الجابري بين غياب الشخص وحضور الفكر

اقترح الجابري منهجا يدرس التراث تبعا لمعالجة بنيوية تتناول النصوص في إطار الكل الذي تنتمي إليه، ثم تبعا لتحليل تاريخي يربط الفكر بإطاره التاريخي، وتبعا لطرح إيديولوجي للكشف عن الوظيفة الإيديولوجية الاجتماعية السياسية
17 May 2010
8800c32a06314225a67b65fb8c6329ce_18.jpg
(الجزيرة)

محمد وقيدي 

تغيِّب الوفاة الشخصَ جسدا وفكرا. فكل شخص حقيقة فيزيائية ماثلة أمامنا ما دام على قيد الحياة. إنه من نشاهده أمامنا، ومن نشاركه الحياة والحوار معه، ومن نتفق معه أو نختلف، وهو الذات التي ندخل معها في أنواع شتى من التواصل أو عدمه. لكن هذا كله تنقضه الوفاة ولا يعود ممكنا إلا في حالتين هما التصور والذكرى. الشخص أيضا حقيقة فكرية تدخل ضمن حياته النفسية والعقلية المتحدة بحياته الجسمية، ومع الوفاة يغيب هذا الجانب من كل إنسان مع غيابه الجسدي. فلن يعود بإمكانه أن يكون مصدرا لفكر جديد ومباشر، ولن يكون بإمكاننا أن نسمع منه ونقرأ له قولا جديدا نوافقه عليه أو نختلف معه فيه.

الأفكار لا تموت بموت صاحبها
خمس مراحل بارزة في تأليف الجابري

الأفكار لا تموت بموت صاحبها

أصبحت أفكار الجابري نسقا منفتحا بالنسبة لغيره من الباحثين والمفكرين والمتفلسفين في نفس الموضوعات التي فكر فيها فانخرطت ضمن صيرورة التاريخ العام للأفكار سواء بالنسبة لسياقه المغربي أو العربي أو الإسلامي أو العالمي

هذه المشاعر المتعلقة بالوفاة بصفة عامة، والمنطبقة على كل ذات مفكرة، هي التي حضرتنا عند سماعنا لوفاة محمد عابد الجابري الفيلسوف الذي عايشناه زمنا يزيد عن أربعة عقود منذ أن تعرفنا عليه. فالشخص الذي كنا نناقشه في آرائه مباشرة قد رحل عنا ولم يعد بإمكانه، كما كان يفعل، أن يدافع عن آرائه أو يحاجَ الناس في موضوعها انطلاقا من وجهة نظره. لقد توقف تفكير الجابري لأن التفكير بالنسبة لكل شخص مرتبط بالحياة. لكن، مع ذلك، فإن الأفكار التي عبر عنها الجابري ووضعها في الكتب التي ألفها على مدى أربعين عاما لن تتوقف مباشرة عن الحضور في سياقه المغربي الخاص أو في سياقه العربي والإسلامي والعالمي، ما دامت تلك الأفكار متضمنة في كتب، وما دامت الإشكالات التي تتحدث عنها قائمة. الفكر دون الجسد له إمكانية اختراق الوفاة والاستمرار بعدها، وذلك ما نتمناه بالنسبة لأطروحات الجابري الفكرية في المجلات التي فكر فيها: الفلسفة، والتربية، وتاريخ الأفكار، وتاريخ الإيديولوجيات، وإشكاليات الفكر العربي المعاصر، وإشكالات الواقع العربي المعاصر، وإشكالات النهضة والتحديث، والسياسة.

بعد أن غيبت الوفاة هذا الشخص الفيزيائي والفكري الذي كان يحمل اسم محمد عابد الجابري، لم يبق أمامنا سوى الأفكار والأطروحات المبثوثة في كتبه بصدد كل الموضوعات التي فكر فيها والتي تتوزع بين الميادين التي سلف ذكرها. كان بإمكان الجابري، حينما كان على قيد الحياة أن يدمج تلك الأفكار ضمن صيرورة فكره الخاص، وأن يجدد في صياغتها وفق مايريده لها ضمن صيرورة الفكر الإنساني العام. لكن وفاته، جعلت أفكار الجابري مثلما هو الشأن بالنسبة لأي مفكر، خارج إرادته لتدخل ضمن صيرورة التاريخ العام للأفكار.

إذا كنا نؤمن بأن للأفكار حياة بعد وفاة واضعها حين تكون مكتوبة، فإن هذا يطرح السؤال عما نتصوره من مصير لأفكار الجابري بعد وفاته. ما ينطبق على حالة خاصة مثل الجابري عام منطبق على كل ذي فكر، وكل من يترك تراثا فكريا شخصيا. لكن، ما التطور الذي نراه مقبولا لأفكار الجابري بعد وفاته؟ هل صار ما كتبه الجابري بعد وفاته نسقا مغلقا من الأفكار؟ هل هو الآن نسق منفتح على تطورات جديدة؟ الأمران صادقان معا. فقد أصبحت أفكار الجابري نسقا مغلقا لأن الذات المنتجة لها لن تضيف إليها شيئا مهما يكن، سواء بالتوسع فيها وتعميقها، أو بالتعديل منها وإعطائها صياغات جديدة، أو بطرحها ضمن إشكالات جديدة وانطلاقا من إشكاليات أخرى غير سابقتها. يظل هذا النسق المنغلق، مع ذلك، منفتحا على دراسات تتعلق به بإبراز محاوره وإشكالاته، وبإيضاح إشكالياته بصدد القضايا التي يتناولها، بل وبدراسة تلك الإشكاليات دراسة نقدية تبرز توافقاتها وتعارضاتها وتطوراتها.

يصدق على أفكار الجابري، من جهة أخرى، أنها أصبحت نسقا منفتحا بالنسبة لغيره من الباحثين والمفكرين والمتفلسفين في نفس الموضوعات التي فكر فيها. هذا هو المستوى الذي تنفتح في أفكار الجابري على صيرورة أوسع من التطور الفكري الخاص به، إذ أنها تنخرط ضمن صيرورة التاريخ العام للأفكار سواء بالنسبة لسياقه الفكري الخاص في المغرب، أو في السياق العربي الإسلامي الأعم، أو في سياق تطور الأفكار وتبادل التأثير على الصعيد العالمي.

وسنجعل مهمتنا في هذه الدراسة البحث في المتن الذي ألفه الجابري لاستخراج مجمع الأطروحات الفلسفية، والفكرية بصفة عامة، التي نراها قابلة لأن تغني هذه الحياة الثانية باندماجها ضمن أنساق فكرية جديدة لتستمر بذلك بما قامت به من تحليل وما صاغته من مفاهيم وإشكاليات في المساعدة على طرح مشكلات جديدة، وإنتاج مفاهيم مستحدثة.

خمس مراحل بارزة في تأليف الجابري

فهم نظرية ابن خلدون عن العصبية وعن التاريخ الإسلامي تقتضي الابتعاد عن أمرين: تلك الإسقاطات الإيديولوجية التي روجت لديه كل النظريات الحديثة وجعلته سباقا إليها وكذلك ضرورة تجاوز كل نظرة تجزيئية لابن خلدون ومن إدراك فكره في كليته وفهم كل قضية قال بها في ضوء هذا الكل أي بفضل النظر إليها في ضوء ارتباطها بتحليل ابن خلدون لقضايا أخرى

نرى أن قوة أي نسق فكري بالنسبة لتاريخ الأفكار بصفة عامة، وتاريخ الفلسفة بصفة خاصة، تكمن في قدرة مفاهيمه وأطروحاته على اختراق الزمن وعلى الحياة من جديد داخل أنساق فكرية جديدة قد تكون مختلفة في تكوينها وغاياتها. وحين نتابع متن المؤلفات التي تركها الجابري، التي تناولت موضوعات متعددة وإشكالات مختلفة على صعيد الفكر والمجتمع والتاريخ، نعثر على مثل هذه المفاهيم والأطروحات التي نراها قادرة على الاستمرار في الحياة ضمن تاريخ الأفكار بصفة عامة. وقد تنوعت تلك الأطروحات والأفكار في مؤلفات الجابري. ونحاول هنا رصدها بحسب ميادينها والمؤلفات التي ظهرت فيها.

 

1) قضى الجابري قسما كبيرا من حياته أستاذا للفلسفة في التعليم الثانوي، ثم قي التعليم العالي بغد ذلك.وقد كان للمهمة التدريسية حظها من مؤلفات الجابري وأطروحاته التربوية والفكرية. فحيث ظهرت الحاجة إلى التأليف المدرسي الموافق لبرامج الفلسفة في المغرب، فقد بادر الجابري بالتعاون مع زميلين له هما الأستاذان أحمد السطاتي ومصطفى العمري إلى إصدار كتاب: دروس في الفلسفة. وكان لهذا الكتاب أثر لا يمكن نكرانه على التعليم الفلسفي، كما أنه لبى الحاجة إلى مثل ذلك النوع من الكتب بعد تعميم تدريس الفلسفة باللغة العربية في كل الأقسام الثانوية. نسجل، إضافة إلى ذلك، احتفاظ الجابري بالإيمان بأهمية هذا الكتاب بدليل مبادرته قبل وفاته بزمن قصير إلى إصدار طبعة خاصة بمساهمته فيه بعد لأكثر من ثلاثين عاما على صدور طبعته الأولى، وبعد أن توقف العمل بالكتاب مدة تزيد الآن عن عقدين من الزمن.

قادت المهمة التدريسية الجابري، من جهة أخرى، إلى الاهتمام بمشكل التعليم بصفة عامة، فألف كتابه: أضواء على مشكل التعليم في المغرب الذي صدر عام 1973. كما ظهر له عام 1976 كتابه: من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية. وذلك بالبحث في مشكلات التعليم عبر البحث في ترابطها، ثم توجيه الفكر نحو البحث في مشكل التعليم بالعودة إلى جذور هذا المشكل في النسق التقليدي، من جهة، وفي الفترة الاستعمارية من جهة أخرى.

 

2) النوع الثاني من المؤلفات هو ما أصدره الجابري في مرحلة التدريس الجامعي التي دامت من سنة 1967 إلى سنة 2001. والكتب الصادرة في هذه المرحلة تتجاوز التأليف المدرسي لتكون مؤلفات تتضمن أطروحات فكرية شخصية، وهي التي عرف بها الجابري، وكانت موضوعا لجدال مستمر داخل المغرب وخارجه، وخاصة في البلدان العربية الأخرى.

تعلقت كتابات الجابري في هذه المرحلة بدراسة التراث الإسلامي، وبالبحث في تاريخ الأفكار والإيديولوجيات ضمن هذا التراث، كانت له عدد من الأطروحات ضمن هذه الدراسات نحاول رصدها وتصنيف مؤلفات الجابري تبعا لذلك.

نقف في مرحلة أولى عند كتابين هما: العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي. (دار الثقافة، الدار البيضاء 1971)، ثم كتاب نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي. (دار الطليعة، بيروت 1980) في هذين الكتابين صدرت عن الجابري أطروحات تتعلق بفهم التراث والتأريخ له، وهي أطروحات كانت موضوعا للنقاش بين الجابري وعدد من الباحثين الذين اهتموا بالتراث. يرى الجابري في كتابه عن العصبية والدولة أن فهم نظرية ابن خلدون عن العصبية وعن التاريخ الإسلامي تقتضي الابتعاد عن أمرين: فلكي نفهم ابن خلدون في حقيقته، أي كما هو، ينبغي الابتعاد عن تلك الإسقاطات الإيديولوجية التي روجت لديه كل النظريات الحديثة وجعلته سباقا إليها. كما أنه لابد، من جهة أخرى، من تجاوز كل نظرة تجزيئية لابن خلدون ومن إدراك فكره في كليته وفهم كل قضية قال بها في ضوء هذا الكل أي بفضل النظر إليها في ضوء ارتباطها بتحليل ابن خلدون لقضايا أخرى. هذا منهج عام لفهم التراث الفلسفي اقترحه الجابري، مع أننا نرى أنه لم يكن الوحيد الذي اقترح مثل هذا المنهج.

تكون وقفتنا أكثر فائدة في فهم الجابري مع كتابه نحن والتراث. فهذا الكتاب يتضمن أطروحات كثيرة وأساسية بالنسبة لفكر الجابري، كما أنها الأطروحات التي أثارت النقاش مع الجابري من مفكرين من مختلف البلاد العربية والإسلامية، بل وحتى خارج هذا النطاق.

الأطروحة الأولى هي قول الجابري بقراءة جديدة للتراث تجعله معاصرا لذاته بقراءته في شروطه المعرفية والتاريخية، وجعله من جهة أخرى معاصرا لنا بقراءته في ضوء أسئلتنا الراهنة. وتعني هذه القراءة المزدوجة للتراث أن علينا أن نفصل التراث عنا، أولا، لكي نصله بنا بكيفية موضوعيا بعد ذلك.

يتعلق الاقتراح الثاني بالمنهج: وقد اقترح الجابري على الباحثين في التراث الإسلامي عامة منهجا يدرس التراث في نفس الوقت تبعا لمعالجة بنيوية تتناول النصوص في إطار الكل الذي تنتمي إليه، ثم تبعا لتحليل تاريخي يربط الفكر بإطاره التاريخي، وتبعا لطرح إيديولوجي للكشف عن الوظيفة الإيديولوجية (الاجتماعية السياسية) التي لعبها الفكر المعني والذي يكون المدخل الملائم للدور الذي يمكن أن يلعبه في عصرنا.

هذا هو المنهج الذي اتبعه الجابري في دراسة التراث حتى وإن كان قد حدد هذا المنهج بصورة لاحقة على الدراسات التي استنتج منها. وبتطبيق هذا المنهج الذي خرج الجابري بعدد من الأطروحات اقترحها أجل فهم جديد للتراث عامة والفلسفي منه خاصة. وباتباع هذا المنهج توصل الجابري إلى عدد من النتائج- الأطروحات التي أثارت نقاشا حولها بين من رأوا فيها صلاحية لفهم جديد للتراث وبين المعترضين عليها على مستوى المنهج أو الخلاصات أو هما معا:

- لم لا نعتبر الفارابي بتصوره للمدينة الفاضلة رافضا ومنتقدا للوضع الذي كان يعيش فيه؟ ولم لا نعتبره بمثابة روسو الثقافة العربية الإسلامية؟

- ينبغي النظر إلى اللحظة الرشدية بوصفها قطيعة إبستمولوجية مع إشكالية الفلسفة الإسلامية في المشرق، وخاصة فيما يتعلق بعلاقة الدين بالفلسفة؟

- لماذا لا نبرز داخل فكر ابن خلدون الصراع بين المعقول واللامعقول؟

- لماذا نغفل إظهار الجانب الغنوصي من فلسفة ابن سينا في مقابل عدم الكفاية في إبراز التوجه العقلاني عند ابن رشد؟

لا بد من الإشارة في النهاية إلى أن الجابري الذي جعل من الطرح الإيديولوجي عنصرا من عناصر منهجه، وهو الطرح الذي يبحث في الفلسفات الإسلامية عن الجانب الإيديولوجي الذي يمكن استثماره في الوقت الراهن في مقابل المادة المعرفية المنتهية صلاحيتها، انتهى في النهاية إلى اختيار فلسفة ابن رشد منطلقا لتأسيس فلسفة جديدة في هذا العصر. فقد رأى الجابري أن القطيعة التي تحققت لابن رشد مع فلسفة ابن سينا، جعلت من فكره عقلانية واقعية. وإذا كان علينا أن نختار ما تبقى من تراثنا قابلا لاستثماره في عصرنا، فإن عقلانية ابن رشد هي هذا الاختيار.ذلك "إن الروح الرشدية يقبلها عصرنا، لأنها تلتقي مع روحه في أكثر من جانب، في العقلانية والواقعية والنظرة الأكسيومية والتعامل النقدي." (نحن والتراث، ص57) هذا الاختيار لدى الجابري ذو طبيعة إيديولوجية كانت موضوع نقاش.

 

3) النوع الثالث من مؤلفات الجابري هو الذي انطلق فيه من الفكر العربي والإسلامي المعاصر ليعود إلى التراث في صيغة تاريخ تراجعي. نذكر هنا كتاب الخطاب العربي المعاصر (دار الطليعة، بيروت 1982)، ثم الكتب التي صدرت بعد ذلك ضن المشروع الواسع الذي ظهر لدى الجابري في ذلك الوقت، ونعني بذلك نقد العقل العربي، الذي صدرت فيه كتب هي: تكوين العقل العربي (دار الطليعة، بيروت 1984)، بنية العقل العربي (المركز الثقافي العربي 1986)، ثم العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته (نفس الناشر 1990)، والعقل الأخلاقي العربي، دراسة نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية (2001) غير أنه لا بد لنا من التأكيد أنه إذا كانت فكرة نقد العقل العربي قد برزت في الكتب التي تحمل ذلك العنوان ذاته، فإن ظهورها عند الجابري وجد قبل ذلك في كتابه نحن والتراث. فالجابري الذي ينتقد القراءات المختلفة للتراث، ويبحث في أطروحاتها يجد أن هناك وحدة تجمعها هي الفعل العقلي المنتج لها، ولذلك فإنه ليس من الملائم الاكتفاء بنقد الأطروحات، بل نقد العقل الذي أنتجها. وأكثر من ذلك، يشير الجابري إلى ضرورة البحث في تكوين العقل العربي لأن مكونات العقل تساهم في تحديد طريقة التفكير.(نحن والتراث، من أجل نقد علمي للعقل العربي ص12 وما بعدها)

تعيدنا مهمة نقد العقل العربي إلى ذلك الموقف الذي تأسست عليه فلسفة كانط في القرن الثامن عشر، حينما دعا، وهو ينتقد الميتافيزيقا، إلى أنه ينبغي تجاوز نقد المذاهب الميتافيزيقية لفحص العقل المنتج لها فحصا نقديا. وبنفس الطريقة وحيث إن كانط لم يحلل العقل مباشرة كبنية، بل حلل أحكامه، فإن الجابري لا يحلل العقل العربي، بل يحلل الخطاب الصادر عنه. وتلك هي مكانة كتاب "الخطاب العربي المعاصر" حيث يأتي بعد الإعلان المبدئي عن مهمة نقد العقل ليبدأها في ذلك الكتاب بنقد الخطاب الصادر عن العقل في أهم تمظهراته. رأى الجابري أنه كان على الفكر العربي أن يبدأ هذه المهمة منذ مائة عام، وحيث لم يفعل ذلك، فإنه يوجد في حالة تأخر من حيث كيفية طرحه للمشكلات التي واجهها. درس الجابري الخطاب الذي أنتجه العقل العربي في أنماطه الأساسية: الخطاب النهضوي، والسياسي، ثم القومي، والفلسفي.

فكرة البداية بنقد العقل العربي محورية في فكر الجابري، وقد دام التفكير فيها حسب زمن صدور مؤلفاته التي أشارت إليها بين 1950 و2001. وفي ضوئها يمكن فهم كتابات أخرى للجابري الأخرى منذ كتابه نحن والتراث.

4) نوع آخر من كتابات الجابري هو الذي يتعلق بالواقع والفكر العربيين في الزمن المعاصر. ويمكن أن نعتبر كتاب الجابري "الخطاب العربي المعاصر" منطلقا أول لهذه الكتب. لكن الأمر لا يبقى هنا في مستوى دراسة الخطاب من حيث طريقة التفكير في المشكلات المطروحة فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة طرح تلك القضايا ونقد النتائج التي توصل إليها الخطاب العربي فيها. من هذه الكتب نذكر: إشكاليات الفكر العربي المعاصر (1988)، وجهة نظر، نحو إعادة صياغة قضايا الفكر العربي المعاصر (1997). التراث والحداثة (1988) الإشكالية العامة لهذه الكتب هي البحث في الفكر العربي وتناول تياراته وقضاياه بروح نقدية تؤطرها الأطروحة الأساسية للجابري حول نقد العقل العربي.

5) للجابري كتابات سياسية، ونقصد بها لاتلك التي عبر فيها عن مواقف اتخذها كممارس للسياسة، بل تلك التي كتبها كمتفلسف في موضوعات السياسة. ومن هذه الكتب: المغرب المعاصر (1988)، الديمقراطية وحقوق الإنسان (1991)، الدين والدولة وتطبيق الشريعة (1996). ونرى أن هذه الكتب محاولة لإعادة بناء لبعض الإشكاليات الأساسية في مجال السياسة والمجتمع نوقشت فيها قضيا الهوية والحداثة والنهضة في إطار المجتمعات العربية بصفة عامة، والمجتمع المغربي بصفة خاصة.

لم نستوف هنا ذكر مجموع كتابات الجابري، كما أن التصنيف الذي ذكرناه لمؤلفاته لا يعني استقلال كل نوع منها عما عداه، فهناك تقاطع مصدره وحدة الفكر المنتج لمثل تلك التآليف التي ذكرناها، وهي الدالة على أن ما تركه الجابري للباحثين بعده يعد نسقا فكريا مفتوحا للمفكرين الذين يواصلون بعده التفكير قي قضايا الفلسفي والمجتمع والتاريخ.
_______________
جامعي مغربي متخصص في الفلسفة يدرس بالجامعات المغربية وله العديد من التآليف