خارطة بؤر التوتر في منطقة غرب البلقان وملامح المستقبل

تواجه بلدان منطقة غرب شبه جزيرة البلقان عددًا من التحديات التي تُهدد الاستقرار على المستويين الداخلي الذي تعرفه جُل بلدانها من ناحية، وعلى مستوى التحديات الأمنية التي تواجهها المنطقة بشكل عام؛ مما يستدعي رصد تلك التهديدات، وضرورة إيجاد الحلول المناسبة لمواجهتها.
2015219101917466734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
يكاد يمر ربع قرن اليوم على اندلاع حروب البلقان الأكثر فظاعة وخسائر في الأرواح بعد الحربين العالميتين اللتين عرفتهما أوروبا، وقد كانت سراييفو الواقعة في غرب البلقان نقطة اندلاع الحرب الكونية الأولى. اليوم أيضًا لا يزال البلقان مرة أخرى مصدر توترات وتقلبات خطيرة تنذر بؤرها المستعرة على الدوام بعودة شبح الحروب، أو على الأقل ترسم معالم مستقبل غير مأمون وتهدد شعوب المنطقة في أمنهم واستقرار بلدانهم.

وإلى جانب استمرار حضور مآسي التاريخ القريب والبعيد في أذهان مختلف شعوب المنطقة مختلطة الأعراق والإثنيات والديانات، فإن الواقع الاقتصادي الصعب الذي تمر به بلدان غرب البلقان وتعقد عملية التحول الديمقراطي التي تلت سقوط المنظومة الشيوعية فيها وقادتها إلى حروب طاحنة، إضافة إلى فشل النخب السياسية المتنازعة والفاسدة في تحقيق التحول المنشود، تُمثل عراقيل جدية أمام التحاق تلك البلدان بعضوية الاتحاد الأوروبي وما يمكن أن يمثله من فرصة لتجاوز الأزمات الداخلية، ويضع بلدان غرب البلقان على سكة الاستقرار والنمو.

هكذا يبدو مستقبل دول غرب البلقان غير واضح المعالم، تتنازعه توترات وصراعات أيديولوجية وإثنية واجتماعية، وتزيد الأوضاع الاقتصادية المتردية في تغذية الاختلافات التي تستغلها النخب السياسية الفاسدة وعصابات الجريمة المنظمة في إذكاء توجهات عنصرية وانفصالية متزايدة، قد تعصف باستقرار المنطقة الهش أصلًا.

مقدمة

تواجه بلدان منطقة غرب شبه جزيرة البلقان(1) عددًا من التحديات الجدية التي تُهدد الاستقرار الهش، وذلك على المستويين الداخلي الذي تعرفه جُل بلدانها من ناحية، وكذلك على مستوى التحديات الأمنية التي تواجهها المنطقة بشكل عام؛ مما يستدعي من الباحثين والمتابعين وصانعي القرار في تلك البلدان رصد تلك التهديدات، وضرورة إيجاد الحلول المناسبة لمواجهتها، وحل عُقَدها عبر ابتكار حلول سياسية توافقية وخطط أمنية فعالة.

يبدو أن خطر تهديد عودة المنطقة برمتها إلى الحروب المدمرة -مثل تلك التي عرفتها نهاية القرن الماضي- لم يعد أمرًا واردًا، على الأقل في ظل المعطيات القائمة حاليًا(2)، وحرص المجتمع الدولي على منع إعادة سيناريو تسعينات القرن العشرين، لكن مستقبل بلدان غرب شبه جزيرة البلقان يظل بعيدًا عن مؤشرات الاستقرار والثبات، فضلًا عن التطور نحو الخروج من واقع مراوحة المكان(3).

فالمنطقة بشكل عام تمر بجملة من المسارات السلبية التي قد تدفع بها نحو مزيد من الضبابية، وتلقي بظلال أكثر كثافة على واقعها السياسي والأمني الصعب أصلًا، خاصة في ظل مشاريع إصلاحية محدودة في مداها ومحتواها وتأثيراتها على أرض الواقع، كانت غير قادرة على أن تؤدي إلى نمو محسوس أو تحسن ملحوظ في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بل رافقت مشاريع الإصلاح تلك فترات أطول من مراوحة المكان وحتى التراجع خطوات إلى الخلف(4).

هذا الواقع غير المستقر وغير الواعد بقرب حدوث تغيير جذري فيه، يوفر مناخات مواتية تساعد على ظهور توجهات متطرفة على مستوى صعود أحزاب وجماعات ضغط سياسي وتنامي أدوارها على مستوى الساحتين السياسية والاجتماعية، وأيضًا تسهم إلى حد بعيد في فسح المجال أمام التطرف القومي، ليبرز من جديد ويكتسي قوة تأثير معطلة أو ناسفة، للمسارات الإصلاحية والتصالحية الخجولة والمحدودة.

في الفقرات القادمة من هذه الدراسة، سنحاول عرض خارطة أهم وأخطر التحديات المهددة لاستقرار الدولة في منطقة غرب البلقان، وأيضًا التحديات الأمنية التي تجابهها المنطقة عمومًا، وتبدو البؤر الأكثر توترًا -سواء في داخل كل دولة من دول غرب البلقان على حدة، أم فيما بين الدول البلقانية- قابلة للتوسع والتمدد إذا لم يتم وقف تدحرجها نحو مزيد من التأزم في ظل ما تمر به المنطقة من هزات اقتصادية وسياسية واجتماعية قد تخرج عن السيطرة.

أولًا: تعثر مسار اللحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو

أول وأخطر التحديات على هذا الصعيد هو توجه المجتمع الدولي إلى عزل دول المنطقة عن إقليمها وعن المؤسسات والتحالفات الدولية، بمعنى أن مواصلة بروكسل فرض شروطها الصعبة أو التعجيزية، وأغلب تلك الشروط تستوجب إصلاحات مؤسسية واقتصادية وقانونية واجتماعية واسعة قد تتطلب سنوات طويلة من أجل تحقيقها، كما أن شرط عدم اعتراض أي دولة عضو في الاتحاد على انضمام الدول الجديدة من شأنه أن يزيد من صعوبة حصول دول المنطقة الراغبة في الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي(5)، وسيعصف بتطلعات شعوب المنطقة في تحقيق عضوية النادي الأوروبي ويفقدها آمالها في ذلك؛ مما سيخلف بالضرورة تراجعًا عن مواصلة تنفيذ مشاريع الإصلاحات التي تسعى إلى تحقيق شروط المجتمع الدولي؛ من أجل تهيئة المناخات التي قد تسمح بتسهيل عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو؛ إذ لن يكون لمواصلة طريق تلك الإصلاحات معنى عندما يُفقد الأمل في بلوغ الهدف من تطبيقها.

انسداد هذا الأفق وفقدان الأمل في اللحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، سيدفع أمواجًا من سكان المنطقة، وعلى وجه الخصوص الكوادر والعقول، إلى الهجرة نحو بلدان أوروبا الغربية وأميركا وأستراليا ونيوزيلاندا وغيرها من البلدان الغربية؛ بحثًا عن مستقبل أفضل(6). كما سيكون هذا العامل دافعًا لفئات من الأجيال الشابة إلى مزيد من التطرف عندما يواجهون مزيدًا من العوائق التي تقف أمام إمكانية حصولهم على فرص جيدة للعمل وتنمية مهاراتهم وخبراتهم.

ثانيًا: تأثير تراجع اقتصاد بلدان الاتحاد الأوروبي وضعف الأداء السياسي للاتحاد

تشهد اقتصادات جُل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تراجعًا وتصدعًا في أنظمتها الاقتصادية التي بات أغلبها يشكو من الترهل، ما أدى إلى ضعف واضح في أداء الأسواق المالية الأوروبية وتراجع حاد في مؤشرات نموها، وما خلفه ذلك من عطالة بلغت أرقامًا قياسية في كل من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا على سبيل المثال، إضافة إلى تهاوي البنوك الرئيسية في اليونان، وما تعيشه قبرص من مصاعب مالية كبرى، فضلًا عن تعثر اقتصادات معظم الدول الأخرى باستثناء ألمانيا التي وإن حافظت على مؤشر نمو اقتصادي عالٍ، إلا أنها لم تحقق ما خططت له. هذه المصاعب الاقتصادية رافقتها في جُل البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مشاكل اجتماعية حادة، وخرجت فيها مظاهرات ومسيرات عارمة شككت في أداء النخب السياسية وطالبت بتنحيها في إيطاليا واليونان وإسبانيا وغيرها من البلدان، وهو ما أثر على المشهد السياسي العام، وأثر بشكل مباشر على أداء مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وأدى إلى اختلافات بينة بين أطروحات محركي الاقتصاد الأوروبي -فرنسا وألمانيا- الإصلاحية ونظرتيهما المختلفة لما يجب أن يركز عليه مشروع إعادة بناء الاقتصاد الأوروبي، وأهم الخلافات بين باريس وبرلين تتمحور حول مخاوف فرنسا من غياب رؤية إطارية تضع حدودًا واضحة لعملية انضمام مزيد من البلدان إلى الاتحاد الأوروبي وتهديدات ذلك على وحدة أوروبا، وتشديد ألمانيا على ضرورة تجاوز تلك المخاوف(7).

الاختلاف في وجهتي نظر ألمانيا وفرنسا، إضافة إلى موقف بريطانيا غير الحاسم والمتردد بين تأييد وجهة نظر باريس وتفهم ضرورات برلين، أثَّر بشكل مباشر أيضًا على توحيد سياسات الاتحاد الأوروبي الخارجية التي تأرجحت بين مواقف البلدان الثلاث الكبرى -بريطانيا وفرنسا وألمانيا- ولم تنته إلى وضع خارطة موحدة للقيام بالأدوار الخارجية المطروحة على الاتحاد في حل الأزمات الخارجية، والتي على رأسها الأزمة الأوكرانية، إضافة إلى دور الاتحاد الضعيف على جبهات دولية أخرى مثل موقفه من القضية الفلسطينية وما يجري في عدد من البلدان الأخرى، ومن ضمنها دول الربيع العربي: ليبيا واليمن وسوريا.

التردد وعدم التوازن وغياب وحدة الموقف السياسي على صعيد صناعة القرار السياسي الخارجي الأوروبي الحاسم في تحديد دور الاتحاد الأوروبي في حل تلك الأزمات، خاصة على المستوى العسكري، الذي بدا بعيدًا عن المنتظر منه، كل هذا أسهم في إبراز عدم التجانس بين مواقف دول الاتحاد، وخاصة فرنسا وألمانيا، وقدم نموذجًا سيئًا لا يرتقي إلى مستوى تقديم المثال النموذجي الذي يُغري بلدان غرب البلقان باتباعه. وهكذا بات النظام السياسي والاقتصادي الأوروبي مدعاة للتشكيك في قدرته على قيادة دول الاتحاد نحو النمو والوحدة المرجوة، وهو أيضًا ما يؤثر سلبًا على استعداد شعوب الدول المرشحة للدخول في الاتحاد إلى تقبل إصلاحات اقتصادية واجتماعية وقانونية صعبة ومكلفة في الوقت الذي يبدو فيه المستقبل الأوروبي الموعود غير جاذب(8)، وتحوم حوله شكوك جدية في قدرته على تلبية تطلعات تلك الشعوب.

كما أن شكوكًا أخرى توجه إلى النظامين الاقتصادي والسياسي الأوروبي من داخل جملة من الدول الأعضاء، حيث بدأت تشهد عودة أحزاب اليمين وأقصى اليمين إلى الساحة السياسية بقوة وسط مطالبات بفض الشراكة الأوروبية، ونذكر هنا -على سبيل المثال- صعود اليمين المتطرف الفرنسي ومناداة زعيمته "مارين لوبان" بانفصال فرنسا عن الاتحاد الأوروبي فورًا.

ثالثًا: بطء وتردد وفشل في إعادة بناء الدولة

يُجمع كل المراقبين والمحليين السياسيين والاستراتيجيين الأوروبيين على أن عملية بناء الدولة وإنشاء مؤسسات قوية ومستقلة يحكمها القانون وتعمل على تنفيذ برامج واضحة سياسية واقتصادية واجتماعية وتعليمية وغيرها؛ مشوبةٌ بضعف وتردد واضحين وتواجه عقبات متعددة، منها ما هو داخلي وآخر خارجي(9). كما فشلت كل خطط المجتمع الدولي في إنجاح عملية التحول وقيادة بلدان مثل البوسنة والهرسك وكوسوفو إلى إنجاز الوحدة الوطنية، وتجاوز مخاطر التفكك والانقسام(10).

أما الاتحاد الأوروبي المنقسم على ذاته -كما بينا سابقًا- بشأن اعتماد سياسة موحدة لمستقبل الاتحاد، فقد بات يشكل حجرة عثرة حقيقية أمام تأكيد الطابع الإثني المتعدد لدول جنوب البلقان، وأيضًا أمام بناء مؤسسات قوية خاضعة للسلطة السياسية المركزية في البلدان الخارجة من دورات حروب طاحنة، وما تنامي التشكيك في دوام وحدة كوسوفو والحديث المتزايد عن إمكانية تقسيم أراضيه، رغم حضور بعثات حلف الناتو والاتحاد الأوروبي القوية في المنطقة، إلا دليل على هشاشة الوضع وقابليته للتعقيد أكثر(11).

من ناحية أخرى، يبدو أن تقدم الدور، المحدود والضعيف، للاتحاد الأوروبي وإبعاد الولايات المتحدة الأميركية عن دور الفاعل في المنطقة، يصب أكثر في احتمال انتهاء الجهود الأوروبية إلى الفشل الذريع(12)، حيث لا يبدو الدور الأوروبي قادرًا على استيعاب ومواجهة كل الإشكالات التي تواجهها المنطقة الأوروبية برمتها دون مساعدة أميركية أكثر فاعلية، وقد رأينا ذلك في حربي صربيا ضد البوسنة والهرسك وكوسوفو، وقد كانت أوروبا عاجزة عن إيقاف طاحونة الحرب التي أغرقت المنطقة في أنهار من الدماء وفوضى عارمة هددت تبعاتها استقرار وأمن أوروبا الغربية ذاتها.

رابعًا: مراوحة الوضع السياسي مكانه

تراوح الأوضاع السياسية في كل بلدان منطقة جنوب البلقان مكانها، وتحافظ الأحزاب القوية والكبرى في هذه البلدان على الوضع القائم وتسيطر عليه وتفرض وجهات نظرها في صياغة الأجندات السياسية لدولها، وهي في أغلبها أجندات قومية(13)، وذلك في ظل أوضاع اقتصادية صعبة وغياب تساوي الفرص أمام الجميع بحكم الفساد المالي والاقتصادي المستشري، وعدم مسايرة القوانين لما تشهده تلك البلدان من تحول منظومة الاقتصاد المسير إلى اقتصاد السوق الحر، ومحدودية إصلاح جهاز القضاء المترهل، وغياب أجهزة إنفاذ القانون.

كل هذا وغيره أدى إلى استشراء الفساد والمحسوبية، وشجع على بروز ظواهر خطيرة من قبيل ضعف الكوادر القيادية لأهم المؤسسات الرسمية وعدم قدرتها على قيادة عمليات الإصلاح، ما خلف حنق وغضب الفئات الاجتماعية الأضعف، ويمهد الطريق أمام بروز جماعات عُنْفية ويغذي التطرف السياسي(14).

خامسًا: اندماج بطيء

لم تنجح القوى السياسية في كل بلدان جنوب البلقان -بشكل عام- في تشكيل حكومات ائتلافية قوية وقادرة على مواجهة التحديات المطروحة أمامها وإيجاد الحلول المناسبة لها، إضافة إلى هشاشة الائتلافات المتشكلة التي تشكو من ضعف المشروعية الشعبية التي تسندها وتمنحها الثقة التي تحتاجها(15). وأسباب ذلك كامنة -كما أشرنا سابقًا- فيما استقر لدى الرأي العام من قناعات بأن الزعامات السياسية والمسؤولين الحكوميين يستغلون نفوذهم للإثراء الشخصي، وتشجيع الرشوة والمحسوبية... وبالتالي فإن ثقة الشعوب قد انعدمت في تلك القيادات.

غالبًا ما تصطدم القضايا الوطنية الملحة والمهمة بعقبة الخلافات السياسية المزمنة بين الفرقاء السياسيين وغياب التوافق السياسي الضروري لمواجهة التحديات الكبرى، وعلى رأسها الوحدة الوطنية، سياسيا واجتماعيا، وقضايا الأمن والاقتصاد(16).

وقد أدى هذا الفشل السياسي المستمر في إدماج كل القوى السياسية والإثنيات القومية في دولة وطنية موحدة يتساوى فيها الجميع، مع العجز الواضح للمجتمع الدولي في التأثير الإيجابي وحمل الجميع على التوافق، فإن مستقبل وحدة تلك البلدان الترابية والاجتماعية مهدد بجدية، وقد يفتح الأبواب مُشرِعة أمام انفصال بعض المناطق داخل تلك الدول، أو انضمامها إلى بلدان الجوار التي تعتبرها امتدادها الإثني والاجتماعي والتاريخي، وهو التحدي الأخطر الذي تواجهه كل دول منطقة جنوب البلقان دون استثناء(17).

سادسًا: تهديدات الشوفينية القومية

لا تزال الشوفينية القومية بمختلف صورها ومظاهرها حاضرة بقوة لدى طيف واسع من الزعماء السياسيين وعدد من الناشطين الحزبيين، ما يمثل تحديًا جديًّا أمام محاولات دمقرطة الحياة السياسية والاجتماعية على المستوي الداخلي، وتزيد من تعقيد وتأزيم العلاقات بين دول الإقليم، والتي هي متأزمة أصلًا بين كوسوفو وصربيا، وبين صربيا والبوسنة والهرسك، وبين كرواتيا وصربيا، وبين مقدونيا واليونان(18).

وتستغل الحركات والتوجهات الشعبوية القومية تراجع الأوضاع الاقتصادية الصعبة وسخط فئات مجتمعية واسعة، كما تسعى تلك الحركات الشوفينية إلى المناداة باتباع سياسة عدائية تجاه الآخر المختلف، وتقديم ذلك على أنه الحل الأمثل والوحيد لتجاوز المشاكل والأزمات الداخلية.

إن تراجع الدولة عن أداء الأدوار التي من المفترض أن تلعبها، وضعف أو غياب هيبة مؤسسات الدولة وأجهزتها على فرض القانون وتقديم الخدمات الأساسية والضرورية لكل مواطنيها وفي كل مناطق البلدان البلقانية، يُسهم بدرجة كبيرة في انتشار الأفكار الشوفينية، ويُضفي "مشروعية" مزعومة على الحركات والأحزاب القومية المتطرفة التي باتت تستغل وتوظف فقدان الشعوب لثقتها في الأحزاب السياسية الحاكمة، وتراها قائمة على الفساد والمحسوبية وشبكة مصالح مُحكمة لا تترك للشعوب حيزًا في المجال العام يُقدم فرصًا متساوية في تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية(19).

وتلعب الحركات الراديكالية العلمانية خصوصًا والدينية عمومًا، أدوارًا متفاوتة في الإسهام في تقسيم المجتمعات وفقًا لانتماء شعوبها إثنيًّا وعقائديًّا، وتكون الفئات الاجتماعية الأضعف ماديا وتعليميا واجتماعيا هي الأكثر عرضة لاعتناق مثل هذه الأفكار.

سابعًا: تغذية مظاهر التفرقة العنصرية

تقوم السياسات التعليمية والاجتماعية والاقتصادية المتبعة من قِبل الأحزاب التقليدية الحاكمة في دول منطقة جنوب البلقان على تشجيع مظاهر التفرقة بين المجموعات الإثنية المكونة لمجتمعاتها، فالأنظمة التعليمية قائمة أساسًا على التفرقة الإثنية داخل المؤسسات التعليمية، إذ نجد -مثلًا- في عدد من البلدان مثل صربيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا وكرواتيا مدارس تعليم أساسي تعتمد منهجين تعليميين أو أكثر بدعوى استجابتها للاختلاف والتنوع الإثني والعرقي لتلاميذها، وهكذا تفصل الأطفال المسيحيين -الأرثوذكس والكاثوليك- عن المسلمين في صفوف مستقلة، كما نجد مدارس أخرى تفصل التلاميذ المنتمين لأقليات عرقية أخرى، مثل الغجر الروما، عن غيرهم من التلاميذ... هذه الأجواء العنصرية التي تعيشها الأجيال التي لم تعش الصراعات والحروب، تجعل منهم فتيلًا قابلًا للاشتعال، وتنمي فيهم روح العنصرية والكراهية للآخر المختلف، ما يجعل مستقبل هؤلاء مهددًا بالانتهاء في أحضان الجماعات الشوفينية والمؤمنة بالانفصال والعنف وسيلة لتحقيق استقلاليتها وتأكيد هويتها.

تتعدد أيضًا الممارسات العنصرية الأخرى في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية لشعوب المنطقة، فالتفرقة الإثنية أو القائمة على اعتبارات الانتماء الديني أو العرقي أو التوجه السياسي نجدها أيضًا على مستوى الوظيفة العمومية داخل المؤسسات الرسمية للدولة، وحتى في كثير من المؤسسات الخاصة التابعة للقطاع العام، التي توظف على الهوية باعتبارها المقياس الوحيد(20). كما أن السياسة التي تتبعها الدولة تفصل أيضًا بين الإثنيات والأعراق والديانات على مستوى الزواج ومكان الإقامة، وهذا نظام متبع حتى داخل البلد الواحد، كما هو الشأن في كل من البوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا.

ملامح المستقبل

قد لا يكون من المحتمل عودة الحروب إلى المنطقة، رغم أن الأوضاع القائمة حاليًا -في أغلب دول المنطقة- تشبه إلى حد كبير تلك التي شهدتها المنطقة بُعيد انهيار الشيوعية وسقوط منظومتها، على الأقل من حيث تنامي الشعور القومي الشوفيني وتعدد الدعوات إلى رفض الآخر المختلف، وتواصل الدعوات الانفصالية داخل دوائر الأحزاب القومية المتطرفة وتردي الأوضاع الاقتصادية، إضافة إلى عدم الحسم في جرائم الحرب والإبادة الجماعية، وغيرها من الجرائم التي ارتكبت خلال الحروب التي عرفتها المنطقة، ولا يزال مرتكبوها أحرارًا(21).

بقاء كل هذه الجراح مفتوحة -مع تعثر وتراجع المساعي الدولية والأوروبية في توحيد الصف الداخلي، وتشديد الاتحاد الأوروبي من شروطه على بلدان جنوب البلقان وفرضه تحويرات قانونية ومؤسسية وسياسية جذرية عليها، تعتبرها بروكسل ضرورية لفتح الباب أمامها لعضوية الاتحاد- يجعل من بلدان المنطقة تواجه العزلة وتدفع بمستقبلها إلى الضبابية وعدم وضوح الرؤية، ما قد تكون نتيجته الحتمية عودة الصراعات والعنف المتبادل وسعي بعض الجماعات الإثنية إلى الانفصال، مثل ريبوبليكا صربسكا في البوسنة والهرسك، وتشكيل مناطق نزاع دائم في كوسوفو ومقدونيا وكرواتيا على سبيل المثال، تتعدى حدود الدولة الواحدة لتصل إلى حدود الدول المجاورة(22).

فشل الدول البلقانية -صربيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا والجبل الأسود- في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي سيكون من شأنه تعقيد وتأزيم الصراعات الإقليمية، ويزيد من صعوبة ووتيرة الضغوط الملقاة على عاتق اللاعبين الدوليين المتداخلين في المنطقة، كما أنه قد يعيد أميركا إليها على خلفية تزايد التدخل الروسي وعودته المعلنة إلى المنطقة من بوابة مشاريع الطاقة طورًا، واستعادة دوره الإقليمي والدولي طورًا آخر، خاصة في ظل ما يشهده صراعه مع دول الغرب حول أوكرانيا(23).
_____________________________________
كريم الماجري - باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات.

الهوامش والمراجع
1- يُقصد بدول غرب البلقان كل من صربيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود وكوسوفو ومقدونيا وألبانيا، باستثناء سلوفينيا وكرواتيا اللتين باتتا عضوين في الاتحاد الأوروبي.
2- The western Balkans are in danger of sliding backwards
By David Clarck
http://www.newstatesman.com/politics/2014/02/western-balkans-are-danger-sliding-backwards
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
3- Na Zapadnom Balkanu 2,5 miliona nezaposlenih
http://balkans.aljazeera.net/vijesti/na-zapadnom-balkanu-25-miliona-nezaposlenih
 (تعيش أغلب منطقة غرب البلقان تراجعًا اقتصاديًّا حادًّا، وتبدو كل التقارير الواردة من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي سلبية في توقع نمو قريب لاقتصادات هذه الدول)
المصدر: وكالات
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
4- إضغط هنا
By Joanna Hanson
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
5- a- Conditions d'adhésion
http://ec.europa.eu/enlargement/policy/conditions-membership/index_fr.htm
قرار المفوضية الأوروبية بشأن شروط قبول عضوية الدّول الراغبة في الانضمام للاتحاد الأوروبي
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
 b- Legitimate Diversity: The New Challenge of European Integration
Fritz W Scharpf
http://www.degruyter.com/view/j/zfse.2003.1.issue-1/zfse.1.1.32/zfse.1.1.32.xml
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
6- Zabrinjavaju?a masovna nezaposlenost na Balkanu
http://www.economy.rs/vesti/19555/Zabrinjavajuca-masovna-nezaposlenost-na-Balkanu.html
المجلّة الاقتصادية الصادرة في ريبوبليكا صربسكا / دولة البوسنة والهرسك
  آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
7- a- FRANÇAIS ET ALLEMANDS FACE A L’EUROPE ELARGIE.
PEUR DE L’INFINITUDE ET NECESSITE DE SURMONTER LES ANGOISSES
http://spire.sciencespo.fr/hdl:/2441/f5vtl5h9a73d5ls9751s7e194/resources/quovadis-lequesne.pdf
Par Christian Lequesne
  آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
b- The Balkans: Europe’s Soft Underbelly
By Branko Milanovic
Can Europe prosper while ignoring the Balkans? Anyone remember what triggered the first world war?
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
8- Refeudalisation’ in the Balkans and the danger to the EU
By alan Riley
Western Europe must beware of what the Balkan's accession would mean for the rest of the Union
http://www.prospectmagazine.co.uk/other/refeudalisation-in-the-balkans-and-the-danger-to-the-eu-alan-riley-croatia-serbia-corruption
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
9- Transition Process in the Western Balkans
By Manja Djuric
http://diplomacyandforeignaffairs.com/transition-process-in-the-western-balkans/
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
10- Institut de Relations Internationales et strategiques
La démocratisation dans les Balkans
Auteur: Nadège RAGARU
http://www.iris-france.org/wp-content/uploads/2003/11/epmes_la_democratisation_dans_les_balkans_etude.pdf
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
11http://www.rts.rs/page/stories/sr/story/9/Politika/1798893/%C4%90uri%C4…
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
12-http://oai.dtic.mil/oai/oai?verb=getRecord&metadataPrefix=html&identifi…
NATO Looks South. New Challenges and New Strategies in the Meditarranean
Corporate Author : RAND CORP SANTA MONICA CA
Personal Author(s) : Lesser, Ian O
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
13-http://www.vijesti.me/vijesti/komar-nacionalni-teren-je-opasan-za-nove-…
Samir Kajoševi? By:
(مقال يحذر من سيطرة الأحزاب القومية على الحياة السياسية، وخطورة ذلك على الأحزاب حديثة التأسيس)
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
14-http://www.balkanpost.net/clanak.php?id=823&naziv=ekstremizam--prijetnj…
(مقال بعنوان: التطرف خطر على البلقان)
By: BalkanPost
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
15- The Balkans in the New Millennium: In the Shadow of War and Peace
إضغط هنا
By: Tom Gallagher
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
 16- Kosovo and the Challenge of Humanitarian Intervention: Selective Indignation, Collective Action, and International Citizenship
http://unu.edu/publications/books/kosovo-and-the-challenge-of-humanitarian-intervention-selective-indignation-collective-action-and-international-citizenship.html
Edited: Albrecht Schnabel and Ramesh Thakur
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
17-http://www.danas.rs/danasrs/feljton/jacanje_nacionalnih_pokreta_na_balk…
(المقال يعدد مخاطر الحركات الانفصالية)
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
18- LES RÉFORMES
DANS LES BALKANS,
ET LES PAYS D’EUROPE CENTRALE
ET ORIENTALE AU TEMPS
DES TRANSITIONS DÉMOCRATIQUES
http://www.institut-gouvernance.org/docs/au_temps_des_transitions_d_mocratiques.pdf
Auteurs : Bob BonPauline Grecowitt et Pauline Greco
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
19- http://balkans.aljazeera.net/vijesti/sad-korupcija-i-diskriminacija-na-balkanu.
(تقرير أميركي عن الفساد في دول البلقان)
مقال منشور على صفحة الجزيرة بلقان و آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
20- Nezavisni dr?avni organi i borba protiv korupcije - See more at: http://www.bezbednost.org/Sve-publikacije/4939/Nezavisni-drzavni-organi-i-borba-protiv-korupcije.shtml#sthash.qwMqwJf1.dpuf
By: Miroslav Had?i?
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
21- http://forum.avaz.ba/archive/index.php/t-4954.html
Zašto su desetine hiljada ratnih zlo?inaca još na slobodi
منشور في صحيفة "دنيفني آفاز  البوسنية اليومية- على صفحة آراء-
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
22- COMMUNICATION DE LA COMMISSION AU PARLEMENT EUROPÉEN, AU
CONSEIL, AU COMITÉ ÉCONOMIQUE ET SOCIAL EUROPÉEN ET AU COMITÉ
DES RÉGIONS
Stratégie d'élargissement et principaux défis 2014-2015
http://ec.europa.eu/enlargement/pdf/key_documents/2014/20141008-strategy-paper_fr.pdf
استراتيجية توسّع الاتحاد الأوروبي وأهم التحدّيات:  تقرير صادر عن المفوضية الأوروبية بتاريخ 08-10-2014
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015
 23- Danger of Russian Penetration into the Balkans
http://www.independent.mk/articles/11516/Danger+of+Russian+Penetration+into+the+Balkans
مقال منشور في صحيفة الإندبندنت البريطانية بتاريخ  18-11-2014
آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 18-02-2015

ABOUT THE AUTHOR