التوافق السياسي وبناء الدولة في التجارب المغاربية

برز التوافق السياسي كآلية مهمة في إدارة المراحل الانتقالية في تجارب مغاربية، وفي حين جلب غياب التوافق في ليبيا مزيدًا من التدخل الدولي، فإن نسخة حكومة الحبيب الصيد الثانية تشير إلى تراجع درجة التوافق مقارنة بتجربة الترويكا السابقة؛ بينما يبدي التوافق نجاعة سياسية في المغرب حتى اللحظة.
201551475536271734_20.jpg
برز التوافق السياسي كآلية مهمة ومؤثرة في إدارة المراحل الانتقالية تمهيدًا لأوضاع سياسية واجتماعية أكثر استقرارًا في بعض التجارب المغاربية، لكنه غاب في بعضها [الجزيرة]

ملخص

برز التوافق السياسي كآلية مهمة ومؤثرة في إدارة المراحل الانتقالية تمهيدًا لأوضاع سياسية واجتماعية أكثر استقرارًا في بعض التجارب المغاربية، وقد عرف المشهد التونسي الذي استقر لفترة على درجة من التوافق، عقب انتخابات البرلمان والرئاسة لعام 2014 نوعًا من الاهتزاز أثناء عملية تشكيل حكومة الحبيب الصيد في نسختها الأولى؛ خصوصًا أن كثيرًا من التوقعات السياسية السابقة رجحت اتجاه حزب نداء تونس بعد فوزه بانتخابات البرلمان والرئاسة معًا إلى إحداث نوع من التوازن السياسي في السلطة، وتشير معطيات التركيبة الحكومية الحالية إلى نوع من التراجع في الحفاظ على درجة التوافق مقارنة بالفترة الانتقالية السابقة.

أما في ليبيا فقد ضاع زمن سياسي كبير قبل طرح الحوار وصولاً إلى تقديم التنازلات بين الأطراف الليبية، بديلاً عن كل التداعيات التي أفرزها الاصطفاف، الذي أسهم فيه منذ البداية التوسع الكبير في منطق العزل السياسي والخلط بين مفهومي "العزل والمحاسبة". وإذا كانت إحدى الخصائص المهمَّة للمنهجية التوافقية هي إضعاف فرص التدخل الخارجي، فإن الحالة الليبية نتيجة غياب التوافق بين القوى السياسية بعد الثورة قد استدعت الفاعل الخارجي بشكل متزايد. إن تجربة التوافق السياسي الحالي في المغرب وإن ظهر أنها بين مجموعات سياسية تشكل الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، فإن عمق التوافق الحقيقي واقع بين الإسلاميين والمؤسسة الملكية، وتعتبر الحساسية التي يبديها حزب العدالة والتنمية تجاه منطق النزاع مع الملكية عنصرًا أساسيًّا في هذا التوافق؛ حيث أظهرت الملكية حتى اللحظة حرصًا على إنجاح هذه التجربة.

لا يزال المشهد السياسي بعد مرور أربع سنوات على التحولات التي عرفتها منطقة المغرب العربي، باعتبارها جزءًا من دينامية التحولات في المنطقة العربية عمومًا، يعرف حالة من السيولة، بحثًا عن قواعد سياسية أكثر استقرارًا وثباتًا؛ سواء لبناء نموذج سياسي لدولة ما بعد الثورات العربية من ناحية، مثلما هي الحال في تونس وليبيا على اختلاف أوضاعهما، أو لحل أزمة مرحلية في بنية نظام يعمل على تجديد آليات اشتغاله بشكل مستمرٍّ، كما هو الحال بالنسبة إلى المغرب.

وفي هذا السياق برز التوافق السياسي كآلية مهمة ومؤثرة في إدارة المراحل الانتقالية تمهيدًا لأوضاع سياسية واجتماعية أكثر استقرارًا في بعض التجارب المغاربية، لكنه غاب في جزء منها. وقد ساعدت تجربة التوافق بين أحزاب الترويكا في تونس على إدارة مرحلة انتقالية معقدة، وتجاوزها بأقل ما يمكن من الأضرار السياسية؛ لكن بقدر مهمٍّ من البناء الدستوري والتشريعي. بالمقابل يعرف مسار التوافق وضعًا منتكسًا في ليبيا، في حين يُبدي نجاعة سياسية في المغرب حتى اللحظة.

التوافق السياسي وبناء السلطة

يحتاج التوافق السياسي إلى البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية الحاضنة، التي تجعل فرص نجاحه عالية؛ حيث يرتبط التوافق بعملية بناء السلطة أو إعادة تصحيح مسارها، والسعي إلى نسج علاقات سياسية تؤدي في محصلتها إلى إدارة الدولة من خلال أكبر قدر من الإجماع السياسي والاجتماعي حولها. ومثل حاجة منهجية التوافق إلى الاستناد إلى معطيات التقارب السياسية، فإن حاجته كبيرة إلى الاستناد إلى معطيات التقارب الاجتماعية والفكرية؛ وهذا ما يُفَسِّر تعقيدات مسار التوافق في دول تمتلك نسيجًا اجتماعيًّا قبائليًّا ومناطقيًّا فاعلاً ومؤثرًا مثل ليبيا، مقارنة بالتركيبة السياسية والاجتماعية في دول أخرى مثل تونس والمغرب؛ حيث يقل المعطى الجغرافي تأثيرًا، وهو ما يفرض وجود مقاربات تمزج الأبعاد السياسية والاجتماعية.

ويرتبط التوافق بالدرجة التي يمكن أن يبلغها منطق التنازلات السياسية، وهو ما يفرض أثناء إدارة الشراكة مع باقي مكونات الأنظمة القديمة إدراك قدراتها الاقتصادية وخبراتها وشبكة علاقاتها، وفوق ذلك إمكاناتها في العودة إلى السلطة.
لا شك أن إغراءات السلطة وما يرتبط بها من المصالح والمنافع يدفع المكونات السياسية الساعية إلى تحصيل أكبر قدر من المكاسب من خلال إعادة بناء الدولة والتموقع من جديد في مفاصلها، إلى إعطاء مساحات أكبر للاعتبارات المصلحية والبراغماتية، التي تخلق بيئة تنافسية شديدة. إلا أن ذلك لا يمنع إمكانات قيام تجارب توافقية ناجحة في المنطقة بين التيار الإسلامي وغيره من القوميين والليبراليين، على الرغم من الهزات التي عرفتها العلاقة بين الجانبين في عدد من المناطق، والفشل في استمرار الحفاظ على حالة الانسجام التي ظهرت إبان الثورات وعقبها بقليل؛ وذلك من خلال التركيز على التوافق على قاعدة برامج اقتصادية وسياسية تقلِّل من تأثير المعطى الأيديولوجي في بناء الشراكة حول السلطة وتقاسم الأدوار السياسية.

وإذا كانت التحولات في المنطقة المغاربية بعد الثورات أفرزت خيارًا مسلحًا لجزء من المشهد الإسلامي، فإنها كذلك أظهرت التزامًا كبيرًا للإسلاميين بخيار الديمقراطية والشراكة السياسية، كما أظهرت كذلك أن جزءًا لا بأس به من التيار الليبرالي والقومي لم يُبْدِ توجهًا تشاركيًّا وتوافقيًّا في بناء دولة ما بعد الثورة. وهنالك محطات سياسية عديدة أظهرت دور الاختلاف الأيديولوجي في تخريب عملية التوافق في ليبيا، وأمكن ملاحظة ذلك بشكل واضح في درجة توظيف الأيديولوجيا -أيضًا- في المرحلة الانتقالية في تونس في السابق.

لقد نتج عن خيار التوافق في إدارة السلطة في المغرب العربي في المرحلة الانتقالية عدد من الدلالات السياسية؛ حيث أثبت هذا الخيار عدم كفاية معيار الاحتكام إلى نتائج الانتخابات والأرقام التي تفرزها، وكونها الأسلوب الوحيد للحكم وإدارة السلطة؛ ذلك أن معيار الأرقام والنتائج الانتخابية وحده ما زال غير مرحب به بشكل كامل في المنطقة العربية عمومًا، كمعيار لمنح الفائز في الانتخابات إمكانية الحكم بشكل منفرد، وتطبيق برامجه بطريقة مستقلة عن باقي المكونات السياسية المختلفة، مقارنة بالتجارب الغربية في الديمقراطية، أو ببعض التجارب في الشرق الأوسط؛ مثل التجربة التركية، وهو ما رأيناه في تونس وليبيا والمغرب؛ وبذلك يضيف منطق التشارك السياسي معيارًا آخر لكيفية تصور وتطبيق الديمقراطية في المنطقة العربية؛ لكن بخصائص عربية، حيث تحتاج فترة طويلة لتستقر على ما يقارب النموذج الغربي.

لا تقف منهجية الشراكة على محاولات التقريب والجمع بين الفاعلين السياسيين المختلفين فقط؛ فهي بهذا المعنى تعتبر ضيقة المدى والتأثير؛ بل إن التأثير الفعلي لآلية التوافق يظهر حين تتمكن من تجميع السياسيين وقوى الدولة العميقة وإدارتها؛ ذلك أنه في كثير من الأحيان يتحطم مسار التوافق بين السياسيين على صخرة أجهزة الدولة الإدارية ورؤيتها.
تتيح منهجية الشراكة بين الفاعلين في إدارة السلطة قدرة كبيرة على مواجهة عوامل التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول التي تعرف مسارات انتقال سياسي، وتقلل من فاعلية العناصر الخارجية في المشهد السياسي الداخلي؛ وقد أظهر ضعف هذه المنهجية السياسية في تجربة بناء الدولة الليبية بعد الإطاحة بحكم العقيد القذافي، مدى المساحات الكبيرة التي تُتاح للتدخُّل الدولي في تحديد مستقبل الدولة ومسار العملية السياسية فيها.

واقع التوافق في النماذج الانتقالية المغاربية

عرفت التجربة الانتقالية في تونس محطات عديدة تم فيها توظيف منطق "التنازلات السياسية"؛ التي أثَّرت في مجمل المسار الانتقالي بشقيه السياسي والقانوني؛ حيث رافق منطق التنازل المسار الانتقالي بعد الثورة، الذي بدأ بتجربة توافقية بين عدد من المكونات السياسية أفرزت حكومة الترويكا في نسختها الأولى، مرورًا بالتخلِّي عن رؤساء للحكومة، وصولاً إلى حكومة التكنوقراط؛ وعلى ذلك الأساس أنجز الدستور وانتخابات البرلمان والرئاسة.

وتمكنت تجربة الترويكا في الفترة الانتقالية من إدارة التوافق من خلال تخفيض منسوب التوظيف الأيديولوجي في تعاملها مع باقي المكونات السياسية، وإن كانت عرضة لكثير من العداء الأيديولوجي تجاه مكون النهضة فيها؛ كما أن تلك التجربة قد تفادت الوقوع في الفخ الليبي حين تجاوزت قانون العزل السياسي؛ وذلك من خلال تجاوز الفصل 167 من القانون الانتخابي الذي أثار جدلاً واسعًا؛ حيث كان يتناول العزل السياسي لرموز نظام زين العابدين بن علي، ومنعهم من الترشح للانتخابات القادمة والمشاركة في الحياة السياسية؛ لكن بعد تجاذبات كبيرة وقع التراجع عن فصل العزل السياسي من القانون الانتخابي بتصويت حركة النهضة ضده(1)، وكان تفسير رئيس النهضة الشيخ راشد الغنوشي لهذا التوجه هو أن "الثورة لا تمسح كل الماضي ولا تلغي كل قديم"(2). وتمثلت الخطوة الأساسية لمنح منسوب التوافق جرعات إضافية في المشهد التونسي في قرار حركة النهضة عدم الترشح لانتخابات الرئاسة الأخيرة، تجنُّبًا لدفع البلاد نحو مزيد من الاستقطاب السياسي والاجتماعي.

المشهد التونسي الذي استقرَّ على درجة من التوافق بعد الثورة، عرف عقب انتخابات البرلمان والرئاسة لعام 2014 نوعًا من الاهتزاز أثناء عملية تشكيل حكومة الحبيب الصيد في نسختها الأولى؛ التي لم تكن لتحوز ثقة البرلمان بالطريقة التي أُنْجِزت بها، خصوصًا أن كثيرًا من التوقُّعات السياسية السابقة قد رجحت اتجاه حزب نداء تونس بعد فوزه بانتخابات البرلمان والرئاسة معًا إلى إحداث نوع من التوازن السياسي في السلطة؛ حيث إن التحديات القائمة تتجاوز قدرة حزب منفرد على تقديم الأجوبة الشاملة لمتطلبات المرحلة، وتشير معطيات التركيبة الحكومية الحالية -التي ضمت بالإضافة إلى حزب نداء تونس كلاًّ من آفاق تونس والنهضة والاتحاد الوطني الحر- إلى نوع من التراجع في الحفاظ على درجة التوافق مقارنة بالفترة الانتقالية؛ وذلك بالنظر إلى حجم ووزن حضور هذه المكونات والحقائب الوزارية المسندة إليها. وربما كان حصاد حركة النهضة الأهم في هذه المرحلة هو تجنب الإقصاء السياسي، وإن تطلب ذلك القبول بالحدّ الأدنى من الحضور في الحكومة.

وإذا كانت النسخة المعدلة من حكومة الحبيب الصيد قد حافظت على صورة التوافق وشكله؛ فإنها من حيث تركيبتها لا تعكس مضمونًا توافقيًّا كبيرًا، وعلى الرغم من أنه أدخل عليها بعض التحسينات فإن هنالك واقعًا آخر يشهد بوجود مناخ توافقي رخو، يرفض مشاركة النهضة؛ سواء من أطراف داخل النهضة نفسها، أو من حزب نداء تونس، أو من طرف الجبهة الشعبية التي ترفض الشراكة مع الإسلاميين ومع نداء تونس -أيضًا- لأسباب سياسية وأيديولوجية.

ويبدو أن تكلفة تركيبة التوافق الحالية ستطرح تحديًا مستقبلاً حول قدرة حزبي نداء تونس والنهضة -ولو بدرجة أقل- على الحفاظ على التماسك الحزبي من خيار الانشقاق، وأي تراجع في مكسب التوافق الذي تحقَّق في الفترة الانتقالية في تونس يجعل من إمكانات العودة إلى أجواء التوتر الاجتماعي أمرًا ممكنًا مستقبلاً.

بخلاف تونس التي وإن بدأ فيها الجدل مبكرًا حول تنظيم قانون العزل السياسي؛ لكنها تجاوزته، فقد سلكت ليبيا مسلكًا آخر باختيار تفعيل منظومة العزل السياسي بشكل واسع، وبتكلفة سياسية واجتماعية باهظة أثناء إعادة بناء مؤسسات الدولة، وما زالت ليبيا تعاني تبعات عدم التوازن في تفعيل قانون العزل السياسي الذي أصدره المؤتمر الوطني العام في مايو/أيار 2013؛ الذي يقضي بعزل كلِّ مَنْ عَمِل مع النظام السابق منذ عام 1969 حتى عام 2011، ومنعهم من تولي مناصب قيادية في الإدارة الجديدة، وبالإضافة إلى الجدل السياسي والاجتماعي الذي نتج عن قانون العزل فقد واجهت الصياغة الأولية لهذا القانون التي تضمنت 36 فئة للعزل السياسي نقدًا كبيرًا بسبب التسييس الذي تعرضت له من قبل الكتل السياسية(3) التي كان يهمها استبعاد عدد ممن جاءت بهم صناديق الانتخابات، وتنطبق عليهم معايير العزل، ويدل إلغاء البرلمان المنعقد في طبرق قانون العزل يوم 2 من فبراير/شباط 2015 حتى إنجاز دستور جديد للبلاد، على معدل توظيف المنظومة القانونية لحسم الخلافات بين الأطراف السياسية.

لقد ضاع زمن سياسي كبير قبل طرح الحوار وصولاً إلى تقديم التنازلات بين الأطراف الليبية، بديلاً عن كل التداعيات التي أفرزها الاصطفاف؛ الذي أسهم فيه منذ البداية التوسع الكبير في منطق العزل السياسي والخلط بين "العزل والمحاسبة"؛ وهما منهجان يمزجان بين السياسي والقانوني؛ مما يزيد من صعوبة توظيفهما في الحقل السياسي. وإذا كانت إحدى الخصائص الأساسية للمنهجية التوافقية هي إضعاف فرص التدخل الخارجي، فإن الحالة الليبية نتيجة غياب التوافق بين القوى السياسية بعد الثورة قد استدعت الفاعل الخارجي بشكل متزايد لتحديد مسارها المستقبلي.

إن جزءًا مهمًّا من تفسير المشهد الليبي الحالي يعود إلى تراجع المقاربة السياسية وتَقَدُّم المقاربة القانونية حين إقرار قانون العزل السياسي، الذي سبَّب إرباكًا كبيرًا في المشهد السياسي، وأسهم لاحقًا في إعادة ترتيب موازين القوى سياسيًّا وأمنيًّا؛ مما أنتج حالة التردي المتواصلة في البلاد.

وفي اتجاه آخر عرف المغرب صورة التشارك سابقًا من خلال حكومات ما بعد الاستقلال، التي كانت تضم في الغالب عددًا من الأحزاب، بغضِّ النظر عن المضمون السياسي لتلك التجارب؛ وينبغي الإشارة إلى أن معادلة الحكم في المغرب تؤدي تقنيًّا وسياسيًّا إلى منطق التشارك، بغضِّ النظر عن طبيعة المتشاركين؛ لأنها لا تسمح بانفراد طرف سياسي بالتواجد في السلطة. ويختلف النموذج المغربي عن النماذج المغاربية الأخرى في التعامل مع قضية السلطة في كون إسلاميي العدالة والتنمية كانوا على تماس مع المشهد السلطوي، ومارسوا المعارضة من خلال البرلمان لفترة طويلة منحتهم مستوى لا بأس به في كيفية إدارة السلطة والشراكة مع باقي المكونات السياسية في الحكومة، ومع أجهزة الدولة ومراكز القوى بداخلها.

إن تجربة التوافق السياسي الحالي في المغرب وإن ظهر أنها بين مجموعات سياسية تشكِّل الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، فإن عمق التوافق الحقيقي واقع بين الإسلاميين والمؤسسة الملكية؛ التي من خلال إشاراتها لمكونات المشهد السياسي تستمرّ هذه التجربة حتى اللحظة.

إن ثقافة الشراكة السياسية على الرغم من ضعف مضمونها السياسي في تاريخ المغرب المعاصر لدولة ما بعد الاستقلال، فإنها تعتبر أحد السياقات التي مكَّنت إسلاميي العدالة والتنمية من تشكيل حكومتهم واستمرارها حتى اللحظة، وقد صادفت انفتاحًا من طرف المؤسسة الملكية مهَّد الطريق لهذه التجربة، وربما كان الجديد راهنًا هو إضفاء مزيد من المصداقية والمأسسة لمنهجية الشراكة؛ سواء من خلال المنظومة الدستورية الحالية أو من خلال السلوك السياسي اليومي للمَلَكية والفاعلين السياسيين معًا؛ وذلك بخلاف أكثر النماذج السياسية في الحكم في المنطقة العربية بشكل عام والمغرب العربي بشكل خاص؛ التي لم تعرف كثيرًا حكومات مشكَّلة من مكونات مختلفة.

وفي الحالة المغربية برز مفهوم المحاسبة دون مفهوم الإقصاء؛ وعرفت مرحلة ما بعد احتجاجات عام 2011 مزجًا دقيقًا وحذرًا بين المقاربة القانونية والسياسية في تعامل الحكومة مع المطلب الاجتماعي الكبير المنادي بمحاربة الفساد.
إن الحساسية التي يُبديها حزب العدالة والتنمية تجاه منطق النزاع مع الملكية وفق قراءته التاريخية والسياسية للعلاقة بين الملكية وبين باقي الفاعلين السياسيين؛ التي اتسمت بكثير من الصراع، هي أحد عناصر التوافق السياسي.

تُسهم الكيفية التي يُدير بها إسلاميو العدالة والتنمية العملية التشاركية في تخفيف حدة الضغط الخارجي على هذه التجربة. وفي حين واجهت المنهجية التشاركية صعوبات في النموذج التونسي إبان الفترة الانتقالية نتيجة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، فإن الملكية في المغرب قد أظهرت حتى اللحظة حرصًا على استمرار هذه التجربة، وهذا يُشَكِّل نوعًا من المفارقة السياسية في المنطقة العربية. لقد كادت هذه الآلية السياسية أن تتوقف عن العمل في المغرب حين قرر حزب الاستقلال الشريك الأكبر لحزب العدالة والتنمية الخروج من الحكومة في نسختها الأولى؛ مما خلق فراغًا لم يكن سهلاً تجاوزه لولا الإشارات السياسية القادمة من المؤسسة الملكية؛ التي نتج عنها دخول حزب التجمع الوطني للأحرار إلى الحكومة. وهذه الإشارات وإن كانت تقرأ إيجابا لمساهمتها في استمرار الاستقرار والتوازن في المشهد السياسي المغربي، إلا أنها تشير إلى نقطة قوة وضعف في آن واحد، باعتبار أن المنهج التوافقي إنْ لم يتحول إلى ثقافة سياسية واجتماعية، فإنه يبقى في حاجة دائمة إلى جهة تضمن استقراره ونجاحه.

لا شك أن تجربة التوافق الحالية قد منحت درجة مهمة من الاستقرار للمؤسسة الملكية، كما أتاحت مساحة لا بأس بها للتقارب بين رؤى السياسيين وبين رؤية الجهاز الإداري ومراكز القوى في الدولة التي تمتلك تقاليد في التعامل مع المجال السياسي، وهي تقاليد تحتاج إلى فترة أطول لتستقر على نوع من التوافق والتفاهم بين السياسي والإداري. وهي علاقة اتسمت بالتعقيد في مرحلة ما بعد الاستقلال.

خاتمة

إن نجاح منهجية الشراكة والتوافق السياسي مرتبط بشكل كبير بانخفاض منسوب استخدام وتوظيف الأيديولوجيا في الصراع السياسي، كما أن عنصر التخوف من الإقصاء السياسي الذي تبديه المكونات السياسية التي تدرك تواضع قدراتها وإمكاناتها السياسية يعتبر من محفزات الضغط في اتجاه خيار التشارك والتوافق، بغية تأمين جزء من الحق في التواجد في السلطة وصناعة القرار السياسي.

التوافقُ وَصْفَةُ نجاحٍ سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا؛ وترتبط قدرة المشاريع السياسية على إنجاح رؤيتها وبرامجها من خلال السلطة بمدى ودرجة الشراكة بين الفاعلين السياسيين؛ حيث تنتفي صفة الإقصاء السياسي الذي يُعتبر مقدمة للفشل في بناء النماذج القادرة على مواجهة التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية. ويبقى أحد أهم التحديات التي تواجه المنهجية التشاركية هو حاجة هذه الآلية إلى أطراف أو جهات تضمن استمراريتها؛ وذلك حين لا يتحول منطق التوافق إلى ثقافة سياسية واجتماعية، تتجاوز كونه أداة برغماتية مصلحية ترتبط بإدارة مراحل محددة.
________________________________________________________
*كمال القصير، باحث في مركز الجزيرة للدراسات- مسؤول منطقة المغرب العربي.

المصادر
1) صحيفة العرب في لندن:
http://www.alarab.co.uk/?id=21928
2) جريدة المحرر الإلكترونية:
http://www.almouharrer.com/ar/%d8%b1%d8%a7%d8%b4%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%86%d9%88%d8%b4%d9%8a-%d8%aa%d9%85%d8%b1%d9%8a%d8%b1-%d9%82%d8%a7%d9%86%d9%88%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b2%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3.html
3) مجلة السياسة الدولية:
http://www.siyassa.org.eg/NewsQ/3102.aspx

ABOUT THE AUTHOR