استدعاء إرث مانديلا في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني

عند استحضار صورة المناضل والرئيس السابق مانديلا تبرز رؤى عديدة منها: دفاعه عن المقاومة المسلحة الضرورية لإزعاج العدو العنيد وقد قال مانديلا إنه تعلم هذا الدرس المهم عن المقاومة المسلحة من رفاقه الجزائريين في عام 1962، كما يتم استحضار مقولته الشهيرة: "حريتنا ناقصة بدون حرية الفلسطينيين".
2014827101034429734_20.jpg
(الجزيرة)
ملخص
مات حل الدولتين وقد دفنته غطرسة إسرائيل وتخاذل الولايات المتحدة، لكن فيما يبدو لم يستُبدل بحل الدولة الواحدة، ذلك أن الحاصل الآن هو: الإبادة الجماعية للفلسطينيين. ومع سجل إسرائيل في التطهير العرقي، فلن تكون مفاجأة إذا اختارت إسرائيل هذا خيار العنف والقتل والتشريد بدلاً من دولة شاملة للجميع يتمتع فيها كل الفلسطينيين والإسرائيليين بحقوقهم الإنسانية. إذا اختارت إسرائيل أن تتحدث قنابلها بدلاً من ألسنتها، فسيقف مواطنو العالم بالتأكيد ضد هذه الحكومة. قد يبدو كما لو أن تعبئة القواعد الشعبية لا يمكنها الانتصار بمواجهة القوة السياسية والعسكرية والمالية الإسرائيلية والأميركية، بيد أن الأمر "يبدو" فقط كذلك. بعد كل شيء، كان الزعيم مانديلا الذي أُعجب به نتنياهو وأوباما غاية الإعجاب، لقدرته على تحقيق المستحيل، هو الذي قال: "هناك دائمًا ما يبدو مستحيلاً حتى يتم إنجازه"، وهو ما يعني أن المآسي التي يواجهها الفلسطينيون ستنفتح في آخر المطاف على تحقيق حريتهم وتوقف الظلم الذي يتعرضون له.

دفع رحيل هذه الأيقونة السياسية العديد من الساسة والمحللين والأكاديميين والناشطين من كلا جانبي (الفصل العنصري) للتعبير عما يعتقدونه حول حقيقة مواقف وأفكار نيلسون مانديلا، أول رئيس أسود انتُخب ديمقراطيًا في جنوب إفريقيا. يرصد إقبال جسّات(1) بدقة ما صدر من تدفق هائل وسريع للإشادة والثناء والإجلال منذ رحيل ماديبا(2) (نيلسون مانديلا) عندما يقول: "في الحقيقة، كما هو الحال عندما يتأمل المؤرخون وكتاب السير والمعاصرون حياة البشر المتميزين، يكمن دائمًا في الخلفية خطر اختلاط الحقيقة بالخيال".

كان الحفاظ على مانديلا الحقيقي صعبًا جدًا في وجه الآلة الإعلامية الغربية السائدة العملاقة التي توفر لسياسيّيها أعلى الميكروفونات صوتًا وأوسع المنابر. لا يزال أنصار الحركة المناهضة للفصل العنصري يكافحون للحفاظ على ذكرى مانديلا كمقاتل حرب عصابات استراتيجي دافع بشكل غير اعتذاري عن المقاومة المسلحة، واتجه إليها كسلاح لإحداث ما يكفي من إزعاج لعدو عنيد بشكل غير معقول؛ حتى يجلس هذا العدو فعليًا على مائدة التفاوض. (3) "تعلم مانديلا هذا الدرس المهم عن غاية حرب العصابات من رفاقه الجزائريين في عام 1962». 

هذه إحدى الحقائق العديدة التي تم حذفها أيضًا بشكل مريح في الخطاب الغربي الذي تتردد أصداؤه في الخطابات الرسمية التي يتم إعدادها للسياسيين الأميركيين والبريطانيين. إنها حقيقة تاريخية معبِّرة بوضوح عن علاقات مانديلا الوثيقة بعرب شمال إفريقيا والشرق الأوسط. لو أن وسائل الإعلام الغربية والسياسيين الغربيين اعترفوا علنًا بولاء مانديلا لكفاح الشعوب العربية المسلح ضد المغامرات والتطلعات الإمبريالية الغربية والصهيونية بشمال إفريقيا والشرق الأوسط، لما كان لدى الرئيس باراك أوباما ورئيس الوزراء ديفيد كاميرون وتوني بلير وبيل كلينتون وجورج بوش وحتى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خيار سوى أن يصنّفوا مانديلا إرهابيًا أيضًا.

للأسف، تمكنت الحكومات الغربية، التي وقفت سابقًا في الجانب المعارض للنضال ضد الفصل العنصري بجنوب إفريقيا، من اختطاف وسائل الإعلام الدولية ومحاولة إعادة إنشاء إرث مانديلا كرجل كانت المصالحة أكثر أهمية لديه من استرداد الحقوق أو التعويض عنها. السردية التي يتم تعميمها بواسطة الغرب ووسائل إعلامه السائدة، وتحديدًا في الولايات المتحدة وبريطانيا، هي أن تعريف مانديلا للتصالح هو تبديد مخاوف الظالم السابق، بالتخلي عن جميع المطالبات بالاعتراف بالإبادة الجماعية وقبول المحو الكلي لجميع آثار الصدمة والاضطهاد اللذين وقعا على عِرق بأكمله وأمة بأسرها بواسطة هذا الظالم. سيترافق هذا التخلي مع ضمان المظلومين سابقًا حماية مالية وشخصية كاملة للظالم من العنف المماثل والمعاملة غير المواتية.

هذه الممارسة الاحتيالية لتحريف التاريخ أكثر ما تكون وضوحًا في صراع له دلالة كبيرة لمانديلا، والأغلبية السوداء بجنوب إفريقيا، والأقليات الهندية والملونة التي أُقصيت إلى مواطنة من الدرجة الثانية والدرجة الثالثة التي هي محفوظة في المقام الأول للسود بجنوب إفريقيا: النضال الفلسطيني. مانديلا، الذي يعتبر بطلاً قاد "التحول المعجزة" بجنوب إفريقيا، تم استخدامه بوصفه عنوانًا لقادة النضال من أجل الحرية وتقرير المصير ضد الأنظمة التي تمارس هيمنة على الشعوب الأصلية على غرار الفصل العنصري وكذلك الاحتلال غير المشروع لأرض هذه الشعوب.

تَحضُر القضية الفلسطينية والحالة الفلسطينية، بشكل خاص، في الطليعة عند استدعاء مانديلا. قد لا يكون هناك أي شيء خاطئ في الدعوة إلى ظهور "مانديلا" بين القيادة الفلسطينية ما دام هناك لدى الذين يشجعون مثل هذا الفعل نوايا حقيقية لإيجاد حل عادل وسلمي حقيقي وليس هناك دوافع خفية ضارة بالمقاومة الفلسطينية الحقيقية والضرورية للاستعمار الإسرائيلي. حتى الآن، فإن النمط الذي يتخلل هذه الدعوة "المألوفة" -كما تبدو- لظهور مانديلا فلسطيني يعود إلى الذاكرة الانتقائية. ستصبح مهمة فصل الحقائق عن الخيال مستحيلة إذا كان التضليل الذي تنشره وسائل الإعلام الغربية التي يسيطر عليها اللوبي الصهيوني يجد طريقه إلى مقررات مناهج التاريخ المؤلفة لتلقين الأجيال القادمة.

من الذي يدفع نحو ظهور "مانديلا الفلسطيني"؟ ولماذا؟

يمكن النظر للإشارة إلى مانديلا بطريقتين متمايزتين: إما بمثابة دعوة حقيقية لتطبيق الدروس المستفادة من النضال الدؤوب ومتعددة الأوجه لأجل الحرية والعدالة أو بمثابة ممارسة في الانتهازية السياسية المبذولة لإقناع وخداع الفلسطينيين والمجتمع الدولي بمحاكاة "قدرة مانديلا كقديس على أن يعفو وينسى" فظائع [الفصل العنصري] الماضي التي ارتكبتها حكومة الحزب الوطني بجنوب إفريقيا، وبالتالي فظائع القيادة الصهيونية. الواقفون على جانبي الصواب والخطأ من خط الفصل العنصري "يبحثون عن مانديلا"،(4) مع إشارة كلا الجانبين إلى أن هذا من شأنه كسر الجمود في مفاوضات السلام الإسرائيلية-الفلسطينية التي انتهت إلى عبث منذ مرحلة ارتباكها الأولية.

تتفاوت الدعوة إلى مانديلا فلسطيني من داخل الجانب المؤيد لفلسطين. في مجلة تقرير واشنطن حول شؤون الشرق الأوسط (WRMEA)، كتب جون غي، وهو محلل يؤكد أن الإصرار على ضرورة وجود شخصية مثل مانديلا أصبح "لازمة مملة من النقاد"،(5) حيث "القرّاء مدعوون لمقارنة النهج اللاعنفي المرن المفترض لمانديلا والمؤتمر الوطني الإفريقي بعنف وحماقة وتصلب القادة الفلسطينيين بل والفلسطينيين عمومًا". لكن غي يجادل بأن هذا انطباع خاطئ عن مانديلا والمؤتمر الوطني الإفريقي. بحسب غي، فـ"حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بقيادة مانديلا لم يتنازل أبدًا عن هدفه المركزي، وهو تحقيق قيام دولة ديمقراطية لا عنصرية بجنوب إفريقيا؛ حيث لا يعاني البشر من التمييز العنصري بسبب لون بشرتهم". يقارن غي موقف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بموقف منظمة التحرير الفلسطينية بملاحظة التحولات المتعددة التي اتخذتها منظمة التحرير الفلسطينية بعيدًا عن هدفها الأولي.(6)

تستند الدعوة القادمة من الغرب وحلفاء إسرائيل الآخرين إلى مانديلا فلسطيني على تحويل شخصية مانديلا إلى شخصية تقدم تنازلات غير ضرورية من أجل السلام. تم تصميم التنازلات المفروضة على الفلسطينيين لتضمن بشكل فاعل أن لا توجد دولة فلسطينية في أي وقت. مثل هذه المطالب الموجهة للفلسطينيين من قبل الحكومة الإسرائيلية وحليفتها الأساسية، واشنطن، هي انتحار محقق بالنسبة لقوم نُهبت أراضيهم وممتلكاتهم ومرجعيتهم التاريخية وهويتهم المستمدة من هذه الأرض. هذه المطالب مذلة بقدر ما هي غير عادلة بشكل صارخ إزاء الفلسطينيين.

الآراء الصادرة من الجانب المؤيد لإسرائيل، كما عبّر عنها أوباما وكيري وكاميرون ونتنياهو وبيريز يجمع بينها خيط مشترك من النفاق المتوقع. هذه الرسالة التعليمية من مانديلا حول موقفه من "الصفح والنسيان" يتم إخفاؤها، وتلحق بها العبارات التالية من الثناء على رئيس جنوب إفريقيا السابق:

"علّمَنا مانديلا قوة العمل، بل أيضًا قوة الأفكار؛ وأهمية العقل والحجج؛ والحاجة إلى دراسة ليس فقط أولئك الذين نتفق معهم، بل وأولئك الذين لا نتفق معهم. لقد فهم أن الأفكار لا يمكن احتواؤها بين جدران السجن، أو إخمادها برصاصة قناص".

"لقد أظهر مانديلا أن العمل والأفكار ليست كافية بحد ذاتها؛ مهما كانت على حق، ينبغي حفرها في القوانين والمؤسسات".

"في المبادئ الأساسية، كان مانديلا صلبًا لا تلين له قناة، وهذا سبب رفضه عرض الإفراج المشروط عنه، مذكّرًا نظام الفصل العنصري أن (السجناء لا يمكنهم الدخول في تعاقدات)". 

"لقد اقتضى الأمر ظهور رجل مثل ماديبا [نيلسون مانديلا] لإطلاق سراح السجين والسجّان كذلك؛ ولإظهار أنه ينبغي أن تثق بالآخرين حتى يثقوا بك؛ ولتعليم الجميع أن المصالحة ليست مسألة تجاهل ماض قاس، بل هي وسيلة لمواجهته بالاستيعاب والكرم والحق".

"إن النضالات التي تتلو انتصار المساواة الرسمية والحق الدستوري الشامل قد لا تكون حافلة بالدراما والنقاء الأخلاقي كما كان الأمر كذلك قبل الانتصار، لكنها ليست أقل أهمية".

"وهناك الكثيرون منّا الذين يقفون على الهامش مرتاحين تخاذلاً أو خبثًا عندما ينبغي أن تُسمع أصواتنا".

"مانديلا يذكّرنا أن هناك دائمًا ما يبدو مستحيلاً حتى يتم إنجازه".
- الرئيس الأميركي باراك أوباما

"لقد رفض التجريم لصالح المصالحة، وعرف أن المستقبل يتطلب أن نتجاوز الماضي، وقال: "كان هناك دائمًا ما يبدو مستحيلاً حتى يتم إنجازه".
- وزير الخارجية الأميركي جون كيري

"لقد انطفأ ضوء عظيم في العالم. كان نيلسون مانديلا شخصية بارزة في عصرنا؛ أسطورة في حياته والآن أسطورة في موته. بطل عالمي حقيقي. كان اللقاء به من أهم ما شرفت به في حياتي".
- رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون

"كان نيلسون مانديلا مناضلاً من أجل حقوق الإنسان وترك أثرًا لا يُمحى من الكفاح ضد العنصرية والتمييز".
- الرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس

"كان مانديلا شخصية نموذجية في عصرنا وسيُذكر كزعيم أخلاقي من الدرجة الأولى. كان مقاتلاً من أجل التحرر رافضًا للعنف".
- رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو(7)

في تأبين موجز لماديبا كتبه كورنيل ويست؛(8) يبرز هذا المفكر الأميركي نفس مخاطر التحريف التاريخي التي طرحها جسّات. يلاحظ ويست أن "رموزًا وشخصيات عالمية نيوليبرالية"، كالذين وردت أسماؤهم أعلاه، "أصبحوا أوصياء على تراث مانديلا بينما يتلاشى رفاقه الثوريون في سلة مهملات التاريخ".(9) قال ويست هذا بعد "[استنكار]" ما قام به بالضبط، هؤلاء السياسيون الذي أوردنا أقوالهم، بالنسبة لذكرى مانديلا؛ حيث "... جعلوه سانتا كلوز (بابا نويل)، فحوّلوا مانديلا الإنسان والزعيم الثوري إلى رجل مسنّ يمكن عناقه فلا خطر منه، مع ابتسامة وأكياس ممتلئة بلعب الأطفال، خاصة بالنسبة للأوليغاركيين المبتهجين مثل عائلة أوبنهايمر أو النخب حديثة الغنى مثل سيريل رامافوزا».

الثناء الذي أضفاه رجال الدولة هؤلاء على مانديلا والتزامه بالنضال ثناء كبير بالفعل لكن أيضًا يحمل قليلاً من المعنى في النزاع [الفلسطيني-الإسرائيلي] الذي طال أمده بشكل متعمد وبدون ضرورة وفشلوا جميعًا فشلاً ذريعًا في حله. المفارقة الساخرة في كلمات الرئيس أوباما تعتبر غريبة إن لم تكن بالفعل غير متوقعة. ألقى الرئيس الأميركي هذه الكلمات باقتناع يجعل أولئك الذين لم يشاهدوه في مهمته لترسيخ حظوظه نحو بلوغ المقعد الرئاسي من خلال مؤتمرات اللوبي الإسرائيلي (إيباك)، يعتقدون أنه سعى في الواقع نحو السلام والعدالة ذاتهما اللذين جعلاه معجبًا جدًا بمانديلا في كفاحه لأجلهما. أوباما مُحِق تماما في القول بأن جدران السجن لا يمكنها حبس الأفكار لأن الخبرة الفلسطينية أفلتت من جدران سجن غزة واخترقت المراكز المنتعشة للتعبئة السياسية والسلطة: الشباب العربي الثوري، ودافعي الضرائب الأميركيين المحبطين، والناس بجميع أنحاء العالم الذين ما زال لديهم ضمير.

كلمات رجال الدولة المذكورة أعلاه يؤسف لها في سياق دور كل منهم في إدامة هذا النزاع [الفلسطيني-الإسرائيلي]، وفي سياق ترسيخ أعمق لتشريعات على غرار الفصل العنصري في حياة الفلسطينيين، ومع ذلك، فإن رجل دولة واحد تبرز كلماته هو أوباما. هناك سبب واحد له ليكون مشدودًا إلى هذه المسؤولية الرئيسة لضمان حق الفلسطينيين في تقرير المصير وهو أنه يقود البلاد التي جعلت نفسها رقيبًا على حقوق الإنسان بجميع أنحاء العالم. إذا دُرِس حديث أوباما ولو حتى بسطحية، فإنه يتكلم ضد سلوك سياسته الخارجية وسلوك البلاد التي يقودها. عندما يُذكَر مانديلا، تكون كلمات أوباما مفارقة ساخرة في أحسن الأحوال ومخادعة في أسوأ الأحوال، لأنه حقًا شخصية رئيسة قادرة على توجيه الصراع نحو تسوية سلمية وعادلة، لكن هو نفسه بدلاً من ذلك "وقف مرتاحًا متراخيًا عندما كان ينبغي لصوته تحديدًا أن يُسمع".

بدلاً من ممارسة الشجاعة في دور الوسيط المنوط به هو (وليس وزير الخارجية كيري) بصفته رئيسًا عن طريق رسم الخطوط الحمراء لنتنياهو، كل ما قدمه أوباما هو إعادة تدوير تعويذة "إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها" والتي سرعان ما فقدت صدقيتها وتأثيرها على أي شخص لا يزال مستعدًا لسماعها. لن يكون أوباما أبدًا مثل الرجل الذي يُعجَب به لالتزامه الذي لا يتزعزع تجاه حماية حقوق الإنسان، لاسيما حقوق الفلسطينيين، بأية كلفة كانت. أن تكون مثل مانديلا يقتضي شجاعة ولا أقل منها، ولكن أوباما ليس لديه أية شجاعة.

ادعاءات الرئيس الأميركي الديمقراطي الحالي الجريئة بالاصطفاف ضد الاستعمار هي ادعاءات كاذبة تمامًا طالما ظل عاجزًا بشكل محرج لا يغتفر في النضال الفلسطيني ضد الفصل العنصري(10) يشير هذا المقال عمدًا إلى النضال الفلسطيني باعتباره نضالاً ضد الفصل العنصري (بناء على تقارير الأمم المتحدة العديدة)، مع الوعي بأن النقاش حول تعريف السياسات الإسرائيلية تجاه جميع الفلسطينيين (في غزة والضفة الغربية، والذين في المنافي، والذين أُجبروا على أن يصبحوا لاجئين، وأولئك الحاملين للجنسية الإسرائيلية من الدرجة الثانية) لا يزال مستمرًا، حتى رغم الأدلة الدامغة ضد إسرائيل.

في نهاية مقابلة للفضائية الإخبارية "سي إن إن" أجرتها معه هلا غوراني، كرّر كاتب الأعمدة والمؤلف آري شابيط التوجه الشائع لدى السياسيين الصهاينة الاعتذاريين المذكورين أعلاه بـ"نداء" متفضل متعال للفلسطينيين. قال شابيط: "أطلب من نظرائي الفلسطينيين أن يروا أنه في حين أنني أقرّ بمأساتهم -حقيقة أنهم خبروا ألمًا رهيبًا وكثير منهم فقدوا منازلهم وشهدوا مأساة رهيبة- أقول لهم، أطلب منهم، بمعنى ما، المضي قدمًا». في الواقع، يمثل نداء شابيط لنظرائه الفلسطينيين تقدمًا في مشاعر الإسرائيليين الذين أنهكهم الصراع، لكنهم يظلون يمجّدون بعناد شرعية الدولة اليهودية الخالصة، متمسكين بتفوقها العرقي. بالنسبة لمؤيدي حق إسرائيل في الوجود في ظل الظروف الراهنة، الدعوة لظهور نيلسون مانديلا بين القادة الفلسطينيين، يرتكز على مطالبة الفلسطينيين بالعفو والنسيان.

في حين يبدو أن صوت السردية الفلسطينية وتجربة الاحتلال الإسرائيلي تسقط على آذان راغبة فعلاً بالاستماع وعيون قادرة في الواقع على رؤية تأثير الاحتلال الصهيوني الغاشم على الحياة الفلسطينية، وإن لم يكن بحجم ووضوح كاف لحدوث التغيير الضروري. هناك عدة عوامل يمكن أن يُعزى إليها هذا التغيير الطفيف في النبرة -على الأقل لدى الجمهور الإسرائيلي اليهودي المقيم في الأراضي المقدسة المتوترة وفي الشتات اليهودي. رغم أنه لا يلقى إقرارا واسعًا لكنه لا يُنكَر تماما- قد يكون السبب أن يهود إسرائيل الموالين للصهيونية يرون أخيرًا أن الأجندة الصهيونية هي في الواقع السبب الرئيس لانعدام الأمن اليهودي ليس فقط في فلسطين/إسرائيل بل أيضًا بسائر أنحاء الشرق الأوسط وكانت هي العقبة الرئيسة أمام السلام مع فلسطين. في 2007 قال أوري أفنيري مؤكدًا: إن "أي شخص على اتصال بالجمهور الإسرائيلي اليهودي يعرف أن الرغبة في دولة ذات أغلبية يهودية، حيث اليهود هم أسياد مصيرهم، ينسخ جميع الأهداف الأخرى، حتى الرغبة في إقامة دولة بجميع "أرض إسرائيل".(11) يبدو أن خط تفكيره يمثل فهمًا أكثر قابلية للتصديق حتى الآن من خط التفكير المأمول في هذا المقال، لكن لا ينبغي التخلي عن الأمل في تغير العقلية المشلولة لأولئك الذين يشير إليهم أفنيري.

كما هي الحال الآن، لا يبدو أن هناك حلاً للعدوان الصهيوني، لكن بدا ذات مرة في الثمانينات أنه لن يكون هناك حل للفصل العنصري بجنوب إفريقيا. مع وفاة أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا، انبعث مجددًا كثير من أفكاره حول النضال ضد الفصل العنصري، وحُلِّلت وأُسيء تفسيرها أيضًا بشكل خاص. أصبح استدعاء آراء مانديلا بشأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني صراعًا آخر بحد ذاته، بينما يتلاعب أنصار حق اسرائيل في الوجود بصداقة مانديلا مع قدامى المحاربين اليهود في النضال ضد الفصل العنصري بجنوب إفريقيا كأساس للمجادلة بأخلاقية إسرائيل وتمسك الفلسطينيين بالحنين إلى كلمات مانديلا، "حريتنا ناقصة بدون حرية الفلسطينيين".(12)

دولة واحدة أو دولتين: ماذا يمكن أن يقول مانديلا؟

أشاد مانديلا باتفاقات أوسلو عام 1993 بوصفها انفراجا في محادثات السلام. كان هذا بلا شك خطأ حيث كانت عقيمة وظهر أنها فخ آخر للفلسطينيين للموافقة على نهب مزيد من حريتهم وأرضهم بواسطة الحكومة الإسرائيلية. مع ذلك، لم يكن تفاؤل مانديلا دليلاً على افتقاد الحكمة، كما أقرّت راشيل بوستك وأليسون روجرز،(13) "جلب إعلان المبادئ بين إسرائيل والفلسطينيين في 1993 شعورًا ملموسًا بالتفاؤل والأمل بأن هناك نهاية في الأفق لصراع طال أمده بين الطرفين. يبدو أن الكثير من هذا الأمل كان في غير محله".

لدى النظر في الدمار الذي ألحقته قوات الدفاع الإسرائيلية مرة أخرى بالفلسطينيين منذ 8 يوليو/تموز 2014، ليس من الصعب معرفة ما يمكن أن يقوله مانديلا، وهو بالتأكيد ليس "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها". في جنوب إفريقيا، عندما واجه مانديلا اختيارًا مماثلاً بين دولة واحدة موحدة تحت حكومة واحدة موحدة أو عدة دويلات زائفة تحت إدارات مختلفة، كان جواب مانديلا بـ«لا» واضحة خالصة للخيار الأخير. كانت الوحدة أولوية له؛ كان التعايش غير قابل للتفاوض، كان التسامح الخطوة الأولى، حتى مع وجود الندوب العميقة التي لا يزال يحملها السود والهنود والأفارقة الجنوبيون الملونون من نظام الفصل العنصري الهمجي، حتى مع رفض أعضاء نظام البيض السابق قبول المسؤولية عن إلحاق تلك الندوب، كان الهدف النهائي دولة واحدة تضم الجميع دون بقاء أثر واحد من الفصل العنصري.

كان هذا ربما الجانب الأكثر صعوبة في تفكيك نظام الفصل العنصري، حيث إنه أيضًا استبعد أية فرصة للعدالة الاجتماعية والاقتصادية للغالبية المضطهدة من خلال "هيئة الحقيقة والمصالحة"، لكن (وفقًا لمانديلا والمؤتمر الوطني الإفريقي) كان حلاً وسطًا لا مفر منه لأجل الحفاظ على الحياة البشرية. كذلك، أدرك مانديلا والمؤتمر الوطني الإفريقي أن لا شيء لديهم عمليًا للمساومة عليه في مفاوضات كوديسا CODESA، لإنهاء نظام الفصل العنصري (1990-1993)، باستثناء ضمان حقوق الأقلية البيضاء في الوجود بسلام وازدهار بجنوب إفريقيا. انتقد الأفارقة الجنوبيون السود هذه الصفقة، خاصة عندما رأوا أنهم ما زالوا مضطهدين اجتماعيًا واقتصاديًا، ليس بواسطة الفصل العنصري بل بواسطة بقاياه.

لكن في نهاية انتقادهم لما شعروا بأنه كان تضحية غير ضرورية لتحقيق العدالة من مانديلا، تأتي الأسئلة الخطابية دائمًا تقريبًا "لكن في الحقيقة، ماذا كان يفترض أن يفعل مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي؟ هل كان هناك حقًا أي خيار آخر إلا التعايش مع مستعمرينا السابقين في دولة واحدة؟" والجواب على هذا هو دائمًا تقريبًا "لا".

مات حل الدولتين؛ دفنته غطرسة إسرائيل وتخاذل الولايات المتحدة. لكن استُبدِل بحل الدولة الواحدة أيضًا خيار آخر: الإبادة الجماعية للفلسطينيين. مع سجل إسرائيل في التطهير العرقي، لن تكون مفاجأة إذا اختارت إسرائيل هذا الخيار بدلاً من دولة شاملة للجميع يتمتع فيها كل الفلسطينيين والإسرائيليين بحقوقهم الإنسانية. إذا اختارت إسرائيل أن تتحدث قنابلها بدلاً من ألسنتها، سيقف مواطنو العالم بالتأكيد ضد هذه الحكومة. قد يبدو كما لو أن تعبئة القواعد الشعبية لا يمكنها الانتصار بمواجهة القوة السياسية والعسكرية والمالية الإسرائيلية والأميركية، بيد أن الأمر "يبدو" فقط كذلك. بعد كل شيء، كان الرجل الذي أُعجب به نتنياهو وأوباما غاية الإعجاب، لقدرته على تحقيق المستحيل، هو الذي قال: "هناك دائمًا ما يبدو مستحيلاً حتى يتم إنجازه".
______________________________________
نولوازي لمبيديه - كاتبة من جنوب إفريقيا

الهوامش
1. إقبال جسّات، "تأملات حول مانديلا وفلسطين":
Iqbal Jassat, “Reflection on Mandela and Palestine,” The Palestine Chronicle, December 10, 2013.
2. ماديبا أحد أسماء مانديلا القبلية، ويستخدمه الأفارقة الجنوبيون أحيانًا بدلاً من مانديلا لإظهار أبلغ احترام لرئيسهم السابق.
3. في مقاله بعنوان: "وفاة نيلسون مانديلا والانتهازية السياسية"، يلاحظ الكاتب: "اليوم، وكما ترون صور أُعيد تلوينها لنيلسون مانديلا بعد السجن، كجدٍ أعزل. من فضلك تذكّر أنه كان شخصًا لديه الكبرياء والشجاعة لحمل السلاح ضد مضطهديه. خاض مانديلا حرب العصابات ضد سيادة البيض في جنوب إفريقيا، كغيره كثير بجميع أنحاء العالم". انظر:
 http://hotterthanapileofcurry.wordpress.com/2013/12/06/the-death-of-nelson-mandela-political-opportunism/
4. انظر: Heribert, A & Moodley, K. (2006), “Seeking Mandela: Peacemaking between Israelis and Palestinians”, Johannesburg: Wits University Press.
5. اقتباس مباشر من مقال جون غي في "تقرير واشنطن حول شؤون الشرق الأوسط" (WRMEA)، بعنوان: رغم بلاغتها، لن تكون إسرائيل مسرورة بظهور مانديلا فلسطيني، المجلد 32، العدد 8، أكتوبر/تشرين الأول-نوفمبر/تشرين الثاني 2013:
John Gee, “Despite its Rhetoric, Israel Would not be Pleased with a Palestinian Mandela,” Washington Report on Middle East Affairs, Vol. 32, No. 8, Oct/Nov 2013.
6. جون غي، المرجع السابق. يلخص المؤلف التحولات في الأهداف التي أجرتها منظمة التحرير الفلسطينية: "بدأت منظمة التحرير الفلسطينية في 1964 بالدعوة إلى تحرير كل فلسطين وقبول مواطنة العرب فقط "المقيمين طبيعيًا" قبل 1947. في 1969، أعاد برلمان منظمة التحرير الفلسطينية "المجلس الوطني الفلسطيني"، تعريف الهدف الفلسطيني كـ"دولة فلسطينية ديمقراطية خالية من جميع أشكال التمييز الديني والاجتماعي". لكن بعد خمس سنوات، غيرت المنظمة أهدافها مرة أخرى، نحو هدف إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة في 22 بالمائة فقط من مطلبها الأصلي. في الواقع، الانسحابات المتتالية من المطالبة باستعادة كل ما خسره الفلسطينيون في عام 1948، عندما تأسست إسرائيل، تواجه كل مرة معارضة من قطاعات الشعب الفلسطيني".
7. كما قال بنيامين نتنياهو في بيان صحفي (أثناء غيابه اللافت)، كان نتنياهو والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز غائبين عن تأبين ماديبا. أوضح نتنياهو، مسببًا "اشمئزازًا وحرجًا" كبيرًا مزعومًا للسكان اليهود بجنوب إفريقيا، أنه لا يستطيع تحمل 2 مليون دولار كلفة حضور تأبين مانديلا. وعلّق المتحدث باسم وزارة الخارجية الاسرائيلية بول هيرشسن: "رئيس الوزراء كان يريد فعلاً الذهاب وفكّر في الذهاب"، "لكنه لم يذهب لأجل التكلفة وأسباب مختلفة بما في ذلك أسباب تتعلق بالميزانية".
8. العبارات مستمدة من مقال كورنيل ويست، "تأملات في حياة وإرث نيلسون مانديلا":
Cornel West, “Reflections of the Life and Legacy of Nelson Mandela,” in: http://www.cornelwest.com/nelson_mandela.html , December 17, 2014.
9. كورنيل ويست، المرجع السابق.
10. يعتبر هذا المقال أن من المُبرَّر توصيف النضال الفلسطيني كنضال ضد الفصل العنصري، بناء على النتائج البارزة في الأبحاث والتقارير التالية:
- الفصل العنصري والاضطهاد أعمال منسوبة لإسرائيل وتستتبع مسؤولية قانونية دولية 2001 Draft Articles of the International Law Commission [ILC] حول مسؤولية الدول عن أعمال غير مشروعة دوليًا، المادتان 1-2، إحدى نتائج محكمة رسل الخاصة بفلسطين بدعم من مؤسسة برتراند رسل للسلام، موثق في:
SECTION VI. SUBSECTION A. LEGAL CONSEQUENCES FOR ISRAEL of the document: Findings of the South African Session: Are Israel’s Practices against the Palestinian People in breach of the prohibition on Apartheid under International Law, pg 30.
- في دراسة ممارسات إسرائيل من منظور اتفاقية مناهضة الفصل العنصري، تذكر هذه الدراسة أيضًا نظام الفصل العنصري الذي كان متبعًا بجنوب إفريقيا لأن تلك الممارسات توضح مخاوف ونوايا واضعي اتفاقية مناهضة الفصل العنصري. مع ذلك، يجب أن يكون واضحًا أن ممارسات جنوب إفريقيا ليست معيارًا لاختبار أو استنتاج الفصل العنصري بأماكن أخرى؛ فالأداة الرئيسة التي توفر هذا الاختبار تكمن في شروط اتفاقية مناهضة الفصل العنصري نفسها. من خلال دراسة ممارسات إسرائيل في ضوء المادة 2 من اتفاقية مناهضة الفصل العنصري، تخلص هذه الدراسة إلى أن إسرائيل طبقت نظام الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي حصيلة بحوث بإشراف الدكتور فيرجينيا تيلي:
Virginia Tilley, Occupation, Colonialism, Apartheid? A re-assessment of Israel’s practices in the occupied Palestinian territories under international law, coordinated and published by the Middle East Project of the Democracy and Governance Programme, Sciences Research Council of South Africa 294 in May 2009, pg 17.
- تهدف قوانين حكومة إسرائيل الأساسية وسياساتها وممارساتها إلى إنشاء هيمنة إسرائيلية يهودية صهيونية على المواطنين الفلسطينيين والحفاظ عليها من خلال استعمار أراضيهم ومواردهم. هذه القوانين والسياسات والممارسات تضر بجميع المواطنين الفلسطينيين، بغض النظر عن موقعهم ومركزهم على الأقل منذ نكبة 1948. بالتالي، فإن جريمة الفصل العنصري تنطبق على إسرائيل كل إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة-نتائج ك. ماكالستر، انطباق جريمة الفصل العنصري على إسرائيل:
MacAllister, K. Applicability of the Crime of Apartheid to Israel, published on: http://www.badil.org/en/al-majdal/item/72-applicability-of-the-crime-of-apartheid-to-israel .
11. انظر: Avnery, U. (June 2007). “One State: Solution or Utopia?” Palestine-Israel Journal, Economics and Culture 14 (2):8.
12. اقتباس مباشر من خطاب الرئيس نيلسون مانديلا في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، 4 ديسمبر/كانون الأول 1997، بريتوريا.
13. انظر راشيل بوستك وأليسون روجرز: Bzostek, R. and Rogers, A. Oslo +20: Reassessing the role of confidence building measures. The Social Science Journal (2013), http://dx.doi.org/10.1016/j.socscij.2013.11.002 .