التبعات الاستراتيجية للبرنامج النووي الإيراني

تبحث هذه الورقة في التبعات الاستراتيجية للبرنامج النووي الإيراني، وتُرجع الغموض الذي يلف مصير الاتفاق النووي الإيراني إلى تضارب رؤى الفاعلين الأساسيين وأهدافهم. وإذا ما استمرت الولايات المتحدة في إهمال العوامل المحفزة لامتلاك أسلحة نووية؛ فالجهود المبذولة لوقف الانتشار النووي محكوم عليها بالفشل.
2015630112813332734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
تناقش هذه الورقة التبعات الاستراتيجية للبرنامج النووي الإيراني، وترى أن الغموض الذي يلف مصير الاتفاق النووي الإيراني مصدره تضارب رؤى الفاعلين الأساسيين وأهدافهم، ولا يمكن إلا لصفقة كبرى أساسها إنشاء منطقة شرق أوسط خالية من الأسلحة النووية أن تكسر الجمود القائم؛ لأنَّه إذا ما استمرَّت سياسات الولايات المتحدة في إهمال العوامل التي تحفِّز الدول لامتلاك أسلحة نووية؛ فالجهود المبذولة لوقف الانتشار النووي محكوم عليها بالفشل؛ لذا على واشنطن إعادة النظر في استراتيجية الأمن القومي التي تتسم بالاستفزازية وازدواجية المعايير؛ فالدعم الأميركي غير القانوني لإسرائيل أدى إلى إضعاف حلفائها في المنطقة، الذين ينتظرون سياسة أميركية أكثر عقلانية واحترامًا لحلفائها الدوليين.

عمليًّا يتطلب هذا من واشنطن (كخطوة لتغيير ميزان القوى وتهميش النظام الإيراني داخليًّا وخارجيًّا) حلَّ القضية الفلسطينية وإدراج النووي الإسرائيلي كجزء لا يتجزأ من القضية النووية الإيرانية والأمن الإقليمي؛ فإيران يمكن لها أن تؤدِّي دورًا بنَّاءً إذا ما تحصلت على مقابل بما يعزِّز أمنها ودورها الإقليمي؛ لكن الدول العربية غير متحمسة، وتخشى أن يكون الاتفاق مع إيران على حساب مصالحها؛ علمًا أنَّه من بين الدول الخليجية نجد قطر وحدها هي التي لديها سياسة أكثر واقعية في التعامل مع طهران، والدول العربية تريد التصدي عمومًا للتهديد الإيراني المحتمل، وفي الوقت نفسه تُدرك أن الخطر الحقيقي مصدره الترسانة النووية الإسرائيلية وسياستها العدوانية، وبالنسبة إلى العالم العربي تكمن أهم التهديدات التي يشكلها البرنامج النووي الإسرائيلي في إصرار إسرائيل على منع انتشار القدرات النووية في الوطن العربي؛ حتى لو كانت هذه المنشآت لأغراض سلمية وتحت مراقبة وكالة الطاقة الذرية.

يبقى تطبيق الاتفاق النووي بين إيران والدول الست محلَّ شك، ويجب أن لا ننسى أنَّ الهدف الرئيس للمفاوضات بالنسبة إلى الإيرانيين كان استعادة بلادهم لمكانتها الإقليمية؛ وذلك في حين أن هدف الولايات المتحدة الأميركية يختلف تمامًا؛ حيث إن المفاوضات ما هي إلا وسيلة وخطوة أولى للتفكيك الكامل للبرنامج النووي الإيراني كما حصل مع ليبيا؛ لكن ميزان القوى منذ التدخل في العراق غَيَّرَ هذه المعادلة؛ حيث إن أميركا وإيران اليوم لهما القدرة على ردع بعضهما البعض، وهذا ما يدفعهما إلى الحوار؛ فواشنطن تنتظر مزيدًا من التعاون من جانب طهران لنجاح استراتيجيتها الإقليمية، وتستخدم المسألة النووية ورقة ضغط، وفي المقابل الإيرانيون يعملون على دفع واشنطن إلى مراجعة استراتيجيتها في الخليج لصالحهم؛ لكن دول الخليج (وإسرائيل) غير مرتاحة للتقارب الأميركي-الإيراني، ؛ إذ تريد تجنُّب هزَّة أخرى في المنطقة وزعزعة استقرارها، وفي الوقت نفسه ترحب بفشل كل مبادرة حوار جادٍّ بين طهران وواشنطن خوفًا أن يكون ذلك على حسابهم، وفي المحصلة لا الحرب ولا السلام حتمي بين واشنطن وطهران، ويبدو أن القادة العرب لا يرغبون لا في السلام ولا في الحرب، ويفضلون العودة إلى الوضع الراهن؛ الذي يضمن من وجهة نظرهم الأمن والاستقرار بأقل تكلفة ممكنة.

المركزية الجيوسياسية لإيران

نادرًا ما كانت العلاقات الإيرانية-الأميركية عادية، ولا تعرف الولايات المتحدة الأميركية اليوم كيف تُشَخِّصُ إيران ولا كيف تتعامل معها؛ لكنها تدرك أن البقاء دون أن تفعل أي شيء ليس بحلٍّ؛ فالسياسة هي فنُّ الممكن؛ وإيران ليست بدولة يمكن تجاهلها؛ فهي نقطة تقاطع عدة عوالم حضارية ومناطق جغرافية، وتمحور ثلاثة بحار، وتقع ليس بعيدًا عن أوروبا وعلى بوابة آسيا، وبما أنَّها هي الدولة الوحيدة التي تمثِّل نقطة تقاطع أكبر حوضين للنفط والغاز في العالم؛ فموقعها يُعْتَبَر استراتيجيًّا كمنفذ بحري لنقل وإيصال ثروات القوقاز وآسيا الوسطى إلى السوق.

فضلاً عن ذلك؛ فإنَّ ضَعف الدول العربية وتآكل النظام الإقليمي العربي؛ الذي دخل في غيبوبة شبه تامة على الرغم من محاولات الإنعاش المتتالية، كلها عوامل زادت من مركزية إيران.

إن التطورات الاستراتيجية لبلد كإيران سيكون لها حتمًا انعكاسات على المستوى الإقليمي والدولي، وإن التزمت إيران سياسة معتدلة داخليًّا وخارجيًّا أو -على العكس- اختارت طريق المواجهة فإنَّ المشهد الاستراتيجي الإقليمي سيتغير بشكل عميق، جاء التدخل الأميركي في العراق كخطوة أولى باتجاه إعادة تشكيل المنطقة والهيمنة عليها؛ مما زاد من محورية إيران؛ إذ أدى إلى انكشاف أمني لدول الخليج، كان غزو العراق خطأً استراتيجيًّا ترتبت عليه عواقب وخيمة على الأمن الجماعي، والاستقرار الإقليمي والدولي، وبعد أن دمرت الولايات المتحدة العدو التقليدي لإيران، وجدت الأخيرة نفسها القوة الرئيسية في العراق؛ وذلك في حين وجدت الولايات المتحدة نفسها من دون استراتيجية إعادة إعمار، وأصبحت استراتيجيتها الإقليمية بأكملها موضع تساؤل، وأكثر من أي وقت مضى، وصارت إيران في نظر واشنطن هي العدو الحميم الذي تحتاج إليه.

يسود قلق عميق بين دول الخليج مصدره ضمان بقائها في ظل جارٍ قوي يتمتع بقدرات نووية، وفضلاً عن المسألة النووية (هاجس الدول العربية)، هناك احتمال ظهور هلال شيعي يمتد من طهران وصولاً إلى دمشق، ويشمل كلاًّ من بغداد وبيروت وصنعاء؛ فالدول الخليجية تخشى إنشاء قطب شيعي يسيطر على معظم موارد النفط، إن الخوف والإعجاب هما الكلمتان اللتان تلخصان نظرة الشعوب العربية إلى الطموحات الإيرانية؛ حيث إن كثيرًا من العرب يرون في إيران الدولة التي وقفت في وجه الغرب؛ وذلك في حين أن قادتهم خضعوا للإملاءات الأميركية، حاولت طهران مرارًا استغلال هذه الفجوة الموجودة بين القادة العرب وشعوبهم لصالحها؛ وهكذا، وعلى الرغم من العقوبات، فإن قدرة إيران التفاوضية (بالاستفادة من أزمة روسيا مع الغرب وصعود الصين) تحسَّنت على المستوى الإقليمي.

مبررات حيازة السلاح النووي

لفهم موقف إيران يجب النظر إلى السياق الجيوسياسي؛ ذلك لأن السعي لامتلاك النووي ما هو إلا تجسيد للمشروع السياسي؛ الذي تكوَّن لدى صنَّاع القرار، وهو مرتبط برؤيتهم للوضع الجيوستراتيجي، وتعتبر إيرانُ الاستراتيجيةَ الأميركية الهادفة إلى احتوائها وتطويقها بمثابة خرق لمجالها الأمني المباشر، وانتهاكٍ للمصالح الحيوية للنظام، وبالنظر إلى تاريخ الانتشار النووي، يستند قرار إطلاق برنامج نووي عسكري إلى عدد من العوامل:

  • وجود تهديد أو إدراك وجود تهديد خطير.
  • غياب ضمانات أمنية فعالة.
  • الحاجة إلى تأكيد الهوية الوطنية.
  • توفير خبرات ورؤوس أموال كبيرة.

يزيد توافر العوامل الأربعة من احتمال الانتشار النووي؛ نظريًّا يمكن القول: إن إيران مرشحة لعسكرة برنامجها النووي. وتاريخيًّا يمكن القول: إن الدوافع الخارجية -بالتحديد معضلة الأمن- هي التي لها الدور البارز في حسابات الدول؛ لكنَّها لا تفسر وحدها قرار حيازة أسلحة نووية.2 إذ إنَّه لا يمكن إنكار أهمية العوامل الداخلية بما في ذلك (طبيعة النظام واستقراره - السمعة والقيمة الرمزية والوضع الاقتصادي توفِّر الفرصة النووية - تطلعات الفاعلين الوطنيين والدوافع النفسية لصانع القرار). فمصالح وطموحات السياسيين لها دور؛ إذ إنَّه من الصعب تجاهل الدور المركزي الذي لعبه كلٌّ من جمال عبد الناصر والقذافي وبن غوريون وديغول في تطوير بلادهم برامج نووية؛ ببساطة: نادرًا ما يكون هناك تفسير واحد لقرار دولة ما الحصول على أسلحة نووية؛ إذن من الضروري فهم دقيق للشخصية الاستراتيجية لكل دولة على حدة، ولا يمكن تفسير جميع سلوكيات الدولة فقط من زاوية المأزق الأمني.

الترسانة النووية الإسرائيلية

تشكل الأسلحة النووية الإسرائيلية خطرًا حقيقيًّا على المنطقة العربية؛ وذلك على ضوء دور المؤسسة العسكرية في المشهد السياسي، إن تكوين العلاقة المدنية-العسكرية يمكن أن يؤثر بشكل خطير على تطوير السياسة النووية؛ فالمنظمات العسكرية ما لم تدار من قِبَل نظام مراقبة يضمن السيطرة المدنية فمن غير المرجح أن تستجيب للمتطلبات العملياتية التي تحقق ردعًا نوويًّا مستقرًّا. فضلاً عن انغماس الجيش في السياسة -الذي يزيد من احتمال استخدام النووي- هناك عوامل أخرى تجعل من إسرائيل دولة أكثر استعدادًا من غيرها لاستخدام السلاح النووي؛ وأهمها البعد التاريخي (المحرقة اليهودية) وعدم امتلاكها لعمق استراتيجي. إن دخول إيران النادي النووي من شأنه أن يدفع إسرائيل إلى إعادة النظر في سياستها النووية المبنية على التعتيم النووي، وهذا سيخلق مشاكل بين دول المنطقة وأميركا؛ خاصة أن إسرائيل دولة عديمة المسؤولية (مارقة وفقًا للمصطلح الأميركي) في مجال الانتشار النووي. ويكشف تسريب وثائق رسمية عام 2010 أظهرت أن إسرائيل اقترحت على جنوب إفريقيا -خلال مرحلة الأبارتيد- بيعها ثمانية رؤوس نووية وتعزيز التعاون العسكري معها(1)، وللدول الغربية مسؤولية في ذلك.

في سبتمبر/أيلول 2009 اعتمد المؤتمر العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية قرارًا طالب فيه إسرائيل بالانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي، وإخضاع منشآتها النووية لاتفاقية الضمانات الشاملة للوكالة، اعتمد القرار بموافقة 49 عضوًا، ومعارضة 45 آخرين (كل الدول الغربية)، وامتناع 16 عضوًا عن التصويت. فمنذ عام 1991 حاولت المؤتمرات السنوية للوكالة بحث النووي الإسرائيلي؛ إلا أنه حتى هذا التاريخ تمكن الغرب من الوقوف ضد التصويت، وحذر الأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى مرارًا من التصدي لقرارات كهذه؛ لأنَّه في حالة إن لم تخضع المنشآت النووية الإسرائيلية للرقابة الدولية فإن الشرق الأوسط في طريقه نحو سباق تسلح، وأكد أنه "في الوقت نفسه الذي تعترف فيه الدول العربية بأن عملية السلام العربي الإسرائيلي من شأنها أن تحِدَّ من التوترات العسكرية على المستوى الإقليمي؛ فهي تواصل تركيز اهتمامها على التهديد الذي تشكله الترسانة النووية الإسرائيلية المتنامية، ورفض واشنطن الضغط على تل أبيب للحد من برنامجها والتفكير جليًّا في اتخاذ تدابير لمراقبة هذه الأسلحة"(2).

إن الاعتراض على النووي الإيراني والسكوت في الوقت نفسه على الأسلحة النووية الإسرائيلية ليس من شأنه خلق الظروف التي تسمح بالتعاون وإعادة بناء الثقة؛ التي أصبحت ضرورية أكثر من أي وقت مضى. وفقًا لوزير الخارجية المصري السابق أحمد أبو الغيط: "إذا كنا حقًّا نريد معالجة النووي الإيراني، يجب أن نتحدث أيضًا عن النووي الإسرائيلي  …فإيران ليست عدوًّا لمصر؛ لكن قبول قوة إيرانية نووية يعني إعطاء الشرعية للقدرات الإسرائيلية، يجب علينا إقناع إسرائيل بالتخلي عن السلاح النووي من أجل إقناع إيران بالتخلي عن جهودها للحصول على هذا السلاح"(3). إذن في انتظار سياسة أميركية أكثر عقلانية واحترامًا لحلفائها الدوليين، وأقل موالاة لإسرائيل، وأكثر إنسانية، يتضح أن الهدف يبقى ضمن الحد الأدنى، وهو ضمان أن إيران تحترم الضمانات المعززة والمنصوص عليها في البروتوكول الإضافي؛ وذلك مع زيادة الضغط عليها من أجل تغيير النظام، وإلا على الأقل دفع النظام الإيراني إلى تغيير سلوكه الخارجي لما يتوافق مع المصالح الأميركية.

سيناريو الدومينو النووي

حسب المحللين؛ من المؤكد أنَّ امتلاك إيران القنبلة النووية أو القدرة على صنعها سيغير وجه المنطقة؛ أي أنَّها ستشهد سلسلة من ردود الفعل النووي؛ مما يؤدي إلى دخول المنطقة في سباق تسلح حادٍّ؛ وبالتالي زعزعة استقرارها، في الواقع لا يعدُّ سيناريو الدومينو النووي في الشرق الأوسط بسبب دخول إيران النادي النووي حتميًّا، ولا يصمد أمام التمحص التاريخي؛ فالترسانة النووية الإسرائيلية لم تؤدِّ إلى سباق نووي على الرغم من الخطر الذي تشكله، وقدرة دولة ما على تطوير برنامج عسكري -بصرف النظر عن توافر المواد الأحفورية- يعتمد -أيضًا- على التحكم في التكنولوجيات والخبرة. وإذا افترضنا أن إيران تتوافر على كل هذا؛ فالإرادة هي الفعل المؤسس للانتشار النووي. من الناحية التقنية، الفرق بين برنامج عسكري ومدني يكمن في مستوى التخصيب، وبالتالي فهو سياسي مرتبط بقرار الدولة، بمعرفة هل صناع القرار قد اتخذوا بصفة نهائية قرار عسكرة برنامجهم النووي أم لا؟ لذا ينبغي التعامل بحذر مع التحليلات والسيناريوهات المبنية فقط على القدرات؛ فالتقديرات التقنية للمخاطر القائمة على أساس "أستطيع فعله لذا سأفعله" مبالغ فيها؛ حيث إن هناك 18 دولة من بين 29 دولة طوَّرت برنامجًا نوويًّا منذ 1945 تخلَّت عنه طوعًا(4).

يبقى الانتشار النووي في المنطقة المغاربية احتمالاً ضعيفًا مقارنةً بالشرق الأوسط، على الرغم من أن المنطقتين تجتازهما ديناميكيات مترابطة؛ وإذا ما أصبح أمرًا واقعًا فمن المؤكد أن العامل الحاسم هو تدهور البيئة الأمنية؛ حيث إنَّ الدول الخليجية، بالتحديد السعودية، هي المعنية أكثر بالقنبلة الإيرانية، يعتقد الجميع تقريبًا أن المملكة السعودية هي البلد الأكثر عرضة للسعي لامتلاك النووي كرد فعل على القنبلة الإيرانية، وتمحور الخلاف الرئيسي حول القرار النهائي (إذا ما قررت أم لا) وقدرتها على الحصول على سلاح نووي(5)؛ فالأمير تركي الفيصل مثلاً حذر مسؤولين في الناتو من أن "السعودية ستكون مجبرة على مواصلة سياسة ذات عواقب غير محسوبة وربما دراماتكية". ومسؤول آخر كان أكثر وضوحًا مؤكدًا: "إننا لا نستطيع أن نعيش في وضع تكون فيه إيران دولة نووية، وفي الوقت نفسه نحن لا نملك النووي؛ الأمر بهذه البساطة، إذا طورت إيران سلاحًا نوويًّا، وهذا غير مقبول بالنسبة إلينا، علينا أن نحذو حذوها"(6).

إن دولة مثل الجزائر لا تعتبر إيران تهديدًا وتوفِّر لها دعمًا دبلوماسيًّا فيما يخص حق طهران في امتلاك دورة نووية كاملة، وبالنسبة إلى الجزائر فإيران ليست صديقًا ولا حليفًا ولا عدوًّا؛ إذ هناك زواج مصالح بين البلدين؛ الذي تجسَّد في نشأة تصور مشترك حول بعض القضايا الإقليمية والدولية؛ بشكل عام، تتسم هذه العلاقة بالتباعد أكثر من التقارب، إلا أن النتيجة النهائية للنووي الإيراني يمكن لها أن تحدد القرارات النووية المستقبلية للجزائر؛ فحسب قول الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية المغربي عمر هلال: ليس هناك ما يدعو إلى الشك "أن إيران نووية هي بمثابة كارثة على المنطقة والمغرب خاصة، هذا من شأنه أن يؤدي إلى سباق تسلح في المنطقة، وتسريع وتيرة البرنامج النووي العسكري الجزائري الناشئ (…) إذا نجحت إيران (…) فمن المحتمل أن دولاً أخرى من الشرق الأوسط ستحصل على القنبلة النووية؛ وبالتالي فالجزائر تحذو حذوها حتمًا". (مما قاله في 21 من نوفمبر/تشرين الثاني 2006 للسفير الأميركي في الرباط، حسب برقية دبلوماسية كشف عنها ويكي ليكس)(7).

مصر -أيضًا- مرشحة لامتلاك سلاح نووي، وهذا من شأنه أن يؤدي بالجزائر إلى إعادة إطلاق (أو تسريع) برامجها ذات الاستخدام المزدوج؛ ففضلاً عن مسألة المنافسات الإقليمية، فالبلدان تربطهما علاقة مريرة للغاية تتسم بالاستياء ولها جذور عميقة، وخلال النقاش الدائر حول إصلاح مجلس الأمن، أوضحت الجزائر أنها لن تقبل إسناد مقعد لمصر؛ فهي تفضل جنوب إفريقيا، والجزائر عادة ما تتحدى الدور الريادي لمصر داخل الجامعة العربية، أما كيف سيتفاعل المغرب مع سيناريو "نووي جزائري" فذلك يبقى سؤالاً مفتوحًا؛ إذ ليس هناك نقاش واضح حول برنامج نووي عسكري مستقبلي؛ إن رد الفعل الأكثر احتمالاً هو تعزيز علاقاته الدفاعية والأمنية مع شركائه الغربيين (أميركا وفرنسا)؛ وبناء على ذلك فإن عودة الأسلحة النووية الأميركية إلى المغرب كجزء وفي إطار سياسة درع أوسع هي سيناريو ممكن.

في الواقع لا يجب أن ننسى البعد الاقتصادي الذي يمثله النووي؛ فالاهتمام المتزايد للدول النامية في تطوير الطاقة النووية تم شرحه من طرف دانيال بونمان في السبعينات؛ حيث "أرادت هذه الدول من جهة استخدام المفاعلات النووية لزيادة قدراتها لتوليد الكهرباء، ومن جهة أخرى تطوير قدراتها لبناء أسلحة نووية، أو ببساطة خلق إمكانية مواصلة مسارات عسكرية أو سلمية في المستقبل وفقًا لمتطلبات العصر وما تقتضيه الظروف"(8). تاريخيًّا؛ فإن الصلة ضعيفة بين المدني والعسكري، وليس من السهل تحويل المواد الانشطارية تحت مراقبة الوكالة الذرية من أهدافها المدنية إلى العسكرية. ومع ذلك يمكن لبرنامج مدني أن يدعم بطريقة غير مباشرة (في الغالب) مشروعًا نوويًّا سريًّا؛ إذن ليس من قبيل المبالغة إن قلنا: إن النووي الإيراني، على غرار البرامج النووية العربية التي تمَّ إطلاقها أو إحياؤها في الآونة الأخيرة، هو خليط من الاتجاهين؛ أي استخدام النووي لأغراض سلمية، والحفاظ على إمكانية مواصلة الخيار العسكري إذا ما اقتضى الأمر. الفرق هو أن البرامج العربية كانت أساسًا رد فعل للسلوك الإسرائيلي والإيراني ولا مبالاة الغرب.

دلالات البرامج النووية العربية

تغيرت علاقة الدول العربية بالموضوع النووي بشكل كبير؛ ففي غضون 11 شهرًا فقط (ما بين فبراير/شباط 2006، ويناير/كانون الثاني 2007) أعلنت 13 دولة على الأقل من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إطلاق أو إحياء برامج نووية بهدف تطوير الطاقة النووية لأغراض سلمية، ومنذ ذلك الحين قام العديد من هذه الدول بتعزيز خططها في هذا المجال؛ إن هذا الاهتمام المتنامي بالنووي يثير تساؤلات نظرًا إلى توافر المنطقة على مصادر الطاقة التقليدية، ولعدم انتشار الطاقة النووية فيها، فإن هذه المخاوف مبالغ فيها؛ إذ إن تطوير النووي لأغراض مدنية هي ضرورة للعالم العربي؛ بما أنَّ تطوُّر كل أمة يستند إلى مدى استهلاكها للطاقة.

Amy Myers Jaffe & Wallace Wilson, Middle East Turmoil and Oil, Boston University, Boston, March 25, 2011

هذه الشهية النووية لأغراض سلمية لا يمكن فصلها عن سياق ما بعد النفط، وزيادة الاستهلاك المحلي وارتفاع أسعار الطاقة؛ لكن بعض المؤشرات تعكس قلقًا عميقًا مصدره البيئة الأمنية المتوترة؛ ففضلاً عن الفوائد الاقتصادية، فإن العوامل السياسية لها أهميتها، والعامل السياسي البارز يتمثل في التهديد الذي تشكله الترسانة النووية الإسرائيلية ونمو القدرات الإيرانية؛ فمن خلال هذه البرامج أرادت الدول العربية بعث أكثر من رسالة في مضمونها:

  • رسالة إلى طهران بأن دول المنطقة لن تبقى مجرد مراقب أمام الطموحات الإيرانية المثيرة للقلق لدرجة أن مسؤولين خليجيين يفضلون "أيَّ هجوم ضد إيران على القنبلة الإيرانية". هذا ما أكده سفير دولة الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة؛ ففي نظره "العرب هم أكثر المعنيين من الإسرائيليين بشأن القنبلة الإيرانية؛ حيث إن الدولة العبرية تمتلك قوة الردع النووي الخاصة بها، في حين أن الدول العربية تعتمد في آخر المطاف على واشنطن لحمايتها"(9). وقال مسؤولون سعوديون ومصريون علنًا: إن إيران تشكل تهديدًا للدولة العربية وليس لإسرائيل. 
  • رسالة إلى القوى الخارجية مثل روسيا والصين؛ مفادها أنه حانت الفرصة لإقامة شراكة سياسية وعسكرية واقتصادية؛ فالتعاون في النووي هو أحد العوامل الحاسمة في تعزيز هذه الشراكات وتوسيعها(10)؛ لذا بدأت هذه الدول بتنفيذ تحولها الخاص نحو آسيا وفي بعض الحالات، سرَّعت اتجاهًا كان قد بدأ سابقًا. ببساطة كما قاله زعيم من الشرق الأوسط: "نحتاج إلى علاقة يمكن الاعتماد عليها مع قوة كبرى؛ إذا لم يعد ممكنًا إدراج الولايات المتحدة في الحساب، فعلينا الالتفات إلى جهة أخرى"(11)
  • رسالة إلى واشنطن وتعكس مدى قلقها واستيائها من السياسة الأميركية، وتطلعات دول المنطقة إلى ضرورة كبح الطموحات الإيرانية، وما العواقب المحتملة في حالة الفشل. هذه الرسالة مفادها -أيضًا- أن العودة إلى السياسات والعلاقات القديمة بين واشنطن ومختلف العواصم العربية لم يعد ممكنًا، والظروف تغيرت؛ لكن من الممكن لواشنطن التوصل إلى تسوية كل القضايا العالقة. 
  • رسالة إلى شعوب ونخب المنطقة؛ مفادها أنه لا شيء يلزمها بقبول الضمانات الأميركية، ولا الخضوع للصواريخ الإسرائيلية، ولا للتهديدات الإيرانية؛ ببساطة كما أكده وزير الخارجية المصري السابق أحمد أبو الغيط: "إذا ما وجد العالم العربي نفسه بين المطرقة والسندان (إسرائيل، إيران)، فيجب عليه أن يبحث عن درع له، وهذا الدرع لن يكون غربيًّا"(12). وهذا يعني أن دول المنطقة أصبحت على وعي بمسؤولياتها الإقليمية والعالمية، وأنها تريد أن تكون فاعلاً مُؤَثِرًا وتتطلع لأن تصنع تاريخها بنفسها، وعاصفة الحزم دليل على ذلك.
  • رسالة إلى إسرائيل مفادها أن إسرائيل يمكن أن تفقد احتكارها النووي.

تطوير برامج نووية تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية سيعطي للدولة المعنية شرعية يميزها عن بلدان مثل: إسرائيل (غير موقعة على معاهدة حضر الانتشار النووي)، وإيران (ذات سياسة نووية غامضة) على الساحة الدولية.

الخاتمة

إن التحول إلى دولة نووية يتطلب وجود الرغبة والقدرة معًا، ويوفر الخيار النووي العسكري العديد من المزايا للنظام الإيراني؛ إذ يعطيه مزيدًا من الحرية في مجال السياسة الخارجية، كما أنه يمثل نقطة تقاطع عدة مصالح إيرانية؛ أهمها: استقلالية القرار السياسي، والحاجة إلى الاعتراف كدولة حديثة، والرغبة في تحسين موضعها كدولة إقليمية. لكن إيران نووية يشكل عائقًا أمام تحقيق هدفها المتمثل في إعادة الاندماج في الساحة الدولية، ومن المؤكد أن إيران استثمرت كثيرًا في برنامجها النووي، وطرقت كل الأبواب لتطويره، وعملت المستحيل للحفاظ على سريته، ومع ذلك، يبدو أن النظام الإيراني لم يقرر بَعْدُ وبصفة نهائية عسكرته. تتمثل مقاربته في إبقاء كل الخيارات فوق الطاولة بما تقتضيه الظروف، وفي الوقت الراهن هدف طهران هو التحول إلى دولة على العتبة النووية، وهذا الحلم سيتحقق إذ إن هناك تقارير تتحدث عن نضوج تسوية تتضمن ضمنيًّا اعترافًا دوليًّا بحقها في امتلاك دورة نووية كاملة؛ لكن الدول المجاورة لم تتقبَّل بعدُ هذا السيناريو.
________________________________________
توفيق هامل: باحث متخصص في الشؤون الدفاعية.

الهوامش والمصادر
1. LANDLER M, “Clinton Raises U.S. Concerns of Military Power in Iran”, New York Times, February 15, 2010
2. Anthony Senci, Organizational Civilizations, Research Department Air Command and Staff College, March 1997, p. 21.
3. Salaün T, «Les inquiétudes d'un monde arabe pris en tenaille», Figaro, 7 octobre 2009
4. Hersman R. & Peters R, ‘‘Nuclear U-Turns”, CSWMD, National Defense University, 27 June 2007
5. “Chain Relation”, Report to the Committee on Foreign Relations United States Senate, One Hundred Tenth Congress, Second Session, February 2008
6. Jason Burke, Riyadh will build nuclear weapons if Iran gets them, Saudi prince warns, The Guardian, June 29, 2011
7. TAKHEROUBT B, «L’Algérie et son armée», L'Expression, 4 décembre 2010
8. Poneman, D. Nuclear Power in the Developing World, (George Allen & Uniwin, Londres, 1982) p. 3
9. «UAE Ambassador Endorses Military Force Against Iran Nuke Program», CBSNews, July 7, 2010; Lee Smith, “Our Proxy War in the Middle East”, Newseek, August 13, 2010
10. خطار أبو دياب، الاستدارة السعودية نحو موسكو والانعكاسات المحتملة على سوريا والخليج، العرب، 20 من يونيو/حزيران 2015.
11. David Rothkopf, The Middle East's Pivot to Asia, Foreign Policy, April 26, 2015
12. Salaün T, « Les inquiétudes d'un monde arabe pris en tenaille », Figaro, 7 octobre 2009

ABOUT THE AUTHOR