برحيل مبارك انتهت مرحلة شخصنة الدولة المصرية

يرى طارق البشري أن القيادة الفردية بمصر فككت جهاز الدولة ليلا يكون قيدا على إرادتها الشخصية فتأثرت كافة مناحي الحياة من اقتصاد وتعليم وصحة وزراعة، وصناعة، ولهذا فالدعوات المطالبة بتنحي مبارك وتغيير النظام تهدف للخلاص من حالة الخلل التي أصابت مصر
23 July 2011
20117239347210360_2.jpg

حوار: إميل أمين

يصعب على المرء أن يصف ذاك الذي جرى في بر مصر المحروسة، وباختصار غير مخل يمكن القول إنه "لا وطن إلا مع الحرية" على حد تعبير الإمام محمد عبده، ولذلك كان أمر واجب الوجود أن يسعى المصريون لاستعادة حريتهم المفقودة، واستعادوها عبر ميدان لتحرير وفي وقت وجيز لا يتجاوز الثمانية عشر يوما ما يعتبر إنجازا وإعجازا أعاد المصريون اكتشاف ذواتهم من خلاله فعلا وقولا.

نجحت ثورة 25 يناير.. الحدث جلل والمفاجأة تُعجز اللسانَ عن التعبير.. لكن مؤرخا وفيلسوفا ورجل قانون بوزن المستشار المصري طارق البشري لا يصعب عليه الأمر فالرجل مهنته قراءة أوراق التاريخ وتأمل أحاجي الإنسان فمن درى أخبار من قبله أضاف أعمارا إلى عمره.

في سياق ما عاشته وتعيشه مصر هذه الأيام حاور مركز الجزيرة للدراسات المستشار طارق البشري وهو مفكر ومؤرخ مصري، من أبرز الفقهاء القانونيين المعاصرين، شغل منصب النائب الأول لرئيس مجلس الدولة المصري ورئيسا للجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع عدة سنوات، وتميز بعمق رؤيته ورصانة تحليله.

الثورة المصرية.. قراءة في الأسباب

بداية نتساءل عن الذي شهدته مصر هل هو ثورة بكل معاني الكلمة؟ وإن كانت كذلك فما هي الأدوات التي يمكننا أن نقيس بها حجم وفاعلية تلك الثورة؟

طارق البشري: جرى العرف أننا نقيس الثورة بحجمها وانتشارها واستمرارها والطلبات التي تضعها ، هذا مقياس، وهناك المقياس الماركسي أي أن تخرج من نظام إقطاعي إلى نظام رأسمالي ومن نظام رأسمالي إلى نظام اشتراكي مرتبطا بمراحل التاريخ الكبرى. وفي تقديري أن الثورة ببساطة تقاس بحجم التغيرات الهيكلية الكبيرة التي تحدثها في المجتمع وأقصد بالتغيرات الهيكلية النتائج المترتبة على مطالبها وفعالية تلك المطالب على صعد الحياة المختلفة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، وحال تطبيق هذا الحديث على ما جرى في مصر نجد إننا إزاء ثورة فاعلة بكل المقاييس.

الكثيرون تحدثوا عن أسباب متباينة أدت إلى حدوث الثورة في مصر.. في تقديركم ما هو السبب الجوهري والعلة الرئيس التي أدت إلى الانفجار الأخير؟

- يمكنني القطع بالقول إن مصر عانت من حكم الفرد وهذا ترتب عليه أمراض ومضاعفات أوهنت الجسد المصري، وحكم الفرد أدى إلى شخصنة الحكم وإذا ارتبطت المصلحة الشخصية بالمصلحة العامة واندمجت المصلحة العامة في المصلحة الشخصية للحاكم، ثم ارتبط الحاكم بقدر معين مع أشخاص بذواتهم كممثلين وحيدين للدولة موالين له يأتمرون بأمره ويستفيدون من مزايا قربهم من الكرسي، وأضحوا لاحقا يشاركون في الحكم تحت سيطرته الفردية، واندمجت العلاقة الوظيفية الموضوعية بالعلاقة الذاتية الشخصية ، وتحول المال العام إلى مال خاص ، إذن نحن كنا أمام شبه دولة وليس دولة وهذا ما حدث في مصر في الثلاثين سنة الأخيرة وكان هذا وراء الثورة الأخيرة ولا شك.

هل ترتب على ذلك خلل تكتوني في جسد الدولة المصرية ومؤسساتها المختلفة عبر تلك العقود؟

- هذا حدث بكل تأكيد لا سيما وأن جهاز إدارة الدولة في مصر يختلف عن غيره في عدد كبير من دول العالم العربي فهو الذي يرعى شؤون كل المصريين ويؤديها بشكل اجتماعي ومساهمة فعالة ولا يمكن الاستغناء عنه، هذا بخلاف دول تستطيع الطائفة كما في لبنان أو القبيلة والعشيرة كما جرى في العراق بعد الغزو الأمريكي أن تدبر شؤون الطائفة أو أبناء القبيلة وتدير شؤونها الحياتية باقتدار، مصر لا توجد بها طوائف أو قبائل لذلك فإن كل اعتمادها هو على جهاز الدولة ومؤسساتها، ومع الأسف الشديد فإن هذا الجهاز تعرض في الثلاثين سنة الأخيرة لتفكك وخلل شديدين.

كيف تعاطت الحكومات المصرية في العقود الثلاثة المنصرمة مع أجهزة الدولة؟ وهل كان أمر تفكيكها أو تفتيتها مقصودا وعن وعي أم عن مصادفة؟

- القيادة الفردية في مصر وحرصا منها على الاحتفاظ بفرديتها كاملة فككت جهاز الدولة حتى لا يكون قيدا على إرادتها الشخصية الفردية البحتة، ونتيجة تلقائية لذلك تأثرت كافة مناحي الحياة من اقتصاد وتعليم وصحة وزراعة، وصناعة، ولهذا فإن الدعوات التي طالبت منذ الأيام الأولى للثورة بتنحي رئيس الجمهورية وتغيير النظام إنما كان المقصود بها الخلاص من حالة الخلل المعيب الذي أصاب مصر من جراء هذه الأوضاع المقلوبة.

الثورة المصرية والسند الجماهيري

في الأيام الأولى للثورة خرجت علينا بعض الأصوات تقول إنه حتى ولو اعتبرنا أن في ميدان التحرير 2 مليون نسمة فإن هناك 80 مليونا ربما متفقون مع النظام....هل يستقيم هذا الحديث؟

- هذه فكرة ليست صحيحة أبدا، بل ومغالطة شديدة، فمن قال إن الـ80 مليون الباقين كانوا يدعمون أو يؤيدون النظام؟ صاحب هذا الرأي يحمل صمت الآخرين على أنه تأييد له، هؤلاء بهم من النسوة ومن الأطفال ومن الأميين ومن الذين لا يدركون معنى ومبنى المشاركة السياسية القدر الأكبر، ولا شك وبهذا فإن إرادتهم السياسية غير حاضرة في الحسابات. وهنا أشير إلى أمر مهم، ففي علم الاقتصاد نحن نستخدم أحيانا تعير"الطلب الفعال" أي الطلب الذي يستطيع أن يتعامل بفعالية ويشتري بفعالية، وما جرى في ميدان التحرير هو نوع من أنواع الحركة الشعبية الفعالة والرأي العام الفعال هو الذي يؤثر وقد أثر فعلا.

ثم هناك أمر أخر يتمثل في المشاركة الجماهيرية التصاعدية، وأقصد بذلك أن الناس كانت تشارك بطريقة تصاعدية مثيرة للدهشة، إذ تبدأ المشاركة في حي أو شارع صغير بعدد من الأفراد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ثم مع المرور على المنازل والأحياء المجاورة، تتوالى المشاركات، لنفاجئ لاحقا بأن العشرات أخذوا في التحول إلى الآلاف ثم الملايين كما في الأيام الأخيرة.

في فترة السجال التي امتدت على نحو 18 يوما كان الرئيس مبارك يروج للخوف من حدوث فوضى إذا هو رحل وعقب رحيله لم تحدث فوضى بالفعل.. ما دلالة ذلك في تقديرك؟

هذا الإدراك يعود في ظني إلى الإشكالية التي سبق أن أشرنا إليها وهي إشكالية الشخصنة ، فكرة أنا الدولة، تشخصنت الدولة في شخصه فشعر أنه كل شيء، بحيث إذا غاب ستكون فوضى، وأنا كنت أتصور أن هذا البلد سيكون أكثر انتظاما وانضباطا وأكثر هدوءا واستقرارا بتنحيه، وهذا ما حدث لأنه كان عنصر قلق في المجتمع والحياة المصرية وليس عنصر استقرار.

إشكالية النظام المصري السابق هو أنه غلب المشيئة الذاتية الشخصية على المتطلبات الاجتماعية والموضوعية، وأنت متى غلبت المشيئة الذاتية أصبحت تغلب الهوى على المتطلبات الموضوعية للمجتمع واحتياجاته.

قبل ثورة 25 يناير كان الجميع ينظر للمصريين وكأن حالة من الموات الأدبي قد بسطت أجنحتها عليهم... لكن ما حدث أثبت العكس... علامة الاستفهام كيف استفاق المصريون على نحو ما رأينا؟

بوصفي دارسا للتاريخ المصري وخصوصا التاريخ المصري الحديث أقول إن حالة الاستفاقة هذه هي صفة ثابتة عبر التاريخ في جينات الشعب المصري في أوقات الموات هذه. ما جرى في 25 يناير/كانون الثاني عام 2011 مشابه جدا لما حدث في عام 1919، ذلك أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وبدء مباحثات السلام في باريس ذهب 3 أفراد من كبار رجال مصر لمقابلة المندوب السامي البريطاني حتى يسمح لهم بالسفر إلى لندن للمطالبة بالاستقلال، كان هذا في 18 نوفمبر/تشرين الأول 1918، ولما رفض السماح لهم بالسفر تخلقت حالة من التعبئة الشعبية المصرية الرافضة لموقف المحتل، وقتها كان سعد يقول "القارعة لا بد من قارعة"، وفي 8 مارس/ آذار 1919 وقعت القارعة يوم قبض عليه هو و 3 من رفقائه ونفوا، لم يكونوا بعد قد بلغوا مقصدهم فإذا بالثورة تقوم في طول مصر وعرضها وقد تفاجئوا بحجمها وانتشارها... وما أشبه اليوم بالبارحة فالحركات الاحتجاجية والاعتصامات في مصر كانت القارعة التي تعاظمت منذ عام 2005 على نحو جزئي، ما يعني أن المصريين لم يكونوا موتى أدبيان وما جرى في 25 يناير/كانون الثاني هو انتفاضة غير مسبوقة كلية وشاملة، أكدت أنهم باقون أحياء فاعلون.

الجيش والشرطة.. مواقف مختلفة

في مقال أخير لكم قلتم إن "حركة 25 يناير" أعادت للقوات المسلحة بريقها الذي كان قبل عهد مبارك.. كيف ذلك والرجل كان من أبناء المؤسسة العسكرية؟

- رغم أن حسني مبارك بالفعل من أبناء الجيش وعمل قائدا للقوات الجوية إلا أنه عندما تولى الحكم تحول بعد ذلك من أن يراعي وضع الجيش إلى أن يعتمد أساسا على الشرطة والأمن وليس على الجيش بخلاف ما كان قائما من قبل، أصبح عدد الشرطة حوالي مليون وربع، في حين أصبح عدد الجيش حوالي 480 ألف، كما أن ميزانية الشرطة تعاظمت بدورها، ثم ارتفع الدور السياسي للشرطة إلى أعلى عليين، في حين أن الجيش بقي بعيدا تماما في تلك الفترة ولم يكن هذا أيام عبد الناصر أو أيام السادات، فقد كان الأدوار مرسومة بعناية الجيش لخدمة الأمن القومي المصري والشرطة لخدمة الشعب لا الحاكم، لكن إشكالية الشخصنة تؤدي إلى يقين بأن الحاكم هو الوطن وهو الدولة دون غيره من المواطنين.

كيف تقرا ما جرى في نهار الجمعة 28 يناير من انسحاب لقوات الشرطة؟ وهل هناك في صفحات كتاب مصر مواقف مشابه لمثل هذا الانسحاب المخزي الذي روع المصريين؟

- هذه أول مرة في التاريخ نرى انسحابا للشرطة على هذا النحو ويخيل إلي أنه يصعب جدا القول بأن الارتباك يؤدي إلى سحب قيادات الشرطة لقواتها التي تحمي الشعب وتحمي المنشآت العامة والخاصة، تسحبه تماما من الفعالية من أهم مدن مصر، هذا أمر غير ممكن تصوره.

هناك تحليلات تعزو المشهد إلى أنه محاولة من قبل قيادات الشرطة لتوريط الجيش على أساس أنه إذا كنتم قد استعنتم بالجيش فسندع الجيش يواجه بمفرده الثورة وهذا وارد. بمعنى أنه عمد إلى تصعيب مهمة الجيش في حفظ الأمن، وهذا يعني أن الشرطة كانت تعتبر نفسها عمود ارتكاز السلطة، رغم أنه دائما وفي كل دول العالم تشكل الجيوش عمود ارتكاز السلطة وليست الشرطة، الشرطة فقط لإدارة الحياة اليومية، بينما في النهاية أي اضطراب يحدث في أي دولة تعجز عنه الشرطة يتم اللجوء إلى الجيش.

وهنا نتذكر مقولة ماكس فيبر "الدولة هي المؤسسة التي تحتكر العنف المشروع"، لكن ما حدث في مصر مؤخرا فيه كثير من خلط الأوراق المتعمد لمصلحة الشخصنة.

ما جرى من سيناريوهات للاعتداء على أقسام الشرطة ثم السجون وإطلاق المساجين هل يحمل شبهة مؤامرة من قبل وزارة الداخلية في هذا السياق؟

- في عالم القانون كثيرا ما نستخدم تعبير "القدر المتيقن" وبالنسبة لي فإن القدر المتيقن حتى الساعة هو أن الحركة الشعبية الثورية التي قامت في 25 يناير/كانون الثاني ليس لها دخل في هذا الأمر لأنها أثبتت بالفعل أنها سلمية في ثوب عصيان مدني متكامل وبعيدة تماما عن العنف وقد أثبتت هذا بشكل لا تردد فيه ولم نجد أي خطا من قبلها.....من يقف أمام العنف إذن؟

الحكومة لم تقل أبدا إن شباب 25 يناير لجئوا إلى العنف، لاحقا سيتكشف من كان يقف وراء ما جرى للأقسام وللسجون ولإطلاق الرعب في قلوب الناس وترويع الآمنين من بعد ذلك، والغريب جدا أن حركة الاحتجاج الشعبي نراها سلمية في حين نرى الدولة بما تملك من قوة هي التي استخدمت العنف ضدهم ولجأت إلى أفراد العصابات والبلطجية والعنف العشوائي وهذه ظاهرة غريبة جدا وتحتاج إلى أن نحللها لاحقا ونرى أبعادها من قبل علماء الاجتماع والمفكرين.

الإخوان المسلمون أين نصنفهم؟

هناك مخاوف كثير لدى قطاع واسع من المصريين من أن تكون حركة 25 يناير هي مقدمة لأن تضحي مصر إيران ثانية من خلال الإخوان المسلمين إلى أي مدى يمكن أن يكون هذا صحيحا؟

- أنا أرى أن فكر الإخوان في مصر بعيد كل البعد عن أن يكون له أي وصل أو اتصال مع فكر آيات الله في إيران، الإخوان ظلوا منذ تأسيس جماعتهم حتى اليوم تنظيم سني أشعري، ولأنهم تنظيم سني أشعري فهم لا يعادون الشيعة لكن بعيدون عنها، ولم يظهر أبدا أن هناك علاقات تنظيمية بين الإخوان وبين إيران، بل أكثر من ذلك لأنهم أشعرية فهم بعيدون كذلك عن السلفية السعودية رغم تأثرهم بعض الشيء في الفترة الأخيرة مع هذا الأمر. ومصر برمتها هي دولة سنية إلى الأعماق رغم أنهم يجبون آل البيت جدا ولذلك يقال دائما إن مصر دولة سنية المذهب شيعية الهوى، حتى الصوفية في مصر يحبون آل البيت وإن كانوا في الواقع سنة وبعيدين عن الشيعة.

لماذا إذن المخاوف المتصاعدة لا سيما في الغرب من تكرار ما جرى في إيران مرة أخرى في أرض الكنانة؟ ثم لماذا نجد أن النسق السياسي الإيراني مرحب به عند البعض؟

- الإشكالية في الفكر الغربي المعاصر هي أنه منذ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول من عام 2001 وحتى الساعة هناك حالة خوف وفزع من أي حركة إسلامية تظهر على سطح الأحداث وأي حركة إسلامية باتت تفسر على أنها تكرار للنموذج الإيراني أو توصم بأنها حركة إرهابية ، أي حركة مقاومة شرعية تصبغ بأنها حركة مقاومة إسلامية إرهابية.. السؤال الآن لماذا تجد بعض من التعاطف مع إيران في العالم العربي والإسلامي أو بعض من دوله على الأقل؟

سبب التعاطف مع إيران في تقديري يرجع إلى مواقف إيران الاستقلالية وليس لمواقفها المذهبية فهي ترفض الهيمنة الأمريكية وترفض السير في ركابها وترفض البطش الإسرائيلي وتريد أن تكون دولة صانعة قرار، وهذا ما يحاول البعض طمسه تجاه فكرة إيران الحديثة.

هل كان الإخوان المسلمين بشكل عام وراء ما جرى في ميدان التحرير من ثورة 25 يناير؟

- لا أظن ذلك وإن كانوا قد ساهموا بفعالية، الإخوان فيما أعرف اشتركوا في الحركة كجزء منها والملاحظ أنهم اشتركوا دون استخدام شعاراتهم التقليدية "مثل الإسلام هو الحل"، أو الله اكبر ولله الحمد وإلى أخر تلك الشعارات، بل رفعوا الشعارات الوطنية البحتة والشعارات السياسية كالمطالبة بالديمقراطية البحتة ولم يظهر في المظاهرات طابع الإخوان التقليدي، كان شبابهم هناك دون أن يرتدوا بردة الإخوان، وبغير أن تكون المظاهرات لحساب الإخوان وهنا أحب أن أؤكد على أن حركة الإخوان المسلمين كانت موجودة فعلا كحركة وطنية عامة وليست إخوانية فقط.

هل يمكن القول إن "فزاعة الإخوان" التي قيل إن النظام قد استخدمها لعقود طويلة في مواجهة الضغوطات الداعية للدمقرطة قد سقطت مع حركة 25 يناير؟

- نعم سقطت تلك الفزاعة وقد كانت الحكومة تستفيد منها أساسا في اكتساب دعم الأمريكيين لها، كانت دائما تخيف الأمريكيين والأمريكيين في سعيهم الاستعماري ضد بلادنا أرادوا أن يحول الصراع الاستعماري إلى صراع ثقافي، مواقفهم مواقف استعمارية وهذا سياسة، مقاومتنا لهم مقاومة وطنية وهذه سياسة، هم من بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وضعوا مسالة الصراع السياسي مع الإسلام والمسلمين في إطار ثقافي لكن البعد الرئيس في الموضوع كان سياسي، والحكومة المصرية السابقة في انصياعها للأمريكيين أخذت هذه الفكرة وطبقتها لأنها فعلا لم تكن تريد أن تحي المقاومة الوطنية بالمعنى الوطني، فوضعت المشهد على انه صراع مع جماعات إرهابية إسلامية، وذهبت للأمريكيين تستجدي عطفهم عليها ودعمهم لها

أمريكا وإسرائيل.. استيعاب الدرس

بدا المشهد الأمريكي منذ بدايات ثورة الشباب متناقضا ولم يحسم الأمريكيون موقفهم مع أو ضد النظام أو في الجهة المقابلة حتى نهاية الأحداث..كيف تفسر هذا الاضطراب الذي جرى ولماذا جرى؟

اتفق معك أن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية بدت وكأنها مرتبكة ولكن هذا الارتباك يمكن أن نفهمه في إطار فشل أوسع تعيشه الولايات المتحدة الأمريكية لا يتعلق فقط بمصر بل ببقية العالم، فالولايات المتحدة الأمريكية ومنذ سقوط الاتحاد السوفيتي بدت وكأنها البلد الذي لا يتحداه أحد أو بلد أو جماعة دولية ما، وأعلنت نفسها في موقع إدارة العالم، وأظن أنها فشلت في إدارة العالم لأنها ببساطة لا تعرف كيف تديره، أقامت حروبا في العراق وأفغانستان بشكل غير عادي يكلفها الكثير جدا ولا ينتهي ولن ينتهي لمصلحتها، وقفت في مواجهة الصين والهند بشكل خاص وفي مواجه بقية الحركات التحررية في العالم وكذلك القوى الصاعدة في أمريكا اللاتينية، وقد فشلت في أن تلبس ثوب المهيمن حول العالم الذي لفظها، وأعتقد أن مصر المقبلة لن تعرف حالة الخضوع المطلق الذي كانت عليه في نظام مبارك، وأيا كان الوضع فإن العلاقة مع الأمريكيين ستأخذ منحى مغاير.

أثناء الثمانية عشر يوما رأينا إسرائيل ترتعد فرائصها مما يجري ولم تطمئن -وربما جزئيا - إلا بعد البيان الرابع للقوات المسلحة المصرية بأن مصر تلتزم بالمعاهدات الدولية التي وقعتها أي كامب ديفيد.. ماذا وراء هذا الخوف في تقديرك؟

- إسرائيل تاريخيا زرعت في هذه المنطقة حتى تضحى في مواجهة مصر أكبر دولة عربية محورية، والأمريكيون يريدون لإسرائيل أن تأخذ موقع وموضع مصر، وغاب عن الأمريكيين والغرب أن القضية ليست تسليحا فقط ومن يملك أكبر ترسانة عسكرية حتى لو كانت إسرائيل، الدور المصري والحضور المصري لا يعتمد فقط على القدرات العسكرية أو الاقتصادية إنما يرتبط بالأساس الثقافي الواحد بين مصر وبين الدول العربية والشعب العربي وبخاصة في منطقة الشام بالذات.

إسرائيل كانت وستظل تهديدا للأمن القومي المصري، عندما ننظر إلى بدايات بلورة فكرة قيام دولة إسرائيل، كان مرشح لها إما فلسطين للأسباب التاريخية التوراتية أو أعالي النيل، وهذا تفكير الانجليز قبل الأمريكان حتى تبقى تهديدا لمصر أما من الجنوب ومصادر مياه النيل وإما من البوابة الشمالية الشرقية التي جاءت منها تاريخيا كافة القوى التي هاجمت مصر، وعلى هذا فان صراع العالم العربي مع إسرائيل هو صراع عضوي، صراع وجود وليس إشكاليات حدود.

مرة أخرى لماذا نرى إسرائيل في علاقتها مع مصر وبقية العالم العربي أكثر خوفا رغم ترسانتها العسكرية التقليدية غير المسبوقة في المنطقة بجانب ترسانتها النووية غير المعلن عنها؟

إشكالية إسرائيل في واقع الحال هي أنها كلما تقوي تخاف، وهذه إشكالية صاحب القوة المستبدة، هي تخشى من حماس المسيطرة على مليون ونصف المليون فلسطيني محاصرين وجائعين وغير مسلحين إلا بأشياء لا تضر كثيرا، إسرائيل بكل قدراتها العسكرية والعلمية خائفة والخوف واضح على محياها في كل ما يتعلق بها من أمور حياتية، هي تشعر أنها كائن غريب في المنطقة أكثر مما يشعر العرب أو المسلمين أنها كذلك، هل رأيت دولة تقيم الأسوار من حولها؟ سور يفصل بينها وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية ليفصلها عنها والآن تفكر في بناء سور مع مصر بعرض 140 كيلومتر، هي من جديد تقوم بعمل اكبر جيتو و حارة يهود معاصرة لها في التاريخ وخوفها هذا سيقتلها إن آجلا أو عاجلا.

الثورة المصرية قضت على الاحتقان الطائفي

إلى أي حد ومد أظهرت ثورة 25 يناير تلاحما بين عنصري الأمة من الأقباط والمسلمين وأظهرت التضامن الحقيقي ونزعت عن مصر فكرة الطائفية التي كانت تلاحقها في العقدين الأخيرين على نحو خاص؟

- في حقيقة الأمر وفي أوج ما كان يقال عن وجود احتقان طائفي بين الأقباط والمسلمين في مصر كنت أشعر دائما في قرارة نفسي بأن الأمر لا يتجاوز سحابة صيف ستنقشع بأسرع وقت، ذلك لأن هناك روابط حقيقية بين المصريين وبعضهم البعض، روابط الدم والتاريخ والجغرافية، وأعتقد أن كل ما كان يقال من انعزال للأقباط أو انطواء لهم أو سلبية وتفضيل الابتعاد عن العمل العام والسياسي منه على وجه خاص كان من نتائج حكم الرئيس مبارك، ومن أسف قد لقي صدى عند بعض الأقباط والمسلمين على حد سواء.

أما المشهد الغريب والعجيب الذي أفرزته ثورة 25 يناير فتجلى في أن أي أحاديث عن تلك الاحتقانات قد زال تلقائيا في أحداث حركة الشباب بل إن كنيسة واحدة في القاهرة لم تتعرض لأي محاولة اعتداء كما أن كثيرا من شباب المسلمين قد وقفوا لحراسة الكنائس في مصر على قلب رجل واحد وهذه هي صورة مصر الحقيقية لا المنحولة.

في الأسابيع الأخيرة ترددت معلومات منسوبة إلى بعض مصادر الاستخبارات البريطانية تقول بأن وزير الداخلية المصري حبيب العادلي ومن خلال تنظيم خاص سري كان يترأسه داخل الوزارة هو السبب وراء الاعتداء على كنيسة الإسكندرية مؤخرا... هل يعقل هذا الحديث؟

- هذا سيظهر من خلال التحقيقات وسنعرف من الذي كان وراء هذا الحادث الإجرامي غير الإنساني، في البداية كنا نستبعد أن يكون احد أجهزة الدولة هو من قام بهذا الاعتداء، الدولة المصرية في يقين الجميع لم يكن لها أبدا أن تقوم على عمل مثل هذا، وكانت أصابع الاتهام في بداية الأمر قد توجهت إلى إسرائيل أو القاعدة من أجل إحداث خلل في البنية التحتية والعلاقات الاجتماعية بين المصريين، أيضا كانت ثقافتي وتاريخي كمؤرخ يستبعد فرضية أن يكون جهاز الشرطة وراء مثل هذا الحادث الإرهابي فالشرطة هدفها الرئيس منع الجريمة والقبض على المجرم... لكن في حقيقة الأمر بعد ما جرى نهار 28 يناير/كانون الثاني.. بات هناك الكثير من علامات الاستفهام فمن يسحب قوات الشرطة تماما من الشوارع ويفقد المصريين أمنهم على حياتهم وممتلكاتهم وثرواتهم، ومن يطلق المساجين والأشقياء من السجون، يمكن بحسب تفكيري الأولي أن يكون وراء ما جرى حتى تمتلئ مصر فسادا ورعبا وخوفا من أجل إجهاض الثورة، ومن يصنع هذه ربما يفعل تلك.

هل في تقديرك الشخصي ربما تكون هناك علاقة ما بين الانتخابات التشريعية الأخيرة في مصر ومشهد جريمة كنيسة الإسكندرية؟

- طوال المدة التي أعقبت حادثة الإسكندرية كنت أشعر أن المستفيد الأكبر من هذا الحادث هو النظام المصري الذي كان قائما قبل أحداث 25 يناير/كانون الثاني، الانتخابات البرلمانية والتشريعية الأخيرة لم تفاجئنا بسبب ما جرى فيها من تزوير، هناك سبعة انتخابات حدثت في عهد مبارك وجميعها امتلأت تزويرا، وكان في أعقاب كل انتخابات تحصل حالة من السخط ، ثم فجأة يظهر على السطح حادث ما يغطي على أخبار الانتخابات وجرائم التزوير، هكذا كان السيناريو دائما وأبدا، دائما كانت الحكومات تسعى لحدث يصرف أذهان الناس وألسنتهم عما حدث، بعد الانتخابات الأخيرة طفت على السطح قضية التجسس الإسرائيلي على مصر لكن يبدو أن هذا لم يكن كافيا، ولذلك جاءت حادثة الإسكندرية فصرفت فعلا أذهان ملايين المصريين عن ما جرى في الانتخابات، لأن تلك الحادثة كانت جرحا نافذا في نفوس وقلوب المصريين عن بكرة أبيهم مسلميهم قبل مسيحيهم، وقد استشعر المسلمون على نحو خاص الخطر لأن طبيعة الجريمة لا تتفق مع الخصائص النفسية للشعب المصري.

الداخل المصري على المحك

كيف رأيت كمشاهد ومراقب وربما كحكم حال الإعلام المصري في أيام الثورة وقبل أن يتخلى الرئيس مبارك عن سلطاته؟

- حال الإعلام المصري كبقية حال مؤسسات الدولة هيمنت عليه الشخصنة لذلك فإن القائمين عليه يتصورون أنهم الدولة وهذا شعور المستبد وقديما قال المفكر العروبي الكبير عبد الرحمن الكواكبي إن المستبد رغم قوته وبطشه يشعر على الدوام في داخله بالضعف، ولذلك يلجأ إلى الأكاذيب لتغطية مواقفه لهذا رأينا في الثورة الأخيرة مشاهد عجيبة، متظاهرون مسالمون من أفضل شباب وشابات مصريين في مواجهة جحافل من الشرطة المدججة بأسلحة قوية وفتاكة ولذلك سقط أكثر من ثلاثمائة شهيد وآلاف الجرحى، الإعلام المصري لم يكن موضوعيا أبدا فقد حاول في بداية الأمر تصوير المشهد على أنه نتيجة عملاء من الخارج مندسون في وسط الناس، وتاليا حاول إلباس التهمة للإخوان المسلمين على أساس أنها فعلتهم بالمطلق ولم يكن لا هذا ولا ذاك صحيحا، غابت عنه الموضوعية والأمانة وفقد مصداقيته.

على هامش الأحداث ظهرت لجان كثر جميعها تحمل اسم لجان الحكماء وذهبت إلى الحوار كوسيلة للتعاطي مع المشهد.. هل ترى أنه كان يمكن أن تثمر شيئا قبل أن يتخلى الرئيس عن منصبه؟

- ما حصل قد حصل، وفي كل الأحوال الحوار واجب وأمر حتمي، لابد للناس من أن تعرف بعضها البعض وتطمئن لبعضها البعض، شريطة ألا يكون هذا الحوار هو أداة لتفريغ الحركة من محتواها النبيل الذي قامت من أجله، بل يجب أن تتمسك بصلابتها وبمواقفها فنجاح أي حركة تحررية ثورية يعتمد إلى درجة بعيدة على ثباتها على الأرض وهذا أمر يحتاج إلى نفس طويل وصبر وقدرة على اكتشاف أعماق الأشياء وبعيدا عن أصحاب النظر القصير و العقل الأسير.

ما ذا بعد الثورتين المصرية والتونسية؟

لماذا تطفو على السطح دائما وأبدا في عالمنا العربي فكرة المؤامرة، كلما يحدث خطب جلل من نوعية 25 يناير، و من قبلها ما جرى في تونس وربما ما سنشهده في عدد أخر من الدول العربية؟

- التخطيط السياسي ليس مؤامرة، هو استراتيجيات تضعها القوى الحقيقية الفعالة على الأرض، الانجليز على سبيل المثال في بداية القرن العشرين عندما أرادوا بذر الفتنة بين المصريين وبعضهم البعض لم يكونوا يتآمرون، هذا شكل من أشكال التخطيط ولاحقا التنفيذ السياسي من قبلهم ونحن نفهمه على أنه مؤامرة، وهذه إشكالية طرح القضايا من قبل الآخرين وليس من قبل الذات.

لكن ألا يعني هذا أن هناك دوما وأبدا من يدبر لهذه المنطقة "تخطيط سياسي" وليس مؤامرة مضادة لمصالحها الفعلية ووحدتها وحلم اندماجها؟

- من ينظر إلى التحولات التي جرت في مصر منذ كامب ديفيد حتى اليوم يرى أنه كانت بالفعل هناك رؤى لفصل مصر عن محيطها العربي، وما جرى من ثورات شبابية عربية مؤخرا أثار من جديد هواجس الوحدة العربية ورغم أنها لا تثور بالشكل المطلوب إلا أن هناك بالفعل حالة من حالات التجاذب والتفاعل بين الدول العربية تمارس من خلاله نوع من أنواع التوحد، وتاريخيا في هذه المنطقة نجد أنه لم تستقل أي من تلك الدول إلا بنوع من التفاعل والتقارب أو التوحد بدرجات متفاوتة بين مثلث رؤوسه هي القاهرة ودمشق والحجاز، وهذا الخط الممتد بين هذه العواصم الثلاث دائما نجده مكسورا، بمعنى أنه عندما تستقيم العلاقة بين القاهرة ودمشق تفسد مع الحجاز وعندما تصفو الأجواء بين الحجاز ودمشق هناك من يبعد القاهرة وهكذا تشعر دائما ان يدا خفية تلعب دورا واضحا في التفرقة بين شعوب تلك المنطقة ولا تريد لها أي شكل من أشكال الرؤية الموحدة.

ماذا عن نصيحتك كرجل عاش فعليا وفكريا وبخاصة كمؤرخ ثورات كثيرة لحركة 25 يناير بعد رحيل الرئيس مبارك عن سدة الحكم؟

- نصيحتي للشباب هي البقاء على مواقعهم، بالمعنى الفكري وليس الجغرافي، أي التصميم والعزيمة على بقاء هذا الجيشان الشعبي المطالب بالتغيير والإصلاح والتصحيح حتى تؤتي الثورة بثمارها الحقيقة والتي كان تخلى الرئيس مبارك عن الحكم أول واهم نتائجها لكن الطريق وعر وطويل وفي حاجة الى أناس يفكرون بعزم ويعملون بحزم ينبهون الناس ويرفعون الالتباس ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون كما يقول الأستاذ الكواكبي.

ABOUT THE AUTHOR