين : الملكية والنخبة السياسية المغربية" لجون واتربوري، بمعية عبد الغني أبو العزم وعبد اللطيف الفلق.


يذكر أخيرا أن كتاب"بين الزطاط وقاطع الطريق" مغامرة منهجية بتعبير صاحبه، يعانق من خلاله سؤاله الأنطولوجي الذي كثيرا ما يردده في مشاريعه المعرفية وهو : كيف يمكن للبحث التاريخي أن يوظف تاريخ المجتمع لفهم منطق التاريخيات، ويوظف في آن واحد موضوع التاريخيات للكشف عن جوانب جديدة من تاريخ المغرب؟



بطاقة تقنية عن الكتاب


العنوان: بين الزطاط وقاطع الطريق: أمن الطرق في مغرب ما قبل الاستعمار
المؤلف: عبد الأحد السبتي
دار النشر: دار توبقال للنشر والتوزيع، الدار البيضاء
سلسلة: المعرفة التاريخية
تاريخ النشر: 2009
عدد الصفحات: 374 من القطع الكبير
الطبعة: الأولى
السنة: 2009