من تقسيم إلى التحرير: هل هو "ربيع عربي" تركي؟

يرى الدكتور الصديقي أن الحركات الاحتجاجية الأخلاقية من "احتلوا وول ستريت" إلى "احتلوا حديقة غيزي" في تركيا تستدعي البحث فيها واستكشافها لتحديد "صواعق التفجير" الخاصة بكل ثورة، التي دفعت بحراكات نابعة من قوة الشعب شبيهة بحراكات الربيع العربي إلى طليعة ديناميات التغيير في تركيا.
19 June 2013
201361811046923734_20.jpg

متظاهرون في ميدان تقسيم بإسطنبول يحتجون ضد حكومة حزب العدالة والتنمية التي يقودها رجب طيب أردوغان (الأوروبية)

يا له من مشهد بليغ! رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يذهب إلى بلاد المغرب العربي، مسقط رأس الربيع العربي. ولا مفر من تشبيه رحلة أردوغان إلى مملكة عربية برحلة بن علي وهبوط طائرته في المملكة العربية السعودية في 14 يناير/كانون الثاني 2011، ليُفتح بعده طوفان ثوري من "الرحيل" تجاوز حدود الوطن العربي.
 
إن ما تلا ذلك من تأكيدات على قوة الشعب تجلى حتى الآن في خط سير رحلة رائعة للربيع العربي غادرت من شارع بورقيبة في تونس إلى ميدان التحرير في القاهرة، عبر بنغازي، ثم المنامة وصنعاء ودمشق وصولاً إلى وول ستريت في نيويورك. وهذه المسيرة بشمولها الحركات الاحتجاجية الأخلاقية من "احتلوا وول ستريت" إلى "احتلوا حديقة غيزي" في تركيا تستدعي البحث فيها واستكشافها كي ننسج معًا سردًا نتعمق فيه حتى نحدد "صواعق التفجير" الخاصة بكل ثورة فضلاً عن الخصائص المشتركة التي دفعت اليوم بحراكات نابعة من قوة الشعب شبيهة بحراكات الربيع العربي إلى طليعة ديناميات التغيير في تركيا.

وتستدعي العوامل التي فجرت الاحتجاجات الشعبية في تركيا اهتمامًا خاصًا: الفضاء الاستبدادي وعبادة القائد الأوحد والليبرالية الجديدة ودينامية الشباب.

الفضاء الاستبدادي

في ظل الأنظمة الاستبدادية، في أي مكان، نجد أن جغرافيا المكان والمدينة وحتى الطابع المعماري هي ما يشكّل المواطنة. إن ما يحصل في تركيا مؤخرًا ليس ثورة مخملية. ومع ذلك، كانت حركة "احتلوا حديقة غيزي" الاحتجاجية في إسطنبول، كما هو الحال في الساحات العامة من الربيع العربي، فرصة لاستعادة الفضاء العام لغرض إعادة صنع المواطنة وإطلاق العنان للهويات الديمقراطية. ويمثل ذلك قوة الرمز الذي صنعه محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر/كانون الأول عندما أحرق نفسه أمام المبنى الذي يمثل السلطة المركزية في وضح النهار وأمام مواطنين عاجزين. وبفعله ذلك أثار قضية "ملكية" الفضاء العام؛ إذ إنه اختار حرق نفسه في وضح النهار مستخدمًا المكان الذي كان يعتقد أنه ملك للعامة وكان له كل الحق في بيع بضاعته فيه. وربما كان هذا هو السبب في أن ما فعله البوعزيزي لم يكن انتحارًا؛ فالانتحار عمل فردي خاص يتم في خفية عن أعين الناس. وهذه واحدة من الخصائص المشتركة للانتفاضات في الدول العربية وتركيا: جغرافيات المقاومة الهادفة إلى تحدي ليس فقط التصميم الاستبدادي للفضاء العام، بل أيضًا العودة بالشعب إلى الواجهة باعتباره صاحب السيادة.

كيف ينطبق ذلك على تركيا بشكل أكثر تحديدًا؟

كان المفجر للانتفاضة التركية هو رفض الشعب لإزالة حديقة غيزي التاريخية، والتي تعد بؤرة ساحة تقسيم، من خارطة المساحات الخضراء في مدينة إسطنبول. و"غيزي" حديقة عامة جميلة تضفي طابعًا خاصًا على هذه المنطقة ويعتز بها أهالي إسطنبول باعتبارها جزءًا من هوية مدينتهم الرائعة. ولذلك كان الغضب الشعبي فوريًا وعارمًا وواسع النطاق ومذهلاً. وأول من شعر بتداعياته قبل الآخرين كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي يتزعمه. لم يواجه أردوغان تحديًا مثيلاً من قبل، وهو الذي لا يزال يُصوَّر بأنه مصلح ورمز لازدهار تركيا الاقتصادي منذ تولي حزبه السلطة في عام 2002. وقد وفرت قصة نجاح تركيا الاقتصادية لإدارته تحت قيادته، حتى أوائل يونيو/حزيران، جدار حماية ضد المعارضين العلمانيين الذين يعد سجل إنجازاتهم تافهًا بالمقارنة مع إنجازات رئيس الوزراء الإسلامي. وإلى حد ما، فإن أردوغان هو ضحية نجاحه الخاص، من حيث إن هذا النجاح ساعده على إعادة اختراع نفسه والتحول إلى رمز للقوة في السياسة التركية مفرطًا في الثقة بنفسه، بل وربما مغرورًا متعجرفًا كما يراه المدافعون عن حديقة "غيزي". وهذه الشخصية المنهمكة في مفهومها الخاص عن أهمية الذات هي التي أفقدته شعبيته عندما تحولت المسألة إلى سجال عام، وأدت إلى حشد الآلاف للتظاهر سعيًا لإنقاذ الأشجار في الحديقة ضد خطة "التحول" (وهو المصطلح المستخدم في الخطاب الحكومي) والهادفة إلى تحويل حديقة خضراء ساحرة في مكان مركزي إلى مركز للتسوق. إن ما يسمى "التحول" هو جزء لا يتجزأ من المشاريع الحضرية الضخمة لإعادة تصميم إسطنبول، ويهدف المشروع إلى إعادة بناء الثكنات العسكرية العثمانية من خلال خطة ذات شقين:

  1. إقامة مركز تجاري كبير وبراق.
  2. بناء شقق سكنية فاخرة داخل حديقة غيزي، أي إصدار حكم الإعدام حرفيًا على هذه المساحة الخضراء التي يرتادها الناس بكثافة ويعشقها سكان إسطنبول والسياح على حد سواء.

وبناء على ما ذكرناه أعلاه، خرجنا ببعض الملاحظات المنطقية، أولاً: كما في حالة حرق البوعزيزي لنفسه، عملت احتجاجات حديقة "غيزي" كصاعق، بل كسبب ونتيجة في نفس الوقت. كانت سببًا من حيث إنها سرعان ما تحولت إلى رمز لحشد وتوجيه الغضب الشعبي ضد السلطة المركزية. ثانيًا: كما في حالة الاحتجاجات العربية، لا يمكن عزل التظاهرات في حديقة "غيزي" عن التاريخ. ومن هنا برز الإحباط والسخط المتراكم إلى الواجهة فورًا. ولهذا الإحباط والسخط، كما سنفصل أدناه، جوانب كثيرة. وتشمل هذه مجموعة تصورات في ذهن العامة هي أن حزب العدالة والتنمية يقود السياسة التركية إلى الحكم المنفرد، وعجز المعارضة الحالية عن فرض وجودها من خلال تعبير أفضل عما يريده الشعب، تاركة المجال العام في يد أردوغان والبورجوازية فقط، سواء الإسلامية أو العلمانية، والتي استفادت من سياساته الليبرالية. وأخيرًا القناعة لدى العامة بأن إعادة تصميم الحيز العام ليتناسب مع مجموعة من المصالح المهيأة للاستفادة من "التحول" الذي يطول الحديقة، تنطوي عل تجاهل لرغبات فئة كبيرة صامتة من المجتمع التركي والذين عدّوا المشروع القشة التي قصمت ظهر البعير. بمعنى آخر، خرج الصامتون عن صمتهم ليعبّروا بقوة عن معارضتهم لسياسة من شأنها ليس فقط "تخريب" المساحات العامة، بل أيضًا حرمان الناس من مجموعة من الحريات بطريقة اعتبرها من في السلطة تحصيل حاصل. ولا تتعلق هذه الحريات فقط بالقوانين الصارمة لمنع العناق والقبل بين الرجال والنساء أو استهلاك الكحول في الأماكن العامة، ولكنها تتعلق أيضًا بنوعية الفضاء العام الذي يستحقه الناس في ظل نظام ديمقراطي. فمراكز التسوق والمباني السكنية الفاخرة التي لا يملك الناس الحصول عليها نظرًا لضعف قدراتهم الاقتصادية لن تعوضهم عن الحرية التي فقدوها في الجلوس مجانًا في ظلال أشجار أُزيلت من حديقة غيزي.

عبادة القائد الأوحد

عاد رجب طيب أردوغان إلى تركيا في الأسبوع الثاني من شهر يونيو/حزيران مثبتًا من جديد أنه لا يزال محط تملق واسع من قبل قيادات وكوادر حزب العدالة والتنمية. أردوغان ليس بن علي أو مبارك ويدين بمنصبه المستحق لصناديق الاقتراع لا البنادق. وقد بدأ ولايته التي استمرت عشر سنوات بانتخابات ديمقراطية عام 2003. عاد إلى الشعب في مناسبتين أخريين للحصول على ولاية جديدة في انتخابات حرة ونزيهة، وينسب إليه العديد أعمالاً بطولية في السياسية في تركيا: النجاح الاقتصادي، والكفاح ضد الدولة العميقة، وترويض الجيش المهيمن تاريخيًا، وتحقيق السلام مع الأكراد، وبطبيعة الحال، الأداء الاقتصادي القوي. أما خصومه فيجدون فيه كل عيب، بما في ذلك سجن المعارضين العلمانيين وبعض الانتهاكات لحقوق الإنسان والحريات العامة -وتشمل تلك القوانين التي فُرضت مؤخرًا لحظر بيع الكحول من الساعة العاشرة ليلاً وحتى السادسة صباحًا، وكذلك تحريم بيعها قرب المساجد وحرم المدارس، ومنع تبادل العناق والقبل بين الرجال والنساء في الأماكن العامة. وبالنسبة لمنتقديه، يعد هذا هو الباب الخلفي لفرض الأخلاق العامة الشبيهة بالشريعة الإسلامية في بلد علماني متشدد يستمر فيه إرث الكمالية حتى بعد انتخاب الإسلاميين لتولي السلطة.

ولا ينقص أردوغان الكاريزما أو الروح القتالية، وهو لا يخلو من الغرور كذلك، وقد برز هذا الغرور في الطريقة التي ظل يتصرف بها منذ اندلاع الاحتجاجات في تركيا والتحدي الذي رد به عليها. فهو لا وقت لديه لـ"سياسة الشارع"، وربما هنا تحديدًا خسر بعض شعبيته عن طريق الظهور بمظهر المتعجرف غير المتأثر بما يشير به مقياس الرأي العام المباشر. ويظهر أردوغان دائمًا صحيح الجسم رياضي الهيئة طويل القامة واثقًا، وغربي النزعة بما فيه الكفاية فيما يتعلق بأسلوب لباسه ونظرته المستقبلية، وخاصة من حيث فكره الاقتصادي الليبرالي. وقد عوض عن رفض الاتحاد الأوروبي لعضوية تركيا من خلال الاستثمار البارع بطريقة تحلم دول الاتحاد الأوروبي الذي يطلق عليها (PIGS)، وهي البرتغال وأيرلندا واليونان وإسبانيا، بتحقيقها في المستقبل القريب.

ترك الرجل بصمته على السياسة التركية من خلال الإدارة المباشرة التي مارسها عندما كان عمدة لمدينة إسطنبول، ومن خلال التعامل المباشر مع المواطنين العاديين. ولكنه لم يعد يطبق هذا النهج، ربما لأنه كبر عن حجمه الحقيقي. هو من جهة يقوم بما هو مطلوب ليظهر صورة تركيا التي تطمح لتقف شامخة بين الدول؛ فهي تحتل اليوم المرتبة 17 بين أقوى الاقتصادات في العالم، وقد نما الناتج المحلي الإجمالي لبلاده لأكثر من الضعف. ومن جهة أخرى، فهو يعتمد في اجتماعات حزب العدالة والتنمية خطابًا تهديديًا ضد أولئك الذين يقفون في طريق مسيرة تركيا، وقد شكّل ذلك تهديدًا متناميًا لخصومه الأيديولوجيين وهم يرون في أقواله وأفعاله دليلاً على أنه حريص على السير وحده ووصم تركيا بعلامة الدولة الإسلامية ضيقة الأفق. وقد قطع أردوغان شوطًا طويلاً في ذلك الاتجاه كشخص يحمل قناعات إسلامية قوية عانى بسببها شخصيًا عندما أُودع السجن في عام 1999. وقد انتصر على الدولة العميقة التي كان يفترض فيها دائمًا وجود أياد خفية من الجيش تعمل على إيذاء أعداء الكمالية مثل الإسلاميين. ومع ذلك، فإنه قد انتصر من خلال طرق غيّرت تركيا بالتأكيد، وهي المزيد من التسامح مع الأقليات العرقية، وقبول الأكراد وصنع السلام معهم، والسماح لوسائل إعلام متنوعة بالتعبير عن مختلف وجهات النظر الأيديولوجية، والمواجهة مع مآسي الماضي، بما في ذلك اضطهاد العلويين، من بين أمور أخرى، ومحاولة تطبيق الدبلوماسية في حل المسائل المتعلقة بماضي الأرمن.

وعمومًا فإنه بالرغم من هذا البريق في حياته المهنية وسيرته الذاتية الطويلة الغنية بالإنجازات التي لا يستطيع زعيم إسلامي آخر التباهي بمثيلاتها، فإن أردوغان قد يكون أطال مكوثه كقائد مرحب به في السياسة التركية. وهذا هو الخيط المشترك الذي يربط احتجاجات الربيع العربي وتلك التي بدأت في ساحة تقسيم في تركيا في أوائل شهر يونيو/حزيران 2013. ربما يمثل أردوغان عبادة الشخصية التي نجمت عن النجاح السياسي واجتياز الاختبار الديمقراطي في انتخابات حرة ونزيهة. وعبادة الشخصية هذه، وحتى لو كانت عرضية جزئيًا، تشتبك مع لحظة من الرمزية الشعبية وبروز الشعب باعتباره محور العمل السياسي القائم على الاحتجاج. عشر سنوات في سدة الحكم في دولة ديمقراطية هي فترة طويلة جدًا في العصر الحديث؛ حيث الجماهير في كل مكان تطالب بتداول السلطة وضخ الدماء الشابة وتسعى إلى وجوه جديدة. فحتى أردوغان الرياضي الأنيق قد يكون شاخ في وعي المواطنين الأتراك. وسلوك أردوغان وغروره لم يكونا عونًا لزوجته أمينة التي تتمتع بسمعة بأنها أكثر لينًا منه، ومعروفة بأناقتها بالحجاب وتواضعها، وهي تناشد الملايين من الأتراك الذين منحوا الحرية ليتوقوا ويتحولوا إلى مسلمين في كل من المجالين العام والخاص، ليعكسوا وجهة عقود من تطبيق الكمالية المتشددة التي سعت إلى إعادة صياغة الهوية التركية على شاكلة الأوروبيين العلمانية. لم يعد قادة اليوم الرمزيون علامة فارقة في السياسة الحديثة، بل إن المواطنين في العصر الحديث يريدون لفترات حكم الساسة أن تكون "قصيرة وحلوة". قد تجبر الاحتجاجات في ساحة تقسيم أردوغان على التقاعد المبكر والتخلي عن الحكم. وبالتأكيد، سوف تعمل السياسة في أعقاب الاحتجاجات على تأجيج طموحات الكوادر الشابة والقيادات القادرة الذين أظهروا حتى الآن احترامًا وطاعة لأردوغان. إن طول البقاء في السلطة يمكن أن يضيق أفق القائد، وقد يكون هذا ما حدث بالفعل لأردوغان الذي اعتمد على دائرة مقربة من المساعدين والمستشارين من حزب العدالة والتنمية، مما أحاطه بأسوار حجبت عنه هموم أبناء الشعب العاديين الذين خرجوا منذ أيام في تظاهرات احتجاجية ليوجهوا له رسالة لا لبس فيها وهي إما أن يصلح الحال أو يدفع ثمن غروره، وهو التقاعد المبكر من السياسة.

الدوغماتية الاقتصادية الليبرالية الجديدة

يمكن للأيديولوجيا الإسلامية أن تعمل جنبًا إلى جنب مع الدوغماتية الليبرالية الجديدة. ومن هنا استطاع حزب العدالة والتنمية أن يدهش الذين ظلوا حتى فترة قريبة يرون في تركيا نموذجًا تقتدي به بلدان الربيع العربي الساعية للدمقرطة حديثًا. ويتساءل المرء ماذا يمكن أن نقرأ في برقيات "ويكيليكس" لو تسربت معلومات حول التعاملات التجارية للطبقة الرأسمالية وكيف تم تعزيز هذه الطبقة، بما في ذلك تلك التابعة لحزب العدالة والتنمية الحاكم. هذا لا يعني أن الفساد منتشر، إنما هو مجرد تعليق على بناء إمبراطوريات الأعمال التي تطورت في ظل حزب العدالة والتنمية -في الغالب لصالح تركيا. وقد عقدت بعض من هذه الشركات في مرحلة ما صفقات تجارية تقدر بمئات الملايين مع إسرائيل. ولكن بغض النظر عن ذلك، فإن جوهر النقطة التي نطرحها هنا هو أن الإدارة الاقتصادية الإسلامية قامت عبر أكثر من عشر سنوات بربط تركيا بالاقتصاد الرأسمالي العالمي. والنتيجة هي اقتصاد ليبرالي جديد واضح وصريح، ومرتبط ولابد بجوانب استبدادية من حيث التوزيع، أدت إلى ثراء العديد، ولكن عددًا أكبر ازداد فقرًا. استطاع حزب العدالة والتنمية خلال أكثر من عشر سنوات قلب المصائب الاقتصادية التي حاصرت الإدارات العلمانية السابقة. ويجب أن يُعزى هذا النجاح جزئيًا وضمن سياق معين إلى مساعي تركيا لإرضاء الاتحاد الأوروبي والقفز من خلال "حلقته" إلى العضوية الكاملة، وهي المساعي التي تلاشت الآن تقريبًا، ليحل محلها خطاب معاد للاتحاد الأوروبي. كان هذا المخطط السابق لمسار الأمور يعني الالتزام الكامل بالنيوليبرالية الاقتصادية -أي اقتصادًا رأسماليًا متكاملاً يلبي القيم والمعايير الاقتصادية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وكانت اثنتان من الركائز الأساسية التي بُنيت عليها هذه السياسة الثنائية: الخصخصة وتحرير الاقتصاد. تحسنت مؤشرات الفقر في الفترة ما بين 2003-2007 فقط لتتراجع مرة أخرى اعتبارًا من عام 2009، على سبيل المثال. وارتفعت قيمة الخصخصة أيضًا وفقًا للخطة. ومن عام 2003 إلى عام 2011، عندما فاز أردوغان بولاية ثالثة، كان حجم الخصخصة قد قفز من 405 مليون دولار إلى 5.9 بليون دولار. وكانت الشركات العامة والشركات الكبيرة التي تقوم عليها الدولة التركية منذ عقود من بين الأصول المبيعة للقطاع الخاص، ومن بينها شركة التبغ والمشروبات TEKEL، وشركات الإنشاءات والتبغ، وشركة HES العاملة في مجال سدود توليد الطاقة الهيدروليكية. هذا التحرير العدواني حرّض جزءًا من القوة العاملة ضد إدارة الخصخصة في الحكومة الإسلامية. وقد تكون هذه الأصوات التي لا تزال غاضبة بسبب المعارك التي لم يفوزوا بها أبدًا في ذروة الخصخصة، قد انضمت إلى احتجاجات تقسيم والساحات العامة التركية الأخرى من أجل التنفيس عن السخط المكبوت وخيبة الأمل.

دينامية الشباب

عنصر الشباب مهم عند البحث في أسباب الانتشار السريع للاحتجاجات في العديد من المدن التركية، وأجواء التضامن التي استطاع المحتجون خلقها وهم يحشدون للالتفاف حول جهود الدفاع عن حديقة غيزي. وفي الواقع، لم تكن روح العمل الجماعي أكثر وضوحًا من تلك التي جمعت مشجعي كرة القدم المتنافسين بضراوة في انسجام تام في ساحة تقسيم وأماكن أخرى. هؤلاء الشباب من مشجعي كرة القدم المعروفين بعدوانيتهم الشديدة -والمعتادين على مواجهة شرطة مكافحة الشغب ووابل الغاز المسيل للدموع الذي كان يستخدم لفض المعارك بين المشاغبين بعد كل مباراة- وضعوا خلافاتهم جانبًا وانضموا لمظاهرات ميدان تقسيم، جاعلين من أنفسهم دروعًا لحماية المحتجين من وحشية الشرطة. قبل الاحتجاجات، لا أحد كان يمكن أن يتصور مشجعي كرة القدم المتعصبين لأغنى وأقوى ثلاثة أندية في تركيا، فينار باتشه وغلطة سراي التركي وبيساكتاس، متحدين معًا في موقف واحد لدعم المتظاهرين وضد الحكومة.

هناك مشجعون لكرة القدم مُنعوا من مشاهدة المباريات بسبب العنف والسلوكيات العدائية المتبادلة بعد المباريات، وقد كان مشهدًا رائعًا رؤية السلم يتحقق بين مشجعي كرة القدم في ساحة السياسة -وكان المشجعون بقمصان أنديتهم قد أضافوا إلى ساحة تقسيم المهارة وروح الشباب والديناميكية والتنوع الجذاب، ويحمل ذلك رمزية لا يمكن أن تكون أكثر قوة. ومثلما نسي مشجعو كرة القدم المتنافسون خلافاتهم، بدا هكذا الموقف في ساحة تقسيم وموجات المحتجين تتضخم كل ساعة. ازدادت قوة من لا قوة له بفضل دينامية الشباب الذين لا يعرفون الخوف، وضربت عميقًا في قلوب أنصار حزب العدالة والتنمية الذين ربما نسوا بعد عشر سنوات أنهم ليسوا وحدهم وأن هناك "جماهير" غيرهم، من غير ناخبي الحزب، وأنهم يجب أن يُشرَكوا في المعادلة السياسية عند اتخاذ القرارات الكبرى مثل تصميم الأماكن العامة أو وضع خطط لبناء مراكز تسوق في مكان تقع فيه حديقة لها قيمة كبيرة في نفوس الناس. وقد كانت دينامية الشباب هي التي وحدت الجانبين الأوروبي والآسيوي من إسطنبول أيضًا.

في الأول من يونيو/حزيران، سار الآلاف من الشباب والشابات إلى حد كبير على طول شارع بغداد في الجانب الآسيوي لعبور الجسر المعلق الشهير وشق طريقهم إلى ميدان تقسيم. هذا هو التضامن الذي شجع الشباب الغيور والمدافع عن حريات معينة وجعل الناس في تركيا يتحدثون بصوت واحد: "ارفعوا أيديكم عن حديقة غيزي". وفي مشهد مماثل من الوحدة والحماس سعوا إلى السير إلى مقر رئيس الوزراء أردوغان. وأخيرًا، وعلى شاكلة حركات الشباب العربي من تونس إلى صنعاء، وظّف الشباب والشابات معرفتهم بتكنولوجيا المعلومات ودفعوا بمواقع الإعلام الاجتماعي -الفيسبوك وتويتر- إلى الصدارة وهم ينشرون المعلومات ويمارسون التعبئة والتنظيم. كانوا كأنهم يقرأون من نصوص احتجاجات الربيع العربي، فقام مستخدمو تويتر من خلال هاشتاغ مثل # occupygezi بفتح قنوات اتصال. وكان لا يمكن إطفاء روح التضامن والتحدي في مواجهة الوحشية والقسوة بواسطة خراطيم المياه من مركبات شرطة مكافحة الشغب. وعلى نفس المنوال، أطلع مستخدمو الفيسبوك البلد والعالم على الواقع من خلال بث لقطات حية وصور وشعارات ورسائل. لقد نجحوا في إنقاذ حديقة غيزي، ويمكن أن يكون هذا، بلا شك، بروفة للاحتجاجات التي ينبغي اتباعها في المستقبل.

خلاصة

أسبوع واحد هو وقت طويل في السياسة، كما يقال دائمًا. وقد أثبتت الانتفاضات في تركيا أن هذه العبارة إحدى البديهيات، فقبل أسبوع من ذلك كان حزب العدالة والتنمية الحاكم وزعيمه الكاريزمي ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان يقدَّمان كـ"نماذج" للديمقراطيات الوليدة على إثر الربيع العربي. ما هو مؤكد هو أن أردوغان وحزبه الحاكم، حزب العدالة والتنمية، لن يعودا كما كانا بعد احتجاجات ساحة تقسيم. لقد فُتحت صفحة جديدة في تاريخ ما يقال إنه الحزب الإسلامي الأكثر نجاحًا في العالم الإسلامي. قد لا يكون هناك خيار أمام حزب العدالة والتنمية إلا التخلي عن أردوغان ما لم يقم أردوغان بدفع حزبه إلى مزبلة التاريخ كما يقال. ومن الآن فصاعدًا، ليس أمام حزب العدالة والتنمية إلا "الإصلاح أو الفناء".

وعلى أية حال، قد تكون بذور الربيع التركي قد زُرعت في نفس المكان، أي حديقة "غيزي"، التي يعتزم حزب العدالة والتنمية دفنها. وللطبيعة وسائلها في النهوض من جديد بقوة لافتة للنظر، وقد اقتربت حديقة غيزي من دفن أردوغان وحزبه.
______________________________________
الدكتور العربي صديقي هو أستاذ بارز في جامعة إكستر، ومؤلف كتاب (الدمقرطة العربية: انتخابات بدون ديمقراطية)، مطبعة جامعة أكسفورد، 2009، و(البحث عن الديمقراطية العربية: الخطابات والخطابات المضادة (مطبعة جامعة كولومبيا، 2004.

ABOUT THE AUTHOR