لقد أحرجت الثورات العربية دبلوماسيات القوى الغربية التي وجدت نفسها مضطرة للتكيف مع الوضع الجديد. وكانت هذه حالة فرنسا التي كان عليها أن تغير وزير خارجيتها في خضم العاصفة التونسية مباشرة بعد سقوط نظام بن علي الذي لم تفتأ تسانده؛ فالرعب من تولي الإسلاميين للسلطة في تونس أو الجزائر ظل يبرر دعم أنظمة سلطوية وفاسدة كانت تُعتبر بمثابة درع ضد التهديد الإسلامي. لكن "ثورة الياسمين" فرضت نظرة مغايرة فبات على فرنسا أن تتأقلم مع فكرة مؤدَّاها أن الأنظمة المستبدة منبتة عن شعوبها ولا مستقبل لها. وهكذا حاولت فرنسا تدارك أمرها لئلاّ تضيع عليها فرص تاريخية.
الدبلوماسية الفرنسية قبل الثورات العربية
ترتبط فرنسا بعلاقات وطيدة مع العالم العربي وخاصة المنطقة المغاربية التي لها فيها مصالح اقتصادية ولغوية معتبرة. وقد اتبعت مختلف الحكومات الفرنسية، يمينية كانت أو يسارية، دبلوماسية تخدم مصالح الشركات الفرنسية وتعزز موقفها التنافسي أمام نظيراتها الأوربية، خاصة وأن العالم العربي يُعتبر، نظرًا لما يزخر به من مواد خام وعلى رأسها النفط، سوقًا في أوج التوسع تستقطب منافسًا جديدًا هو الشركات الصينية.
وإذا كانت الأنظمة العربية تُنتقد في المجالس الخاصة نظرًا لاستبدادها فإن باريس على المستوى الرسمي لا تدخر جهدًا في سبيل الحفاظ على علاقات ثقة متبادلة تبلغ حد المجاملة مع هذه الأنظمة. وقد جسَّد هذه السياسة خطاب جاك شيراك الذي أكَّد فيه أثناء زيارة رسمية لتونس عام 2003 بحضور مضيفه زين العابدين بن علي أن "أول حقوق الشعوب هو حق الأكل". وكان يرد ضمنيًّا على المنظمات غير الحكومية الناشطة في مجال حقوق الإنسان التي كانت تتهمه بحماية دكتاتور يقمع معارضيه بقسوة بالغة. وكان شيراك يرى أن استقرار تونس الاقتصادي حجة كافية لتبرير غض الطرف عن خروقات حقوق الإنسان التي يرتكبها نظام بن علي الذي كان يُعتبر في نظر فرنسا آنذاك- درعًا ضد "الخطر الإسلامي".
وبلغت المجاملة حدًّا أكبر عندما زارت رسميًّا وزيرة الخارجية ميشل آليو ماري في آخر شهر ديسمبر/كانون الأول 2010 تونس في خضم الثورة الشعبية. وتم تمديد الزيارة بإقامة عائلية خاصة تلبية لدعوة من رجل أعمال تونسي ثري مقرَّب من بن علي. وتحت صدمة القمع الذي أفضى إلى قتل عشرات الأشخاص اتهمت جرائد كثيرة في فرنسا السيدة آليو ماري بدعم نظام بن علي الذي كان يقمع مظاهرات سلمية. ولما جاءت الوزيرة إلى الجمعية الوطنية للدفاع عن نفسها زادت الطين بلة عندما قالت: إن على فرنسا أن تساعد أجهزة الأمن التونسية التي ينقصها الاحتراف في مهمة الحفاظ على الأمن العام. وكان معنى هذا بوضوح أن على فرنسا أن تساعد الأنظمة الاستبدادية على معرفة طرق قمع المعارضين والمظاهرات.
تصحيح المسار الدبلوماسي
عندما أحس ساركوزي باقتراب العاصفة التي أثارتها تصريحات آليو ماري، وشعر بوشوك سقوط بن علي استبدل السيدة آليو ماري بآلين جوبيه، وناط به مهمة تصحيح صورة فرنسا لدى العرب؛ ولهذا الغرض قام الوزير الجديد بزيارة لتونس لتأكيد دعم فرنسا للشعب التونسي "الناضج للديمقراطية" بعد سقوط بن علي الذي رفضت فرنسا منحه اللجوء السياسي. كما شجب نظام حسني مبارك لقسوته مع المتظاهرين. وعشية سقوط الرئيس المصري سارع آلين جوبيه بالسفر إلى القاهرة وزار ميدان التحرير في وقتٍ ما تزال فيه بادية للعيان آثار المواجهات هناك بين أجهزة أمن النظام البائد وبين المتظاهرين.
واستيعابًا للدرس التونسي كان نيكولاس ساركوزي أول رئيس أوربي يستقبل في باريس ويشجع المتمردين الليبيين لدى انطلاق الانتفاضة. وقام بتعبئة الحلفاء وخاصة ألمانيا التي كانت مترددة من أجل إدانة نظام القذافي من قبل مجلس الأمن الذي فوَّض حلف شمال الأطلسي لحماية السكان المدنيين. وعندما ثارت بنغازي أحس ساركوزي بأنه بالإمكان التخلص من القذافي الذي يُكِنُّ له الفرنسيون والإنجليز حقدًا دفينًا نتيجة تفجير الطائرتين فوق النيجر ولوكيربي. وقد تبينت فاعلية الإسترتيجية التي اعتمدها ساركوزي في منع القذافي من استخدام طائراته ومدرعاته ضد الخارجين عليه. وعلى المستوى الدولي لا مراء في أن أكبر منتصر في سقوط النظام الليبي هو ساركوزي الذي سافر إلى طرابلس رفقة ديفيد كاميرون ليحظى بتصفيق الجمهور المبتهج الذي جاء لمتابعة خطابه.
ولكن كيف سيترجم ساركوزي هذا النصر السياسي إلى تقدم دبلوماسي مستدام في المنطقة؟ يمكن القول: إن نصر ساركوزي في ليبيا يعوق علاقاته بالجزائر التي تتوجس من أي حضور عسكري فرنسي على حدودها. فأكبر مشكلة تواجه الدبلوماسية الفرنسية في المنطقة لا تنبع من تونس أو مصر أو ليبيا وإنما من الجزائر التي ظلت علاقاتها بباريس صعبة. ويشكو الدبلوماسيون الفرنسيون من أنه ليس لهم في الجزائر نظراء معروفون يمكن التباحث معهم. ولديهم شعور بأن الرئيس بوتفليقة لا يملك من السلطة ما يفرض به خياراته في مجال السياسة الخارجية، وأنه يتبع توجيهات الجنرالات.
ويتهم الجنرالات الجزائريون ساركوزي بالسعي إلى إضعافهم من خلال استغلال مذابح المدنيين في التسعينيات، وخاصة اغتيال أساقفة تيبيرين التي تناولها فيلم سينمائي لقي نجاحًا واسعًا وحظي بجائزة في مهرجان "كان" وأفلام وثائقية تلفزيونية وكُتَّاب. وقد يؤثر الأمر على التحقيق القضائي الذي فُتح في باريس حول الموضوع وإمكان صدور مذكرات توقيف دولية ضد الضباط الجزائريين الضالعين في عملية الاغتيال. وإذا أضفنا إلى هذا مآخذ الرسميين الجزائريين على الحكومات الفرنسية (ضعف استثمارات المؤسسات الفرنسية، دعم الموقف المغربي من الصحراء الغربية، شُحّ سياسة التأشيرات...)، فسيتضح لنا مدى سوء العلاقات بين البلدين.
ويقابل سوء العلاقات الرسمية متانة العلاقات بين المجتمعين؛ فهناك نحو 4 ملايين جزائري يعيشون في فرنسا، أكثر من نصفهم حاصل على جنسية البلدين. وهناك يوميًّا آلاف الجزائريين ينتقلون جوًّا وبحرًا بين فرنسا والجزائر. وفي يوليو/تموز الماضي أثار إضراب للخطوط الجوية الجزائرية استمر 4 أيام احتجاجات في مطارات باريس ومرسيليا وليون؛ مما دفع وزير الداخلية الفرنسي إلى مطالبة السلطات الجزائرية بإيجاد حل لنقل المسافرين الغاضبين.
وبالنسبة للحكومة الفرنسية فإن الجزائر ليست بلدًا أجنبيًّا كسائر البلدان؛ فهي امتداد ذو بُعد دبلوماسي للأحياء الفقيرة الفرنسية. ويتمنى ساركوزي لو تنفجر الثورة في الجزائر كما انفجرت في تونس ومصر لكنه لا يمكن أن يعبِّر عن ذلك علنًا لئلاّ يثير حفيظة جهاز الاستخبارات العسكرية الجزائرية الشهير الذي يُفترض أنه يخترق الشبكات الإسلامية وخاصة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وتتوجس أجهزة الاستخبارات الفرنسية من حقيقة نوايا أجهزة الاستخبارات الجزائرية فيما يتعلق بعلاقاتها بالتنظيمات الإسلامية المسلحة، وهو توجس مشابه لما بين وكالة الاستخبارات الأميركية وجهاز الاستخبارات الباكستاني الذي يُتَّهم بلعب دور مزدوج.
وفي انتظار تطور الوضع في الجزائر تنزع فرنسا إلى استثمار حضورها السياسي وتحويله إلى نفوذ اقتصادي وثقافي في المنطقة. وقد أدركت الحكومة الفرنسية أن العالم العربي في تحول وأن لا مستقبل لأنظمة الاستبداد. وقد اغتنم الرئيس ساركوزي هذه الفرصة ليقدم نفسه كصديق للعرب، يهدف من بين أمور أخرى، إلى إقصاء الروس، المصدر الأساسي للجزائر وليبيا وسوريا بالأسلحة، وتحييد الصينيين الذين حققوا اختراقًا اقتصاديًّا متصاعدًا في المنطقة.
وقد أحرز ساركوزي نقاطًا ضد هذين البلدين اللذين لم يتمكنا بعدُ من تغيير دبلوماسيتيهما وظلاّ وفيين لحلفائهما حتى سقوطهم النهائي. لكن فرنسا شعرت بالحرج إزاء طلب فلسطين الانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة الذي تقدم به محمود عباس؛ فالدول الغربية بما فيها فرنسا لا يمكن أن تتنكر لتحالفها غير المشروط مع إسرائيل وهو ما قد يحرمها من الاستفادة من دعمها للثورات العربية. وقد مارس ساركوزي ضغوطًا في منظمة الأمم المتحدة على محمود عباس لحمله على سحب طلبه متخوفًا من أن يكون الفيتو الأميركي في مجلس الأمن حسب تعبيره بمثابة كارثة في العلاقات بين الغرب والعرب؛ فمساعدة الشعوب العربية على التخلص من المستبدين ليست كافية لكسب ودها. فتعاطف الغربيين مع المتظاهرين في ميدان التحرير والضغوط التي مارسوها على مبارك كي يقدم استقالته لم تمنع المصريين من مهاجمة السفارة الإسرائيلية في القاهرة والمطالبة بإغلاقها نهائيًّا. ورغم ما يتشدق به ساركوزي فإن هامش تحرك الدبلوماسية الفرنسية ضيق؛ فهي عاجزة عن ممارسة ضغط فاعل على الحكومة الإسرائيلية ولا يمكن أن تلتزم الحياد في الصراع مع الفلسطينيين، واللوبيات الداعمة لإسرائيل في باريس ولندن وبروكسل على درجة من القوة تمنع هذه البلدان من أن تطلب من إسرائيل احترام القانون الدولي.
وهناك منافس لفرنسا يُعتد به بدأ يلوح في الأفق ألا وهو تركيا؛ فهذا البلد العضو في حلف شمال الأطلسي يمتلك مقومات للقوة ترشحه لأن يكون جسرًا بين الغرب والدول العربية، وهو يرغب في تصفية حساباته مع فرنسا التي ظلت من بين أكثر البلدان معارضة لانضمامه للاتحاد الأوربي كما صادق برلمانها، فضلاً عن ذلك، على قانون يدين مذابح الأرمن عام 1905 التي تُتهم فيها القوات التركية. وتتمتع تركيا باقتصاد ينمو باطِّراد، وقد تقربت من الدول العربية عندما دانت علنًا سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين. وقد أصبح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وجهًا سياسيًّا مألوفًا في "الشارع العربي" نتيجة مواقفه المؤيدة للفلسطينيين. كما باتت تركيا مرجعًا للإسلاميين العرب المعتدلين بل وللمثقفين العلمانيين الذين يؤمنون بتطور الإسلاميين إلى نموذج الديمقراطية الاجتماعية المسيحية.
وخلاصة القول: إن الدبلوماسية الفرنسية قد أظهرت قدرًا من الواقعية في علاقاتها بالعالم العربي أثناء الثورات. لكن لابد لها لكسب ثقة العرب من أن تدعم الفلسطينيين في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية التي تشكِّل عائقًا لكل الدبلوماسية الغربية.
________________
الهواري عدي-أستاذ بمعهد ليون للدراسات السياسية