الإسلاميون والعلمانيون في مصر.. هل إلى توافقٍ من سبيل؟

التعددية الفكرية والسياسية سمة من سمات حيوية المجتمع وثرائه الثقافي، شريطة أن تكون في إطار من الوحدة حول حزمة من المبادئ، وأن تكون محل إجماع، غير أنها تنقلب من نعمة إلى نقمة، إذا ما تحوّلت من التوحد والتلاقح إلى التشظي والتناطح
1_1076475_1_34.jpg

أحمد طه

 

هبَّت عاصفةٌ عاتية من الاستقطاب النخبوي الحاد على المسرح السياسي المصري، بين التيارين الإسلامي والعلماني، بدت نذرها في معركة الاستفتاء على التعديلات الدستورية، التي خلّفت شقوقاً في البنيان الثوري، إلى أن بلغت العاصفة ذروتها في 27 مايو/أيار الماضي أو ما يُعرف بجمعة تصحيح المسار، حيث جاء القصف الإعلامي المتبادل كأداة للحشد والتجنيد، وفقاً لآليات العنف الخطابي والهجاء السياسي، التي وصلت إلى مرحلة "التكفير الديني" الذي ووجه ب"التكفير الوطني". وينذر استمرار العاصفة بأن تتحول الشقوق إلى شروخ تصعب معالجتها فيما بعد، كما أنها تمثل ألغاماً في التربة السياسية، قد تنفجر لسبب أو آخر، وقد تقود إلى "حرب أهلية ثقافية" على حد تعبير المستشار طارق البشري- يتحول فيها الدين إلى ساحة للصراع السياسي والفكري.

 

إلا أن وقوع أحداث مسرح البالون في الثامن والعشرين من يونيو/حزيران -وهو نفس اليوم الذي شهد صدور حكم قضائي بحل المجالس المحلية- والتي تطورت إلى اشتباكات بميدان التحرير في فجر اليوم التالي، وما تلاها بأيام من صدور أحكام بالبراءة لعدد من رموز النظام الساقط، قد خفّفت من حدة العاصفة وأيقظت فريقي الاستقطاب "الدستور أولاً" و"الانتخابات أولاً" وأخرجتهما مؤقتاً من معركتهما الوهمية، ودعتهما إلى عقد هدنة، تجلت في توحدهما معاً في جمعة الإصرار 8 يوليو/تموز تحت شعار "الثورة أولاً" من أجل حماية الثورة، التي صارت مكاسبها مهددة من قبل أعدائها المتربصين والمتلمظين بالداخل والخارج.

الفقر الفكري أو العجز الحركي

 

سيطر التيار العلماني على مفاصل الدولة الثقافية، بينما انتشر التيار الإسلامي عبر أنسجة المجتمع، وتبادل الطرفان الاتهام فاتهم الأول الثاني بأنه يعاني "فقراً فكرياً"، فرد الثاني بأنه يعاني "عجزاً حركياً

هذا الاستقطاب ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج لتاريخ طويل من السجال بين الطرفين يعود لعقود خلت، إذ سيطر التيار العلماني لا سيما جناحه المتطرف الموالي للسلطة على مؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية -مما عُِرف ب"مثقفي الحظيرة"- وعمل على إقصاء التيار الإسلامي من المجال العام، مدعوماً في ذلك من المؤسسة الأمنية، فوجد الأخير نفسه يقف مجرداً من الشرعية السياسية والفكرية، مما دفعه إلى التشرنق التنظيمي والفكري، مستشعراً الخطر الذي يهدده في هويته بسبب تغييبه ومهاجمته، دون منحه الفرصة للدفاع عن نفسه، وربما في وجوده، بسبب الحصار والضربات الأمنية المتلاحقة، مما كان له أسوأ الأثر في تجميد الحراك التنظيمي والفكري الداخلي فيه، فتصدرت العناصر المحافظة بأفكارها استجابة للواقع المأزوم.

 

ومن حين إلى آخر نشبت معارك فكرية بين الطرفين اتخذت طابعاً إعلامياً، بسبب نشر مطبوعات مثيرة للجدل، أو منح الدولة جوائزها لكتَّاب عُرفوا بشططهم الفكري، رآها التيار الإسلامي رسالةً موجهة إليه اتشحت بالنكاية والاستفزاز.

 

وكان النظام الساقط يقف كعازلٍ بين الطرفين، مستفيداً من هذا الوضع، وهي لعبة احترفها ببراعة عبر نشره لثقافة الاستقطاب في طول المجتمع المصري وعرضه، سياسياً، وفكرياً واجتماعيا، بغية إطالة أمد بقائه في السلطة.

 

باختصار سيطر التيار العلماني على مفاصل الدولة الثقافية، بينما انتشر التيار الإسلامي عبر أنسجة المجتمع، وتبادل الطرفان الاتهام فاتهم الأول الثاني بأنه يعاني "فقراً فكرياً"، فرد الثاني بأنه يعاني "عجزاً حركياً".. وبعد سقوط النظام، وجد الطرفان أنهما في مواجهة مباشرة دون عازل أو فاصل، مما جدد الهواجس القديمة والمرارات المتراكمة.

 

هذه الحالة من التدافع الفكري والأيدلوجي، تبدو طبيعية في سياقها بعد أن أوصل النظام الساقط الساحة الفكرية والسياسية إلى مرحلة الجفاف والتكلس، الذي استطرق إلى البنيان الداخلي لكل فصيل، وإذا بها بعد سقوطه تتحول من الجفاف إلى السيولة دفعة واحدة، ولكن الذي لا يبدو طبيعياً أن تطول هذه الحالة عن أمدها المعقول، أو يتحول التدافع إلى تناحر.

 

تجدر الإشارة إلى أن كل تيار فكري أو سياسي، يضم في طياته عوامل اعتدال، وعوامل تطرف، والذي يحفز هذه أو تلك هو الواقع أو المناخ المحيط، الذي يستدعي أفكاراً وأشخاصاً من جنسه ونوعيته، وعليه فإن الحالة التي نراها أشبه بمخاض فكري لولادة تيار أساسي يعبر عن قيم الجماعة الوطنية المصرية بكافة روافدها.

 

خلاف مصطنع

تثير حالة المدافعة والمبارزة التي نحن بصددها النقاط التالية:

 

- الدين ليس أداة للحشد السياسي أو التجنيد التصويتي، كما أن المنابر والمساجد أو الكنائس ليست بالقطع هي المكان الملائم لممارسة السياسة، إذ يعطي هذا انطباعا للمتلقي، بأن هذا التصور أو الطرح أمر مقدس، يستمد قدسيته من أرضية ومكان عرضه، هذا فضلاً عن استخدام خطاب الترغيب بالجنة أو الترهيب من النار، من أجل دفع الناخبين لاتخاذ مسار سياسي أو تصويتي بعينه.

 

- العقد الاجتماعي للدولة المعاصرة يختلف عن نظيره في دولة الخلافة الإسلامية، فالعقد الجديد هو عقد ملكية عقارية مشتركة يساوي بين المواطنين كافة، يعطي لكل مواطن حقوق الانتفاع والشفعة وحسن الجوار، ويرتب عليه واجبات الصيانة والدفاع وإعادة البناء.

 

- نتيجة الاستفتاء لا تعني إطلاقاً أن فصيلاً بعينه بات مهيمناً على الشارع، أو أنه يستحوذ على أغلبيته الساحقة، فتشير العديد من المؤشرات إلى أن قطاعاً كبيراً ممن أيدوا التعديلات الدستورية هم "تيار الاستقرار" الذين أيدوها بدافع المسارعة بالانتهاء من المرحلة الانتقالية بما تحمله من تقلبات وعدم استقرار، وليس بدافع أيدلوجي، أو من أجل مؤازرة فصيل سياسي .

 

- أي دولة لها هوية حضارية تمثل قيم المجتمع ولغته وثقافته، تكون بمثابة البوتقة التي تنصهر فيها جميع طوائفه وفئاته ولابد من احترامها ...فإذا كان فصل الدين عن السلطة ضرورة، حتى لا يقول شخص إني أحكم باسم الدين، فإن فصل الدين عن المجتمع، وسلخه عن هويته وصولاً إلى القطيعة المعرفية الكاملة معها جريمة كبرى.

 

وعليه فإن وجود المادة الثانية من الدستور بمثابة "الأثر الكاشف وليس المنشئ" للهوية –وفقاًً للغة القانون- فهي حتى وإن حُذفت، فلن يغير هذا من هوية المجتمع الحضارية، فوجودها في الدستور فقط يكشف عنها ولا ينشئها من العدم، وقد كانت المادة الثانية ضمن دستور 1923 برقم 149 وهو أكثر الدساتير المصرية ليبرالية.

 

- رفع شعار"الدستور أولاً" يحمل انقلابا على شرعية الاستفتاء، والتي ألزمتنا نتيجته بترتيب محدد للخطوات المتبعة للتحول الديمقراطي، وهو أمر ذو عواقب وخيمة، حيث أن الاستفتاء هو أول مشهد ديمقراطي مصري منذ نحو ستة عقود، وإذا ما تم التعامل مع نتيجته بتلك الطريقة، فإن هذا كفيل بإفقاد الناس الثقة في جدوى المشاركة العامة لفترة الله وحده يعلمها، فلسان مقال النخبة يقول للشعب"شاركوا وقولوا ما شئتم بكل حرية" أما لسان الحال فيأتي في الاتجاه المعاكس حاملاً نبرة الوصاية" وبالرغم من هذا، فإن النتيجة لا تعنينا، فنحن أعلم بمصلحتكم".

 

- من يخشى من سيطرة تيار بعينه على الشارع، فعليه مواجهته بالانتشار في الشارع أيضاً، وليس بالصراخ الإعلامي، أو التحليق في فضاء التنظير، بل بالهبوط إلى أرض الواقع والتحرك فيها، والسعي إلى تغيير معادلات القوة عليها.

 

وإذا أمعنا النظر في فحوى الخلاف، لوجدناه خلافاً مصطنعاً غير حقيقي، والحقيقة أن القاسم المشترك الذي يجمع بين الجميع أكبر كثيرا مما يفرق بينهم، فلا خلاف حول مبادئ وقيم مثل المواطنة التي تقوم على العدل والمساواة، أو الحرية وتداول السلطة، أو ضرورة وجود الدولة القوية التي تطبق القانون على الجميع بلا تمييز، فهي حزمة من المبادئ محل إجماع جميع تيارات الجماعة الوطنية المصرية، ولا بد من جعلها أساساً لصياغة التيار الأساسي لها، الذي يمثل القاسم المشترك الجامع بين كافة الفصائل الفكرية والسياسية، معبراً عن قيم الجماعة الوطنية بصفة عامة، ومترجماً للأهداف والغايات المراد تحقيقها في المرحلة المقبلة.

 

يأتي هذا بالتزامن مع إطلاق حوار وطني حقيقي بين الروافد الفكرية الأربعة (الليبرالي – اليساري – الإسلامي – القومي) لبحث النقاط محل الخلاف، تكون وظيفته توسيع مساحة المؤتلف عليه وتضييق مساحة المختلف فيه، حيث إن الحوار المجتمعي البنّاء سيتكفل على المدى المتوسط بمعالجة نقاط الخلاف، ووضعها في حجمها الحقيقي، بما يبرز كونها لا تمثل أولوية عاجلة للاستجابة لضرورات وإملاءات اللحظة التاريخية التي نحن بصددها، بما يقود الساحة من مشهد التشاجر والتناحر، إلى حالة من التضافر والتآزر.

 

بعبارة أخرى سيجعل الحوار من نقاط الاتفاق قاطرة تقطر خلفها نقاط الخلاف. بما يضمن عدم توقف مسيرة إعادة البناء في انتظار حسم الثانية، مع التأكيد على مدى هامشيتها وأن إثارتها الآن ليست بالضرورة الملحَّة.

 

ضرورة اعتماد "ثقافة السفينة"

 

إن ذلك الاستقطاب واستمراره هو أكبر ثغرة في بنيان الثورة، تسمح بتسلل أعدائها في الداخل من بقايا النظام الساقط وفلوله، وأعدائها في الخارج من قوى دولية هُددت مصالحها، وعروش إقليمية زُلزلت أركانها

على جميع الفصائل والقوى السياسية أن تقدر مدى دقة وحساسية اللحظة التي تمر بها مصر، وأن تتعاطى معها بمنطق "ثقافة السفينة"، عبر تقديم تنازلات جوهرية، فيما يتعلق بالخطاب الأيدلوجي، أو بمدى الحضور في المشهد السياسي المقبل، وأنها إذا استمرأت هذه الحالة الجدالية التناحرية، فإن ذلك قمين بإفقاد الشعب ثقته فيها.

 

المواطن المصري في مسيس الحاجة إلى مستشفى يعالج، ومدرسة تعلم، وشربة نقية، ووجبة هنية، وفرصة عمل كريمة، وطريق يسير عليه بأمان، بما يحقق له مستوى معيشياً لائقاً، فلا يعنيه كثيراً الإغراق في التنظير الأيدلوجي، الذي لا يغير من واقعه المرير شيئاً.

 

إنه من الواضح لكل ذي عين بصيرة مدى حجم الخراب الذي خلَّفه النظام الساقط، وقد عشّش في كافة مؤسسات الدولة، وأنه ليس بإمكان أي فصيل سياسي أن يضطلع بعملية إعادة البناء بمفرده، مهما بلغ من القوة أو الانتشار، مثلما لم يتمكن فصيل بمفرده من إسقاط النظام، فلابد من إخماد أي نزعة لدى البعض، للاستعلاء الأيدلوجي أو الاستغناء التنظيمي ، أو الاستحواذ والاستئثار بثمار الثورة، هذا فضلاً عن نزعة فرض الوصاية أو الإقصاء.

 

وما يساعد على هذا هو استلهام الروح الجماعية التي هيمنت على ميدان التحرير خلال الثورة، والتي صهرت الجميع في بوتقة واحدة، فقد رأينا المسلم بجوار القبطي، و"المجلبب" إلى جانب "المبنطل"، والمحجبة والسافرة، والأستاذ الجامعي مع الأمي... الجميع كان يسعى لتحقيق هدف واحد، فمعركة البناء تحتاج إلى كل يد كي تساهم فيها.

من نافلة القول إن عملية وضع الدستور الجديد، هي عملية توافقية بالدرجة الأولى، تخضع لمنطق التوافق، والائتلاف، والتراضي، والاستيعاب، ولا حضور فيها إطلاقاً لمنطق الأغلبية التي تفرض رأياً أو توجهاً على الأقلية، أو العكس، فالدستور هو عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، ووثيقة للمجتمع، تعكس قيمه، وحضارته، وتعبر عن مختلف فئاته، وشتى طوائفه، فلابد أن يشعر الجميع أنه ممثلٌ فيها، وأن الدستور معبر عنه.

 

إن الشعوب عندما تشعل الثورات، فإنها تعيد صياغة الدولة والمجتمع، سياسياً، واقتصاديا، واجتماعيا، بما يحقق أهداف الثورة، وإن تبلور القوى الثورية في المجتمع وخروجها من مرحلة الهلامية والسيولة، إلى مرحلة التشكل والتماسك يستغرق بعض الوقت.. فأنّى السبيل إلى وضع الدستور الجديد، ونحن إزاء هذا الفوران الجدلي من نخبة انفرط عقدها، وتفرّق شملها، فجعلت بأسها بينها.

 

علينا أن نغتنم هذه اللحظة التاريخية -التي ندشن فيها حقبة جديدة من تاريخ مصر- من أجل وضع حدٍ لحركة قطع الطريق، التي عانى منها التاريخ المصري، منذ بداية القرن العشرين وحالة التدابر، التي أتسمت بها العلاقة بين الفصائل السياسية التي قادت الحركة الوطنية عبر المراحل المختلفة، حيث تعامل اللاحق مع مشروع وأيدلوجية السابق على طريقة قول الشاعر:

 

وأفضلهم من إذا ذُكِرت بسِّيئ - توقَّف لا ينفي ولا يتقولُ

 

تكررت هذه الطريقة من ثورة 1919 وما فعلته مع مشروع الحزب الوطني القديم –وهو خلاف الحزب الوطني المقبور- وزعيمه مصطفى باشا كامل، إلى ثورة يوليو 1952 وأسلوب تعاطيها مع حزب الوفد ونضاله الوطني طيلة الحقبة شبه الليبرالية إبان العهد الملكي، فقد آن الأوان لإجراء مصالحة تاريخية بين كافة تيارات الحركة الوطنية المصرية في إطار من التسامح والتكامل والانصهار في بوتقة المشروع الوطني لمصر الجديدة.

إن التعددية الفكرية والسياسية هي سمة من سمات حيوية المجتمع وثرائه الثقافي، شريطة أن تكون في إطار من الوحدة حول حزمة من المبادئ، وأن تكون محل إجماع، غير أن هذه التعددية تنقلب من نعمة إلى نقمة، إذا ما تحوّلت من التوحد والتلاقح إلى التشظي والتناطح، ويتحقق ذلك بتقديم الجزئيات على الكليات، وهو ما يفرِّق المجتَمِع من عوامل الوفاق، ويجمع المفرَّق من معاول الشقاق.

إن ذلك الاستقطاب واستمراره هو أكبر ثغرة في بنيان الثورة، تسمح بتسلل أعدائها في الداخل من بقايا النظام الساقط وفلوله، وأعدائها في الخارج من قوى دولية هُددت مصالحها، وعروش إقليمية زُلزلت أركانها، والصنف الثاني لا يدخر جهداً من أجل إجهاض الثورة، والحؤول دون قيام نموذج مصري ديمقراطي، يكون لألقه أكبر الأثر في تغيير ملامح المنطقة بأسرها، وكسرها لطوق التبعية.