تونس: تأثير البنية والتاريخ في سلوك الفاعل السياسي

تساهم خلفيات تاريخية وأيديولوجية في صناعة السلوك السياسي التونسي، وقد أنتجت درجة من التعاطي الإقصائي بين الفاعلين. و في حين استثمرت المعارضة السياق الإقليمي لمواجهة حكومة الترويكا، عملت هذه الأخيرة على تفكيك عناصر الأزمة من خلال التواصل مع أطراف المعارضة، ما ساهم في تراجع سقف مطالبها العالية.
2013911103322423580_20.jpg
المصدر (الجزيرة)

يعرف المشهد السياسي في تونس توترا لأسباب عديدة من أهمها ضعف التعايش بين الأحزاب السياسية، حيث تعاني كثير من الأحزاب ضعفا في  التجربة السياسية، رغم أن بعضها أحزاب قديمة تعود نشأتها إلى القرن الماضي. ذلك أن سيطرة الحزب الواحد منذ أواسط القرن الماضي، والتعاطي الأمني الإقصائي مع هذه الأحزاب في عهدي الرئيس الراحل بورقيبة وبعده بن علي قد جعلها تعيش فترات طويلة من السرية. وحتى في فترات الانفتاح على أحزاب شرعية حاصلة على الاعتراف القانوني ظلت التضييقات على العمل السياسي هي القاعدة الاولى.

ومع ثورة الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2011 مرّت الأحزاب التونسية إلى وضع مغاير تماما، لكنها في واقع الأمر حافظت على آلياتها القديمة وسلوكها القائم على الحذر والخوف واستعداء الآخر باعتباره عدوا ممكنا ومهددا مفترضا لوجود الحزب ذاته. كما يمكننا الوقوف على جذور التوتر السياسي بين الأحزاب اليوم، في خصوصيات الفترة التأسيسية ذاتها، حيث تستبطن الأحزاب هاجس اعتبار هذه المرحلة مصيرية لمستقبلها السياسي. حيث إن خوض هذه التجربة والنجاح في استقطاب الأنصار وإدارة الشأن العام يعني تأسيسا للمستقبل البعيد للحزب، وإثباتا لحاجة البلاد لتصوراتها السياسية والفكرية.

وتؤسس هذه الخلفيات التاريخية والأيديولوجية للتعاطي الإقصائي بين أطراف المشهد السياسي الحالي بتونس. ونتيجة لهذاه التصورات فإن معظم الأحزاب الفاعلة في تونس، تصدر في مواقفها عن مراجع أيديولوجية حدّيّة. وهو ما يجعل المواقف السياسية، تستبعد ضمنيا الأطراف المقابلة وتستعديها وتعتبرها إعاقة للحزب عن تطبيق رؤاه.

لقد أثرت هذه المكونات الأصلية على الأحزاب وهيكلتها وتعاطيها مع الواقع السياسي، وهي ذاتها التي أعطت التجربة الديمقراطية الناشئة في تونس طابعا متشنجا منذ انطلاق فترة البناء السياسي لما بعد الثورة.

فمنذ إعلان نتائج الانتخابات تشكل معسكران، الأول أفرزته المفاوضات بين الأحزاب المنتصرة وعلى رأسها حركة النهضة. بينما يضم الثاني الأحزاب التي كان نصيبها هزيلا من أصوات الناخبين. وقد كان من الواضح أن نتائج الانتخابات قد عكست إلى حد بعيد  تأثير الاستقطاب السياسي والأيديولوجي الذي بلغ ذروته قبيل الانتخابات. ولئن رأى البعض في الاستقطاب ظاهرة ظرفية، نتيجة التعاطي السلبي من قبل الإعلام أو الأحزاب، فإن عمق ذلك الاستقطاب يكمن في بنية الأحزاب وخلفياتها الفكرية.

لقد اختارت أحزاب سياسية منذ البداية مقاعد المعارضة في حين اختارت الأحزاب المنتصرة ممارسة دورها كاملا في تسيير دواليب الدولة بما فيها مؤسسات الانتقال الديمقراطي، وعلى رأسها المجلس الوطني التأسيسي. وإذا كان انقسام الفاعلين السياسيين إلى حكم ومعارضة أمرا طبيعيا، إلا أن التجارب الديمقراطية القابلة للحياة، تنبني على وجود مشتركات تحددها المصلحة الوطنية العامة ويراقبها شعب مشارك وذو فاعلية في الحياة السياسية. فتكون المعارضة، ممارسة نقدية للسلطة من خارج جهازها التنفيذي المباشر، ويكون الحكم في المقابل منضبطا بشروط التفاعل الإيجابي مع دور المعارضة وبقية المؤسسات وخاصة الإعلام.

غير أن الوقائع تثبت أن الوضع لم يكن يشبه من قريب أو بعيد هذا التفاعل الإيجابي بين من يحكم ومن يعارض. فانصب دور المعارضة على إثبات فشل الحكومة منذ اللحظات الاولى في السلطة. ولم يجد الثلاثي الحاكم المنبثق عن تحالف المنتصرين في الانتخابات أي صعوبة في تعليق مسؤولية الأزمات، بحق أو بغير حق، على شماعة المعارضة. وزاد الإعلام الموروث عن فترة طويلة من الاستبداد من تعقيد المشهد، فضلا عن أن ما يُصطلح عليه بالمجتمع المدني كان طرفا في هذه الصراعات، أو أحد أدواتها الأساسية.

ومن بين المظاهر التي تجسم هذا التشوّه في المولود الديمقراطي التونسي، أن بعض الأطراف المعارضة، لم تكن تعتبر المؤسسات التي انبثقت عن الانتخابات تمثلها فعليا. وعبرت عن توجسها من خلال السعي إلى بعث مؤسسات موازية لما أفرزته الانتخابات. ولعل أبلغ مثال على ذلك بعث مجلس تأسيسي مواز للمجلس المنتخب ساهمت فيه مباشرة أو من وراء حجاب، معظم القوى السياسية والفكرية تقريبا التي فشلت في الامتحان الانتخابي. بل إن بعض النواب المنتخبين ضمن المجلس المنبثق عن الانتخابات ساعدوا على تأسيس ذلك المجلس، وروجوا لأهمية دوره تحت مسميات هلامية من قبيل، حماية المجتمع من انحرافات السلطة ونزعات الاستبداد.

وتجسمت نزعة التوجس من خلال السباق المحموم لتأسيس جمعيات "مدنية" هي في الواقع هياكل سياسية مُقنّعة تابعة أيديولوجيا وحتى سياسيا لطرف أو لآخر في كثير من الأحيان، وذلك لأهمية المجتمع المدني في التسويق السياسي للبرامج الحزبية. ومن المؤكد أن تغيير وجهة العمل المدني، وبصورة واضحة في غالب الأحيان، ستكون له نتائج شديدة السلبية على الحياة السياسية وعلى المجتمع بأكمله. لأنه يفقد المجتمع أداة أساسية في الحفاظ على توازن ضروري وحيوي بين الدولة والمجتمع. فضلا عن أن هذا الصنف من التجييش "المدني" لا يوحي بالطمأنينة، ويشير إلى نزعة الاحتيال على أبجديات القواعد الديمقراطية.

فكيف انعكست هذه الألغام التأسيسية على تطورات المشهد السياسي بتونس؟

إزاحة الخصم السياسي

لقد ظلت علاقة الفرقاء السياسيين متوترة منذ بدايتها، تبادلت فيها المعارضة كما الحكومة إتهام الطرف الآخر بالفشل أو بتعطيل العمل. ولقد كانت كل حادثة، داخلية أو خارجية، بشرية متعلقة بالسياسة وتعاطي الترويكا، أو طبيعية كالثلج والفيضان، مناسبة ملائمة لتوتر العلاقة بين الطرفين وتبادل الاتهام والمسؤولية.

وتبقى حادثتي الاغتيال السياسي اللتان شهدتهما تونس في فبراير/شباط من العام الحالي ثم في يوليو/ تموز 2013 هما أكبر الأحداث التي زادت من حدة التوتر الذي بلغ حد المطالبة بالمحاسبة أو إيقاف المسار الانتقالي. فخلال هذين الحادثين تم اللجوء أكثر من أي وقت مضى إلى اعتماد الشارع كوسيلة في التفاوض أو في تدبير هذه المرحلة. وتوّجت هذه التناقضات المتزايدة بالانتقال إلى مرحلة أكثر خطورة بعد الانقلاب الذي عرفته مصر، والذي أفضى إلى إزاحة الرئيس المنتخب.

وعلى الرغم من الاختلاف الشديد بين الأوضاع التونسية والمصرية فإن قيام أنظمة منتخبة وذات خلفية إسلامية كان يستدعي المقارنة والتشبيه. بل إن ذاك التشابه كان مغريا للمعارضة التونسية إلى درجة الرغبة في استنساخ الأحداث المصرية وتكرارها في تونس. ولقد لوحظ الكثير من التشابه بين ردود الأفعال لدى المنقلبين على الشرعية في مصر وبين المعارضة في تونس، سواء على مستوى مضمون المطالب المرفوعة والشعارات، أو على مستوى الشكل والعمل الميداني.

وبدأ السعي إلى استثمار الأحداث المصرية في تونس بوقفة للمعارضة أمام السفارة المصرية بتونس شاركت فيها أطراف حزبية معروفة، رافعة شعارات تترجى الجيش التونسي ممثلا في شخص جنراله "المتقاعد" رشيد عمار، أن يقوم بما قام به قائد الانقلاب المصري. ثم تواصلت عمليات النسخ لكل مراحل الانقلاب على الشرعية رغم الاختلاف الأكيد في السياقات والوضعيات.

وقد اختارت المعارضة بدء تحركها باعتصام نوابها الذين علقوا عضويتهم في المجلس التأسيسي، وبتكوين "جبهة إنقاذ" تضم عددا من الأحزاب أهمها "نداء تونس" القائم على قاعدة التجمع المنحل وعدد من اليساريين، إلى جانب الأحزاب اليسارية والقومية أو الأحزاب الصغرى المنبثقة عنها. ورغم أن عدد النواب المنسحبين لا يشكل حجما يمكنه منع تواصل عمل المجلس التأسيسي، فإن انسحابهم أثر سلبا على سيره الطبيعي. ويبدو أن المعارضة كانت تثق في نجاح تحركها، وتعتبر أن الحكومة سترحل لا محالة، حتى إن البعض أمهل الحكومة 48 ساعة فقط لإعلان حلها ولتقوم المعارضة بتكوين حكومة إنقاذ.

لقد كان من الجلي سير المعارضة التونسية بنفس المسار السياسي المصري، فظهرت حركة "تمرد" تونسية مكونة في غالبيتها من العهد السابق. ولم تتأخر هذه الحركة عن إعلان أرقام خيالية للتوقيعات التي جمعتها للمطالبة برحيل الحكومة والمجلس التأسيسي. كما يظهر النسخ للوقائع المصرية، من خلال الأحزاب التي لا يجمعها إلا رغبتها في إسقاط الثلاثي الحاكم، وفي توفير الغطاء الديني للتحرك عبر وجوه تم إعدادها مسبقا، واستحضار للطابع الديني بهدف استمالة الشارع التونسي (القيام بالإفطار الرمضاني وأداء صلاة العيد في ساحة الاعتصام). ومما يؤكد النسخ للأحداث المصرية، أن قادة التحرك يستعملون عبارة الحكم "الإخواني" حرصا على تشبيه الوضع التونسي بالمصري. وقد بلغ خطاب تبرير الانقلاب المصري حدا جعل رئيس حزب "الجبهة الشعبية" يعتبر علنا أن الرئيس مرسي هو الذي انقلب على الشرعية.

إن تشابه التحركات المناهضة للحكومة في كل من مصر وتونس وتصريحات عدد من الدول، يشير إلى أن ما يحدث يندرج ضمن سياق إقليمي ودولي لمواجهة الثورات العربية. ولعل ما زاد من هذه القناعة لدى الترويكا الحاكمة أن الدعم الأجنبي الإعلامي لعدد من القنوات الأجنبية (قناة فرنسا 24) وحتى اللوجستي والمادي لم يكن خافيا على أحد. وهو ما زاد من حذر الترويكا ودفعها على ما يبدو إلى الاتجاه إلى التهدئة واتخاذ كل أسبابها. ومع تطور الأحداث في مصر إلى الدموية، وبدء الانقلابيين في التخلص ممن اعتمدوهم لاختلاق تحركات شعبية، وجد من ناصرهم علنا أو صمت على مجازرهم تجنبا للحرج، أن المعارضة اختارت، او اُختير لها، النموذج الخطأ للتخلص من "حكم الإخوان". حيث إن الدموية التي احتفت بها المعارضة في اعتصامها، هي نفسها التي دفعت الشارع التونسي إلى رفض الانقلاب واعتبار الشرعية ضامنة للاستقرار. وقد تأكد أن مناصرة الانقلابيين لم تكن الأداة المناسبة لخوض معركة إسقاط حكومة الترويكا، وإيقاف المسار الانتقالي.

التوافق والمحافظة على المسار الانتخابي

أمام النسق المتصاعد في التحركات وارتفاع سقف المطالب، تحركت الترويكا بما يوحي بوجود انقلاب يتم الإعداد له. وذلك على الرغم من انعدام مؤشرات جدية على نجاحه، نتيجة عدم حضور الجيش التونسي في المشهد السياسي بالصورة التي لدى الجيش المصري، وتداخل نفوذه بالدولة والإدارة والاقتصاد. وقد تجنبت سياسة الترويكا توتير الوضع، مع السعي إلى رفع كل ما يمكن أن يؤدي إلى التصادم ولو على حساب حق الدولة في حماية الشرعية.

ومن الواضح أن هذه السياسة القائمة على امتصاص الغضب وانتظار هدوء العاصفة لم تكن تكفي وحدها لمنع تقويض التجربة الناشئة. لذلك نشطت سياسة الترويكا ولا سيما حزبي المؤتمر والنهضة على عدة واجهات. أولها القيام بعملية استعراض جماهيري ضخم اُختيرت له ساحة القصبة مكانا، وهي مقر الحكومة. وكذلك موضع الاعتصامات الأولى للمعارضة بكل أطيافها للمطالبة بمجلس تأسيسي والتخلص من حزب التجمع وبقاياه. وعلى الرغم من نجاح الحركة الاستعراضية لم تعمل الترويكا وعلى رأسها النهضة إلى استثمار ذلك التجمع الضخم. وهو ما يعد إشارة إلى تأكيد حضور الترويكا وحلفائها على مستوى الشارع، دون اعتبار ذلك عنصرا حاسما لمواجهة تحركات "جبهة الإنقاذ".

ويظل أهم ما قامت به الترويكا والنهضة تحديدا لمواجهة التحركات الراغبة في استنساخ الوضع المصري هو حركيتها السياسية، فتم الاتصال بين قيادات النهضة وعدد من زعماء الأحزاب والمنظمات. فكان الاتصال باتحاد الصناعة والتجارة وهو نقابة الأعراف، ثم بالاتحاد العام التونسي للشغل. وفي كل تواصل مع هذه الأحزاب والمنظمات تتراجع حدة الاحتقان. وقد أظهرت هذه الاتصالات حرص المتواجدين بالسلطة على تجنيب البلاد العواقب السلبية للمواجهة المفتوحة، لاسيما أن الوضع في مصر قد تحول إلى مثال سيء بسبب المواجهات الدموية.

وقد أظهرت حركة النهضة جرأة حين التقى رئيسها بكل الأطراف تقريبا، بمن فيهم الباجي قايد السبسي رئيس "نداء تونس". كما أن تلك الخطوات كانت تبرر في كل مراحلها على أنها بهدف المحافظة على التعايش بين كل الفرقاء والتوصل إلى اتفاقات تجمع كل التونسيين بما تُمليه المرحلة التأسيسية. ولم تخل تلك الاتصالات من تقديم عدد من التنازلات، وصلت حد إعلان راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة عن تأجيل النظر في قانون تحصين الثورة الذي ظل دائما المطلب الأول للقوى الداعمة للثورة.

ولئن أدى ذلك إلى زعزعة علاقة النهضة بعدد هام من قواعدها، وبروز اعتراضات من قبل أحزاب هي شريكة للنهضة رغم أنها ليست من بين الترويكا الحاكمة. فإن هذا التعاطي السياسي قد ضمن للترويكا إقامة حوار بين معظم الأحزاب بما فيها أحزاب كانت ضمن "جبهة الإنقاذ" في بداية لإعادة تشكيل المشهد السياسي.

ومن خلال ما يجري من اتصالات يبدو أن المفاوضات تتم على قاعدة مبادلة استقالة الحكومة قبيل الانتخابات، وتعويضها بـ"حكومة انتخابات" وإنجاز الدستور والقانون الانتخابي وتركيز الهيئة المستقلة للإشراف على الانتخابات، حيث إن الترويكا تعتبر أن الوصول إلى إنجاز انتخابات في أفق نهاية هذه السنة هو الرهان الأهم الذي يجب العمل على تحقيقه.

ويبدو حاليا تراجع في المطالب عالية السقف التي بدأت بها المعارضة تحركها، مع  تحصل المعارضة على قسم من مطالبها دون أن تحدث تحولا نوعيا في الأوضاع السياسية العامة بالبلاد. ويشير مسار الأحداث إلى أن الترويكا الحاكمة قد خرجت من هذا الاختبار أقل قوة. فنتائج تواصل النهضة السياسي مع بعض أطراف المعارضة ومع المنظمات الوطنية لم يرض حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يبدو أن النهضة قد تجاوزت مؤسسه، من خلال عدم اعتبار الرئاسة الحاضنة الوحيدة للحوارات الوطنية.

كما أن حزب التكتل وهو الضلع الثالث في الترويكا الحاكمة لم يقم بدور مهم باتجاه تقوية جبهة المؤسسات السيادية المنتخبة، بل إنه على عكس ذلك ساهم في إضعاف المجلس التأسيسي عن طريق إعلان رئيسه مصطفى بن جعفر إيقاف أشغاله في انتظار التوصل إلى توافقات مع النواب المنسحبين. كما أن تصريحات قياديي هذا الحزب تتجه إلى اعتبار الترويكا في حكم المنتهية. وهو ما يوحي بأن لدى حزب التكتل ورئاسته قناعة بأن فرص ترشحه إلى منصب الرئاسة في الانتخابات القادمة قد تضاءلت كثيرا، وأن النهضة قد راهنت على حلفاء آخرين.

ويتجه الوضع إلى غلبة منطق البراغماتية السياسية، لدى معظم القوى الفاعلة انتخابيا بما فيها حزب حركة النهضة. ولا يستبعد أن تتمكن الأحزاب التي تتمسك أكثر بالمحاسبة دون اعتبار الأثمان السياسية لذلك، وخاصة حزب المؤتمر وحركة وفاء، من تحقيق التفاف شعبي حولها بما يزيد من حضورها في المشهد السياسي. فالنفس الثوري ما يزال قويا في عديد الأوساط، خلافا لما قد يتوهمه بعض الفاعلين السياسيين. والموجات الارتدادية لثورة الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني لم تنته.

وفي سياق الملف الأمني، فقد عرفت سياسة الترويكا تقدما ملحوظا، مع مواصلة قوات الشرطة والحرس والجيش الوطني مواجهة أعمال العنف المسلح الذي كان سببا اعتمدته المعارضة كوسيلة للضغط السياسي. وقد حققت التحقيقات اختراقات مهمة في ملف الاغتيالين السياسيين اللذين شهدتهما البلاد وكشفت جانبا مهما من شبكات العنف المنظم. ورغم ضبابية المشهد في جبال الشعانبي الذي شهد مواجهات ضد الجيش التونسي، فإن الوضع ما يزال تحت السيطرة، وإن لم تتضح خيوط الأحداث بصورة تامة. وقد كان لمؤسسة رئاسة الجمهورية، دور مهم عبر عدد من التعيينات في سلك الجيش شملت كوادر عالية في الإدارة تعتبر من أركان المنظومة القديمة.

إن إقدام رئيس الجمهورية على هذه التغييرات يؤكد أن الجيش التونسي هو جيش خاضع للقرار السياسي وليس منشئا له، وأنه من الصعب التعويل عليه للعب دور في الحراك السياسي. وتؤكد هذه الحقائق أن الوضع التونسي بعيد، على أكثر من صعيد، عن الوضع المصري الذي حفز تحركات المعارضة كما حفز أطرافا خارجية دولية وإقليمية على محاولة التأثير على الأوضاع وتغييرها.

إن واقع الاحزاب التونسية وخصوصيات تاريخها وتجاربها وتواصل ارتباطها بالخلفيات الأيديولوجية أكثر من تفاعلها مع تطورات الواقع الاجتماعي والسياسي، يشير إلى أن الانقلاب المصري لم يكن سببا للنزعات الانقلابية التي ظهرت في تونس، بل إن ذلك ناتج عن ماهية الأحزاب التي لم تقطع مع تجارب ومناهج عمل قديمة.
___________________________________
د. مراد اليعقوبي - أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية

ABOUT THE AUTHOR