الثورات العربية ومخاض الوحدة الطويل

في ضوء الثورات الشعبية العربية الراهنة تناولت هذه المقالة مفهوم القومية العربية وتأثيره على السياسة العربية العامة وكيف تحركت الجماهير لبلوغ العرب غاياتهم الوحدوية، وتساءل الكاتب عن العقبات التاريخية المعطلة للوحدة، وما المطلوب حاضرا وما المرجو مستقبلا
201172363944231580_2.jpg

الصادق الفقيه

تجتاح العالم العربي اليوم ما صار يعرف بثورة الشعوب العربية، أو انتفاضة التغيير الكبرى، التي بدأت في تونس، وتكررت في مصر، وتصاعدت في ليبيا، وعمت شمال أفريقيا؛ الجزائر والمغرب وموريتانيا، ووصلت إلى البحرين والأردن والعراق واليمن. وستمضي، على ما يبدو، بسرعة في اقتلاع، أو خلخلة الكثير من أنظمة الحكم العربية. وهذه بالقطع ليست أحداثا منقطعة، أو معينة بحالات قُطْرِيَّة منفردة، وإنما هي حراك جمعي خلَّاق للشارع العربي، ومواجهة شاملة مع الماضي المُقْعِد. وهي قبل كل شيء، لحظة تاريخية فارقة؛ سياسيا وثقافيا، وَلَّدَتْ في العالم العربي فكرة الوحدة العربية من جديد، وبقيادة الشعوب العربية نفسها هذه المرة، بعد أن خذلتها النخب، وأجهضها القادة. فقد تولت الثورة حشد مجموعات متنوعة من الناس، على طول البلاد العربية وعرضها، وأعطتهم لغة خطاب موحدة؛ تستمد صلتها وحيويتها من الثقافة، والتقاليد والمعتقدات المشتركة.

فاستخدمت وسائل، ومطالب، وشعارات، وبيانات، وإعلام، وحتى أعلام مشتركة، عابرة برمزيتها للحالات القُطْرِية. وهي، بالتالي، تبرز عودة الوعي بالقواسم المشتركة، وأن الوحدة العربية في المنطقة قد استعادت منطقها الجمعي، وصارت موضوعا مطروحا بإلحاح باعتبارها واحدة من أكثر نقاط التحول المرغوبة في الحاضر، مثلما كانت في ماضي القومية العربية، التي تخاذل سعيها من قبل عن بلوغ أهدافها المرصودة بسبب مجموعة معقدة من الظروف السياسية والتاريخية.

واقع الحال

إن مفهوم الأمة العربية، الذي يطرحه الشارع العربي الآن، جدد فكرة "الرسالة الخالدة" للعروبة، مع وعدها لخلق "الدولة العربية المتحدة التي تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي"، متجاوزا روح الهزائم الماضية والإحباطات الحاضرة، لاعتماده، في هذه الثورات، على نداء وجداني قوي، تجاوز بطلاقته الحالة القُطْرِية، وحملته إلى العالم شعارات وهتافات المتظاهرين المنادية بمستقبل أفضل. وهذا المفهوم يمثل الرابط بين النجاحات التاريخية المنقطعة والتطلع الواثق للمستقبل، دون أن يغفل التحديات الماثلة، التي تراكمت بسبب الدكتاتورية والفساد والخنوع. لقد حقق العرب الكثير من عناصر التقدم وشروط القوة عندما كانوا أمة واحدة متحدة. ومنذ انهيار تلك الوحدة، لم يحقق العرب غير القليل، وقد تقسموا، في الواقع، إلى 22 دولة؛ تساوي ثلث العالم الثالث إلا قليلا، ولم يكن لهم شأن اقتصادي أو نفوذ سياسي يذكر. وفي الواقع، وحتى وقت قريب، لم يكن يوجد بلد واحد في العالم العربي ليس مستعمرا، أو سيادته منقوصة. وحتى اليوم، وعلى الرغم من الانهيار المفترض للاستعمار، إلا أن العديد من الدول العربية لا تزال تحت الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية للقوى الغربية. فالعراق محتل، والسودان فصل جنوبه عن شماله، ويعاني من العقوبات السياسية والاقتصادية؛ وفقد العرب معظم فلسطين، والباقي تحت الاحتلال، وإسرائيل تحتل أجزاء من لبنان وسوريا، وآثار التبعية للغرب تتبدى في كل موقف يصدح به الرسميون العرب.

عندما ينظر العرب اليوم إلى حاضرهم، فإنهم يدركون بصورة متزايدة حقيقة ومدى ضعفهم، ويميلون لربط أوضاعهم الحاضرة بتفرقهم وانقساماتهم، ويتطلعون للتواصل مع الماضي ومجدهم التاريخي، ويتوقون إلى وحدة ترتقي بهم إلى مستقبل أفضل. إذ أن المقارنات المستمرة بين الماضي والحاضر هي التي تحفزهم على الحفاظ على حلم الوحدة العربية، وفي هذا ضمان أن مفهوم القومية العربية لا يزال على قيد الحياة. وبالتالي، إذا كانت القومية العربية متجذرة في التاريخ، فإن لديها جذورا في الواقع الحالي للدول أبانته ثورات الشعوب العربية.

إن الأمة العربية، أو العالم العربي، لا وجود لهما كواقع ماثل يحتل رقعة دولة موحدة، ولكن كحلم في قلوب وعقول الكثيرين من مواطني البلدان العربية الـ(22)، التي تشكل هذه الأمة، وحقيقة أن الأمة العربية غير موجودة، يمكن أن تكون حجة ضد فكرة القومية العربية. وبكل بساطة، يمكن التساؤل عن كيف يمكن أن تكون القومية العربية حقيقية، أو تؤخذ فكرتها بشكل جدي عندما لا يكون هناك وطن عربي موحد؟ وحتى وإن كان هذا السؤال يبدو طبيعيا ومنطقيا، بالنظر إلى أن الإشارة فيه إلى مشاعر قومية لأمة لا وجود لها، فإنه يتجاهل حقيقة تاريخية واحدة مهمة. وهي أن الشعوب العربية كانت في يوم من الأيام أمة واحدة، وكانت تحت إمبراطورية متحدة قوية. وعلى الرغم من أنه لا وجود لها في الوقت الحاضر، كواقع جغرافي وسياسي، إلا أن الأمة العربية قد نجت من حيث اللغة والثقافة والتاريخ والتقاليد والمعتقدات المشتركة، والأهم من ذلك كله الأهداف والطموحات الواحدة، أن تبقى أمة تتطلع للتوحد. لذلك، وفي حين يتعين على المرء أن يتنازل إلى حقيقة أن الأمة العربية ليست أمة بالمعنى التقليدي المعروف في العالم، وأن محاولات خلق هذه الأمة على مدى العقود الماضية قد فشلت، إلا أن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن الأمة العربية والقومية العربية هما حقيقتان قائمتان، ولهما جاذبية نفسية ووجدانية قوية لدى كل العرب، وشكلت الأساس للأيديولوجيات الشعبية العربية، وأن الفشل في تحقيق هدف هذه الوحدة العربية يرجع أساسا إلى إحجام القادة العرب للتخلي عن صلاحياتهم الفردية الديكتاتورية لصالح تقاسم السلطة مع زعماء آخرين، وليس إلى الشعوب التي ما فتئت تناضل من أجلها.

حصاد الماضي

ظهرت جاذبية القومية العربية النفسية والوجدانية في الأيديولوجيات، التي انبثقت من حركات التحرر العربي في أعقاب انهيار الاستعمار. وقد استندت هذه الأيديولوجيات، مثل البعث والناصرية، على مفهوم القومية العربية والوحدة العربية. إذ قامت حركة البعث في سوريا في 1930 كردة فعل محددة لضعف الأمة العربية وفقدانها لسيادتها باعتبارها بلدانا مستعمرة. واعتمد البعثيون على الحجة القائلة بأن العرب يشتركون في اللغة والتاريخ والثقافة الواحدة، وهذا يجعلهم بالضرورة شعب واحد. وبناء عليه، فإنه من الطبيعي أن تكون حالة القوة للعرب في الوحدة، والوضع غير الطبيعي هو حالة الانقسام الذي يورث الضعف والهوان.

النقطة الهامة حول فكرة البعث ليس لأنها أصبحت الإيديولوجية الرسمية في عدد من الدول العربية مثل سوريا والعراق فقط، وإنما لأنها وجدت رواجا كبيرا للغاية بين الجماهير العربية. والأيديولوجية التي لاقت رواجا مماثلا في العالم العربي هي الناصرية، التي ظهرت مع الثورة المصرية في 1952، وقد دعت هي الأخرى إلى فكرة الوحدة العربية واعتبرتها هدفا على جميع الدول العربية أن تعمل للوصول إليه. وكحقيقة يقرها واقع الأمر، فمن الممكن القول إن "الرسالة الخالدة" للعروبة، مع وعدها لخلق وحدة عربية قائمة على نقاء الحالة التاريخية واستعادة روح التضامن، كان واحدا من الأسباب الرئيسية للشعبية الكبيرة للرئيس المصري جمال عبد الناصر، في جميع أنحاء العالم العربي. وتوضح العلاقة بين شعبية القادة ومدى الإعراب علنا عن المشاعر القومية العربية وحتمية توحيد العالم العربي الدرجة التي ترتبط فيها القومية العربية بالهوية العربية؛ كجزء فاعل وأساس. كما أن شعبية القادة العرب اتصلت دائما بتوجهاتهم العامة ومواقفهم تجاه الوحدة العربية، وعلى مدى وضوح مشاعرهم التي أعربوا عنها لمصلحة القومية العربية، أو أن الأيديولوجيات العربية كانت تقوم على أن مبدأ الوحدة، يعبر عن مدى تعلق الجماهير بهذا الشكل من أشكال القومية. والأهم من ذلك، أن العلاقة بين شعبية القادة العرب والأيديولوجيات والطريقة التي يستجيبون بها لحلم الوحدة العربية، توضح أنه على الرغم من حقيقة أن الشعوب العربية هم من مواطني 22 دولة مختلفة، فإنهم يعتبرون أنفسهم مواطنين عربا كذلك، تجمعهم وشائج قربى لا تنفصم.

إن شعبية القومية العربية كهدف سياسي، التي تم التعبير عنها من خلال الأيديولوجيات والقادة، قدمت دفعة قوية إلى محاولات تحويل حلم الأمة العربية المتحدة إلى واقع. وهذه المحاولات قد حدثت بشكل رئيسي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، تحت قيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي اعتمد الخطاب القومي العربي في أطروحاته السياسية. وقد اتخذت القومية العربية خلال هذه الفترة أساسا شكل النضال العربي المشترك من أجل الاستقلال عن الاستعمار، حيث أن الدول العربية المستقلة مثل مصر وسوريا قامتا بمساعدة الدول العربية المستعمرة في نضالها ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي. وقد فعلت مصر ذلك عن طريق إرسال جنود إلى هذه البلدان لمساعدة السكان المحليين في حربهم، ولكن الأهم من ذلك، من خلال الخطاب السياسي، وبث البرامج الإذاعية لجميع العرب، التي تؤكد أن الهدف الحقيقي ليس فقط نيل الحرية من الاستعمار، ولكن العودة إلى الوحدة العضوية العربية الشاملة، والتي يخشاها الغرب ويهدف إلى منعها. وبعبارة أخرى، فإن مطالبات الوحدة خلال هذه الفترة لم تتعد سوى شكل الرغبة في توحيد المواقف القومية العربية، ولكن بدا أن الحالة الطبيعية للدول العربية هي في الاتحاد العضوي، التي بدأت تتحقق في عام 1958 في شكل الاتحاد بين سوريا ومصر. وكان إنشاء الجمهورية العربية المتحدة يمثل الخطوة الأولى نحو وحدة تشمل جميع البلدان العربية. وعلاوة على ذلك، فإن الاستعمار الذي انهار لم يتبعه غير الاتحاد بين بلدين عربيين، اللذان أظهرا تأكيدا للعلاقة بين الانقسام والاستعمار، والتحرر والتوحيد. وبالتالي، فمن الممكن أن نفهم أهمية إنشاء الجمهورية العربية المتحدة لتثبيت هدف القومية العربية، وصحة الأيديولوجيات التي روجت لها، مثل الناصرية والبعث.

التجربة الوحدوية

لقد كانت تجربة الوحدة المصرية السورية في غاية الأهمية بالنسبة لتاريخ القومية العربية، لأنها، وبشكل متناقض تماما، شهدت على نجاح وفشل هذا المفهوم على حد سواء. فمن ناحية، جاءت الوحدة المصرية السورية لتأكيد الفشل بدلا من النجاح القومية العربية وذلك لأن الجمهورية العربية المتحدة بقيت على قيد الحياة لمدة تقل عن ثلاث سنوات. ومن ناحية أخرى، جددت الأمل في أن محاولات التوحيد ما تزال قائمة ولن تموت، رغم أن المحاولات اللاحقة في 1963 من قبل كل من العراق وسوريا لتشكيل الوحدة مع مصر فشلت هي الأخرى، على الرغم من حقيقة أن وثائق التوحيد كانت قد وقعت بالفعل. وفي رأي البعض، فإن انهيار الجمهورية العربية المتحدة، والفشل في وقت لاحق لتشكيل وحدة سياسية بين سوريا ومصر والعراق، على الرغم من حقيقة أن الوثائق قد وقعت ووجدت ترحيبا كبيرا من قبل الشعب العربي، يدل على أن القومية العربية ما هي سوى أضغاث أحلام. إلا أن الرد الذي ينفي هذا التشاؤم يقول إن الفكرة التي ظلت على قيد الحياة على مر القرون لن يهزمها فشل تجربة أو اثنتين، لأنها فكرة أصيلة تذكر بأمجاد الماضي مقابل الإخفاقات الحالية. والمعنى الضمني هنا هو أن القومية العربية تبرز باعتبارها جزيرة الأمل في سياق واقع مرير يعيشه العرب. من هذا المنظور، يمكن للمرء أن يجادل بأن القومية العربية هي متجذرة في وجدان الشعوب العربية التي تأمل إحياء أمجاد الماضي، أو على الأقل، استرجاعها واسترداده لمصلحة سيادتهم.

وعلى الرغم من تكرار فشل محاولات التوحيد، واصل العرب الاعتقاد في الأهداف القومية العربية، وواصلت الأيديولوجيات الترويج لها، حتى فشلها الداوي في 1967. وفي أعقاب هزيمة 1967 للجيوش العربية المتحدة من قبل دولة صغيرة جدا مثل إسرائيل واحتلال أراضي مصرية، وسورية، وأردنية، ولبنانية، وما تبقى من الأراضي الفلسطينية، قال البعض إن القومية العربية المحتضرة قد شطبت من قائمة الأيديولوجيات الحية، وقلت فاعليتها في السياسة الدولية. وبعبارة أخرى، فإن هزيمة 1967 لم تكن فقط عسكرية، ولكن كان الأهم من ذلك، هي الشعور الممض بهزيمة الفكرة القومية العربية، والوحدة العربية، بوصفهما مصدرا للقوة والسلطة. لقد حاربت الجيوش العربية في هذه الحرب كجيش واحد، يمثل موقفا موحدا للدول العربية ضد الدولة العبرية منفردة، ولكنها عانت من واحدة من أسوأ الهزائم في التاريخ. وقد أرسلت هذه الهزيمة إلى الجماهير العربية رسالة مفادها أن حلم القومية العربية، التي تؤدي إلى قوة العرب هو مجرد وهم. لهذا، اعتقد كثير من الكتاب والمحللين أن أهداف الوحدة العربية والقومية العربية قد تمت هزيمتهما في حرب 1967.

ولكن، وعلى الرغم مما ذكره الكتاب والمحللون بأن القومية العربية قد ماتت، وشيعت يوم انهيار الجمهورية العربية المتحدة وهزيمة الجيوش العربية من قبل إسرائيل في 1967، إلا أن الحقيقة تقول إنها لا تزال على قيد الحياة بين الجماهير العربية. وفي السنوات الأخيرة، أثبتت ثلاثة معطيات مهمة إلى أي مدى لا تزال هذه القومية العربية قوية بين الشعوب العربية، حتى إن لم يكن ذلك كذلك بين حكوماتهم. هذه المعطيات هي الأزمة الفلسطينية، والحرب على العراق واحتلالها، والعولمة. فقد حرضت الانتفاضة الفلسطينية ومعاناة الفلسطينيين على القيام باحتجاجات واسعة في جميع أنحاء العالم العربي، وإحياء شعارات القومية العربية. ولم تؤد حرب العراق واحتلاله إلا لتعزيز القومية العربية. ليس فقط أن الشعب العربي رأى الهجوم على العراق بأنه هجوم على دولة عربية، بل رأوه في واقع الأمر وكأنه هجوم على بلدانهم، بل وهجوم مباشر عليهم هم كأشخاص. وبناء على ذلك، سافر العرب من مختلف أنحاء الشرق الأوسط إلى العراق للقتال مع الشعب العراقي وطرد الاحتلال. وساعدتهم تحديات العولمة، وما أظهرته من سوءات الغرب ووحشية هيمنته، وفرص هذه العولمة المتمثلة في وسائل الاتصال وكسر جمود الحدود واختصار الزمان والمكان، ساعدتهم في إعادة اكتشاف ما يجمعهم، وقربتهم إلى بعضهم البعض أكثر من أي وقت مضى. والنقطة الرئيسية هنا هي أن استجابة الجماهير العربية للتحدي الغربي قد برهنت على أن القومية العربية لم تمت على المستوى الجماعي. إنها لا تزال على قيد الحياة، وفي أوقات الأزمات، فإنها تعبر عن نفسها بطرق عدة وبقوة كبيرة، على الأقل على المستوى الشعبي، إن لم يكن على مستوى الحكومات، كما تجلى ذلك في المظاهرات والثورات المتحركةفي الشارع العربي الآن.

وماذا بعد؟

إن القومية العربية، على الرغم من الهزائم المتكررة على مدى القرنين الماضيين، وعلى الرغم من أنها قد تم محاولات خفض توقعات الناس لها إلى مجرد "أحلام يقظة"، أو "يوتوبيا" ماضوية، قد نجت من الموت، ولسبب بسيط هو أنها عقدت ناصيتها على الكتلة الشعبية وليس على الحكومات. وقد نجت ليس بسبب الأيديولوجيات التي حاولت بعثها، بل بسبب الطبيعة الأصلية جدا لجذورها. فقد ثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أن جميع الشعوب العربية تتوق للوحدة الجامعة، ليس فقط الوحدة، في مستوى مفهومها النخبوي الرسمي، التي تعني التقارب والتعاون في حدوده الرسمية الشكلية ومردوداته المتواضعة، والتي تعني ضمنا مؤسسات الدول القُطْرية، كالجامعة العربية وغيرها. ولكن الوحدة التي تنسجم مع رغبة هذه الجماهير المشتركة في المضي قُدُمَاً، ومَعَاً، في التعامل الأفضل مع جميع المعطيات ومواجهة كل التحديات الماثلة، والتي لا يمكن حلها إلا على أساس مشترك، لأنها تهدد الوجود وتتوعد المصير.

لا يهم كثيرا إذا كان هدف القومية العربية هو واقعي أم لا، لأن هذا لم يعد هو القضية الرئيسية، التي تشغل الرأي العام العربي. إنما القضية الحقيقية هي أن يؤخذ هذا الهدف على محمل الجد من قبل الجماهير العربية التي نعتقد أن الوحدة هي الحل لجميع الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تواجه الدول والشعوب العربية. وبعبارة أخرى، فإن مفهوم الأمة العربية ومفهوم القومية العربية يمثلان حقيقة قوية بين الجماهير العربية الثائرة اليوم، لأنهما متجذران في ماضيهم وحاضرهم، وفي نفوسهم وآمالهم، وفي تطلعهم للمستقبل المشترك.

لقد بحثت هذه المقالة، بقراءة عامة، في مفهوم القومية العربية؛ ماضيها وتجاربها، وكيف أثر هذا المفهوم على السياسة العامة في الدول العربية. ونظرت إلى ما هو في الحقيقة حراك جماهيري باتجاه بلوغ الأمة العربية لغاياتها, وبوادر بعث الثورة الشعبية، التي تجتاح العالم العربي، لفكرة الوحدة بين الشعوب العربية. وعرضت لعقبات تاريخية حقيقية عطلت تحقيق هذه الوحدة، ظهر فيها أن هناك ضرورة الآن للتوافق بين الجماهير والقيادات، والتوفيق بين ضيق المشروع القُطْري وسعة المشروع القومي العربي، بما يراعي الواقع ويتجاوز التجزئة نحو الاتحاد العربي. وقد بدأ جليا من قراءة شعارات ومطالب هذه الثورات أنه ينبغي أن يهتم القادة والزعماء العرب بالقضايا القومية والمصيرية، وأن تراعى الدول العربية كفالة الحريات الأساسية، وحساسية التعامل مع قضية الديمقراطية وتداول السلطة. كما ينبغي أن يراعى المشروع العربي المستقبلي متطلبات العلاقات الإستراتيجية مع الجوار الأفريقي، والآسيوي، والأوربي.
_______________
كاتب وجامعي سوداني

ABOUT THE AUTHOR