المشهد الفكري السياسي الإيراني على أعتاب رئاسيات 2013

يرصد التقرير المشهد الفكري الراهن على الساحة السياسية الإيرانية، واصطفافات التيارات المختلفة وما استجد فيها من اتجاهات جديدة، وتحالفاتها واختلافاتها وتوجهاتها مع اقتراب عام الانتخابات الرئاسية عام 2013.
201210237599580734_20.jpg
تحول التيار المشائي لظاهرة شغلت التيارات كافة، يحمل إسفنديار رحيم مشائي (يسار) أفكارًا وُصِفت على لسان الأصوليين بالانحرافية، فقالوا: إنه من الخطأ أن يتبعها أحمدي نجاد (يمين) (الجزيرة)

تغير المشهد الفكري السياسي في إيران بعد الأزمة الداخلية التي عصفت بالبلاد إبان الانتخابات الرئاسية العاشرة عام 2009، والتي لحقها خفوت نجم الإصلاحيين، وبروز تيار مجدد اختلف مع أفكار التيار الأصولي التقليدي، فلم تخلق اصطفافات جديدة بين المحافظين وحسب بل تعدتهم إلى الإصلاحيين أيضًا، فبات الخلاف الفكري السياسي الأبرز اليوم بين المحافظين أنفسهم، مع حضور خجول للحركة الإصلاحية على الساحة دون أن يغيب التساؤل عن إمكانية عودتهم إلى المشهد.

هذا التقرير يرصد المشهد الفكري الراهن على الساحة السياسية الإيرانية، واصطفافات التيارات المختلفة وصراعها واتحادها عند الضرورة، وإلى أين تتحرك مع اقتراب الانتخابات الرئاسية عام 2013. 

انقسامات الساحة الراهنة

بدأت سيطرة المحافظين على المشهد الحالي تتعزز بعد الانتخابات الرئاسية عام 2005 والتي أوصلت محمود أحمدي نجاد لكرسي الرئاسة، بعد دورتين رئاسيتين لكلٍّ من محمد خاتمي وهاشمي رفسنجاني اللذين يُحسبان على الإصلاحيين. جاء نجاد إلى السلطة بأصوات الأرياف والفقراء والمدن المحافظة ذات التوجه الديني، ولم تكن للرئيس أية أصول سياسية في خزائن البازار، الحليف التقليدي لليمين والمحافظين. وربما كان لتوجهاته الفكرية الفضل في حصد الأصوات والتي لم تكن أصوات المحافظين التقليديين جزءًا منها فقد وُضعت في صندوق منافسه رفسنجاني الحاضر دائمًا في إيران الإسلامية. 

ولكن في الدورة الرئاسية الثانية عام 2009، حصل نجاد على أصواتهم رغم أن معظمهم لم يروا في صعوده ثانية أية نتيجة إيجابية، إلا أنهم كانوا على يقين من أن المرشد الأعلى علي خامنئي داعم له، فضلاً عن عدم وجود خيارات أفضل تُبقي المحافظين في الحكم(1).

جاءت الأزمة التي تلت التجديد لرئاسة نجاد، بعد خسارة منافسه مير حسين موسوي، حيث شكّك الإصلاحيون بنزاهة الانتخابات، فاجتاحت الشوارع الإيرانية ثورة تبنتها الحركة الخضراء، وهي التي تم احتواؤها بعد ذلك ليُغيَّب التيار الإصلاحي عن الساحة السياسية، وليختلف الإصلاحيون أنفسهم على تعريف تيارهم فينقسموا بدورهم، إلا أن الخلاف الأبرز ظهر بين مؤيدي نجاد والمتشددين التقليديين من أبناء التيار المحافظ، فأسس لتيار جديد لايندرج في إطار التصنيف التقليدي في إيران لليمين ولليسار، أو للمحافظين والإصلاحيين، ومن الممكن تسميتهم "بالمحافظين الجدد" كون معظم من ينتمون إليه لم يتمتعوا بموقع في زمن الثورة على عكس الأصوليين التقليديين وحتى معظم الإصلاحيين.

اليوم تدور الخلافات في المشهد الفكري السياسي الإيراني بين تيارات متعددة ورغم أنه يمكن المقاربة إلى حدٍّ ما فيما بينها، إلا أنه لا يمكن أن يتم تصنيفها جميعًا تحت مصطلحي المحافظ والإصلاحي.

أولاً: الأصوليون المتشددون (جبهة المبدئيين الموحدة)
يأتي الأصوليون المتشددون على رأس اللاعبين في الساحة الإيرانية حاليًا خاصة بعد سيطرتهم على معظم مقاعد مجلس الشورى الإسلامي التاسع. هم من الجيل المحافظ التقليدي سواء كانوا علماء دين في الحوزات العلمية أو من البازار، وهم يشكِّلون بالتالي قوة ذات نفوذ في المجتمع الإيراني.
 
يمكن القول: إن 90 بالمائة من المحافظين يحتشدون تحت عنوان (الجبهة المتحدة للأصوليين) أو (جبهة المبدئيين الموحدة)، ومعظم الشرائح المنطوية تحت يافطة التيار الأصولي المحافظ هم من المنتمين لمدرستي رابطة العلماء المجاهدين (روحانيت مبارز) التي يرعاها رئيس مجلس خبراء القيادة محمد رضا مهدوي كني، ورابطة مدرسي الحوزة العلمية في مدينة قم (جامعة مدرسين) برئاسة رجل الدين محمد يزدي.

وتضم الجبهة حزب المؤتلفة الإسلامي الذي لم يفز أمينه العام محمد نبي الله حبيبي ومساعده في الانتخابات التشريعية الأخيرة  العام الجاري 2012، على رغم وجودهما على قائمة الجبهة المقربة من المرشد(2)، والتي يعد من أبرز وجوهها رئيس مجلس الشورى الإسلامي علي لاريجاني ورئيسه الأسبق غلام علي حداد عادل الذي ترأّس لائحة الجبهة في سباق الانتخابات البرلمانية الأخيرة. 

تجدر الإشارة هنا إلى جبهة باسم (صوت الشعب)، يتزعمها علي مطهري نجل مرتضى مطهري أحد أبرز شخصيات الثورة الإيرانية. يُعد الابن هو الآخر أصوليًّا متشددًا ولكنه يختلف مع التقليديين على تعريف مصطلحات كالحرية وولاية الفقيه، ويقوم تياره على أساس نقد توجهات حكومة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ولاسيما الفكرية منها، فامتلك شعبية كبيرة ولاسيما بين الأوساط الجامعية والشبابية(3).

ثانيًا: المحافظون الجدد
قد لا يصح تعميم هذا المصطلح على كل الأفراد المنتمين لجبهات يحتضنها الآن تيار المحافظين الجدد، إلا أنه يمكن القول: إنهم عبارة عن ثلاثة اتجاهات فكرية متداخلة، ما يجمعها أكثر مما يفرقها، وكلها تختلف حاليًا مع التيار التقليدي، وجزء منها يعتبر نفسه مستقلاً عن هذا التيار بشكل كامل. البعد الفكري الأهم لأصحاب هذا التيار هو التجديد ومحاولة خلق خط جديد في الجمهورية الإسلامية بعيدًا عن المدرسة التقليدية التي يتبناها المتشددون أو حتى بعض الإصلاحيين.

  • جبهة الثبات (استقامة الثورة الإسلامية أو بايداري): تضم أعضاءً كان معظمهم في يوم ما مقربين من الرئيس نجاد لكنهم استقلوا لاحقًا إلى حد ما، ويُعد العلامة آية الله محمد تقي مصباح يزدي أحد تلامذة الخميني الأب الروحي للجبهة، وكان فصل نفسه عن الأصوليين المتشددين سابقًا(4)، ولطالما عُدَّ يزدي أقرب حليف عقائدي لأحمدي نجاد في قم، وترافق دخوله إلى هيكل السلطة في إيران مع تولي نجاد للرئاسة. وتضم الجبهة أيضًا أمين مجلس الأمن القومي الأعلى سعيد جليلي، ومرتضى أغا طهراني المعروف "بالمرشد الأخلاقي" لحكومة نجاد.

    ومع الخلاف الذي نشأ بين الرئيس والمرشد الأعلى حول عزل وزير الاستخبارات حيدر مصلحي، أعلنت هذه الجبهة أن الرئيس نجاد ومن حوله لم يعودوا من أعضائها وأنها ستستمر في ولائها للمرشد، إلا أن المفارقة أنهم دخلوا سباق الانتخابات البرلمانية الأخيرة كمؤيدين  لنجاد، ولم يقبلوا بنفس الوقت المشاركة في جبهة أصولية موحدة استجابة للدعوة من أقرانهم التقليدين، في تأكيد على مسلكهم التجديدي في مقابل التقليدين(5).

  • المؤيدون النجاديون: يدافعون عن حكومة الرئيس، ولكنهم لا يتفقون والأفكار المشائية ومنها قبول التعامل مع الإصلاحيين بعد ما حدث عام 2009، يتزعمهم مجتبى ثمرة هاشمي كبير مستشاري أحمدي نجاد.
  • التيار المشائي: والذي تحول لظاهرة شغلت التيارات كافة، يحمل إسفنديار رحيم مشائي أفكارًا وُصِفت على لسان الأصوليين بالانحرافية، فقالوا: إنه من الخطأ أن يتبعها أحمدي نجاد(6)، ووقف معه حميد بقائي معاون الرئيس الإيراني للشؤون التنفيذية وجوان فكر مستشاره الإعلامي. تقترب توجهات المشائيين من أفكار بعض الإصلاحيين، لكنهم يعادون التيار الأصولي التقليدي. ولأفكار مشائي مؤيدون من الجيل الشاب، ومن أهم أفكاره تبنيه لفكرة الإسلام القومي الإيراني؛ فبالنسبة له الدين يختلف من أرض لأخرى وإن عَرّف الإيراني بنفسه كإيراني، سيكون الأمر أسهل عليه ليُعرف بهويته(7).

تبنى أحمدي نجاد تيار الإسلام القومي علنًا في العامين الماضيين ليتحدث البعض عن دور مؤثر لمشائي في التحول الذي طرأ على خطاب الرئيس، فتحول من خطاب (مهدوي) إسلامي الصبغة إلى خطاب قومي إيراني يوظف الحضارة الفارسية في فترة ما قبل الإسلام.
 
يرى بعض المحللين أن نجاد كشف متأخرًا عن تسويقه لإيران القومية، وهو ما أغضب العديد من الساسة والمفكرين ورجال الدين الإيرانيين، الذين يعتبرون أن الإسلام يساوي الإنسانية وعلى إيران كجمهورية إسلامية أن تسوق له كدين الإنسانية(8).
 
ثالثًا: تيار الوسط (المحافظون-الاصلاحيون)
يُحسَب العديد من الشخصيات الإيرانية على تيار الوسط ويمكن القول بأنه "محافظ-إصلاحي"، باعتبار أنه يحمل بعض صفات اليمين وأخرى من اليسار، فبعضهم مثلاً يحملون جزءًا من الأفكار الإصلاحية دون تشدد الأصوليين، ويسعون دائمًا للحصول على مكان في السلطة التشريعية أو التنفيذية، وهم أيضًا مقربون من مجلس خبراء القيادة وأوفياء لولاية الفقيه.

منهم محسن رضائي أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام والمرشح السابق للانتخابات الرئاسية، وكان رضائي أكثر ميلاً للمحافظين المتشددين إلا أنه انشق عنهم بعد مواقف لها علاقة بأزمة الانتخابات الأخيرة وعزل الإصلاحيين، أهم الأفكار التي يطرحها في جبهته (جبهة المقاومة) هي التقارب مع الإصلاحيين المعتدلين وإشراكهم في الحكم(9).

وقد يصح تصنيف رئيس بلدية طهران محمد باقر قاليباف هو الآخر تحت هذه الراية، فهو لا يبتعد فكريًّا عن مذهب رضائي، وإن كان أكثر قربًا من الإصلاحيين، لكنه رفض احتجاجات الحركة الخضراء، وقرر البقاء في الوسط فلم ينضم لا للإصلاحيين ولا للمحافظين، الأمر الذي جعله عرضة للعديد من الانتقادات(10). ولم تسلم حكومة نجاد أيضًا من انتقادات قاليباف لاسيما أنه رجل يهتم بالاقتصاد، ولطالما تساءل عن سبب عدم استخدام عوائد ما تمتلكه البلاد في مواجهة الضغوطات عازيًا ذلك إلى التقصير الحكومي(11).

رابعًا: الإصلاحيون
يمكن تقسيم حضور الإصلاحيين في المشهد الراهن إلى ثلاثة اتجاهات لا تزال بجملتها غائبة عن التأثير في الساحة منذ أزمة الحركة الخضراء.

  • اتجاه معتدل: يعتقد بإمكان العمل مع النظام السياسي وأطره الدستورية، ويمكن وصفهم بالإصلاحيين تحت قبة نظام الجمهورية الاسلامية، منهم الرئيس السابق محمد خاتمي ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني، إضافة إلى حسن خميني حفيد الإمام الخميني. يعتقد هذا الاتجاه بضرورة عودة الكوادر إلى ساحة العمل السياسي والتنفيذي مع الإبقاء على التواصل مع الشرائح المختلفة.
  • الصامتون: رموز هذا الاتجاه تولوا مسؤوليات في الماضي إلا أنهم الآن ينتظرون ظروفًا سياسية أفضل للعودة إلى العملية السياسية، فهذا الاتجاه يؤيد الدستور والنظام السياسي، لكنه يرى عدم توافر الأجواء الملائمة للعمل من خلالها، لذلك يفضل الابتعاد ريثما تتوفر الظروف المناسبة. والحقيقة أن هذا الاتجاه يشعر بالإحباط السياسي، خصوصًا بعد أحداث عام 2009، ومن أبرز رموزه محمد رضا عارف نائب رئيس الجمهورية خلال حكومة خاتمي، وحسن روحاني الرئيس الأسبق لمجلس الأمن القومي، وإسحاق جهانكيري والذي كان وزيرًا في حكومة رفسنجاني(12).
  • الحركة الخضراء: يعده المحافظون الآن اتجاهًا متطرفًا في التيار الإصلاحي كونه لا يزال يشكِّك في صدقية وشرعية الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ويرفض الانخراط في اللعبة السياسية، استنادًا إلى قناعته باستحالة العمل مع النظام السياسي وفق الشروط الحالية. يمثل هذا الاتجاه المرشحان الرئاسيان الخاسران مير حسين موسوي ومهدي كروبي، إضافة إلى شخصيات إصلاحية خارج إيران وداعمة لهذا الاتجاه أمثال الوزير السابق عطاء الله مهاجراني. هذا التصنيف يضم محافظين ويساريين سابقين وتوحدهم في ما يسمى "الحركة الخضراء" ليس توحدًا فكريًا بل أمْلَته ضرورات سياسية. كما يُثار جدل داخلي حول تصنيف هذا الاتجاه بعد أن خرجت رموزه عن المسار المعهود للحركة الإصلاحية الإسلامية، فلم يعد غالبية المحافظين وحتى بعض الإصلاحيين يحسبونه جزءًا من التيار الإصلاحي، بل "تيار فتنة" كما يصفونه، مدعومًا من الخارج.

 تلاقي القوى وصراعها

الاختلافات الفكرية بين التيارات الراهنة تنطوي على جملة من العناوين المعقدة قليلاً، فالخلاف بنظرة إجمالية إلى المشهد هو بين محافظين تقليدين وجدد، وسببه الاختلاف على سياسات نجاد وتحدي هذا الأخير -أكثر من أي رئيس آخر منذ العام 1989- للمرشد الأعلى علي خامنئي وللنظام السياسي الإيراني بأكمله. ويحمل هذا الخلاف كذلك بُعدًا قوميًّا حيث واجه التسويق لما يسمى "الإسلام الإيراني المتفوق" معارضة ضارية من قبل رجال الدين.

يمكن القول: إن أحمدي نجاد أسس لاصطفاف بتحديه لأولئك التقليدين وهم من أعمدة النظام الإسلامي، وورثة الثورة الإسلامية الإيرانية؛ حيث اتحد هؤلاء لمواجهة مذهب المحافظين الجدد، ولعل الأمر الذي يدعو للاستغراب في هذه المعادلة هو وقوف بعض الشخصيات الإصلاحية إلى جانب شخصيات أصولية متشددة  ضد المحافظين الجدد، كيف لا وهؤلاء يشتركون معًا بتأسيس الجمهورية الإسلامية، وفي يوم ما اتفقوا على أن أحمدي نجاد غير مؤهل لقيادة البلاد.

وإن ذهبنا أعمق من ذلك فسنرى اتحادات أخرى بين التيارات، فمن المحافظين من يدعم البرنامج الحكومي مع انتقاد بعض تفاصيله خصوصًا ما يتعلق بالبرنامج الثقافي، وهذا الاتجاه ذاته يعارض الإصلاحيين وفريق الانحراف الموالي لأحمدي نجاد، ولكنهم هنا يعتبرون أن مشائي هو من يسعى لتشويه الرئيس وتقديمه على أنه شخص يقف بوجه المرشد، في المقابل ينفي التيار المشائي تعديه على ولاية الفقيه(13)، وهناك أيضًا العكس، فالبعض من المحافظين يدعون للتعامل بإيجابية مع أبناء التيار الإصلاحي.

المشهد الراهن للانقسامات ليس جديدًا على الساحة الإيرانية، ولطالما تعددت الجبهات بسبب الاختلاف على بعض العناوين بين كلٍّ من المحافظين والإصلاحيين، أو حتى بين أبناء التيار الواحد كما هو الحال اليوم، وإن بدا للبعض أن التقسيم الراهن جاء وليد أزمة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فهذا صحيح إلى حدٍّ ما، كون كل الجبهات المنبثقة اليوم عن التيار المحافظ اجتمعت للضرورة قبل ثلاثة أعوام، لتخلق اتحادًا إستراتيجيًّا لمواجهة خطر عودة الإصلاحيين إلى الحكم، ودعمت بقوة خيار التجديد لأحمدي نجاد رغم الاعتراضات، فدعم نجاد أفضل من وصول موسوي لسدة الرئاسة، والذي يعني سحب البساط من تحت المحافظين الممسكين بزمام الأمور، فضلاً عن إعادة رسم سياسات البلاد الخارجية على شاكلة ما كان عليه الحال في سنوات حكم الاصلاحيين حيث فُتح وقتها حوار مع الغرب. والمعروف أن الأصوليين قاموا بتغيير مفاهيم سياسة البلاد الخارجية بعد ذلك، لتصبح هي الأخرى متشددة في التعامل مع العالم.

توزع التيارات والتحضير لسباق انتخابات عام 2013

أعاد تشكيل البرلمان الجديد عام 2012 ترتيب أوراق القوى في إيران فأخذ شكلاً محافظًا مختلطًا بين التقليديين والجدد، وشارك الكثير من المرشحين في قوائم جبهات محافظة متعددة وحتى بعض النواب المستقلين حُسِبوا على هذا التيار، ولكن الأغلبية حُسمت للجبهة المتحدة، ما يعني برلمانا مقربًا من المرشد(14). ولكن لا يمكن الجزم بأن تيار الرئيس الإيراني قد هُزِم في المعركة الانتخابية التي أعادت رسم ملامح الخريطة السياسية في البلاد، وسترسم ملامح السباق نحو الرئاسة، فهذه النتيجة تشير إلى أن الفترة المتبقية لنجاد في الحكم سيغمرها لحظات من الشد والجذب مع برلمان بأغلبية متشددة، وأن ربط حكومة أحمدي نجاد بما يُسمى التيار الانحرافي أو اتهام الرئيس بعدم إطاعة المرشد، كلها أمور تعد نقطة بداية للأصوليين المتشددين لخوض معركة الرئاسة بقوة عام 2013، وإن لم يُجمِعوا حتى اللحظة على مرشح واحد، فإن التوقعات ترجح أن يكون رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني هو هذا المرشح(15).

أما جبهة الثبات الحاضرة في المشهد السياسي، فإنها تستعد لمنافسة ائتلاف يمثل الجبهة المتحدة ثانيةً، تقوم سياستها حاليًا على التقرب من مراكز القوة المسيطرة على اتخاذ القرارات، وشطب المنافسين من الساحة واحدًا تلو الآخر. وستطرح الجبهة -التي تبدو الأكثر تنظيمًا- مرشحًا للرئاسة العام المقبل بلا شك، قد يكون رئيس مجلس الأمن القومي سعيد جليلي، وربما مستشار المرشد الأعلى علي أكبر ولايتي، أو حتى غلام علي حداد عادل، وإن كان بعض هؤلاء محسوبًا على الأصوليين المتشددين أحيانًا إلا أن حداد عادل  كمثال، رغم تزعمه للجبهة المتحدة في سباق الانتخابات البرلمانية، قد نافس لاريجاني المنتقد لنجاد على رئاسة البرلمان الحالي، وكان من الطبيعي أن يدعم  بقوة من قبل نواب الثبات(16).

وعلى الرغم من هذا المشهد الذي يشي بأن أحمدي نجاد محاصر، فإن هذا الأخير لا يزال يراهن على أن يُوصل للرئاسة من يمثل تياره من الأطراف الأكثر تأييدًا له، وليس من "الثبات". فهو يحاول الظهور كشخص يسعى المتشددون لاستبعاده وعزل التيارات المقربة منه، بما قد يساعده في منح فرصة الفوز لمرشح مقرب(17)، لكن أعضاء المجموعة الحكومية  يعلمون أكثر من غيرهم أن اختيار مرشح من هيئتهم الحالية سيعني بالنسبة لكثيرين استمرار النهج النجادي، وبالتالي خسارة فرصة الفوز التي يسعى نجاد لتأمينها، ولا يوجد بالتالي خيارات واضحة، وربما يضطر هؤلاء إلى اختيار شخص توافقي منهم كوزير الخارجية علي أكبر صالحي(18).

ويدور حديث في مكان آخر عن أن الشرخ بين المحافظين قد يصب لصالح قوة أخرى مستقبلاً، هنا تظهر دعوات للإصلاحيين لاستغلال الوضع، والاتفاق على مرشح يمثلهم، يفضل أن يكون من المعتدلين منهم، إلا أن الأمر صعب كونهم منقسمين وبلا رموز قيادية(19).

ليس أمام التيار الإصلاحي الآن إلا اتباع واحدة من ثلاث إستراتيجيات: فإما الاجتماع تحت قبة واحدة تظللهم ليتفقوا على أرضية مشتركة فيشاركوا في الانتخابات بمرشح إصلاحي واحد وهذا صعب، أو الإجماع على شخصية إصلاحية معتدلة معروفة كان لها وزنها الثقيل في البلاد كخاتمي أو هاشمي رفسنجاني، وإن لم يتم هذا الأمر فعليهم دعم ترشيح شخصية محافظة لم تعادِهم ولم تمنع فعالياتهم السياسية بعد الأزمة(20)، وربما يشكّل محسن رضائي أو قاليباف كمحافظين-إصلاحيين خيارًا جيدًا، والتوقعات تدور حول ترشح كليهما.

  أما طرح اسم خاتمي وإن كان ممكنًا إلا أنه ما زال قرارًا يشوبه الحذر، لأنه يحتاج موافقة مجلس صيانة الدستور أولاً وإرضاء المتشددين ثانيًا. لكن الأمر مختلف بالنسبة لرفسنجاني، فهو الرجل ذو الثقل في الجمهورية الإسلامية والمحسوب على الإصلاح المعتدل ويتمتع ببعد متشدد، وكثير ينظرون إليه على أنه خشبة خلاص على المستويين الداخلي والخارجي، فالنظام في إيران يحتاج إلى الخروج من أزمة انعدام الثقة الشعبية بالنخبة السياسية، وربما يكون الخيار لتجاوز عقوبات أرهقت البلاد فيفتح نافذة الحوار مع الغرب دون تجاوز المبادئ الأصولية، وسيرحب به الغرب أيضًا(21).

وعودة أبناء رفسنجاني إلى البلاد وتنفيذهم لحكم بالسجن بعد اتهامهم بالمشاركة في تأجيج الاحتجاجات الأخيرة، قد تعني إعادة ترتيب ملف يضمن عودته رئيسًا، أو حتى دعمه -الذي سيكون مؤثرًا للغاية- لمرشح مقرب منه.

وأخيرًا، إن دار تساؤل حول موقع الحركة الخضراء فعودة كروبي وموسوي إلى المشهد شبه مستحيلة، ومن المستبعد أن يوافق هذا الاتجاه على الدخول في سباق الانتخابات القادمة لأن مرشحيه سيصطدمون بكل تأكيد بمعارضة مجلس صيانة الدستور أولاً، وببقية التيارات التي تريد الحفاظ على ثقلها ثانيًا.

خاتمة

الاتجاه الفكري السائد في المشهد الإيراني اليوم هو اتجاه المحافظين المتشددين المقرَّب من المرشد الأعلى، فهو الذي يسيطر على المعادلة السياسية وعلى السلطتين التشريعية والتنفيذية في البلاد، ومن المرجح أن تكون له الكلمة الفصل في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

أما الاتجاه الإصلاحي الذي كان حاضرًا بقوة على مدى سنوات من عمر الثورة الإسلامية كمنافس قوي للاتجاهات الأخرى، هو الآن شبه غائب عن المعادلة السياسية بعد احتجاجات الحركة الخضراء. في حين أن الاتجاه الفكري الذي يمثله الموالون لأحمدي نجاد بكل أطيافه، وإن بدا أنه خسر معركة الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لا يمكن استبعاد تأثيره وخاصة من ناحية تبنيه فكرة دعم إسلام قومي إيراني بحت، فالمجتمع الإيراني قومي أولاً بطبعه، وخلطةٌ من الإسلام القومي مع توجهات انفتاحية قد تشكّل وصفة خلاص للناخبين الشباب في السباق الرئاسي القادم.

لكن كافة الاتجاهات تعي اليوم مسألة أزمة ثقة المجتمع الإيراني بأصحاب القرار بعد ما حدث عام 2009، فهناك شبه اتفاق بينها على ضرورة استعادة هذه الثقة، والأطراف كافة مدعوة بشكل أو بآخر للتعامل مع الأمر، وقد يكون الخلاص بانتخاب رئيس قادر على التعامل مع الخارج بعد تشديد الحظر والعقوبات، ويستعيد ثقة الداخل، بالتالي على بعض التيارات عدم الانفراد بساحة التنافس والسماح لباقي الاتجاهات بالتفاعل، ما يعني أنه على السياسة المحافظة المتأرجحة بين المتشددين والجدد السماح للإصلاحيين بالدخول للسباق لتحقيق نسبة مشاركة عالية، أما سدّ الأبواب بوجههم سيعني بقاء المعادلة القائمة على حالها.
______________________________________
فرح الزمان أبو شعير - باحثة متخصصة بالشأن الإيراني.

المصادر:
(1) نسرين وزيري، دولت احمدي نژاد بخشي از ارزشهاي انقلاب را زنده کرد و بخشي را ميراند (حكومة أحمدي نجاد أحيت جزءاً من القيم الثورية الإيراني وأضاعت جزءاً آخر)، 19 شهريور 1391 (9 سبتمبر/أيلول 2012)
http://www.khabaronline.ir/detail/241748/politics/parties
(2) "تحركات تازه براى انتخابات رياست جمهورى" (آخر التحركات لسباق الانتخابات الرئاسية)، 1 تير 1391 (21 يونيو/حزيران 2012)
http://www.khabaremroz.com/component/content/article/14-يادداشت%20خبر%20امروز%20ياسوج/368-تحركات%20تازه‌%20براي%20انتخابات%20‌رياست%20‌جمهوري%20.html
(3) راجع المصدر (1)
(4) امير رضا رضوى، رئيس جمهور اينده ايران كيست؟ (من هو الرئيس القادم لإيران ؟) ، 17 مرداد 1391 (7 أغسطس/آب 2012)
http://khedmatgozare.mihanblog.com/post/132
(5) أجري حوار مع عضو لجنة الأمن القومي في البرلمان السابق محمود أحمدي، وهو من التيار المؤيد لحكومة نجاد ويتحدث عن الوقوف إلى جانبه في كل شيء إلا إذا تعلق الأمر بالمرشد. للمزيد انظر إلى " من با احمدى نژاد يک بى غش تفاوت دارم" (لدي مع أحمدي نجاد اختلاف واضح ) ، 3 فروردين 1391 (22 مارس/أذار 2012)
http://www.tabnak.ir/fa/news/234199/%D9%85%D9%86-%D8%A8%D8%A7-%D8%A7%D8%AD%D9%85%D8%AF%DB%8C%E2%80%8C%D9%86%DA%98%D8%A7%D8%AF-%DB%8C%DA%A9-%D8%A8%DB%8C-%D8%BA%D8%B4-%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%88%D8%AA-%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D9%85
(6) راجع المصدر(1)
(7) "مشائي: بايد مكتب ايران را معرفى كنيم نه مكتب اسلام را" (يقول مشائي :علينا التعريف بالمدرسة الإيرانية وليس المدرسة الإسلامية)، 13 مرداد 1389 (4 أغسطس/آب 2010)
http://www.farsnews.com/newstext.php?nn=8905130174
(8) راجع المصدر (1)
(9) راجع المصدر (2)
(10) نشر على الموقع الخاص لقاليباف عدم قبوله لأفكار كل من تياري "الانحراف" المرتبط بمشائي وتيار "الفتنة" أي ما يسمى بالحركة الخضراء. للمزيد انظر: "برائت از انحراف و فتنه در انديشه وعمل دكتر محمد باقر قاليباف" (براءة أفكار قاليباف مما يتبعه كل من تياري الفتنة و الانحراف) ، 5 خرداد 1391 (25 مايو/أيار 2012)
http://www.ghalibaf1340.blogfa.com/post-249.aspx
(11) "انتقاد تند قاليباف از عملكرد دولت" (انتقاد قاليباف الحاد لأداء الحكومة) ، 15 مهر 1391(6 أكتوبر/تشرين أول 2012)
http://www.bolandanews.ir/culture-and-art/view/5208%3A%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%AF+%D8%AA%D9%86%D8%AF+%D9%82%D8%A7%D9%84%DB%8C%D8%A8%D8%A7%D9%81+%D8%A7%D8%B2+%D8%B9%D9%85%D9%84%DA%A9%D8%B1%D8%AF+%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%AA
(12) راجع المصدر (4)
(13) " پاسخ دندانشكن مشائي به مخالفان مكتب ايران اسلامى" ( رد مشائي القاطع لمخالفي مدرسة إيران الإسلامية) نشر على الموقع الخاص بمشائي في ، 16 مرداد 1389 (7 أغسطس/آب 2010)
http://mashai.parsiblog.com/Posts
(14) "ارايش سياسى مجلس نهم تلفيقى از اصولگرايان سنتى و مدرن" (شكل البرلمان التاسع خليط بين المحافظين التقليدين والجدد) ، 18 ارديبهشت 1391 (7 مايو/أيار 2012)
http://noorportal.net/news/shownews.aspx?id=61046
(15) راجع المصدر(4)
(16) "سر نگار اختصاصى انتخابات" ( مراقبة خاصة للانتخابات) ،2012
http://www.iranamerica.com/forum/showthread.php?t=32492
(17) صادق زيباکلام ، احمدي‌نژاد همين طور ادامه بدهد مجلس برکنارش مي‌کند (فليستمر أحمدي نجاد بهذا الأداء وسينحيه البرلمان جانباً) ،  13 مهر 1391(4 أكتوبر/تشرين أول 2012)
http://aftabnews.ir/vdcdjs0fxyt05k6.2a2y.html
(18) راجع المصدر (4)
(19) راجع المصدر (17)
(20) فاطمه استيرى، چشم‌انداز مبهم ورود اصلاح‌طلبان به انتخابات رياست جمهوري يازدهم/ از سکوت چهره‌هاي شاخص اصلاحات تا واکنش‌هاي اصولگرايان (صورة ضبابية عن مشاركة الإصلاحيين في الانتخابات الرئاسية 11، بين صمت الشخصيات الإصلاحية وردود فعل المحافظين)، 30 تير 1391 (20 يوليو/تموز 2012)
http://www.khabaronline.ir/detail/228963/
(21) سجاد صفرى، غرب از به قدرت رسيدن رفسنجانى در ايران استقبال ميكند (الغرب سيرحب بوصول رفسنجاني للسلطة في إيران) ، 11 مهر 1391 (2 أكتوبر/تشرين أول 2012).
http://yekmoalem1.blogfa.com/post/855

ABOUT THE AUTHOR