الطائفية قبل وبعد الثورة المصرية

أسئلة عديدة تطرحها هذه المقالة: متى تشكلت الطائفية في مصر، وكيف تعاملت معها الأنظمة المختلفة، ومدى تجذر الخطاب الطائفي تصورا وممارسة في عهد مبارك، وكيف أصبحت الطائفية تحديا للثورة المصرية الراهنة المطالبة بوضع حلول لهذا المشكل المزمن...؟
7 July 2011
1_612754_1_34.jpg

هاني نسيرة

يمكن تعريف الطائفية بأنها حالة احتقان ولا تسامح بين الطوائف داخل المجتمع، تنبع أساسا من دائرة الإيمان الديني، ينتج حالة استعلاء أو إحباط طائفي، وقد توجد بالقوة كمشاعر سلبية وإقصائية، كما قد توجد بالفعل في عدد من الممارسات المنظمة والصدامات العفوية.

وهذه الصدامات العفوية هي الأخطر حيث تبدأ شراراتها بسيطة ثم تشتعل لتتحول إلى حدث عام دون إنذار، وهو ما شهدته وتشهده مصر في هذه الفترة، حيث تشتعل الطائفية اجتماعيا وعلى مستوى الشعب ومكوناته "تحتيا" بينما تتوافق النخب السياسية –ومنها التيارات الإسلامية "المتهم بعضها" في إحداث هذه الطائفية- حول أهداف الثورة والمشاركة والتعايش "فوقيا".

من هنا تأتي أهمية التعاطي العميق والإبداعي مع المشاكل المزمنة كالمشكل الطائفي في المراحل الانتقالية بالخصوص، وضرورة استعادة هيبة الدولة وضبط الحد الفاصل الرقيق والدقيق بين الحوار المجتمعي والسياسي وفوضاهما وهو ما يقع على مسئولية النخب المدنية والسياسية.

الطائفية.. أسسها الاستعمار وكرستها ثورة يوليو
عهد السادات.. تشكل الخطاب الطائفي 
عهد مبارك.. نحو التأزم الطائفي 
ثورة 25 يناير.. أي مستقبل للطائفية في مصر؟ 
الفرز السياسي.. الديني في مواجهة العلماني

 

الطائفية.. أسسها الاستمعار وكرستها ثورة يوليو

أسست ثورة 1919 للوحدة الوطنية، بين عنصري الأمة المصرية، دون اندماجها كما يتجلى في شعاراتها "الهلال مع الصليب" فكان عهدها أقل توترا طائفيا من العهد الثوري الذي بدأ مع ثورة الضباط في يوليو/ تموز 1952

في الحالة المصرية بدأت أولى النزوعات الطائفية ثقافيا وسياسيا مع محاولات الاحتلال الإنجليزي اللعب على وتر حماية الأقلية المسيحية في مصر، وما رافق ذلك من صعود الإحساس بالهوية القبطية، كسلالة باقية للفرعونية(1)، وذلك في العقدين الأولين من القرن الماضي، مع أخنوخ فارس وميخائيل عبد السيد صاحب جريدة مصر، وهو ما اتضح وزاد من أواره مقتل المحسن القبطي بطرس باشا غالي في 21 فبراير/ شباط 1910 على يد الطالب إبراهيم الورداني، بدافع سياسي وليس دينيا، حيث قتله بتهمة الخيانة بعد توقيعه على اتفاقية السودان سنة 1906 التي سمحت بالإدارة الإنجليزية للإقليم الجنوبي، ومشاركته في محاكمات دنشواي مندوبا عن وزارة الحقانية حينئذ!

ونظرا لأيادي بطرس باشا البيضاء على طائفته، حيث كان أول من أسس المدارس القبطية ووقف الأوقاف الكثيرة على البابوية، كما أسس الجمعيات والمشافي وغيرها، ثارت من أجله ثائرة محبيه من طائفته، وكادت الوحدة الوطنية المصرية تنشطر خاصة بعد انعقاد المؤتمر القبطي الأول سنة 1911 قامت النخبة المصرية من رجالات حزب الأمة بالتوافق وإصلاح ما فسد في المؤتمر المصري بنفس العام وحل هذه الأزمة العميقة حينئذ! وتهميش رؤى المتطرفين من الجانبين(2).

أسست ثورة 1919 للوحدة الوطنية، بين عنصري الأمة المصرية، دون اندماجها كما يتجلى في شعاراتها "الهلال مع الصليب" فكان عهدها أقل توترا طائفيا من العهد الثوري الذي بدأ مع ثورة الضباط في يوليو/ تموز 1952، التي أسست لشمولية سياسية أزاحت الحيوية السياسية والمجتمعية وحبستها جميعا في أسوار شموليتها.

ونظرا لهيمنة النخبة المعسكرة على إدارة البلاد بعد ثورة يوليو/ تموز 1952 وكون قيادات الجيش من غير المسيحيين، مما أدى لشعور مسيحي بالإقصاء من النظام السياسي، الذي لم يكن بعيدا عن النظام السياسي ما قبل هذه الثورة، فقد تولى أقباط رئاسة الوزراء ووزارات سيادية وزعامات حزبية وغير ذلك. كما لجأت حكومات الثورة- منذ عهد عبد الناصر- إلى تعيين عشرة من أعضاء مجلس الأمة، كانوا يختارون من بين المسيحيين، كما تم اللجوء إلى تعيين بعض المسئولين من التكنوقراط المسيحيين في الوظائف الكبيرة، بالإضافة إلى تحديد نسبة للمسيحيين في الكليات العسكرية وفي كلية الشرطة. وبهذا يكون النظام الناصري قد أرسي دعائم المحاصة الطائفية السياسية غير الدستورية والتي لا نزال نعيش تطبيقاتها حتى الآن وقد تصل عبثيتها في توزيع المناصب على الطوائف إلى درجة تخصيص بعض الوزارات بشكل شبه دائم للمسيحيين مثل وزارة الهجرة أو وزارة البيئة(3) وهو تقليد سار عليه السادات ومبارك فيما بعد... وفي حين أسس عبد الناصر للتمييز الطائفي والجمود السياسي جاء عهد السادات ومبارك لينشطا الاشتباك والفتنة الطائفية بامتياز!

 

عهد السادات.. تشكل الخطاب الطائفي

بينما اتسم عصر عبد الناصر بقوة القبضة الأمنية، وبالنشاط الأيديولوجي الفاعل، جاء عصر السادات وتحولاته الانفتاحية والدينية، التي تزامنت مع تولى البابا القوى شنودة الثالث كرسي الكرازة المرقسية وزعامة الكنيسة الأرثوذكسية، كما نشطت منذ أواخر الثمانينيات جماعات أقباط المهجر، وكرست المطالب الطائفية في مصر وأججتها، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لاحتقان طائفي متزايد، زادت منه الجماعات الإسلامية الجهادية ولعبت بورقته أثناء صدامها مع نظام مبارك فيما بعد.

وكانت كبرى الأحداث الطائفية في بداية عهد السادات هي أحداث الخانكة في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1972 والتي بدأت بخلاف حول تحويل جمعية قبطية لكنيسة في هذه المنطقة.

تشكلت على إثر ذلك لجنة برئاسة الدكتور جمال العطيفي وكيل مجلس الشعب حينئذ وتم إعداد تقرير شهير حول الاحتقان الطائفي المكبوت القابل للتفجير في أي لحظة وضرورة معالجته ووضعت توصيات من أجل ذلك(4).

لم ينتبه أحد لتلك التوصيات المهمة حتى وقعت أحداث الزاوية الحمراء في 16 يونيو/ حزيران 1981 والتي تعامل معها الرئيس السادات باستخفاف ووصفها بأنها لا تتجاوز مشكلة تجفيف ملابس.

 

عهد مبارك.. نحو التأزم الطائفي

شهد عهد مبارك استهداف الأقباط بشكل منظم من قبل جماعات العنف الديني الإسلامية طوال عقد التسعينيات، خصوصا قبل مراجعات بعض هذه الجماعات لموافقها، فقد أصبح الأقباط هدفا من أجل إجبار النظام علي الرضوخ لطلباتها، وخاصة في محافظات المنيا وأسيوط وسوهاج وقنا بصعيد مصر

كان المعدل السنوي لحوادث العنف في مصر حتى يناير /كانون الثاني 2010 يبلغ 53 حادثا ذا صبغة طائفية سنويا، أي بمعدل حادث كل أسبوع، توزعت بين 17 محافظة من أصل 29 محافظة مصرية، وتراوحت بين حادث واحد مثل محافظة الشرقية وبين 21 حادثا في محافظة المنيا(5).

وعلى مستوى الممارسة السياسية استمر نظام مبارك في اتباع نفس سياسات الأنظمة التي سبقته فيما يتعلق بالطائفية مستخدما أسلوب "ترضية للنخب القبطية"، وذلك عبر بعض التعيينات في المجالس البرلمانية فضلا عن الزيارات الاحتفالية. وترك نظام مبارك القضية دون معالجة فعلية لا لمشكل الطائفية ولا لإشكال المواطنة، بل تورط في أخطاء لا زالت آثارها موجودة بعد رحيله، منها غيبة الحسم التشريعي وهشاشة في السمألة وتكريس تراخي دور الدولة، بل إن أمن الدولة هو من فجر مشكلة كبيرة كأحداث الكشح الأولى والثانية، كما تولى إدارة مشكلة المتحولين دينيا التي استمرت بعض حلقاتها بعد الثورة.

وقد تعددت أنماط العنف الطائفي في عصر مبارك:

النمط الأول: حوادث العنف الجماعي.

النمط الثاني: مرتبط بممارسة المسيحيين لشعائرهم الجماعية.

النمط الثالث: استهداف الكنائس: وخاصة في المناطق والقرى ذات الأغلبية المسلمة والتي تفاجأ ببناء كنيسة دون إنذار مسبق لهم في ظل أزمة الترخيص وبناء دور العبادة، وقد شهدت منطقة العمرانية بالجيزة أحداثا بهذا الخصوص في ديسمبر /كانون الأول 2010 بعد محاولات السلطات منع بناء كنيسة لم يرخص لها، كما تم حرق كنيسة العذراء في إمبابة من قبل بعض العامة عام 2011 أثناء أحداث إمبابة.

النمط الرابع: القتل العمد على أساس الهوية الدينية: ويكثر هذا النمط في حالات التحول الديني، وقد لوحظ توجه المسيحيين له في السنتين الأخيرين فقد قتلت أسرة مسيحية ابنتها التي تحولت إلى الإسلام عام 2010 وقتل معها زوجها وطفلها في منطقة عين شمس بوسط القاهرة العام الماضي، وتكرر الأمر في أبريل /نيسان من العام الحالي بنفس الشكل(6).

ورغم ارتفاع نسب الحوادث الطائفية في العقدين الأخيرين من عهد مبارك فإن نظامه ظل يستخدم حجج التهوين والإنكار لحقيقة لاحتقان الطائفي الماثلة للعيان، رغم أنه كان الأكثر تأزما طائفيا على مختلف المستويات.

شهد هذا العهد استهداف الأقباط بشكل منظم من قبل جماعات العنف الديني الإسلامية طوال عقد التسعينيات، خصوصا قبل مراجعات بعض هذه الجماعات لموافقها سنة 1997، فقد أصبح الأقباط هدفا من أجل إجبار النظام علي الرضوخ لطلباتها، وخاصة في محافظات المنيا وأسيوط وسوهاج وقنا بصعيد مصر. ووصل الأمر حد تطبيق الحدود على بعض الأقباط في مسجد الرحمن بأرض المولد بالمنيا، علي مرأى ومسمع من أجهزة الأمن من تعليق الرؤوس علي أعمدة الإنارة بعد عمليات القتل، كما حدث بين عامي 1992 و1994 في أبوقرقاص بالمنيا. وفي هذه المرحلة فقط بلغ عدد قتلى الأقباط على أيدي الجماعة الإسلامية أكثر من مائة قتيل في حوادث متفرقة. وظل الأمن كعادته يصف هذه الحوادث المنظمة بأنها حوادث فردية، يقوم بها بعض الموتورين غير صحيحي العقيدة، ووصل الأمر بمدير أمن أسيوط حينئذ أن وصف مذبحة عزبة قبطية في فبراير /شباط 1996 راح ضحيتها ثمانية الأقباط بحادث عشوائي! كما لم يستخدم النظام السابق سيف الطوارئ الذي سلطه علي رقاب السياسيين والصحفيين في مواجهة هذه الأزمات الطائفية(7).

ولأن الطائفية أعمق حتى من عنف الجماعات الدينية فبعد عام فقط من انطلاق مراجعات الجماعة الإسلامية، وقعت أحداث الكشح الأولى في 15 أغسطس /آب 1998 ثم تلتها أحداث الكشح الثانية في 31 ديسمبر /كانون الأول 1999.

استمر التوتر طوال عهد مبارك فتراكمت مشاكل دينية قديمة وجديدة مثل ترخيص بناء دور العبادة للمسيحيين، وقضايا التحول الديني التي تصاعدت في العامين الأخيرين، سواء وقع التحول للإسلام أو عنه، فضلا عن تفاقم مشكل بعض الطوائف الأخرى كقضايا البهائيين والتبشير الشيعي وغير ذلك من قضايا(8).

لم ينتبه نظام مبارك للسياق الإقليمي والدولي الصاعد حول مسألة الحريات والإصلاح السياسي وقضايا الأقليات، بعد حرب العراق عام 2003، وهو السياق الذي تزامن مع ثورة الفضائيات العربية (قناة الجزيرة- قناة العربية- برامج التوك شو السجالية) التي جعلت ما كان يمر بهدوء في السابق موضوعا ساخنا وخبرا إعلاميا يسكن أو يحرك الجدل العام والخاص في الآن نفسه، وهو ما لم يعد قاصرا على الإعلام فقط ولكن صار جزءا من ثوابت الخطاب السياسي للقوى السياسية المختلفة. وظل نظام مبارك مكتفيا بسماع مستشاريه ومهتما بالتركيز على موضوع التوريث التي أودت به وبوريثه.

لم ينتبه النظام السياسي لهذا الفوران الاجتماعي والديني بفعل الثورة الاتصالية والإعلامية، التي جعلت هذه الأحداث المتباعدة متلاقية ومجسدة أمام نظر المشاهدين في كل أنحاء مصر والعالم، وهو ما لم تكن مصر فيه استثناء بل كانت جزءا من حراك عربي وإقليمي فتم الدفع بمسألة التنوع المجتمعي (الطائفي والديني والمذهبي والعرقي)(9) وكانت الأنظمة- ولا زال بعضها- هو الاستثناء في ذلك، إذ ظلت بعيدة عن سماع استحقاقات الشعوب أو الاستجابة لها.

إلا أننا نلاحظ على هذا الجدل -في كثير من الأحيان- سمتين تفقدانه المعنى والقدرة البناءة على الانتقال النوعي سواء على مستوى النظر أو مستوى الواقع، وهما:

أولا: غلبة السجال وعدم تطوير المواقف بنيويا وإن تطورت ظاهريا، ونقصد بالتطوير البنيوي تطوير النصوص التشريعية، وإشاعة خطاب ثقافي يعزز مفهوم المواطنة بدل الانتماء الطائفي الضيق...

ثانيا: فوران وصعود العنف العملي والرمزي عبر خطابات التكفير الوطني والسياسي والطائفي، والذي تجسده مطالب المحاصة وهشاشة مقولة الوطن والدولة الوطنية الناتج عن الهشاشة الراسخة لمقولة المواطنة ذاتها في مقابل لا شعورية سائدة لدى الأقليات بمفهوم الرعايا لا المواطنين، مما يجعل التنوع نذيرا بالصدام المتوقع في بلدان عربية عديدة.

وهاتان السمتان هما السوءتان اللتان يقع عبء تطويرهما على النخب والقوى السياسية قبل الأنظمة بعد نجاح الثورات وقبلها، فليس كافيا أن تنشط الاجتماعات بين ممثلين للأقباط وممثلين للإخوان المسلمين في مصر، أو أن تتبرأ الدعوة السلفية المصرية مما نسب إليها بعد الثورة من أحداث ولكن المطلوب أن تنتج هذه القوى خطابا وقائيا وتحصينا يستبقها ويمنعها!

وقد تبدى الفشل الذريع لإدارة الملف الطائفي من قبل نظام الرئيس المخلوع سواء في تهوينه وإنكاره له صدا لإمكانيات التدخل الأجنبي ولمركزية الإدارة الأمنية في إدارة الملف الطائفي بعموم، أو تقديم التنازلات لطرف دون الطرف الآخر، كما تجلى في تسليم أجهزته وفاء قسطنطين سنة 2008 أو كاميليا شحاتة زاخر سنة 2010 للكنيسة، وهو ما آثار الجماهير المسلمة بشكل كبير، وخرجت من أجله المظاهرات الكبرى في وسط القاهرة- قبل وبعد الثورة- ورفضه عدد من المثقفين المسيحيين في الآن نفسه، إقرارا لمبدأ حرية الاعتقاد والتعبير.

وظل وكعادته غير مهتم بالنداءا&#157