التصورات الإثيوبية حول النيل الجزء الأول

201311785440971580_20.jpg
المصدر [الجزيرة]

"إثيوبيا مستعدة لتبادل أباي (النيل الأزرق) مع جيرانها بطريقة عادلة ومنصفة. والمسؤولية الرئيسية لإثيوبيا هي استخدامه لخدمة العدد المتزايد من سكانها واقتصاده ".
الإمبراطور هيلا سيلاسي، 1964.

 بحلول عام 2030، سيبلغ سكان القرن الإفريقي وشمال إفريقيا أربعة مليارات شخص وهذه الملايين ستواجه نقصا حادا في المياه. أما اليوم فيركز المجتمع الدولي اهتمامه على سيناريوهات العلاقة بين مصر وإثيوبيا، وكيف ستصلان إلى حل يرضي الجميع بشأن الخلافات على النيل. البلدان صديقان للولايات المتحدة والتي تمدهما بالمليارات من الدولارات على شكل مساعدات. ويشعر المراقبون أن الولايات المتحدة ينبغي أن تكون وسيطا نزيها لتجنب الحرب.

نقاط التلاقي ومنعطفات الاختلاف بين مصر وإثيوبيا

هناك أشياء مشتركة أخرى بين مصر وإثيوبيا إلى جانب النيل، فهما موطن المسيحيين الأقباط والمسلمين، وكلا المجتمعين المصري والإثيوبي قد مزقتهما جميع أنواع المظاهرات والاحتجاجات. ففي إثيوبيا، وقعت مظاهرات في مدن بالأقاليم للمرة الأولى منذ عام 2005. ويهيمن على القيادة العسكرية أقليات عرقية تابعة للنخبة من الجبهة الشعبية لتحرير تيغري التي تسيطر على الدولة. وفي مصر تسيطر على الجيش النزعة القومية ويثق معظم المصريين بجيشهم. وقد تفاجأ الإثيوبيون عندما قام الجيش المصري بانقلاب عسكري ضد الرئيس المنتخب ديمقراطيا، وهي سابقة سيئة بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون بنتائج الانتخابات السلمية. وقد دفع الإثيوبيون ثمنا باهظا في أعقاب الانتخابات البرلمانية لعام 2005 والتي فاز فيها حزب الائتلاف من أجل الوحدة والديمقراطية ليأتي رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي ويعكس نتيجة الانتخابات، كما أن المتناقضات كثيرة أيضا.

المصريون منخرطون بشدة، ولم يحدث هذا مع الإثيوبيين بعد، إذ أن المظاهرات ممنوعة في أديس أبابا. وتلعب الولايات المتحدة دورا سلبيا في كلا البلدين، حيث لم تفعل شيئا للضغط على الحكومة الإثيوبية لاحترام نتيجة الانتخابات الحرة وإقناع الجبهة الشعبية لتحرير تيغري بتحمل مسؤوليتها في كشف الفظائع الدموية التي ارتكبت. وبرزت أثناء رئاسة مرسي القصيرة احتمالية مخيفة متمثلة بتدخل عسكري مصري في إثيوبيا وسوريا، حيث قال الرئيس: "سوف ندافع عن كل قطرة من مياه النيل بدمائنا إذا لزم الأمر". واعتبر الإثيوبيون ذلك بمثابة إشارة على عمل عسكري وشيك.

يتابع العالم عن كثب التطورات في مصر لأسباب تاريخية، منها قضية الصراع العربي الإسرائيلي ومنها حيوية قناة السويس. أما الجبهة الشعبية لتحرير تيغري، والتي تسيطر حكومتها على ما طوله أكثر من 1400 كم من نهر النيل عند منبعه، فقد منعت عمليا المعارضة السياسية العلنية والمشاركة المدنية في المشهد السياسي، ولن يغير بناء سد النهضة الإثيوبي العظيم شيئا من هذه الظروف. أخذت مؤشرات سوء الحكم هناك في الواقع طابعا مؤسسيا يتغاضى عنه الحزب الحاكم ويتجاهله مجتمع المانحين.

هل غاب الدور المصري في إفريقيا؟

يعتقد الإثيوبيون الذين خاب ظنهم من التناقض بين القيم والسياسات الأمريكية أن المصلحة الذاتية هي التي توجه سياسة واشنطن تجاه بلادهم.

تؤكد زيارة الرئيس أوباما الأخيرة إلى إفريقيا أن مصلحة أمريكا في تغيير إفريقيا متنامية. وليست الأهداف من وراء ذلك تجارية فحسب، بل إن هذه المصلحة محورية استراتيجية طويلة الأمد. ويدخل ضمن الحسابات الأمريكية لغايات الانخراط في إفريقيا تنمية نهر النيل واستخدامه في المستقبل. وأثناء حكم هيلا سيلاسي ونظام "الجونتا" الإثيوبي، أي المجلس العسكري، كان يُقمع أي تحرك من جانب إثيوبيا لبناء سد ضخم على نهر أباي. وقد حاولت إثيوبيا فعلا، لكنها لم تستطع تأمين التمويل من البنك الدولي لأن أمريكا كانت تحمي مصالح مصر.

واليوم فإن إثيوبيا والحكومات والإفريقية الأخرى لديها روابط تجارية واستثمارية قوية مع اقتصادات غير غربية. ومن ذلك أن الصين قد عرضت المليارات من الدولارات على إثيوبيا على شكل قروض تجارية لتمويل السدود الضخمة، بما في ذلك مليار دولار لتمويل سد النهضة.

وعلى درجات مختلفة، تجمع الصداقة بين الولايات المتحدة وإثيوبيا وكينيا وتنزانيا وجنوب السودان وأوغندا. ودور إثيوبيا في محاربة تنظيم القاعدة في منطقة القرن محل تقدير من قبل واشنطن. وهذا يؤدي بمعظم الأفارقة إلى الاستنتاج بأن مصر لم تعد بلدا يتمتع بنفوذ حاسم في إفريقيا. إن الثروة المشتركة الحالية والمستقبلية في البلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى سوف تغطي على أهمية مصر وبقية العالم العربي.

يرفض الأفارقة الاتفاقات السابقة. فتاريخيا، نجحت مصر في استغلال القوى العظمى بوضعها في مواجهة بعضها البعض، وتحديدا الاتحاد السوفييتي ضد الولايات المتحدة. وقد نجحت في بناء السد العالي في أسوان بعد أن أقنعت الاتحاد السوفييتي بتمويله، وبعد ذلك غيرت مصر ولاءها وأصبحت حليفة أميركا في عهد أنور السادات. أفسدت الدكتاتورية العسكرية الاشتراكية العلاقات مع الولايات المتحدة، والتي عملت بجد لتدفع إلى سدة السلطة بالجبهة الشعبية لتحرير تيغري/الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية الإثيوبية، الحزب الحاكم الحالي. خسرت إثيوبيا إريتريا وفقدت بالتالي ممرها إلى البحر. المفارقة هي أن هذا الحزب هو الذي تخلى عن ميناء عصب والموانئ الأخرى لصالح إريتريا، ونجده الآن عازما على تأكيد حق إثيوبيا في مياه النيل.

هل استغلال أثيوبيا لنهر النيل حق غير قابل للتفاوض؟

أتفق مع الرأي السائد على نطاق واسع بين الإثيوبيين بأن لإثيوبيا حق مطلق في استخدام مواردها المائية. لم يعد بإمكان مصر أن تملي على إثيوبيا ما يمكن أو لا يمكن القيام به بشأن مياهها. وهذا الرأي ليس شيئا جديدا ابتدعه كاتب هذه السطور، فهناك موقفان إثيوبيان رئيسيان ومقال لأستاذ قانون أمريكي يوضحان هذه النقطة. ففي مؤتمر عقد برعاية منتدى الدراسات الاجتماعية في عام 2005، خاطب الدكتور والمؤرخ الإثيوبي الشهير زويدي غابريسلاسي المشاركين قائلا: "لقد بنت مصر سد أسوان عام 1955 بدون استشارة إثيوبيا. وتوصلت إثيوبيا إلى اتفاق مع الولايات المتحدة وأجرت بحثا تقنيا شاملا لحوض أباي في عام 1964. وقد تم تحديد عدة خيارات لبناء السدود الكهرومائية وسدود الري، بما في ذلك سد النهضة الإثيوبي العظيم . يساهم نهر أباي بما مقداره 54 مليار متر مكعب من الماء، أي 86% من سعة النيل البالغة 72 مليارمتر مكعب... وتحمل أنهار إثيوبيا إلى مصر والسودان تربة خصبة لا تقدر بثمن يبلغ حجمها مليار 1.285 مليار طن سنويا... مما جعل مزارعهم من بين الأكثر إنتاجية في العالم". وأكد وجهة النظر الراسخة بين الحكومات الإثيوبية وهي أن "مصر هي هبة النيل وأن إثيوبيا هي مصدره". واتفق المشاركون بالإجماع على أن لدى إثيوبيا الحق في بناء السدود الكهرومائية ولغايات الري بغض النظر عن التهديدات الصادرة عن مصر.

إن أمن إثيوبيا، واكتفاءها الغذائي الذاتي ورخاءها في المستقبل تعتمد جميعا على جاهزية الحكومة لاستغلال الأنهار والأراضي الزراعية. وتتفق هذه الآراء مع أقوال الإمبراطور هيلا سيلاسي الذي وضع سياسة إثيوبيا الحديثة بشأن النيل. وفي ورقة قدمت في تل أبيب في عام 1997، عرض غابريسلاسي موقف إثيوبيا مبينا أن حقها في استخدام أباي غير قابل للتفاوض، ومذكرا الحضور بأن هذا الموقف ليس جديدا، إذ إنه يسبق عبارة هيرودوت الشهيرة أن مصر هي "هبة النيل"، وإثيوبيا هي المستفيد الأساسي، وعليه فإنها يجب ألا تعاقب. وأبرز رسالة للإمبراطور الإثيوبي داويت أرسلت إلى مصر خلال الفترة 1380-1409 قائلا: "إذا لم توقف مصر تهديد إثيوبيا، فانه سوف يضطر إلى تحويل مجرى نهر أباي وحرمان مصر من جزء كبير من مياهها".

يأخذ البروفيسور هايلو ولدجيورجيس بوجهة نظر معاصرة ويدعم حق إثيوبيا في استخدام الأنهار لتلبية احتياجاتها. وهو يبني طرحه على اتفاقيات الأمم المتحدة واتفاقية إطار مبادرة حوض النيل وعلى آراء الخبراء. ويقول: "إن الفكرة المقابلة والتي تعطي دولة ما أولوية مطلقة في التخصيص المسبق على الاستخدامات اللاحقة لا تتوافق مع مبدأ الانتفاع المنصف. والاعتقاد بخلاف ذلك يعني أن الدولة التي نجحت في تحصيل حق أولوية التخصيص من مياه حوض النيل الرئيسي سوف تستبعد الدول الأخرى المشاركة في الحوض، ويمكن لها أن تمنع تماما أي استخدام لهذه المياه من قبل الآخرين. وهذا الحال ينطوي على استهزاء بفكرة المساواة في حق الاستغلال.... إثيوبيا لديها الحق الشرعي في بناء السدود الكهرومائية ولغايات الري لتلبية احتياجاتها. ولديها لوحدها القدرة على ري ما لا يقل عن 3.5 مليون هكتار من أراضيها، والتي لا يروى منها حاليا إلا 4 بالمئة فقط أو 90 ألف هكتار".

وتنص المادة 5 (2) من اتفاقية المجاري المائية الدولية على وجوب وضع إطار قانوني للاستخدام العادل للمجاري المائية وهو بند يخالفه الموقف المصري المصر على "الحقوق التاريخية". لقد آن الأوان لتطبيق الانتفاع العادل. ويتفق الخبراء الأجانب مع ذلك، ومنهم عضو الكونجرس الأمريكي السابق دين كامبل، والذي يقول: "يرتبط الشعورالقومي في مصر بسيطرتها على نهر النيل. وكذلك الحال بالنسبة لإثيوبيا ومسألة الاكتفاء الذاتي من الطاقة... والصراع بين الواقعين يمكن أن يكون له عواقب مهلكة". ويضيف كامبل: "إن إثيوبيا تقوم ببناء سد النهضة الإثيوبي العظيم بكلفة لا تقل عن 5 مليارات دولار جمعت من الموارد المحلية، بما في ذلك السندات والاقتراض من الصين. في الماضي، كانت القوى الأجنبية تحمي هيمنة مصر". ثم يضيف كامبل: "عندما سعت إثيوبيا إلى تمويل البنك الدولي لهذا السد قبل 20 عاما، ضغطت الولايات المتحدة على البنك كي يرفض. ويقول الإثيوبيون إن هذا قد تغير بسبب الحرب ضد الإرهاب في القرن الإفريقي ودور إثيوبيا المحوري في احتوائه. وسيتم بناء سد النهضة الإثيوبي العظيم." ويختم حديثه بقوله: "بمجرد الانتهاء من بناء هذا السد، فإنه سوف ينتج كميات هائلة من الكهرباء التي يمكن بيعها للدول المجاورة وبالتالي تسديد قيمة السندات والقروض من الصين. وسوف تستخدم المياه المخزنة في تخفيف حدة الجفاف الذي يحدث كل سبع سنوات، فيما ستستطيع مصر والسودان الاستفادة من تدفق كميات من المياه يمكن الاعتماد عليها. وحالما يتم ملء الخزان، لن يتراجع تدفق النيل. وتوصيتي هي إبطاء التعبئة على مدى عدة سنوات حتى لا تقلق الأطراف الأخرى. إن حق إثيوبيا في تسخير أباي لا جدال فيه. ومع ذلك، فإنه من الحكمة عدم معاقبة مصر. إن منع إثيوبيا من بناء السدود أو تجاهل ما تفعله مصر وما كانت تفعله دائما ليس سلوكا حكيما من قبل أي حكومة أجنبية.

 في الختام، يجب على مصر وإثيوبيا اتخاذ سبيل تعاون أفضل. وسوف نبحث في الجزء الثاني جدوى هذا الخيار.
______________________________________________
*أكلوغ بيرارا، رئيس مركز التنمية الشاملة في واشنطن. محلل وكاتب ومحاضر في الاقتصاد السياسي متخصص في أفريقيا.
ترجم النص: محمود العابد

ABOUT THE AUTHOR