
بعد عقود من السكون والسلبية وبالرغم من توفر الحالة الثورية على نحو صارخ، ربما يفوق في وطأته مثيلاته في أي وقت مضى، لا يبدي المصريون أدنى استعداد لتحويل تلك الحالة الثورية إلى فعل ثوري بالمعنى المتعارف عليه، وإن ظلت طاقاتهم الثورية المختزنة حبيسة موجات عارضة من التعبير الصاخب عن السخط والغضب الشعبيين عبر بعض القنوات الإعلامية
|
أما على صعيد الفعل الثوري، ومن منظور سوسيولوجى، فقد كانت ثورة 1919 عملا ثوريا جماهيريا بكل المقاييس، بعد أن نجحت في استيعاب القوى والفئات الاجتماعية المختلفة بما فيها المرأة، في سابقة لم يكن لدول عديدة في العالم الثالث خبرة بها، كما طرحت شعارات التف حولها الناس علي اختلاف مشاربهم، توخيا لتحقيق الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط خصوصا شعار "الدين لله والوطن للجميع".
ومن ثَمَّ أضحت المواطنة بوتقة لصهر كافة أبناء الوطن الواحد، ومظلة للحقوق والواجبات العامة، بصرف النظر عن أية انتماءات أولية أخرى كالدين أو غيره. وبغير مبالغة، يمكن القول إن ثورة عام 1919 قد ضخت مياها هائلة في مجري الحركة الوطنية المصرية استنادا لثابتين هما: سيادة الأمة بوجهيها الاستقلال والدستور، والوحدة الوطنية بقاعدتيها المواطنة والعدالة الاجتماعية، فلقد تمخضت تلك الثورة عن وضع دستور اكتسى مسحة عريضة من الديمقراطية، لم تشهدها البلاد من قبل، مهدت السبيل بدورها لإرساء قواعد راسخة للمواطنة، غير أن خضوع مصر حينها للاحتلال البريطاني، ولسيطرة الكومبرادوريين المصريين والرأسمالية الأجنبية، قد أسهم إلى حد كبير في إجهاض هذا التوجه الديمقراطي الجنيني.
وفي عام 1952، كان المصريون على موعد مع واقعة مشابهة، وإن اعترتها بعض الاختلافات التي أثارت جدلا حامي الوطيس من حولها طال إمكانية اعتبارها فعلا ثوريا جماهيريا حقيقيا أم انقلابا عسكريا أيدته قطاعات من الجماهير واستبشرت به، حيث يمكن الادعاء بأن الحالة الثورية في حينها كانت متأججة على كافة الأصعدة، بيد أن القوة التي كان لديها الفكر والقيادة مع القدرة والاستعداد للحركة وتحويل هذه الحالة الثورية إلى فعل ثوري هي تنظيم الضباط الأحرار، الذي ظهر في الجيش المصري بزعامة جمال عبد الناصر، في الوقت الذي كانت القوى الشعبية، لا سيما الأحزاب السياسية المدنية مفتقدة بشكل كبير للجاهزية .وفي يوم 23 يوليو/تموز 1952 قام الضباط بانقلاب مسلح أحكموا بمقتضاه سيطرتهم على الأمور في البلاد.
وفى حين عُرِفت حركة الضباط في البداية بـ"الحركة المباركة"، ثم أطلق عليها البعض لاحقا لفظ "ثورة 23 يوليو" بعد أن أيدها الشعب والتف حول قياداتها، جنح بعض المؤرخين للزعم بأن ما قام به الضباط قد تجاوز المفهوم الضيق والمتعارف عليه للانقلاب العسكري، إذ تضمن مشروعا وطنيا تنمويا نهضويا متكاملا تعلقت به قلوب وعقول قطاعات وشرائح واسعة من الشعب المصري، بعد أن اتسع ليشمل كافة مناحي الحياة المصرية، على نحو ما تجلى في المبادئ الستة التي أعلنتها حركة الضباط، وهي القضاء على ثلاثة مثالب تمثلت في: الإقطاع، والاستعمار، وسيطرة رأس المال.
ثم تحقيق ثلاثة تطلعات هي: حياة ديمقراطية سليمة، وجيش وطني قوي، وعدالة اجتماعية، إلى جانب ما تلاها من مواثيق تصب في ذات المجرى. كما وقع ما سُمِّي بمجلس قيادة الثورة اتفاقية الجلاء مع بريطانيا عام 1954.
بيد أن عدم اكتمال تنفيذ ذلك المحتوى الإنساني والنهضوي الشامل الذي أعلنت حركة الضباط تبنيها إياه، خصوصا الديمقراطية والتنمية والعدالة، لأسباب داخلية وخارجية متنوعة، ربما لا يتسع بنا المجال للإسهاب فيها، وضع علامات استفهام عديدة ومآخذ شتى على هذا العمل الضخم بشكل أدى بمرور الوقت إلى حدوث فجوة واسعة بين قادته وبين غالبية الشعب المصري، فانبرى خبراء كثر للادعاء بأنه كان مجرد انقلاب عسكري، ولم يرق إلى مستوى الفعل الثوري الحقيقي، أو أنه كان على أقصى تقدير ثورة "ناقصة".
وهناك معايير علمية محددة للتمييز بين الثورة والانقلاب العسكري، فيُعتبر الثاني حركة عسكرية تصحيحية غير جماهيرية، مقصدها الأساسي هو السلطة، وربما لا تستتبع بالضرورة نظاما مختلفا فكريا وأيديولوجيا عن سابقه، في حين تتجاوز الثورة ذلك الحيز الضيق كونها حركة جماهيرية بالأساس تحركها دوافع إنسانية، وتتسع أهدافها لتتضمن مشروعات فكرية نهضوية تتوخى إحداث إصلاحات جذرية تطال كافة أركان وجوانب الدولة والمجتمع، ما يجعل الثورات الجماهيرية الحقيقية التي خلفت آثارا ممتدة وعميقة في مجتمعاتها والعالم أجمع، محدودة عالميا بعكس الانقلابات التي تعج ذاكرة الدول بالعديد منها، لكن من الإجحاف اعتبار حركة يوليو 1952 مجرد انقلاب عسكري بحت، وإن وجد البعض من المبررات الفكرية والأسانيد السياسية ما يسوغ له التشكيك في كونها ثورة جماهيرية بكل ما ينطوي عليه هذا المصطلح من معان ومقومات.
وفي أيامهم هذه، يبدو المصريون كما لو كانوا قد استعاضوا عن التحرك الثوري بنقل طاقاتهم الحركية والثورية تجاه الواقع المحيط بهم توخيا لتغييره أو إصلاحه، وذلك بابتداع صراعات نفسية داخلية غالبا ما تتمخض عنها سلوكيات فردية غير متزنة حيال الذات أو الآخرين، كالتوحش في الممارسات الإجرامية، أو الإقدام على الانتحار، أو إطلاق النار بشكل عشوائي وهستيرى على آخرين عبر صدامات واحتكاكات بينية متواصلة، تتنامى وتيرتها على نحو تدريجي من دون أن تتخطى دائرة التفاعلات، سواء تلك المعتملة في داخل الفرد أو التي تطال تعاملاته مع الآخرين، لتصل إلى النخبة الحاكمة أو مؤسساتها.
فبعد عقود من السكون والسلبية وبالرغم من توفر الحالة الثورية على نحو صارخ، ربما يفوق في وطأته مثيلاته في أي وقت مضى، لا يبدي المصريون أدنى استعداد لتحويل تلك الحالة الثورية إلى فعل ثوري بالمعنى المتعارف عليه، وإن ظلت طاقاتهم الثورية المختزنة حبيسة موجات عارضة من التعبير الصاخب عن السخط والغضب الشعبيين عبر بعض القنوات الإعلامية، التي تحررت خلال السنوات القليلة المنقضية نسبيا من قبضة الرقابة الحكومية.
عدم اكتمال تنفيذ المحتوى الإنساني والنهضوي الشامل الذي أعلنت حركة الضباط تبنيها إياه، خصوصا الديمقراطية والتنمية والعدالة، لأسباب داخلية وخارجية متنوعة، وضع علامات استفهام عديدة ومآخذ شتى على هذا العمل الضخم بشكل أدى بمرور الوقت إلى حدوث فجوة واسعة بين قادته وبين غالبية الشعب المصري |
أو من خلال تظاهرات وتحركات احتجاجية فئوية آنية لم تلبث أن تنتهي بمجرد خفوت الدوافع المؤججة لاندلاعها أو تفاقم وطأة الأجهزة الأمنية لتفريق القائمين بها، أو أن يضرب الخلاف الداخلي أطنابه بين رموزها وقياداتها.
وقد كان من شأن ذلك التراجع التدريجي في مستوى الديناميكية السياسية عند المصريين من الثورة النموذجية إلى الانقلاب العسكري، المكتسي بشيء من سمات الثورة، ثم إلى السكون التام الذي لم تمخر عبابه أو تبدده نوبات التظاهر والاحتجاج الآني الفئوي، والتعبير الصاخب عن الرفض والغضب، أن يثير جدلا حامي الوطيس بين المهتمين والمعنيين بهذا الأمر في داخل البلاد وخارجها، بشأن عزوف المصريين عن العمل الثوري بالرغم من توفر الحالة الثورية لديهم.
وهو الجدل الذي تمخض بدوره عن سيل جارف من التفسيرات والتأويلات التي انصرف أغلبها إلى التركيز على المستويين الشعبي والنخبوي فقط، محملا المواطنين العاديين والنظام الحاكم مسؤولية تواضع الديناميكية السياسية عند المصريين، في حين تجاهل متغيرات "وسيطة" غاية في الأهمية، كالقيادات السياسية والفكرية ذات الجماهيرية والتي بوسعها تحريك وقيادة الجماهير، وتبني برنامج أو رؤية واضحة لمرحلة ما بعد الثورة، كما تمتلك القدرة على إيجاد البديل المناسب للوضع الراهن.
فمن جهة، عمد جُلّ تلك التأويلات إلى تفسير غياب الفعل الثوري لدى المصريين بطبيعة الشخصية المصرية وخصوصيتها التي تنزع دائما باتجاه الميل الفطري والمفرط إلى تكريس الوضع الراهن والإذعان له مهما بلغ من تدهور، حسبما أكد الباحث والمفكر العظيم د. جمال حمدان في موسوعته الخالدة "شخصية مصر".
والتي خلص فيها إلي أن سمة الاعتدال تجعل الشعب المصري تلقائيا شعبا غير ثوري، مؤكدا بالنص "أن ما تحتاجه مصر أساسا إنما هو ثورة نفسية، بمعني ثورة علي نفسها أولا، وعلي نفسيتها ثانيا، أي تغيير جذري في العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها.. ثورة في الشخصية المصرية، وعلي الشخصية المصرية.. ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر". ونفس الشيء أكده المؤرخ الإنجليزي البارز أرنولد توينبي في كتابه الشهير "دراسة للتاريخ"؛ فقال: إن الفلاح المصري يفضل الموت على أن يثور على حاكمه، ويوشك أن يؤلهه حتى وإن كان فاسدا.
ومن جهة أخرى، أرجعت تفسيرات اقتصادية واجتماعية عدم ثورية المصريين إلى أوضاعهم المعيشية الخانقة التي أجبرتهم على المهادنة، ولم تدع لهم متسعا للتمرد أو الثورة.
كما ذهبت تفسيرات سياسية إلى الزعم بأن اتساع هامش الحريات نوعا ما خلال السنوات القليلة الماضية، خصوصا ما يتصل بحرية التعبير، في إطار اختزال الانفتاح السياسي في ديمقراطية "التعبير" بدلا من ديمقراطية "التغيير" وتداول السلطة، قد أفضى إلى سماح النظام بتحركات شعبية للتنفيس عن السخط والغضب الشعبيين سواء عبر وسائل الإعلام بشتى صورها، أو من خلال المسيرات والوقفات الاحتجاجية التي عرفتها البلاد مؤخرا من أجل الخبز ومياه الشرب والأوضاع المهنية والمعيشية لبعض الفئات، الأمر الذي امتص حماس وسخط المصريين، وأجهز على ما تبقى لديهم من ميل وحذر متردد نحو الثورة.
ثمة رأى آخر عمد إلى إرجاع العزوف المصري عن الفعل الثوري، برغم توفر الحالة الثورية، إلى غياب الأركان والمتطلبات الأخرى الضرورية الكفيلة بإيجاد ذلك الفعل، فإلى جانب توفر الحالة الثورية -بمعنى تدهور الأوضاع القائمة على كافة المستويات إلى الحد الذي أوجد حالة من الرفض الشعبي المصحوب بفقدان للأمل والثقة في قدرة النظام القائم علي قيادة عملية تغيير ناجعة وشاملة نحو الأفضل، ما يجعل من تغيير النظام القائم و المجيء بآخر بديل لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال الثورة- هناك ركائز أخرى مهمة للفعل الثوري الناجع تتمثل في: القيادة الوطنية الموثوق فيها، والتي تحظى بدعم وثقة الجماهير، فضلا عن الفكرة أو البرنامج الشامل أو الرؤية المتكاملة.
إلى جانب توفر البديل المناسب للنظام القائم أو ما يمكن تسميته "السيناريو القادم أو التالي"، مع وجوب توفر الثقة في قدرة الفعل الثوري على النجاح في مهمته والمجيء بالنظام البديل، ثم الثقة في أن هذا الأخير سيكون أفضل من سلفه ويتمكن من الوفاء بتطلعات الجماهير.
وتدل معطيات الواقع المصري الراهن بأنه يبخل بمثل هذه المتطلبات مجتمعة على المصريين، فبرغم توفر أركان الحالة الثورية، يبدو أن هناك غيابا حقيقيا للقيادة الموثوق بها جماهيريا، فإذا كانت القوى المحركة والقائدة للفعل الثوري تظل مقتصرة على الجيش والمثقفين وقادة الرأي وبعض الناشطين السياسيين، تبقى احتمالات تحرك الجيش متواضعة في ظل تجاوز البلاد حقبة الاحتلال الأجنبي، ووجود نظام ذي خلفية عسكرية، كما يعد امتدادا لحركة يوليو 1952
ذهبت تفسيرات سياسية إلى الزعم بأن اتساع هامش الحريات نوعا ما خلال السنوات القليلة الماضية، خصوصا ما يتصل بحرية التعبير، في إطار اختزال الانفتاح السياسي في ديمقراطية "التعبير" بدلا من ديمقراطية "التغيير" وتداول السلطة، قد أفضى إلى سماح النظام بتحركات شعبية للتنفيس عن السخط والغضب الشعبيين |
ولما كان الفعل الثوري يستوجب تحركا شعبيا بالأساس، تبقى الآمال معلقة على القوى الاجتماعية المدنية المتمثلة في الإنتلجنسيا المصرية والناشطين السياسيين، بيد أن الحالة المصرية حاليا لا تبعث على الأمل في هذا الصدد، حيث تتراجع احتمالات قيام "ثورة مخملية" على غرار ذلك الحراك الشعبي السلمي الذي أطاح عام 1989 بالنظام الشمولي في تشيكوسلوفاكيا وجاء بزعيم المعارضة فاتسلاف هافل رئيسًا للبلاد، لاسيما بعد أن اتسعت الهوة بين أولئك الفاعلين وبين الجماهير إثر تدجين شطر كبير منهم، فيما غاص معظمهم حتى آذانهم إما في خلافاتهم البينية وصراعاتهم حول الزعامة والقيادة.
أو غرقوا في مصالحهم الشخصية بملاحقة ثالوث المال والشهرة والسلطة، غير مكترثين بما يجرى من حولهم بعد أن فقدوا الثقة والأمل في إمكانية التغيير، بينما لم يعد بمقدور القلة القليلة المتبقية -والمتمسكة برغبتها في تبصير المجتمع وتحريكه- القيام بهذا الدور بعد أن أُجبِرت على الانزواء والاستكانة تلافيا لصدام عالي التكلفة مع النظام.
وفيما يخص البديل المناسب، فيمكن الادعاء بأن أجواء عدم التأكد وانعدام الثقة التي تخيم على المجتمع المصري هذه الأيام قد حالت دون مراهنة الجماهير على أي أشخاص أو قوى اجتماعية أو سياسية يمكن التعويل عليها كبديل مناسب يوثَق في صدق نواياه، وقدرته على الفعل، وجدية رغبته في تلبية تطلعات تلك الجماهير.
الأمر الذي يدفع بالسواد الأعظم المستكين إلى التشبث بالوضع القائم، برغم تحفظاتهم وسخطهم عليه، تلافيا للتداعيات السلبية المحتملة والكلفة الهائلة المتوقعة لتغيير مستعص أو بديل مجهول وغير مضمون العواقب، وتماشيا مع المثل المصري القائل: "من تعرفه أفضل ممن لا تعرفه".
_______________
مدير تحرير مجلة الديمقراطية بالأهرام