(الجزيرة) |
ملخص وتختلف أسباب العمل الإرهابي ودوافعه باختلاف نوع العمل وممَّن صدر (فرد أو جماعة أو دولة)؛ فالعمل الإرهابي على مستوى الفرد أو الجماعة، ما هو إلا رد فعل تلقائي لعامل أو عوامل خارجية يكون الإرهاب تعبيرًا عنها، وتأتي هذه الأسباب والدوافع متعددة ومتباينة، ويمكن تقسيم هذه الدوافع والأسباب إلى: دوافع شخصيّة، ومجتمعيّة. ومن أهم الجذور التي ينمو فيها الإرهاب ويترعرع: القهر والاضطهاد والاستبداد والقمع، ودعم أنظمة الفساد وتمتين العلاقة مع أعداء الشعوب، وشيطنة القادة الوطنيين ومحاصرتهم، وتدبير الانقلابات على الحكومات الوطنية، واغتيال الزعماء وتدبير الفتن بين الشعوب العربية وبين مكونات الشعب الواحد، واحتلال الدول واضطهاد شعوبها وكل هذا لن يولِّد إلا الغضب والكراهية، وانتشار الإرهاب. وتواجه المنطقة العربية محاولات للتقسيم والتفتيت من داخلها، واستعمال شعار "مكافحة الإرهاب" للتدخل في شؤون الدول، وعلى الأرجح لن يستطيع التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية القضاء على هذه الظاهرة لأن المعالجات خاطئة ولا تتعامل مع جذور المشكلة. وهذه الورقة تحاول جاهدة تفكيك المفردات المتعلقة بالإرهاب وأسبابه ودوافعه، واستنتاج خلاصات تُسهم في معالجة هذه الظاهرة. |
مقدمة
بالرغم من اهتمام العالم بظاهرة الإرهاب، وأخذها حيزًا كبيرًا من اهتمام الساسة والقادة والمسؤولين في العديد من دول العالم، إلا أنهم لم يتفقوا حتى الآن على مفهوم وتعريف واضح ومحدد للإرهاب، رغم أن الكثير من هذه الدول تعرض له في تشريعاته، ومنها: الولايات المتحدة الأميركية خاصة بعد أن نال منها الإرهاب وعانت منه أكثر مما عانت منه باقي دول العالم حين تعرضت لعمل إرهابي في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001 والذي استهدف برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وأهدافًا أخرى متفرقة أسفرت عن مقتل ما يزيد عن ثلاثة آلاف قتيل، والذي أعلن تنظيم القاعدة مسؤوليته عنه. وقبل هذا التاريخ عانى المسلمون على إثر إتهام المتشددين والمتطرفين من اليهود والمسيحيين للدين الإسلامي بأنه دين إرهاب، واختلطت الأمور، وضاعت السمات الأصلية والمميزة التي تفرق بين ما هو إرهاب كعمل غير مشروع، وبين غيره من أعمال المقاومة المشروعة ضد المحتل.
وتمثل هذه الظاهرة تهديدًا لسلامة الجماعات البشرية والأفراد وأمنهم، منذ فترة طويلة بدأت بصورة واضحة في العصر الحديث عقب الحرب العالمية الأولى وبعد الثانية، حيث بثَّت المنظمات اليهودية الرعب الصهيوني في فلسطين عن طريق جماعات إرهابية، مثل: "الستيرن" و"الهاجاناه"وما صاحبها من مجازر كـ "دير ياسين" وغيرها، ، ثم تلا قيام دولة إسرائيل سلسلة من الحروب وأعمال العنف بين العرب وإسرائيل، زاولت فيها إسرائيل شتى أنواع الرعب والإرهاب، والاعتداء المسلح والقتل الجماعي وما زالت تزاول ذلك ضد العرب إلى يومنا هذا(1).
وبالبحث عن أصل كلمة الإرهاب نجد أنها ترجع في أصلها إلى اللغة اللاتينية، ثم انتقلت بعد ذلك إلى اللغات الأخرى، "وتُعد مشكلة تحديد التعاريف وتصنيفها واحدة من أصعب وأعقد المشاكل التي تواجه العديد من الباحثين والمهتمين بالسياسة الدولية، لما تنطوي عليه من الخلط والتداخل الذي يعتري بعض المفاهيم المرتبطة بها"(2).
ولا يمكن تتبع كل ما ورد عن هذه الظاهرة في هذه الورقة؛ التي لا تتسع لتشابك الموضوع وتعدد جوانبه، ولكن يمكن الإجابة عن بعض الأسئلة المهمة في هذه السياق، منها:
ما هو مفهوم هذه الظاهرة؟ وكيف نشأت؟ وماهي أسبابها ودوافعها؟ وهل هذه الظاهرة نشأت في البيئة العربية الإسلامية، أم أن لها جذورًا عالمية، ساهمت في انتشارها هيئات ومنظمات ودول؟
المفهوم والنشأة والتكوين
ظاهرة الإرهاب ليست ظاهرة حديثة؛ فالبعض يُرجع العمل الإرهابي إلى مئات السنين؛ ففي القرن الأول الميلادي، وكما ورد في العهد القديم "التوراة"، همَّت جماعة من المتعصبين بترويع اليهود من الأغنياء الذين تعاونوا مع المحتل الروماني للمناطق الواقعة شرق البحر المتوسط.
وفي عصر الرومان كان من الصعب التمييز بين الجرائم السياسية والإرهاب، وبعد العصر الروماني عرف العالم الإرهاب كوسيلة يستخدمها أمراء الإقطاع في السيطرة على مقاطعتهم وعلى العبيد الذين يستخدمونهم في الإقطاعيات، ومع بداية القرن السابع عشر بدأت سيطرة الدول الأوروبية على البحار العالمية وبدأت الزيادة في حجم السفن الناقلة للتجارة بين الشرق والغرب وظهرت معها القرصنة التي اعتُبرت شكلاً من أشكال الإرهاب واستمرت حتى بداية القرن العشرين، ومن ثمَّ نجد أن ممارسة الإرهاب عبر الزمن تمت بصور مختلفة بحسب أطرافها وظروفها، فهي ظاهرة اجتماعية تتطور بتطور المجتمعات، كما تطورت الأشكال التي اتخذتها ظاهرة الإرهاب نظرًا للتطور العلمي والتكنولوجي(3).
وعلى الرغم من شيوع استخدام مفهوم الإرهاب على نطاق واسع، إلا أنه لا يوجد تعريف مُتفق عليه لهذا المفهوم سواء على المستوى الدولي أو المستوى العلمي، ويعود هذا إلى اختلاف العوامل الأيديولوجية المتصلة بهذا المصطلح إضافة إلى اختلاف البنى الثقافية، أي أن ما يُعدُّ عملًا إرهابيًّا من وجهة نظر دولة أو مجتمع معين ليس بالضرورة أن يكون كذلك في نظر دولة أخرى(4).
ومفهوم الإرهاب في "اتفاقية جنيف" 1937 الخاصة بمنع وقمع الإرهاب، جاء في إطار واحد يفيد أن الإرهاب هو إرهاب الأفراد الموجَّه ضد الدولة، وتميزت الاتفاقية بأنها حددت جرائم بعينها، كي تُعتبر إرهابًا ففي المادة الأولى، عرَّفت الإرهاب بأنه "الأعمال الإجرامية الموجهة ضد دولة والتى يكون من شأنها إثارة الفزع والرعب لدى شخصيات معينة أو جماعات من الناس أو لدى الجمهور"(5).
وقدَّم عدد من الباحثين المتخصصين في علم السياسة، اجتهادات جادَّة في سبيل وضع تعريف محدد لمفهوم الإرهاب؛ ففي كتاب "الإرهاب السياسي" قام "أليكس شميد" بمراجعة مائة تعريف للإرهاب وُضعت من قبل خبراء وباحثين في هذا المجال وخلُص إلى وجود عناصر مشتركة بين هذه التعريفات، منها: أنه مفهوم تجريدي بدون جوهر، ولا يكفي تعريف واحد لحصر جميع استخدامات هذا المفهوم، كما أن العديد من التعريفات المختلفة يشترك في عوامل عامة، وأن معنى الإرهاب مستمد من الضحية المستهدفة.
ويُعرِّف "بريان جنكيز" الإرهاب بأنه "يمكن أن يستند إلى مجموعة من الأفعال المعينة، التي يُقصد بها أساسًا إحداث الرعب والخوف". كما يُعرِّف "إريك موريس" الإرهاب بأنه "استخدام أو التهديد باستخدام عنف غير عادي وغير مألوف لتحقيق غايات سياسية. وأفعالُ الإرهاب عادةً ما تكون رمزية لتحقيق أثر نفسي أكثر منه مادي"(6).
ومن ثمَّ يجب ألَّا نقف فقط عند مفهوم الإرهاب الذي يمارسه الأفراد، أو بعض المجموعات، بل يتوجب أن يتسع معنى الإرهاب، ليشمل "إرهاب الدولة"، حتى لا يكون هناك ازدواجية في تعريف المفهوم، فما تقوم به إسرائيل -على سبيل المثال- لا يوصف إلا بإرهاب دولة ضد شعب أعزل يدافع عن حقه في تقرير مصيره.
ومن أبرز النماذج على إرهاب الدولة في العالم العربي، ما يمارسه بشار الأسد من قتل وتدمير لشعبه، والجنرال السيسي في مصر، الذي قام بالعديد من المجازر، منها مجزرة رابعة العدوية والنهضة والحرس الجمهوري وغيرها، وللأسف لا يوجد موقفًا منصفًا من الدول الغربية تجاه هذه الممارسات في تلك الدول، ولا من المنظمات الدولية والحقوقية بالشكل الكافي.
أسباب الإرهاب ودوافعه
تختلف أسباب العمل الإرهابي ودوافعه باختلاف نوع العمل وممَّن صدر (فرد أو جماعة أو دولة)؛ وتأتي هذه الأسباب والدوافع متعددة ومتباينة، ويمكن تقسيم هذه الدوافع والأسباب إلى: دوافع شخصيَّة، وأخرى مجتمعيَّة.
أولًا: الدوافع والأسباب الشخصية
تتنوع الدوافع الشخصية التي تدفع الإرهابي إلى ارتكاب جريمته لتحقيق هدف شخصي، أو بسبب عامل يتعلق بشخصيته، وهذه الدوافع هي دوافع نفسية، وسياسية، وإعلامية.
أ- الدوافع النفسية
فالبناء السيكولوجي للفرد يلعب دورًا مهمًّا في تفاعله مع مجتمعه، وقد أظهرت الدراسات ذات الصلة أن النمو الجسمي والعقلي والانفعالي المضطرب والبيئة الاجتماعية غير السليمة لها علاقة مباشرة بالعمل الإرهابي، كما ترى بعض الدراسات أن القائمين بالعمل الإرهابي تجمع بينهم خصائص متماثلة، كالطفولة المضطربة، والانطواء على النفس، والعلاقات المضطربة في الأسرة خاصة مع الوالدين، والانقطاع عن الأصدقاء(7).
ب- الدوافع السياسية
ففي كثير من الأحيان يكون دافع العمل الإرهابي سياسيًّا، للفت نظر الجهة المستهدفة من هذا العمل، وفي الغالب تأتي الدوافع السياسية لأسباب، منها: ما تمارسه بعض الأنظمة ضد مواطنيها؛ من فرض سياسات غير عادلة، وتهميش المواطن، وانتهاك حقوقه وحرياته، بما يشعره بالكبت والقهر السياسي، وأنه مُهمل لا دور له.
كما أن الرغبة في حق تقرير المصير للشعب المحتل، قد يدفع الأفراد لعمل بعض الأعمال الإرهابية لتخليص الوطن من المحتل الأجنبي، الذي يمارس الاضطهاد والقهر(8).
ج- الدوافع الإعلامية
نتيجة للتطور التكنولوجي في وسائل الاتصال، والتواصل الاجتماعي، في نشر الأخبار والوقائع فور حدوثها، نجد أن من دوافع العمل الإرهابي لفت أنظار الرأي العام العالمي إلى قضية من القضايا، لجذب الانتباه لإيجاد نوع من التعاطف مع القائم بالفعل الإرهابي، ووسائل الإعلام هي الوسيلة الوحيدة التي بواسطتها يستطيع الإرهابيون طرح شروطهم ومطالبهم وآرائهم وشرح قضاياهم. وهذا ما قام به بن لادن والظواهري في تنظيم القاعدة، وأبو بكر البغدادي في تنظيم الدولة الإسلامية أخيرًا.
بل تطور الأمر إلى إنشاء قنوات فضائية، ومواقع إلكترونية باستخدام أحدث أدوات التكنولوجيا في التصوير، كما حدث في إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقًا، وإعدام مجموعة من المصريين في ليبيا ذبحًا.
إضافة إلى ذلك، فإن الإعلام من خلال نقله للأحداث يُسهم في إظهار بعض الإرهابيين بمظهر الأبطال؛ مما يدفع إلى تقليدهم والسير على طريقتهم، وهذا ما حدث أيضًا من تحمُّس الآلاف من الشباب للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" لرؤيتهم من خلال الإعلام أنهم يحققون مكاسب على الأرض، ناهيك عن الظلم الواقع عليهم من أنظمتهم المستبدة.
ثانيًا: الدوافع المُجتمعية
وهي الدوافع التي يكون للمجتمع الذي يعيش فيه مرتكِب العمل الإرهابي دور كبير في دفعه إلى الإرهاب، ويمكن تقسيم هذه الدوافع إلى: دوافع اقتصادية، ودوافع اجتماعية، ودوافع تاريخية، ودوافع إثنية، ودوافع أيديولوجية.
أ- الدوافع الاقتصادية
فالحاجة والفقر والعوز الاقتصادي، قد يكون له آثار سلبية على البناء المجتمعي، بما يولِّد سلوكًا عدائيًّا ضد المجتمع الذي يعيش فيه الفرد، ومن أبرز هذه المشاكل: التخلف الناتج عن السياسات الاقتصادية غير الملائمة للواقع الاجتماعي للدولة، بحيث تتكون فجوة تتسع تدريجيًّا بين الفقراء والأغنياء، وسوء توزيع الثروة والموارد اللازمة للتنمية وتوفير الحاجات الأساسية للناس؛ مما يفرز خللاً في العدالة الاجتماعية، وظلمًا لقطاعات كبيرة من السكان، وهذا يؤدي إلى خلق حالة من النقمة والغضب على فئات من المجتمع، قد يصحبه ردَّة فعل بارتكاب عمل إرهابي معين.
ب- الدوافع الاجتماعية
فالأسرة المفككة التي يسودها الجهل والمشاكل الأسرية، تؤدي إلى ضعف الرقابة على الأبناء، وتترك آثارًا سلبية في نفوسهم، وبالتالي تسهم في انحرافهم، واستغلالهم من قِبل بعض المجموعات الإرهابية. كما يُسهم ضعف دور المدرسة في التربية والتنشئة السليمة، وافتقاد لغة الحوار والتفاهم، إلى ممارسات خارجة عن النظام والتقاليد الاجتماعية. وسوء التخطيط، وانتشار المساكن والأحياء الشعبية، وعدم توفر الحد الأدنى للمعيشة، يدفع الشباب إلى الشعور بالقهر الاجتماعي، ومن ثمَّ يدفعهم إلى الانحراف وارتكاب الأعمال الإرهابية.
ج- الدوافع التاريخية
قد تُتخذ الحوادث التاريخية التي حدثت في فترة زمنية بعيدة سببًا من الأسباب الدافعة لارتكاب العمل الإرهابي، ومن الأمثلة على ذلك الأعمال الإرهابية التي قام بها جيش التحرير الأرميني ضد تركيا، انتقامًا للمذابح التي حدثت للأرمن إبَّان العهد العثماني، وكذلك ما قامت به إسرائيل من أعمال إرهابية ضد القادة الألمان في العهد النازي، وتتبعهم أينما كانوا واختطافهم ومحاكمتهم لادعائها باضطهاد النازيين لليهود، ومن الأمثلة على ذلك اختطاف "أدولف أتو إيخمان"(9) عام 1960 من قِبل عملاء الاستخبارات الإسرائيلية "الموساد" ونقله من الأرجنتين إلى القدس حيث جرت محاكمته وإعدامه هناك(10).
د- الدوافع الإثنية
فحينما تسيطر النزعة العِرقية على السلطة الحاكمة، وتمارس التمييز العنصري ضد شعبها، وخصوصًا إذا كان متنوع الأعراق، تلجأ بعض الجماعات إلى ممارسة العنف والإرهاب ضد الجماعة الأخرى الأقل قوة بهدف إخراجهم من ديارهم. كما حصل في البوسنة والهرسك وكوسوفا من قِبل الصرب، وكما حصل في جنوب إفريقيا من تمييز عنصري من قِبل الحزب الوطني الذي تسلَّم السلطة عام 1948، ومارس سياسة التمييز العنصري، والتي مفادها أن على كل مجموعة عِرقية من المجموعتين الرئيستين في البلاد أن تتطور مستقلة عن الأخرى، وفقًا للإمكانيات والخصائص التي تتمتع بها وفي مناطق جغرافية منفصلة بعضها عن بعض؛ فالأقلية البيضاء حاولت الاحتفاظ بالامتيازات التي تسمح لها بالتطور والنمو مما أدى إلى تفاوت شاسع في الحالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بين المجموعتين(11).
ه- الدوافع الأيديولوجية
قد يدفع التعصب لمبدأ فكري أو ديني إلى اللجوء إلى استعمال العنف وممارسة الإرهاب من قِبل فئة معينة تحاول فرض مبادئها التي تؤمن بها على المجتمع الذي تعيش فيه، وربما تسعى تلك الفئة إلى محاولة الوصول إلى السلطة لتسهيل نشر تلك المبادئ وتطبيقها، ومن أمثلة ذلك: الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، والصراع بين البروتستانت والكاثوليك لأسباب دينية، وبين الهندوس والمسلمين في الهند، كما يتمثل ذلك في تبني بعض الجماعات التي يُطلق عليها أحيانًا الجماعات الأصولية رفض الثقافات والحضارات الأخرى، ومقاومة الاتصال الثقافي بين الحضارات المختلفة(12).
الإرهاب ظاهرة عالمية
أصبح من المعتاد أن يُقحَم الإسلام في النقاش والجدل بطريقة أو بأخرى كلما وقع عمل إرهابي في أي مكان في العالم، أو فلنقل: في معظم الأعمال الإرهابية لكي نكون أكثر دقة. يحدث هذا الأمر حتى ولو لم يكن الفاعل مسلمًا، لأن أصابع الاتهام والشكوك باتت توجَّه بطريقة تلقائية نحو المسلمين، حتى قبل أن تتضح هوية الجاني وتُعرف دوافعه(13).
ومن المعروف أن أوروبا نفسها قد عانت الإرهاب الداخلي في النصف الثاني من القرن العشرين، كما حدث في أيرلندا وإقليم الباسك في إسبانيا، ولم تسلَم الولايات المتحدة الأميركية نفسها من الإرهاب الداخلي قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، كما شهدت الساحة العالمية أعمالاً إرهابية أخرى في أماكن مختلفة، منها على سبيل المثال: إطلاق الغازات السامة في مترو الأنفاق في اليابان، ومقتل رابين في إسرائيل، وهدم المسجد البابري في الهند على أيدي المتطرفين الهندوس، وغيرها كثير(14).
على ذلك يتّضح أن الإرهاب قد تمارسه مؤسسات وأحزاب وطوائف وعِرقيات وحكومات وأفراد(15). ومن يُقصره على ديانة خاصة أو طائفة أو حكومة أو عِرق، يبتعد عن الواقع والحقيقة.
ومن تلك النماذج الكاشفة في التاريخ القديم والحديث:
-
إعدام أكثر من مليون مسيحي مصري على أيدي الاحتلال الروماني لمصر قبل الفتح الإسلامي.
-
إبادة 70 ألف مسلم بالقدس عندما اجتاحتها الجحافل الصليبية بعد أن وعدهم القائد الصليبي بالعفو إن استسلموا ثم غدر بهم!! في المقابل عفا صلاح الدين الأيوبي عن الصليبيين عندما فتح القدس.
-
الإبادة الجماعية لعشرين مليون مسلم على يد جوزيف ستالين.
-
إحراق روما على يد الطاغية نيرون.
-
ضرب بغداد وأفغانستان وفيتنام باليورانيوم الناضب، وقصف المستشفيات والمدارس ومراكز توزيع الخبز والمياه وغيرها من أماكن تجمُّع المدنيين بالعراق وأفغانستان مما نتج عنه استشهاد مئات الألوف من المدنيين.
-
إبادة عشرات الملايين من الأفارقة أثناء اختطافهم وتهجيرهم الإجباري من إفريقيا إلى أميركا لاستصلاح الأراضي هناك والعمل في مزارع السادة البيض.. وكان جزاء من يتمرد على الرِّقِّ والتعذيب وإهدار الآدمية هو الإعدام فورًا بلا تحقيق أو محاكمة من أي نوع !!
-
الحربان العالميتان الأولى والثانية، نـجم عنهما مصـرع ما يتراوح بين 60 إلى 100 مليون شخص، والمذابح المروعة المتبادلة بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا كذلك.
-
ضرب مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين بالقنبلة النووية بواسطة طائرات أميركية ومصرع ربع مليون شخص وإصابة ملايين آخرين بالسرطان بسبب الإشعاع.
-
مذابح دير ياسين وصابرا وشاتيلا ومدرسة بحر البقر وملجأ قانا وإعدام عشرت الألوف من الأسرى المصريين عامي 1956 و1967 علي أيدي العصابات الصهيونية.
-
قتل 250 ألف مسلم بوسني علي أيدي الصرب والكروات، وعشرات الآلاف من الشيشان على أيدي الروس(16).
وبالتالي فإن محاولات بعض الأنظمة الدولية التنصل من ظاهرة الإرهاب وتحميلها جهة دون أخرى، يجافي الواقع والحقيقة، فالتاريخ السياسي الحديث يشير إلى عُمق المشكلة، فمن خلال تتبع بؤر التوتر والصراع في العالم، نجد أنه لا يمكن محاصرة تلك الظاهرة مع وجود تلك البؤر، فالمجتمع الدولي يتغاضى عمّا يحدث من انتهاكات للشعب الفلسطيني على أيدي الإسرائيليين، وبدعم كامل من الولايات المتحدة الأميركية، والحروب الأهلية التي تحركها الأقليات العرقية والطائفية، في أماكن مختلفة من العالم، ومحاولة اللعب بورقة السُّنَّة والشيعة، والسماح بالتدخل في شؤون الدول، كل تلك المشاكل التي تتحرك ذاتيًّا تارة، وبتدخلات خارجية تارة أخري، تُعدُّ بؤر توتر تساهم في انتشار ظاهرة الإرهاب.
خلاصات واستنتاجات
اختلفت التفسيرات والدوافع التي أدت إلى تنامي ظاهرة الإرهاب بين من يؤكد أن حالات التنافس والصراع الدولي ساعدت في تغذية ونمو هذه الظاهرة، وبين من يذهب إلى أن الإرهاب ظاهرة طبيعية يمكن أن تظهر في أي مجتمع متأثرًا بعوامل مختلفة منها: البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والأيديولوجية، ومن ثمَّ لابد من الوقوف عند بعض الحقائق التي تساعد على فهم الظاهرة واستجلاء أسبابها، ومن ثمَّ إيجاد الحلول لها، منها:
أولًا: أن الإرهاب ظاهرة عالمية، قديمة/حديثة، لا دين له، ولا وطن وقد تتغير أشكاله وأساليبه بتغير الزمان والمكان، ولكنه يظل -دائمًا- مرتبطًا بالإنسان أيًّا من كان، وأيًّا ما كانت عقيدته أو مِلَّته أو مذهبه الفكري، ومن الخطأ نسبته إلى دين دون آخر.
ثانيًا: عدم تحديد مفهوم وحقيقة الإرهاب وأسبابه، يفسح المجال لتوسيع دائرة الاتهام، لكل من يخالف السلطات أو الحكومات والأنظمة، التي لا تحقق العدل والحرية لشعوبها، لتحقيق أغراضها في ظلم الشعوب وقهرها.
ثالثًا: مما يزيد الإرهاب استشراءً، ويُعمِّق الخلاف في فهمه، الخلط بين الإرهاب والمقاومة، فكفاح الشعوب من أجل تحرير نفسها من السيطرة أو التدخل الأجنبي عمل مشروع، لا يمكن وصفه بالإرهاب.
رابعًا: اتهام المسلمين دومًا بأنهم صانعو الإرهاب، يكرِّس مفهومًا خاطئًا عن الدين الإسلامي، ويدفع بعض الأفراد والجماعات لتبني أعمال العنف، لشعورهم بالظلم والاضطهاد، بالرغم من ممارسة بعض أصحاب الديانات الأخرى للعديد من الأعمال الإرهابية.
خامسًا: استعمال بعض الأنظمة المستبدة لكلمة "الإرهاب" أصبح الآن عشوائيًّا ويتم دون أي تمحيص أو تقدير لعواقبه؛ فكل من يخالف تلك الأنظمة قد يُتهم بالإرهاب، مما يدفع إلى الإدانة الذاتية دون وعي أو تقدير لتبعات تلك الإدانة من تجريم وابتزاز. ومما يُسهِّل الوقوع في هذا الفخ أن تلك الأنظمة تفصِل بينها وبين شعوبها(17).
سادسًا: على الأرجح لن يستطيع التحالف الدولي الذي شكَّلته وتقوده الولايات المتحدة الأميركية للقضاء على ظاهرة الإرهاب، لأن المعالجات خاطئة، ولا يتم التعامل مع جذور المشكلة، ومن ثمَّ سيؤدي ذلك إلى المساهمة في تفتيت المنطقة العربية، واستنزاف قدراتها وإمكانياتها تحت بحجة "محاربة الإرهاب".
سابعًا: لإيجاد حلٍّ لمواجهة ظاهرة الإرهاب، لابد من البحث عن الجذور التي ينمو فيها ويترعرع، من ذلك: القهر والاضطهاد والاستبداد، والقمع، ودعم أنظمة الفساد، وتمتين العلاقة مع أعداء الشعوب وشيطنة القادة الوطنيين ومحاصرتهم، وتدبير الانقلابات على الحكومات الوطنية، وتدبير الفتن بين الشعوب العربية وبين مكونات الشعب الواحد، واحتلال الدول واضطهاد شعوبها. كل هذا لن يولِّد إلا الغضب والكراهية(18)، ويؤسس لبيئة حاضنة للإرهاب يصعُب التعامل معها.
____________________________________
د.جمال نصار باحث أول في العلوم السياسية
الهوامش والمراجع
(1) الحسين، أسماء بنت عبدالعزيز، أسباب الإرهاب والعنف والتطرف دراسة تحليلية، موقع حملة السكينة، ص3، (تاريخ الدخول: 2 فبراير/شباط2015)، الرابط:
http://www.assakina.com/files/books/book19.pdf
(2) النيص، كمال، ظاهرة الإرهاب: المفهوم والأسباب والدوافع، الحوار المتمدن، العدد: 3419 – 7 يوليو/تموز 2011، (تاريخ الدخول: 2 فبراير/شباط 2015)، الرابط: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=266268
(3) عز الدين، أحمد جلال، الإرهاب والعنف السياسي، (دار الحرية، القاهرة 1986)، ص86.
(4) مسعد، نيفين عبد المنعم، الدليل العربي، حقوق الإنسان والتنمية، دليل المفاهيم والمصطلحات (تاريخ الدخول: 10فبراير/شباط 2015)، الرابط:
http://www.arabhumanrights.org/dalil/ch_9.htm
(5) راجع المادة الأولى من اتفاقية جنيف الخاصة بمنع وقمع الإرهاب لعام 1937، الإرهاب في المواثيق الدولية، (تاريخ الدخول: 8 فبراير/شباط 2015)، الرابط:
http://www.altayar-consultants.com/Study.aspx?id=6&language=en
(6) عبد الحليم، أميرة، الإرهاب كظاهرة ومفهوم، الأهرام الرقمي، مؤسسة الأهرام، القاهرة، 1 يناير/ كانون الثاني 2009، (تاريخ الدخول: 5 فبراير/شباط 2015)، الرابط:
http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=96317&eid=121
(7) حلمي، نبيل أحمد، الإرهاب الدولي وفقًا للسياسة الجنائية الدولية، (دار النهضة العربية، القاهرة 1988)، ص23.
(8) لا تعتبر العمليات الموجهة ضد المحتل عمليات إرهابية خاصة إذا كانت موجهة ضد غير المدنيين، كما هو الحادث في فلسطين على سبيل المثال.
(9) هو ضابط كبير بالبوليس السري الألماني النازي عاش بعد الحرب العالمية الثانية في الأرجنتين تحت اسم مستعار، اتهمه الإسرائيليون بقتل عدد كبير من اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية، خطفه الموساد وحوكم في إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية وأُعدم عام 1962.
(10) جارودي، روجيه، الأساطير المؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية، ترجمة محمد هشام، (دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة 1999)، ص34.
(11) العكرة، أدونيس، الإرهاب السياسي، (دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية 1993)، ص136.
(12) العموش، أحمد فلاح، أسباب انتشار ظاهرة الإرهاب، ضمن أعمال ندوة تشريعات مكافحة الإرهاب في الوطن العربي، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، مركز الدراسات والبحوث، الرياض 1999، ص98.
(13) ميرغني، عثمان، الإسلام في قفص الاتهام، صحيفة الشرق الأوسط، الأربعـاء 18 شـوال 1433هـ- 5 سبتمبر/أيلول 2012، العدد 12335، (تاريخ الدخول: 17فبراير/شباط 2015)، الرابط: http://m.aawsat.com/content/1346794722759966800/opinion
(14) نصار، جمال، نظرات في الفكر والسياسة، المركز الحضاري للدراسات المستقبلية، القاهرة، الطبعة الأولى 2010، ص225
(15) لمعرفة المزيد عن واقع التنظيمات الإرهابية وانتشارها في العالم يمكن الرجوع إلى موسوعة مقاتل على الرابط: http://www.moqatel.com/openshare/behoth/siasia2/erhab/sec04.doc_cvt.htm (تاريخ الدخول: 22مارس/آذار 2015)
(16) شفيق، حمدي، الإرهاب بضاعة الغرب، صيد الفوائد، (تاريخ الدخول: 17فبراير/شباط 2015)، الرابط: http://www.saaid.net/ahdath/67.htm
(17) قمحاوي، لبيب، الإرهاب: الحقيقة المُر?ة، موقع رأي اليوم، 19 يناير/كانون الثاني2015، (تاريخ الدخول: 18فبراير/شباط 2015)، الرابط:
http://www.raialyoum.com/?p=206899
(18) صيام، عبد الحميد، مانيفستو حول جدلية العلاقة بين العنصرية والإرهاب: دعوة للحوار، موقع القدس العربي، 15 يناير/كانون الثاني 2015،(تاريخ الدخول: 19فبراير/شباط 2015)، الرابط:
http://www.alquds.co.uk/?p=280195