الجهوية وتغير مفهوم الدولة مقاربة لحل قضية الصحراء الغربية

تتطلب معالجة قضية الصحراء الغربية استيعاب التغير الحاصل في مفهوم الدولة الحديثة، وما يطرحه مضمون الجهوية التي تتيح تدبير الشؤون الذاتية، مع الحفاظ على وحدة دول المغرب العربي وعدم تفككها
17 March 2009

هنالك تساؤل مرتبط بقضية الصحراء الغربية لم تطرحه إلى يومنا هذا  الدول أو النخب السياسية والثقافية المغاربية وهو الأخذ بمصلحة تلك الدول حينما نحاول معرفة ما هو الحل الأمثل بالنسبة لمسألة الصحراء. إن ما تم غض النظر عنه أو تغافله في منطقتنا هو أنه ما يمس إقليمية (Territoriality) دولة ما له بالضرورة انعكاس على إقليمية الدول المجاورة حينما تكون لهذه الدول روابط مثينة كما هو الحال بالنسبة لدول المغرب العربي.

ولذلك فإن الدول التي تنادي بتطبيق حق تقرير المصير تكون غالبا بعيدة جغرافيا عن الدول التي تريد أن يطبق فيها ذلك المبدأ، وإلا فهي تعرف جيدا أن ذلك سيكون له وقع عليها حتما. فهذا هو الشيء الذي لم تأخذه في الحسبان إسبانيا حينما حاولت توظيف حتى تقرير المصير ما بين سنة 1965 إلى سنة 1975 بغية إنشاء كيان مصطنع بالصحراء الغربية يمكنها من استغلال مناجم الفوسفاط التي تم اكتشافها سنة 1963، حيث سيؤدي ذلك إلى تعزيز المطالبة بالاستقلال من قبل الباسك والكتالون، إلخ. فإذا كانت هنالك دولة مهددة اليوم بالتفكيك والانقسام فهي إسبانيا وطبعا الجزائر التي أخذت بنفس السياسة الإسبانية.




الدول المغاربية مطالبة اليوم إذا أرادت الحفاظ على استقرارها وضمان استمرار وجودها بوضع سياسة مغاربية مشتركة ترمي إلى تطبيق الجهوية بكيفية تدريجية في جميع دول المغرب العربي وإلا فستكون عرضة للتفكيك والتقسيم
الحكم الذاتي وتحول مفهوم الدولة
وانطلاقا من هذه القاعدة الجيوإستراتيجية الأساسية، فالحل الذي يمكن أن يساعد على تفادي زعزعة دول المنطقة هو تطبيق نظام حكم ذاتي يمكن، من جهة، من المحافظة على الوحدة الترابية للمغرب وبذلك الوحدة الترابية للجزائر، ومن جهة أخرى فسح المجال لسكان الصحراء لتدبير أمورهم بأنفسهم. زد عن ذلك أن هنالك عنصرا أساسيا آخر يدفع في اتجاه تطبيق نظام الحكم الذاتي أو الجهوية ليس فقط بالصحراء الغربية ولكن كذلك بجميع الدول المغاربية.

هذا العنصر يتجلى في التحول الكبير الذي تعرفه الدولة اليوم لأسباب مختلفة من بينها أساسا العولمة والذي جعل من الدولة كيانا هشا لا يمكنه الاستمرار في الوجود إلى بتقاسم السلطة ليس فقط على الصعيد ما تحت الوطني، ولكن كذلك على الصعيد ما فوق الوطني. وبذلك فإن الدول المغاربية مطالبة اليوم إذا أرادت الحفاظ على استقرارها وضمان استمرار وجودها بوضع سياسة مغاربية مشتركة ترمي إلى تطبيق الجهوية بكيفية تدريجية في جميع دول المغرب العربي وإلا فستكون هذه الأخيرة عرضة للتفكيك والتقسيم.

ويمكن لهذه السياسة أن تشمل جميع مناطق المغرب العربي بما فيها منطقة الصحراء الغربية. وأخيرا فإن الحل الذي يتجلى في تطبيق الحكم الذاتي للصحراء، حل مشروع لأنه يرمي إلى التوفيق بين حق المغرب في استرجاع الصحراء الغربية وحق سكان هذه الأخيرة في تدبير شؤونهم بأنفسهم. لأن الدفع بفكرة تطبيق حق تقرير المصير من قبل إسبانيا وبعدها الجزائر خلق، أردنا أم كرهنا، واقعا صحراويا لا يمكن تجاهله مثلما أن الدفع بنفس الفكرة خلق أو بالأحرى قوى ورسخ واقعا قبائليا (نسبة للقبائل بالجزائر) وواقعا طوارقيا (نسبة للطوارق) إلخ...




عدم التوصل إلى حل سينتج عنه وضع كارثي، لأن دول المنطقة ستجد نفسها تواجه منعزلة الهشاشة التي تصيب الدولة اليوم، حيث توجد فوارق اقتصادية واجتماعية جهوية داخل كل دولة مغاربية وهذه الفوارق ستزداد تفاقما بسبب العولمة والأزمة التي بدأت تعاني منها هذه الأخيرة. وتزايد حدة هذه الفوارق سيكون تربة تترعرع فيها المزايدات والصراعات الإثنية والحساسيات المحلية
فشل الحل ينذر بوضع كارثي

مستقبل المنطقة في حال عدم التوصل إلى حل ينهي الصراع على المدى البعيد مع التمني بعدم حصول ذلك، سيضع دول المغرب العربي في وضع كارثي.

وسيكون وضعا كارثيا، أولا لأن كل دولة مغاربية ستجد نفسها تواجه منعزلة الهشاشة التي تصيب الدولة اليوم كما أشرت إلى ذلك سابقا. حيث توجد فوارق اقتصادية واجتماعية جهوية داخل كل دولة مغاربية وهذه الفوارق ستزداد تفاقما بسبب العولمة والأزمة التي بدأت تعاني منها هذه الأخيرة. وتزايد حدة هذه الفوارق سيكون تربة تترعرع فيها المزايدات والصراعات الإثنية والحساسيات المحلية، وهو الأمر الذي بإمكانه أن يهدد استقرار دول المنطقة.

لقد صفق الكثير في المغرب العربي للتجربة الأوروبية لأنها استطاعت أن تحقق نوعا ناجحا من الاندماج الاقتصادي، ولكن العديد لربما لا يعلم أن من مميزات التجربة الأوروبية هو نجاحها في تشجيع الجهوية في دول أوروبية كانت ستنهار بسبب الفوارق الاقتصادية والاجتماعية الجهوية التي كانت تعاني منها. وهذا ما قامت به المجموعة الأوروبية في عدد من الدول من بينها على وجه الخصوص إسبانيا والتي لولا الجهوية التي دعت إليها ومولتها المجموعة الأوروبية لكان مصير إسبانيا التمزق والتفكك.

سيكون، ثانيا، وضع المغرب العربي وضعا كارثيا لأنه لا يمكن لدول أية منطقة في العالم أن تعيش في ظل العولمة في عزلة عن بعضها البعض، وإلا فسيكون مصير هذه الدول الاندحار. أتمنى أن لا نصل إلى هذا الحد وأن نغلب العقل ومصالح شعوبنا على حساباتنا الضيقة.

لا أظن أنه توجد لدى الأطراف المعنية أية سيناريوهات، ولكن ما يمكن قوله هو أنه إذا فشلت المفاوضات الحالية فستصل دول المنطقة إلى باب مسدود من الوجهة القانونية. لأن موقف البوليساريو الذي يدعو إلى تطبيق حق تقرير المصير في صورته التقليدية ليس واقعيا ويرمي إلى تضييع الوقت، لأن شروط تنظيم الاستفتاء غير متوفرة نظرا لاستحالة التوفيق بين مواقف الأطراف المعنية فيما يخص تحديد هوية الأشخاص الذين يحق لهم المشاركة في الإستفتاء.

إن تباين هذه المواقف هو الذي أجهض منذ سنة 1990 كل محاولات الأمم المتحدة الرامية إلى تنظيم استفتاء تقرير المصير بالصحراء، أما من الوجهة السياسية، فلا أظن أن الدول الكبرى ستقبل بحل يمكن أن يزعزع منطقة المغرب العربي لأهميتها الإستراتيجية. زد عن ذلك فإن الدول الكبرى أصبحت تخشى بروز كيانات هشة يمكنها أن تكون عبءا على المجتمع الدولي وملاذا للإرهاب.







ربما ستحاول الجزائر والبوليساريو تأزيم الوضع، وذلك بالدفع ببعض الجهات للضغط على المغرب. ولكن هذا الأخير أصبح يعي جيدا أن الحسم في قضية الصحراء مرتبط بشيئين أساسيين: تقوية المسار الديمقراطي وتدعيمه بجهوية متقدمة ومتدرجة تتماشى مع روح العصر ومتطلبات الدولة ما بعد الحديثة من جهة، وتكثيف الجهود الرامية إلى تنمية الصحراء من جهة أخرى.

فالصحراء الغربية اليوم ليست هي صحراء سنة 1976 حيث تجد بنية تحتية تشمل جميع مناطق الصحراء.




الاتجاه العام لدى المجتمع الدولي هو التركيز على حق تقرير المصير الديمقراطي وليس على حق تقرير المصير الذي يرمي إلى تفكيك الدول، والذي تبين جليا للجميع أن هذا الأخير أخفق في إنشاء دول قائمة بذاتها
المقاربة من منظور القانون الدولي

لا يعلم الكثيرون أن فكرة تطبيق الحكم الذاتي بالصحراء أتى بها كبار مسؤولي الأمم المتحدة بما فيهم الأمناء العامون السابقون مثل دي كولار وبطرس غالي وكوفي عنان، حينما تبين لهم عدة مرات منذ سنة 1991 أي سنة بعد إقرار مخطط التسوية من قبل مجلس الأمن أنه يستحيل تنظيم استفتاء تقرير المصير، نظرا لعدم اتفاق الأطراف حول المعايير التي تمكن من تحديد هوية الذين يمكنهم المشاركة في الاستفتاء.

وفكرة تطبيق نظام للحكم الذاتي أخذ بها كذلك جيمس بيكر الممثل الخاص للأمين العام، لكنه أخفق في مهمته بسبب نفس الإشكالية التي تطرحها تلك المعايير. وبهذا فاقتراح المغرب في أبريل/نيسان عام 2007 مشروع الحكم الذاتي جاء لتلبية مطلب أممي يرمي إلى إخراج مسألة الصحراء من المأزق الذي أصبحت توجد فيه. وأكثر من ذلك يمكن القول أن فكرة الحكم الذاتي تتماشى مع ما جاءت به محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري الصادر سنة 1975 والذي اعترفت فيه، من جهة، بوجود روابط قانونية بين المغرب والصحراء، وأوصت فيه من جهة أخرى، بتنظيم استفتاء حق تقرير المصير.

نعلم أن قراءات مختلفة ومتناقضة قد أعطيت لذلك الرأي، ولكن يبدوا أن ما يميز روح هذا الرأي إذا أريد لهذا الأخير أن يكون له معنا متماسكا وذا جدوى قانوني هو أنه ينبني في مضمونه على التوفيق بين حق المغرب في استرجاع الصحراء نظرا لاعتراف المحكمة بروابط قانونية بينه وإقليم الصحراء وحق سكان الصحراء في تدبير شؤونهم بأنفسهم.

ومهما يكن فالاتجاه العام لدى المجتمع الدولي هو التركيز على حق تقرير المصير الديمقراطي وليس على حق تقرير المصير الذي يرمي إلى تفكيك الدول والذي تبين جليا للجميع أن هذا الأخير أخفق في إنشاء دول قائمة بذاتها. فالأزمة التي يعرفها اليوم عدد كبير من دول العالم الثالث ناجمة ليس فحسب عن التبعية الاقتصادية والعولمة، ولكن كذلك وقبل كل شيء عن نوعية التركيبة الإثنينة والاجتماعية والترابية لهذه الدول، والتي أنشأها المستعمر لتلبية مصالحه السياسية والاقتصادية والتي مع الأسف زكاها حق تقرير المصير الذي يرمي إلى الاستقلال لكي يجعل من هذه الدول كيانات مصطنعة وهشة.

وكما نعلم فإن هذه الدول قد أخفقت ليس فقط في توفير ظروف ملائمة للعيش لمواطنيها ولكن حتى توفير أبسط الأشياء كالسلم والأمان. ونفهم بذلك لماذا أصبحت هذه الدول يشار إليها بعبارة الدول التي أخفقت (failed states).

ولا شك أن هذا الواقع المرير هو الذي دفع بيتر فان فالسوم، الممثل الخاص السابق للأمين العام، إلى أن يستخلص أن إنشاء كيان مستقل بالصحراء أمر غير واقعي. وأخيرا، يجب الإشارة إلى أن هذا الاتجاه العام للمجتمع الدولي هو الذي دفع مجلس الأمن إلى الأخذ بتصور توفيقي في قراره رقم 1754 الصادر يوم 30 أبريل/نيسان عام 2007 وأوصى ضمنيا الأطراف المعنية بالدخول في مفاوضات تدور أساسا حول اقتراح المغرب لنظام الحكم الذاتي بالصحراء.

وللبوليساريو قراءة مختلفة للقرار رقم 1754، ولكن هذه القراءة ليس لها ما يبررها لأن هذا القرار جاء لوضع حد للجمود الذي عرفته قضية الصحراء بعد فشل مهمة جيمس بيكر سنة 2004 وإلا فإنه (أي هذا القرار) سيكون منعدم المعنى ودون جدوى إذا كان يرجع الأطراف إلى الوراء وذلك بمناقشة مسألة إمكانية تطبيق حق تقرير المصير والتي تبين بجلاء أنه يستحيل تطبيقه نظرا للأسباب الموضوعية التي أشرت إليها سابقا ومن بينها على وجه الخصوص استحالة التوفيق بين وجهتي نظر الأطراف فيما يخص مسألة تحديد هوية من يحق لهم المشاركة في الاستفتاء.

وللأسف ما لم تدركه الجزائر والبوليساريو هو أن الأوضاع تغيرت منذ سنة 1966 حينما بدأ الكلام عن إمكانية تطبيق حق تقرير المصير. ولقد تغيرت على الصعيد الدولي كما أشرت إلى ذلك سابقا بالنسبة لمدلول حق تقرير المصير وهو الأمر الذي جاء نتيجة لمتغيرات دولية تهم مفهوم ومصير الدولة الحديثة والأسبقية التي يعطيها المجتمع الدولي اليوم لاستقرار الدول وسلامة أراضيها. ولقد تغيرت كذلك على الصعيد الجهوي والمحلي حيث أن دول منطقة المغرب أصبحت مهددة بخطر التفكيك والتقسيم.







تكلفة باهضة للدول والشعوب
التكلفة باهظة أولا بالنسبة لدول وشعوب المنطقة لأن المستعمر الإسباني زرع في هذه الأخيرة في الستينيات وللأسف بتواطؤ مع الجزائر فتيل التفكيك والتقسيم. وكان بإمكان دول المنطقة أن تنظر إلى مستقبلها بارتياح خاصة أن المغرب وتونس تنازلا لصالح الجزائر عن مطالب ترابية كانت تهم أراضي شاسعة بالنسبة للمغرب.

وأن تكون لمنطقة ما حالة استقرار بالنسبة لمسالة الحدود هذا شيء لا نجده إلا في الدول الغربية المتقدمة. ولم تكن كذلك لأية دولة مغاربية مشاكل ذات طبيعة ثقافية/ إثنية جهوية مثلما هو الحال اليوم.

بإيجاز ففي حين كنا نركب قطار الاستقرار والانسجام بالنسبة لتركيباتنا الوطنية/ القومية، فلقد نزلنا منه لكي نركب مثل العديد من دول العالم الثالث الهشة البنية قطار يأخذ بنا إلى المجهول. هذه هي الكارثة الكبرى التي مع الأسف لم تدرك النخب السياسية والثقافية المغاربية بأننا دخلنا رحابها. وقد حاولت مع بعض أشياء أخرى إثارة الانتباه إلى ذلك في كتابي الأخير "الحكم الذاتي بالصحراء. مدخل  للمغرب العربي للجهات".

ومصلحة الجميع تستدعي أن نقف على وجه السرعة وقبل فوات الأوان وقفة واحدة لكي ننظر إلى الأخطار التي أصبحت تحدق ببلداننا بسبب تصورات أكل عليها الدهر وشرب. وأخاف أن الدولة التي أصبحت أكثر عرضة للخطر "الإثنو/ قومي" هي الجارة الجزائر والذي يمكن نظرا لأهمية هذه الأخيرة أن ينعكس على الجميع في المغرب العربي.

أما بالنسبة للمغرب العربي كتكتل جهوي فكان هو كذلك ضحية لتلك التصورارت المتآكلة والتي يجب أن نتخلص منها إذا أردنا لشعوبنا مستقبلا يتناسب مع تاريخها المجيد وإمكانياتها البشرية والاقتصادية الضخمة.