الحركات السلفية في المغرب (1971-2004)

تحلل الدراسة الأنموذج في الخطاب السلفي، وقدرته على انتقاد المرتكزات الاجتماعية والثقافية للتدين، وأظهرت جهد السلفية في إعادة تشريع العلاقة بالأشياء المقدسة من خلال الارتباط بمفاهيم بسيطة، وتناولت استفادتها من التناقض الذي طبع تدبير الدولة للحقل الديني، ثم ابتعادها عن العمل السياسي مع وجود بعض مدلولات ذلك.
30 July 2009




يصعب العثور على تعريف شامل لمفهوم السلفية، لكن بتقدم البحث الميداني في أوجه نشاط الحركات السلفية العاملة في المغرب، خلصت الدراسة إلى صياغة المقصود من هذا التعبير، إذ يدل مفهوم السلفية على نزعة احتجاجية على التطويرات التي طرأت على مستويين من مستويات الدين، المستوى العقائدي والمستوى التعبدي، فمن الناحية العقائدية تهتم السلفية بإعادة تقنين الدين، هادفة إلى الترشيد الأخلاقي للعقائد الممارسة.




"
الباحث:عبد الحكيم أبو اللوز
إشراف:د. محمد الطوزي

السنة:2007-2008

وعلى المستوى التعبدي، تهتم السلفية بإعادة تقنين الشعائر الدينية بتوحيد نماذجها، كلماتها، إشاراتها، وإجراءاتها، لكي تحافظ على النشاط الشعائري الأصلي في مواجهة البدع المستجدة.

ومن الناحية السوسيولوجية يتمظهر هذه الاتجاه الديني ويتجلى في حركات تحاول ضمان الاستقلالية تجاه العلاقات الاجتماعية السائدة، إنها حركات اجتماعية تتبنى تدينا انعزاليا تبتعد بموجبه عن المؤسسات الاجتماعية والسياسية، وتنزع إلى الحفاظ على أقصى حد من الحرية تجاه ما درج عليه المجتمع الرسمي من عادات وسلوكيات دينية، مستوحية طقوسها الخاصة من مذهبية دينية أخرى أحيانا، أو من تأويل مختلف للديانة الرسمية.

لقد أثارت أحداث 11 سبتمبر2001 بالولايات المتحدة الأمريكية انتباه العالم إلى هذه الحركات، واعتبرت العديد من الأوساط أن المذهبية التي تعتنقها هذه التنظيمات مسؤولة أدبيا عن ما جرى، لأنها وفرت  المرجعيات النظرية التي تشبع بها مرتكبو تلك الأحداث. لذلك أصبحت الظاهرة مثار اهتمام كبير، وموضوعا ترسم في ضوئه الاستراتيجيات الدولية، وتوضع السياسات الوطنية خصوصا بعد تكرار تلك الأحداث في أكثر من دولة، بما فيها الدول العربية والإسلامية. كالمغرب الذي ازداد فيه الجدل بشأن الحركات السلفية مباشرة بعد أحداث 16 مايو 2003 بالدار البيضاء.

والتيار الأكثر انتشارا بين السلفية المغربية هو تيار ما يعرف بالسلفية التقليدية الذي يركز علي قضية تصحيح الاعتقاد ومسائل العبادات، ويليه تيار السلفية العلمية وهو تيار يعتمد على إحياء التراث وتحقيقه وتكوين نخبة علمية سلفية.

والتياران يشتغلان دونما أي مقاربة للسياسة جدلا أو اشتغالا، لكن الانتقال سهل وميسور من السلفية التقليدية والعلمية إلى السلفية الجهادية، لأسباب عدم وضوح فكرة السلفية التقليدية والعلمية من مسألة الجهاد، والفراغ السياسي – رؤية وممارسة- الذي يتركه هذان التياران من خلال ابتعادهما عن السياسة، وعدم وجود تصور للتعاطي مع هذه الأمور عند رموز وشيوخ ما يعرف بالسلفية التقليدية والعلمية، مما يشجع بعض الأتباع للتحول نحو إطار سياسي يعطي لفكرة الجهاد موقعا في عقيدته.

إن الممارسات الدينية في المغرب تظهر تعددا سوسيولوجيا يتعلق بأشكال التدين الموجودة في المجتمع، فهناك أنماط تدين متنوعة غير قابلة لأن تحصر في قالب مذهبي محدد، ولكن وسط هذا الواقع المتحول، وجدت حركية أدت إلى إضعاف أنماط التدين التقليدية وبروز أخرى أنتجت تصورات دينية ورموزا غير مرتبطة بالبيئة المحلية، لكنها مسايرة للواقع الاجتماعي المغربي من حيث اتجاه حركة التدين إلى حياة دينية مؤسسة على الفردية وتحقيق الذات.

فإلى أي حد تترجم الحركات السلفية هذه الحركية التي يعرفها حقل التدين في المغرب؟

تنطلق فرضية الدراسة من أن بروز السلفية لا يعتبر مؤشرا على انشطار عقدي أو مذهبي بالمغرب على نحو ما تصوره السجالية المجتمعية، بقدر ما هي تعبير عن بعض  مظاهر التحول السوسيولوجي الذي تشهده أنماط التدين في المغرب، فقد غدت النماذج الكلاسيكية للتدين في المجتمع المغربي ضعيفة ولم تعد تمارس دورا معياريا، الأمر الذي يعني أن تلك النماذج في الطريق إلى أن تغدو كلامية وتتجه شيئا فشيئا إلى فقدان تأثيرها، ومن تم تشكل السلفية محاولة لسد هذا الفراغ، ووسيلة لكي يسترجع الدين دوره المعياري إذ بواسطة هذه المذهبية، وعبر خطابها وأنماط فعلها وتنظيمها، يجد الدين فرصة للمقاومة والتحول والتواجد في مجالات جديدة بما فيها مواقع التدين التقليدية.

ويثير البحث في الظاهرة عددا من الأسئلة:



  • إذا كان المقولات المركزية السلفية متمحورة حول التوحيد أهم مكونات التدين، فما هي المعاني الظاهرة والرمزية لفكرة التوحيد عند السلفية؟


  • إلى أي حد ساهمت هذه الفكرة  في بناء باقي الأفكار السائدة داخل هذا النسق الاعتقادي؟


  • بماذا تتميز فكرة التوحيد كما يتبناها السلفيون؟ هل ينتج الانطلاق منها تعددا في أسلوب الاعتقاد بالفكرة أم أن هناك تمثلا واحدا للعقيدة؟





"
السلفية محل جاذبية كبيرة لأنها تصوغ معتقدات الإسلام بأسلوب أكثر تبسيطا، فهي مذهب ديني غير موجه إلى النخبة المتمكنة من وسائل التنظير والحجاج، لكن إلى أناس في حاجة لفهم ما يعتقدون بطريقة سهلة وبإمكانهم إدراك عقيدتهم حسب إمكانياتهم الذاتية والتحدث عنها مع الآخرين من أمثالهم، دون أن ينغمسوا في المتاهات الأيديولوجية

"


خلصت الدراسة إلى استنتاج عام مفاده أن ما يجعل من الأيديولوجيا السلفية محل جاذبية كبيرة هي أنها تعمل على إعادة صياغة معتقدات الإسلام في شاكلة أكثر تبسيطا، فهي مذهب ديني غير موجه إلى النخبة المتمكنة من وسائل التنظير والحجاج، لكن إلى أناس في حاجة إلى فهم ما يعتقدون بطريقة بسيطة وبإمكانهم إدراك عقيدتهم حسب إمكانياتهم الذاتية والتحدث عنها مع الآخرين من أمثالهم، دون أن ينغمسوا في المتاهات الأيديولوجية.

من هذه الوجهة يمكن القول إنه من خلال مسالة التوحيد، فإن السلفية تستبطن إعادة تشريع العلاقة بالأشياء المقدسة من خلال ربط المؤمنين بمفاهيم بسيطة، مادام أن  الاعتقاد بالتوحيد عندها لا يتطلب سوى الاعتقاد بالله كما وصف به نفسه من دون تأويل، كما أنه من خلال هذه المقولة يصبح الإيمان عند السلفية وحدة كمية قابلة للقياس، ويمكن في كل وقت وحين اختبار سلوكيات المؤِمن وممارساته التعبدية.

واهتم البحث في إطار تحليل هذه الحركات باكتشاف الأنموذج الذي يخترق الخطاب السلفي، إنه الأنموذج الذي يساعد الخطاب على حل جميع المعضلات المعرفية التي تعترضه. والذي يتحول إلى عقل مركزي حاكم على مجموع الإنتاج الفكري السلفي على جميع المستويات، وقد أمكن وصف النظام التي تصدر عنه السلفية بوصفين جامعين هما النصوصية والشكلانية.

ومن خلال الاطلاع على الوثائق المذهبية للحركات السلفية وملاحظة ممارستها التي تقام داخل أماكن تواجدها، تبين أن من الأهداف البيداغوجية الكبرى لدى هذه الحركات هو النجاح في أن يعكس أداء الأتباع ذلك السلوك النموذجي المرغوب فيه، والتعبير عنه بواسطة سلوكيات قابلة للملاحظة، فالسلفي الحقيقي هو الشخص الذي يحرص على ظاهر الأشياء، ولا يقبل أن ينسب إلى التدين شيء مخالف لما هو نمطي ومحدد بقواعد.

إن اهتمام السلفية بالعبادات والطقوس التي يجب أن يقوم بها التابع يجعل منها مشروعا ذا إستراتيجية شاملة يرمي إلى إصلاح جميع أوجه الحياة الدينية اعتقادات كانت أو سلوكيات، فهي تحمل إذن تصورا سلوكيا للحياة الدينية يبتعد عن كونه مجرد تعلق عاطفي بالدين.

وإزاء الواقع التعبدي الموجود الذي تعتبره السلفية مخالفا للشريعة(بدعيا)، فهي تعبر عن حركة رفض للتجليات الثقافية والسوسيولوجية للإسلام المحلي لصالح الانتصار للإسلام المجرد، فبصفة ضمنية يقول السلفيون إن الإسلام فقد على الأرض نقائه وصفائه الأصليين، ليصبح مرتعا لأنواع من القداسة المحلية التي تستمد مشروعيتها من مجرد التأثر بظروف الزمان والمكان وليس من المقتضيات الأصلية للإسلام.







وبغض النظر عن التبرير الديني الذي تستند إليه في الهجوم على الطقوس البدعية، فإن له أثارا سوسيولوجية، وهي التقليص من قدر العبادات إلى حدودها الدنيا التي تتطلبه التعاليم الدينية. ومن ذلك يمكن اعتبار السلفية نزعة عبادية تقشفية وحركة احتجاج على التطويرات المحدثة قي مجال العبادة.

وتناولت الدراسة طرق تلقين الأيديولوجيا السلفية، حيث يختزل الخطاب السلفي مضمون هذا التلقين وطرقه في مصطلح الدعوة، وهو في العمق عمل نضالي وسيلته الأساسية الوعظ الديني البعيد عن الإعداد والتأهيل السياسيين، وهو عمل دائم ومستمر.

وعلاوة على الدروس الدينية المعطاة عبر مختلف دور القرآن والمعاهد التابعة للتنظيمات السلفية، يتم التلقين عبر آلية سيكولوجية هي التماهي الذي يؤدي إلى بناء الهوية الخاصة كمحصلة نهائية لسلسلة التلقين المستمر، إذ بواسطة التماهي يتعلم التابع الكثير من الأنماط السلوكية المطلوبة، وذلك عبر مشاهدتها عند غيره وتسجيلها في شكل إدراكات حسية أو استجابات رمزية، يستخدمها في تقليد السلوك الذي يلاحظه، أو في الحصول على المعلومات التي تمكنه من استخدام ذلك السلوك في مواقف أخرى.

ويتحقق هذا التماهي من خلال الأداء الجماعي والموحد للطقوس الدينية، واستعمال المقابلات الرمزية التي تعوض الأسماء الحقيقية للأتباع، والتمظهر بسمت واحد، مما يمكن  معه وصف السلفية بأنها ذات نزعة استعراضية في التدين.

وهكذا فبعد معالجة الإيديولوجيا السلفية واكتشاف معانيها الصريحة والرمزية خلصنا إلى أن:
الخطاب السلفي يصدر عن أيديولوجية واضحة تتلخص في عقيدة التوحيد التي تضع كهدف نهائي تجريد الأشخاص والأشياء والأفكار من صفة القدسية، وإعادة توظيف العاطفة الدينية في أشكال محددة بدقة، يعتبرها السلفيون ترجمة صحيحة للتعاليم الإسلامية الأصلية.

ويِؤدي وضوح هذا الهدف الأيديولوجي إلى تماثل كبير بين الأفكار السلفية أيا كان القائلون بها، بحيث يوجد لديهم مقاومة كبرى للتغير الذي يمكن أن يطال هذا السقف الأيديولوجي، وبذلك لا يمكن التمييز بين الخطابات السلفية من حيث مرونتها وتشددها، إلا من خلال تفاصيل صغيرة جدا.

وتناولت الدراسة بالتحليل المواقف الملموسة للسلفيين المغاربة، وذلك من خلال وصف الممارسات التي يكشفها الواقع، وإبراز القيمة التداولية لهذه الممارسات في الحياة اليومية. وعلى هذا الأساس حضيت الحياة الدينية للمجموعات السلفية محل البحث بنفس القدر من الاهتمام الذي أوليناه لأيديولوجيتها.

كما أولت الدراسة اهتماما بالحركات السلفية في نشأتها وامتدادها وتوزيعها الجغرافي في مدينة مراكش(محل الدراسة)، وتعززت هذه الدراسة بخريطة تفسر شكل امتداد وتوزيع أماكن تواجد التنظيمات السلفية في المدينة المشمولة بالبحث، ثم وضع خريطة أخرى توضح خريطة تواجد هذه التنظيمات على المستوى الوطني.

وخلص البحث كذلك إلى أنه بالموازاة مع الانتشار التدريجي للسلوكيات الإسلامية في صيغها السلفية، حدث تراجع كبير لإشعاع الزوايا والأضرحة، إذ بدأت التنظيمات السلفية عملها في السبعينيات بضرب المرتكزات الاجتماعية والثقافية والنفسية للتدين الممارس في الزوايا والأضرحة، مما كان له كبير الأثر في قدرة هذه المؤسسات التقليدية على ممارسة نفس الفعالية. وإن كان البحث قد وقف على استثناءات لا تنسحب عليها هذه الخلاصة.





"
بالموازاة مع الانتشار التدريجي للسلوكيات الإسلامية في صيغها السلفية، حدث تراجع كبير لإشعاع الزوايا والأضرحة، إذ بدأت التنظيمات السلفية عملها في السبعينيات بضرب المرتكزات الاجتماعية والثقافية والنفسية للتدين الممارس في الزوايا والأضرحة، مما كان له كبير الأثر في قدرة هذه المؤسسات التقليدية على ممارسة نفس الفعالية
"

وشملت الدراسة كتاتيب تحفيظ القرآن، حيث يستثمر العديد من خريجي دور القرآن السلفية في الكتاتيب القرآنية وفي مؤسسات التعليم الأولي بفعل توفرهم على المستلزمات القانونية التي تؤهل لفتح هذه المؤسسات، كما يعمل أساتذة هذا التوجه على تحويل المقررات الجديدة التي وضعها قانون التعليم الديني، أو تفسير المقررات التعليمية تفسيرا سلفياأحيانا كثيرة، وقد وفر استثمار السلفية في الكتاتيب القرآنية ورياضات الأطفال الفرصة لمعاودة الحضور الفعلي في التعليم ضمن إطار مؤسساتي وقانوني. خصوصا بعد إغلاق عدد من دور القرآن والمعاهد الدينية السلفية عقب أحداث 16 مايو 2003 بالدار البيضاء.

وقد بين التحليل الميداني استفادة الجمعيات السلفية من التناقض الكبير الذي ظل يطبع تدبير الدولة للحقل الديني لفترات طويلة، ويتمثل هذا التناقض في منع الحركات الإسلامية من ممارسة العمل السياسي بشكل طبيعي، في الوقت الذي استمر فيه السماح لتيارات أخرى بالدعوة داخل مجتمع يعتبر مسلما. وهو التناقض الذي أفاد الجمعيات السلفية حيث ظلت تشتغل بكل حرية تحت شعار تحفيظ القرآن الكريم، وتعليم العلوم الشرعية ومحو الأمية  تعليم السنة والإسهام في تربية النشء تربية دينية سلفية. مما أعطى لعملها فعالية من حيث القدرة على التعبئة.

أما بالنسبة للمساجد التي ينشط من خلالها التوجه السلفي، فرغم الإجراءات السياسية الرسمية لتأميمها، فإن السلفية تستفيد من المساجد بما تنسجه من شبكات تواصلية تشجع على رعاية وتجهيز تلك المساجد و بناء أخرى. مما يغني هذه الأخيرة عن إعانات الدولة، و يساهم في تعزيز الحركة السلفية على مستوى القاعدة وفي الأحياء وشبكات التعاون المتآلفة حول المساجد.







أما على المستوى التعليمي، فاتضح أن أغلب أتباع الجمعيتين السلفيتين محل الدراسة(الدعوة والحافظ بن عبد البر) قد تلقوا تربية دينية، ومن أهم مظاهرها ارتياد المدارس العتيقة ودور القرآن، وانسجاما مع هدفها في تبليغ الدعوة إلى العموم، تستقطب جمعية الدعوة نسبة من مريديها المترددين على دور القرآن، أما من حيث المستوى الاقتصادي للأتباع فهم ليسوا من الطبقات الغنية عموما.





"
استفادت السلفية من التناقض الذي طبع تدبير الدولة للحقل الديني لفترات طويلة، ويتمثل ذلك في منع الحركات الإسلامية من ممارسة العمل السياسي بشكل طبيعي، في الوقت الذي استمر فيه السماح لتيارات أخرى بالدعوة داخل المجتمع،  حيث ظلت السفية تشتغل بحرية من خلال تحفيظ القرآن الكريم، وتعليم العلوم الشرعية ومحو الأمية 

"

وتناولت الدراسة التنظيم وأنماط القيادة لدى الحركات السلفية محل الدراسة، ففي داخل تنظيم جمعية الدعوة مثلا وقع التركيز على علاقة القائد بالأتباع لتفسير مسألة التنظيم داخل هذه الجمعية، حيث تبين عمودية العلاقة بين القائد والأتباع، وتنعدم فيها المشاركة الجماعية وتغيب فيها التراتبية. وذلك باستثناء مراكز سلفية أخرى فضلت مبدأ اللامحورية، حيث تم استبدال مفهوم القيادة المطلقة بمفهوم القيادة الاندماجية.

وتناولت الدراسة العلاقة القائمة بين السلفية والعمل السياسي، إلا أن افتقاد هذا المدرسة إلى خطاب سياسي يمكن الاحتكام إليه، يعتبر عائقا لمعرفة العلاقات السياسية للحركات السلفية محل الدراسة، وزاد من حدة هذا العائق انحصار نشاط هذه الحركات في حلقات التدريس ونشر وتأليف الكتب وغيرها، فما ظل يستقطب اهتمام الحركات السلفية هو الاستقامة الفردية وليس الفعل الجماعي، وهذا ما يجعل منها حركات بعيدة عن مجال الاهتمام السياسي.

لكن رغم غياب السياسة عن مستوى الخطاب، إلا أنها تنتمي إلى مستوى آخر، مستوى الممارسة اليومية، بحيث توجد بعض مدلولاتها في أشكال العمل اليومية والطقوس والتنشئة والعلاقات الاجتماعية، ولذلك عمل البحث على الكشف عن عناصر الفعل السياسي المختفي في هذه المستويات.

وخلص البحث إلى أن الحركات السلفية التي كانت محل الدراسة هي نوع من الحركات الاجتماعية الدينية الوعظية الذي تتبنى فعلا جماعيا يسعى إلى تغيير القيم وتجديد الأخلاق. لكن أنماط عملها تبين حقيقة أخرى، فإلى جانب الدوافع الأخلاقية التي تحرك هذه الحركات، فإن ثمة مصالح اجتماعية تعتبر الأساس المفسر لقدرتها على التعبئة.

ويوجد اختلاف في مستويات أداء الحركات السلفية ودرجات فعالياتها، وذلك في ضوء الأهداف التي سعت إليها والآليات التي استخدمتها، والسياق الاجتماعي الذي عملت ضمنه، واللحظة التاريخية التي نشأت فيها أو مرت بها، ولكن الصعوبة الكبرى التي واجهتها ولا تزال، هي بعدها عن العمل بعيدا عن الأطر الرسمية للنظام السياسي، بمعنى أنها تفضل العمل من خارجه لا من داخله.

وهي إن كانت بمثابة قاعدة لانطلاق النقد الاجتماعي وممارسته بشكل فعال، إلا أنها تظل في أغلب الأحوال تشكل في مجموعها حركات غير محددة الملامح وغير متجانسة إلى حد كبير، الأمر الذي يؤدي إلى آثار سلبية متعددة، منها انكفاء هذه الحركات على ذاتها، وتقليل فعاليتها بصفة عامة وتعرضها للانشقاق المستمر.

فقد شهدت الحركات السلفية محل الدراسة موجات انشطارية متوالية أفضت إلى توزعها إلى عدد من الاتجاهات يصل الاختلاف بينها حد التناقض، إذ لم يعد معطف السلفية قادرا على أن يجمع سلفية "جهادية" تدعو إلى الانقلاب على أنظمة الحكم، وسلفية "تقليدية" و"علمية"، تتبنى الفكر الانسحابي، وتدعو إلى طهارة المعتقد، وعدم منازعة الأمر أهله، سواء أكان ذلك بالوسائل الخشنة أم بالأدوات العامة.