المسيحيون العرب: رصيد التعددية في مواجهة عواصف الجيوبولتيك

دفعت عواصف الجيوبولتيك الشعوب العربية، بما فيها المكون المسيحي، إلى خوض مواجهات عديدة، خارجية وداخلية، إنزلقت في مرات إلى مواجهة لأسباب إقصائية، إستنزفت قواهم وخدمت أجندات القوى الخارجية التي تسعى للسيطرة على مقدراتهم.
20131118124237236734_20.jpg
المصدر  [الجزيرة]

 

ملخص
إن استمرار التوترات الدينية والمذهبية وانحسار القومية العربية في أنواع مختلفة من القومية الإسلامية التي تطمح إلى ممارسة الممانعة أمام الغزو الثقافي الغربي وتغض النظر عما يحصل في فلسطين منذ عقود، سيكون طريق الهلاك الحتمي الذي يجب أن نحيد عنه بسرعة لنعيد بناء مناخ رحب، ليس يقبل بالتعددية الدينية والمذهبية فقط بل يكون هدفه الرئيسي القضاء على النموذج الصهيوني الإقصائي والقمعي، وذلك عبر إعادة التعددية بكل أبعادها في المشرق العربي؛ وهي تعددية ستحافظ على ما تبقى من الوجود العربي المسيحي كما ستحافظ على كل المذاهب الإسلامية معززة مكرمة، وليست كما هي الحال الآن متوجسة وخائفة ومتوترة.

يُنظر في كثير من الأحيان إلى قضية الوجود المسيحي المتضائل في المشرق العربي على أنها قضية قائمة بذاتها دون ربطها بتعقيدات التطورات السياسية والعسكرية التي يتسم بها تاريخ المشرق العربي الحديث، بشكل خاص منذ نهاية القرن التاسع عشر. لذلك لابد اليوم من ربط مصير المسيحية العربية بالتوترات المذهبية التي تعصف بالمشرق العربي، خاصة في ما بين المذاهب الإسلامية نفسها كما هو جلي من أوضاع متأججة مختلفة في العراق وسوريا والبحرين واليمن ولبنان، على إثر الانتفاضات الشعبية العربية التي اجتاحت المنطقة العربية من الخليج إلى المحيط.

كما لا يمكن التغاضي عن الأثر السلبي الذي سبّبه على نفسية العرب وهوياتهم المختلفة زرع الكيان الصهيوني في المنطقة على أساس هوية دينية حصرية ونظام سياسي يدعي تمثيل كل اليهود في العالم واستجلابهم إلى الأراضي الفلسطينية المُغتَصبة؛ مما أدى إلى التمادي في تهميش وقمع السكان العرب الأصليين من مسلمين ومسيحيين. ويجب أن لا يفوتنا في هذا المضمار أن هجرة الفلسطينيين المسيحيين من فلسطين أخذت طابعًا مأساويًا في ظروف الاحتلال الصهيوني الذي يرى في التعددية الدينية والمذهبية العربية تهديدًا لنموذجه الإقصائي. ويجب أيضًا ألا ننسى العنف المتمادي الذي مارسه هذا الكيان الغاصب على مدى عقود من الزمن على الكيان اللبناني على أمل القضاء عليه أو تقسيمه على أساس ديني ومذهبي، وهو الكيان الذي تتجسد فيه التعددية الدينية والمذهبية العربية. والحقيقة أن الكيان الصهيوني، منذ بداية نشأته، كان يحلم بتقسيم جواره إلى كيانات طائفية ومذهبية أو عرقية تقضي على التعددية داخل المجتمعات العربية وتؤدي إلى تأسيس دول ذات الهوية الدينية أو المذهبية أو العرقية الحصرية، وهي بالتالي إقصائية الطابع وكياناتها هزيلة لا تشكّل أي خطر على الكيان الإسرائيلي.

لكل هذه الأسباب فإن قضية الوجود المسيحي في المشرق العربي ليست فقط قضية عربية رئيسية، إنما يجب أن تُقارَب من منظور أوسع ألا وهو ضرورة الحفاظ على التعددية الدينية والمذهبية التي تميز به المشرق العربي طوال تاريخه الطويل، بما فيها التعددية التي امتاز بها الإسلام نفسه بمذاهبه ومدارسه الفقهية المتعددة التي كانت قد ازدهرت في القرون الأولى بعد تنزيل القرآن الكريم. والجدير بالملاحظة، أن أجواء التوتر المذهبي بين المسلمين أنفسهم، خاصة على إثر الغزو الأميركي للعراق والصراع المتفجر بين المذهبين الرئيسيين في الإسلام، اندرجت ضمن أسباب  دنيوية محضة تتعلق بصراع النفوذ على منطقة الشرق الأوسط بين الدول ذات النفوذ الإقليمي الواسع بتحالفاتها مع قوى دولية رئيسية.

ولهذا السبب ليس المسيحيون هم فقط الذين يتعرضون للاضطهاد أو لتدنيس وحرق أماكن العبادة لديهم أو للتهجير القسري، إنما نرى أيضًا تعرض مجموعات أخرى لعمليات التنكيل بأبشع الأساليب. لكن واقع اضمحلال المخزون الديمغرافي المسيحي الذي هو على مسار تناقصي خطير منذ القرن التاسع عشر، هو الذي يعطي لقضية هجرة العرب المسيحيين من المنطقة هذا الشعور بضرورة وقف هذا النزيف البشري الذي يُفقر العالم العربي من عنصر مجتمعي له مكانته التاريخية وأغنى الثقافة العربية الإسلامية في كل العصور منذ بداية العصر الإسلامي إلى عصر النهضة العربية الحديثة.

التناقص الديمغرافي

أسباب هذا التناقص الديمغرافي؛ فهي تعود إلى مزيج من العوامل الديمغرافية (تناقص عدد أفراد العائلة)، والسياسية (الخوف من مزيد من التهميش والإقصاء عن الوظائف العامة والتمثيل الناقص في المجالس النيابية والبلدية)، والاقتصادية (البحث عن فرص عمل لائقة في الخارج وهي لا تتوفر دائمًا في الداخل). هذه الأسباب جميعها وضعية ناتجة عن ظروف معقدة يتداخل فيها العنصر الخارجي بالعنصر الداخلي، وهي بالتالي ليست ظروفًا تتعلق بالتعصب الديني بحد ذاته؛ بل يأتي التعصب الديني المحلي انعكاسًا لتشابك العوامل الخارجية المتجسدة في الحملات العسكرية والمناورات الجيوسياسية للدول الغربية الكبرى في تاريخ المنطقة الحديث (مجازر الأرمن والآشوريين على سبيل المثال) بالظروف الداخلية حيث لم تتمكن المنطقة العربية من الولوج إلى حالة تنموية شاملة تؤمّن الرفاه لكل الفئات الشعبية؛ حيث إن استمرار أوضاع الفقر يتحمل مسؤولية كبرى في التوتر الذي يمكن أن يحصل بين المسلمين والمسيحيين العرب في بعض المناطق الريفية أو المدينية الفقيرة كما هي الحال في مصر، وكما هي الحال بين السنة والشيعة في دول أخرى.

أضف إلى ذلك، صعود التيارات الإسلامية المتطرفة التي تنظر إلى المسيحيين على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية يجب إبقاؤهم في حالة من الدونية الاجتماعية والسياسية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أحداث لبنان الدموية بين 1975 و1990 التي أخذت بعدًا طائفيًا مأساويًا أثّر إلى حد بعيد في تأجيج شعور الخوف والتباعد بين المسلمين والمسيحيين، بينما كانت تلك الأحداث تعكس أوضاعًا إقليمية مأزومة، لعب فيها الكيان الصهيوني دورًا محوريًا في إثارة الفتنة بين قوى متناحرة رفعت راية الانتماءات الطائفية، مع العلم بأن سبب الخلافات كان في الجوهر سببًا سياسيًا وضعيًا (أي قضية الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان وعواقبه على البلد بإضعافه عسكريًا)، لا علاقة له في الأساس بالتوازنات الطائفية والمذهبية؛ هذا بالإضافة إلى هجرة العراقيين المسيحيين التي حصلت مؤخرًا في ظل ظروف الاحتلال الأميركي، مع أن ما أصاب هذه الفئة من العراقيين من أعمال عنف وإرهاب لم تختلف بالجوهر عما أصاب الفئات العراقية الأخرى.

إن كل هذه الأحداث المفجعة تساهم في صياغة ذاكرات جماعية حزينة لدى العرب المسيحيين، تدعم الميل نحو الاغتراب عن الوطن؛ لذلك يجب العمل على معالجة العامل النفساني الذي يولّد موجات الهجرة، كما يجب أن تعالَج ظاهرة الهجرة من منظور أوسع من الطرح التقليدي حول ضرورة حماية الأقليات، ألا وهو ضرورة الحفاظ على التعددية الدينية والمذهبية والعرقية للمجتمعات العربية، هذه التعددية المعرضة للزوال بفعل أثر السياسات الصهيونية وسياسات الدول الغربية المؤيدة للكيان الصهيوني إلى أبعد الحدود.

وفي هذا المضمار، لابد من تجدد الاهتمام المشترك بين المسلمين والمسيحيين العرب في الدفاع عن فلسطين ومقدساتهم فيها، بدلاً من الاستمرار في أوضاع التناحر والتوتر بين المذاهب الإسلامية نفسها أو بين المسلمين والمسيحيين في بعض الأحيان.

هذا، ويجب ألا ننسى أن العديد من المسيحيين قد نجحوا نجاحًا باهرًا في عالم الأعمال الاقتصادية والمالية في الدول العربية وبشكل خاص مَنْ هاجروا من لبنان وفلسطين وسورية والأردن إلى الدول العربية المصدرة للنفط في منطقة الخليج العربي، وذلك على قدم المساواة مع المسلمين المغتربين أيضًا إلى تلك الدول؛ وهذا يعني أن إمكانية الاغتناء ليست مقفلة أمام أبناء العرب المسيحيين على خلاف ما يشكون منه من إمكانية النجاح في المجال السياسي في دول مثل مصر أو العراق على سبيل المثال؛ حيث إن وجود العنصر المسيحي في الحياة العامة قد أصبح مهمشًا جدًا؛ كما أن لبنان يشهد أيضًا تضاؤلاً للدور المسيحي في إدارة البلاد خاصة بعد الحرب الشعواء التي دارت بين عامي 1975 و1990 و"اتفاق الطائف" الذي قضى على العديد من صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني لمنحها إلى رئيس الوزراء السني.
والجدير بالملاحظة، أنه رغم أن مجال الاغتناء المادي ما زالت أبوابه مشرعة أمام العرب المسيحيين داخل بلادهم أو في دول عربية أخرى، إلا أن هذا لا يكفي لإبقاء أبناء الفئات الميسورة في وطنهم، نظرًا لأوضاع الاضطراب العام التي تحصل دون انقطاع تقريبًا منذ 1975.

أما الفئات الوسطى من المسيحيين والمكونة من مهندسين، وأطباء، وأساتذة جامعيين، وكوادر إدارية.. إلخ؛ فقد أصبحت تهاجر أيضًا إلى خارج بلادها والمنطقة العربية نظرًا لعدم عثورها في كثير من الأحيان على فرص العمل اللائقة والبيئة العلمية والتكنولوجية المتطورة المتوفرة في أوروبا أو شمال أميركا. لذلك تشهد هذه الفئات نزيفًا ديمغرافيًا كبيرًا.

أما الفئات الفقيرة وهي الجزء الأكبر مما تبقى من المخزون الديمغرافي المسيحي؛ فهي الأكثر تعرضًا لأحداث الصدام مع الفقراء من المسلمين نظرًا لشح الموارد التي تصيب المجموعتين على حد سواء؛ لذلك أصبحت تبحث هي أيضًا عن فرص الاغتراب سواء في أميركا الشمالية أو في أستراليا، وفي كثير من الأحيان تقدم الجمعيات الخيرية المسيحية الغربية والمنظمات غير الحكومية الأوروبية والأميركية وبعض الدول الأوروبية يد العون والمساعدة لتسهيل هذه الهجرة.

تنمية وتوعية

لكي نحافظ على هذا الجزء الأساسي من المخزون الديمغرافي للعرب المسيحيين، يجب أن تركز سياسات الدول العربية حيث يتواجد فيها المسيحيون على بذل كل الجهود لإنماء المناطق التي يتواجد فيها الفقراء من المسيحيين العرب لكي تتحسن أوضاعهم الإنمائية، على أن تكون -بطبيعة الحال- الجهود مركزة أيضًا على إنماء الفئات المسلمة القاطنة في نفس المناطق تجنبًا للصدامات بين المجموعتين، ولكي تطمئن كل فئة على أن مصيرها الاقتصادي والمادي مؤمّن لأولادها وأن لا حاجة إلى الهجرة؛ ومثل هذه السياسة يجب أن تُطبّق ليس لصالح الفئات الريفية الفقيرة فقط إنما في الأحياء المدينية الفقيرة أيضًا.

ومما لا شك فيه في هذا المضمار أن ما شهدته الساحة اللبنانية بين 1975 و1990 من أعمال السرقة والنهب على أيدي الميليشيات المسلحة هي أيضًا ناتجة عن هذا النمط من التناقضات الاجتماعية النابعة من محدودية الموارد المادية بالنسبة إلى الفئات الفقيرة، ومعظمها له أصول ريفية، ترك مناطقه وهجرها إلى المدن الكبرى بحثًا عن لقمة العيش، دون أن يتحسن فعليا مستوى المعيشة لدى تلك الفئات، سواء أكانت مسلمة أم مسيحية. ولذلك، فإن التوتر يسود بطريقة أسهل العلاقات بين المسيحيين والمسلمين عندما يعيشون في بيئة فقيرة حيث تنقص الخدمات الأساسية وفرص العمل وكسب العيش بطرق شرعية.

بناء على هذا التحليل السريع، يظهر جليًا ضرورة استنفار كل من جهود الدول المعنية والكنائس الشرقية لاتخاذ الإجراءات المختلفة الكفيلة بتخفيف سرعة تنامي ظاهرة الهجرة لدى المسيحيين العرب. وهذا ما يتطلب العمل على مستويات عدة تناسب أوضاع الفئات الاجتماعية التي وصفناها سابقًا؛ مع الإشارة إلى ضرورة معالجة العامل النفسي الذي يشجع على الهجرة، وإن كان يصعب التغلب عليه نظرًا لعدم استقرار الأوضاع بشكل عام في الشرق الأوسط.
إن معالجة العامل النفسي فعل مهم للغاية، وعلى السلطات الكنسية أن تقوم بحملات توعية حول هذا العامل خاصة لدى الفئات المسيحية التي لا تتعرض إلى مضايقات دينية الطابع. وفي نظرنا فإن التوعية حول المصير المشترك لكل من المسيحيين والمسلمين العرب في المنطقة لهو أمر ضروري جدًا لنزع الشعور بأن المسيحيين دائمًا مستهدفون من الأغلبية المسلمة، بينما يدل الواقع التاريخي على أن زعزعة الاستقرار العام في المجتمعات العربية وتدخل القوى الخارجية تحت ذرائع مختلفة هما العنصران الأساسيان في تهيئة البيئة والأجواء أمام انفجار فتن طائفية بين مسيحيين ومسلمين، كما اليوم بين المذاهب الإسلامية.

وانطلاقًا من هذه المعاينة فلابد للسلطات المدنية والكنسية أن تجدد روح الوجود المسيحي في المشرق العربي والمصير المشترك بين المسيحيين والمسلمين في التصدي للتحديات الكبرى، مع ضرورة تحرك هذه الكنائس جماعيًا لإنقاذ الوجود المسيحي في فلسطين وبشكل خاص في مدينة القدس التي تشهد الهجمة الصهيونية الأكثر شراسة لتهويد المدينة والتي تطول على حد سواء المسلمين والمسيحيين وأماكنهم المقدسة. ومثل هذه الحملات يجب أن تزيد من عزم المسيحيين المشرقيين وتحثهم على البقاء في الوطن ونبذ شعور الخوف من النفوس.

كما لابد أيضًا للمراجع الدينية الإسلامية من أن تنشر جو الطمأنينة لدى الطوائف المسيحية بأنها شريكة أساسية في المجتمعات العربية التي يعيشون فيها بغض النظر عن عددها. كما على تلك المراجع أن تؤكد أن القرآن الكريم ينص على الحفاظ على التعددية الدينية، خاصة فيما بين المسلمين وأهل الكتاب؛ إذ إن القاعدة الأساسية المشتركة بين الديانات الثلاثة التوحيدية هي الرسالات الإلهية المتتالية منذ إبراهيم. وفي هذا المضمار، يُستحسن أن تقوم وزارات التربية العربية بإدخال ذكر لدور العرب المسيحيين في بناء الثقافة العربية في كتب التاريخ، وإبراز العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين على مر العصور في كل من مصر ولبنان وسوريا وفلسطين والعراق والأردن.

إن المداولات التي تمت خلال جلسات المجمع الماروني في لبنان في عامي 2004-2005 والمخصصة لدراسة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والكنسية، قد أظهرت بما لا لبس فيه سيطرة الهم الاقتصادي والاجتماعي على أبناء الطائفة المارونية ومطالبتهم الكنيسة بتفعيل دورها في هذا المجال عبر العمل الدؤوب للحد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية السلبية التي تؤدي إلى نزيف الهجرة؛ وقد أصر العديد من المشاركين العلمانيين بشكل خاص على ضرورة عمل الكنيسة لمساعدة أبنائها في التشبث بالأرض، خاصة في المناطق الريفية حيث يندثر الوجود المسيحي بشكل مأساوي نظرًا لاستمرار الهجرة من الأرياف إلى المدن ومن ثم من المدن إلى الخارج. ولابد هنا من الإشارة أيضًا إلى المطالبة بأن تستخدم الكنائس أملاكها، خاصة العقارية منها، لإقامة المشاريع الإنتاجية المفيدة التي تؤمّن فرص العمل اللائقة للعنصر الشاب.

وعلى الكنائس كما على إدارة الأوقاف الإسلامية وعلى الإدارات الرسمية المحلية أيضًا أن تعمل في المناطق المختلطة على إقامة مشاريع يستفيد منها أيضًا المسلمون القاطنون في نفس البلدات أو الأحياء؛ ذلك أن المضايقات التي يتعرض لها المسيحيون في المناطق الفقيرة، خاصة في الأرياف المصرية، تنبع كما ذكرنا من حالة الفقر والحرمان المشترك بين المسلمين والمسيحيين حيث أي خلاف فردي يتحول بسهولة إلى فتنة دينية. وعلى المراجع الدينية الإسلامية والسلطات الكنسية في هذا الخصوص أن تعمل كقوى ضاغطة على الحكومات المركزية والهيئات المحلية من بلديات ومحافظات لكي تتحرك هي أيضًا لمعالجة أوضاع الفقر الشديد، لأنه فقط من خلال المعالجة الجدية لمثل هذه الأوضاع يمكن تجنيب المسيحيين من الفئات الفقيرة المضايقات والاغتيالات والفتن.

 كما على الكنائس الشرقية أيضًا أن تضغط على الفعاليات الاقتصادية المسيحية الثرية لكي تقوم هي بدورها بإقامة المشاريع الإنتاجية في تلك المناطق الفقيرة والمحرومة. ولابد هنا من الإشارة إلى أن الأعمال الخيرية لوحدها مهما كثُرت وتعددت فهي مثل المُسَكّن الذي يخفف من آلام المرض دون علاج أسبابه.

أما فيما يختص بالقطاع التعليمي والتربوي والجامعي حيث تلعب الكنائس الشرقية والغربية دورًا كبيرًا في بلدان المشرق العربي، فلابد من التأثير على إدارة المؤسسات المعنية لكي تهتم أيضًا بمساعدة الطلاب على إيجاد فرص العمل اللائقة لأبناء الطوائف المسيحية بدلاً من تهيئة الطلاب إلى الهجرة عبر الاهتمام شبه الحصري بالاختصاصات المطلوبة في دول الاغتراب وتوجيه الطلاب توجيهًا يسمح لهم بالتكيف مع حياة الاغتراب.

ويبقى على الكنائس الشرقية، عبر الاتصال بمختلف الكنائس الغربية، أن تلعب دورًا أكثر فاعلية في المجال السياسي لأن مصير العرب المسيحيين يتطلب أن تهدأ الصراعات الجيوبوليتكية التي تعصف بهذه المنطقة منذ أكثر من 200 سنة. فإذا لم تهدأ الدول الغربية وتكف عن التدخل المكثف، السياسي والعسكري، في شؤون المنطقة ودعم التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، فإن المنطقة ستبقى في حالة غليان، والجماعات المسيحية ستتعرض إلى المزيد من الخوف والهجرة واندثار الوجود التاريخي.  

وأخيرًا، لابد من العودة إلى أن الجو العام من التوترات المذهبية بين المسلمين أنفسهم في المشرق العربي يهدد استمرار التعددية الدينية في المنطقة ويزيد من قلاقل الطوائف المسيحية نظرًا للتصعيد في نشر العقائد الدينية المتشددة، هذا مع العلم بأن العلاقات المذهبية فيما بين الطوائف الإسلامية العربية نفسها كانت أكثر هدوءًا بكثير عندما كانت القومية العربية هي السائدة في الثقافة السياسية. وعلى إثر حرب 1967 والانكسار العسكري المدوي للجيوش العربية، انتكست القومية العربية المبنية على وحدة التاريخ واللغة والثقافة والتي كانت منفتحة على الثقافات الأخرى وعلى حركة التطور العالمي بشكل خاص في ظل تضامن العالم الثالث الذي كان قد تجسد في تأسيس حركة عدم الانحياز. وقد كان الخطاب السياسي في حينه خاليًا من الإشارة إلى الدين أو من أي نوع من المرجعية الدينية والمذهبية. ولذلك كان الإسلام والمسيحية العربية يتعايشان بشكل طبيعي دون أية صعوبة، كما كانت المذاهب الإسلامية والعربية تتعايش دون توتر يُذكر.

أما اليوم، فإن شحن الجو الديني والمذهبي وارتباط الخطاب السياسي الوثيق مع الدين ومذاهبه هما عاملان يهددان السلم الأهلي في أكثر من بلد عربي. ولذلك يتعين العمل من أجل إرساء مناخ جديد يعيد الهدوء إلى النفسيات المشحونة بالتوتر الديني والمذهبي. ومن أجل تحقيق ذلك لابد من التأكيد على حرية الاجتهاد في الأمور الدينية، كما كان سائدًا في القرون الأولى المجيدة من انتشار الديانة الإسلامية وهو انتشار حرر الكنائس العربية المشرقية من هيمنة الكنيسة البيزنطية واضطهادها للكنائس العربية وللكنيسة المصرية؛ ولابد أيضًا من التأكيد على ضرورة إنهاء المأساة الفلسطينية وتضافر كل الجهود العربية، مشرقًا ومغربًا، من أجل هذه القضية الرئيسية والمحورية في الوعي الجماعي العربي. وهذا يقتضي من الثقافة العربية أن تعتمد بشكل نهائي، لا رجعة عنه، مبدأ التعددية الدينية والمذهبية، ليس فقط كنقيض للنموذج الصهيوني الإقصائي لكل ما هو غير يهودي وإنما كعودة إلى حقيقة التاريخ العربي الإسلامي حيث كان يسود الحرص على التعايش والتداخل المجتمعي والثقافي بين الأديان التوحيدية والأعراق المختلفة.

مخرج التعددية

إن مصير الشعوب العربية متعلق إلى أبعد الحدود بإبعاد شبح التفكير الإقصائي الذي استولى على أجزاء واسعة من الرأي العام العربي، وبالتالي العودة إلى ركائز النهضة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين التي تميزت بالإصلاح الديني والنهضة اللغوية والثقافية والفنية العربية، وذلك بالانفتاح على كل تيارات الحداثة التي انطلقت من النهضة الأوروبية، ثم دارت في كل أجزاء العالم بعد انفجار الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر. أما الاستمرار في التوترات الدينية والمذهبية وانحسار القومية العربية في أنواع مختلفة من القومية الإسلامية التي تطمح إلى ممارسة الممانعة أمام الغزو الثقافي الغربي وتغض النظر عما يحصل في فلسطين منذ عقود، فهو طريق الهلاك الحتمي الذي يجب أن نحيد عنه بسرعة لنعيد بناء مناخ رحب، ليس يقبل بالتعددية الدينية والمذهبية فقط بل يكون هدفه الرئيسي القضاء على النموذج الصهيوني الإقصائي والقمعي، وذلك عبر إعادة التعددية بكل أبعادها في المشرق العربي؛ وهي تعددية ستحافظ على ما تبقى من الوجود العربي المسيحي كما ستحافظ على كل المذاهب الإسلامية معززة مكرمة، وليست كما هي الحال الآن متوجسة وخائفة ومتوترة.
____________________________________________
*جورج قرم، وزير لبناني سابق ومؤرخ واقتصادي.

ABOUT THE AUTHOR