(الجزيرة) |
ملخص تحاول هذه الدراسة إعادة طرح هذه القضية من زوايا متعدِّدة. |
مواصلة إنكار الإبادة الجماعية والترويج لرواية مُختلقة
يبدو تاريخ وقصة سربرينيتسا، وما شهدته سربرينيتسا في يوليو/تموز من عام 1995 محفوظًا في ذاكرة الجميع، وإذا كان التذكير بأحداث الحادي عشر من يوليو/تموز 1995، والاستمرار في الحديث المتكرِّر عنها لآلاف المرات من الممكن أن يقلِّل من قيمة ما هو معروف وواضح في حد ذاته؛ فإننا وعلى الرغم من كل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى التذكير به مرَّة أخرى: ففي الحادي عشر من يوليو/تموز عام 1995 دخلت تشكيلات من الجيش والشرطة -أو ما يسمى في الأدبيات العسكرية بالقوات الصربية- التابعة لما يسمى "ريبوبليكا صربسكا" إلى مدينة سربرينيتسا، ومنذ ذلك التاريخ ولعشرة أيام متواصلة، استمرت عمليات تقتيل الذكور من المسلمين البوشناقيين من كل الأعمار؛ أطفالاً وصبيانًا وكهولاً وشيوخًا.
اهتزَّ العالم حينها لسماع تلك الأخبار السيئة، وغرق في مشاهدة صور قاتمة قادمة من هذا المكان في شرق البوسنة. صدرت صحف العالم تصوِّر ما جرى في سربرينيتسا وما جاورها في يوليو/تموز 1995، ووصف الإعلام العالمي الأحداث بأنها جريمة نكراء، مذبحة، مجزرة، وبالإبادة الجماعية؛ وذلك بمعالجات إعلامية مختلفة؛ فقد كان توصيف كارثة سربرينيتسا -كما هو اليوم أيضًا- معتمد بشكل مباشر على أولئك الذين يمتلكون القرار في وسائل الإعلام ممن أبدوا جرأة في ذلك، أو استجمعوا شجاعتهم للحديث عن كارثة وجحيم سربرينيتسا.
بطبيعة الحال، وقبل أن تجف دماء ضحايا الإبادة الجماعية في سربرينيتسا، كما حدث أيضًا بعد إمضاء اتفاق دايتون للسلام عام 1995، فإنَّ الاتجاه العام الذي سارت فيه السياسة العامة في "ريبوبليكا صربسكا"، وكذلك في دولة صربيا نفسها، كان هو الإنكار التام لوقوع الإبادة الجماعية في سربرينيتسا. أما من ناحية ردود الفعل العملية، فكانت ولا تزال إلى اليوم، تحاول دون جدوى، ترويج رواية مصطنعة حول تلك الأحداث والإصرار على نفي وقوع إبادة جماعية؛ وذلك على مستوى الإعلام والسياسة وفي المدارس وحتى داخل الجامعات، كما سعت الدبلوماسية الصربية، حيثما استطاعت وبالطريقة التي وجدتها، إلى وجود بعض الأصوات، على قلَّتها، تروِّج لرواية عدم وجود جريمة إبادة جماعية في سربرينيتسا، وقد كان الكاتب الأسترالي بيتر هاندكي واحدًا من تلك الأمثلة المخزية.
طبعًا، تلك الرواية المُختلقة النافية لوقوع إبادة جماعية في سربرينيتسا كان لها -منذ سنوات في السياسة الرسمية الصربية وإلى اليوم أيضًا- مبرِّراتها العملية.
أولاً: الأغلبية المتشدِّدة من الناخبين في "ريبوبليكا صربسكا" كما في دولة صربيا على حدٍّ سواء، تنتظر -وبأغلبية طاغية- مواصلة السلوك نفسه، وهو أن ينقلب ما جرى في الحرب الأخيرة إلى "حقيقة اجتماعية مرغوب فيها"، إلى حقيقة إلهية نهائية ومؤكَّدة، (في هذا الصدد، فإنه يُنظر إلى الإبادة الجماعية في سربرينيتسا على أنها معطى يتم استعماله بقوة في أماكن الدعاية السياسية، وحتى في سياق ما حدث في التاريخ البعيد عندما انتفض الصرب ضد تركيا والأتراك!).
ثانيًا: لقد أصبحت النخبة السياسية للشعب الصربي، منذ اندلاع الصراعات المسلحة الرهيبة في تسعينات القرن الماضي، أكثر راديكالية سياسية بطبيعتها؛ أما أمثلة محاولات انتهاج سياسة منفتحة وشاملة ومؤسسة على أسس ديمقراطية، ومحاولات تأسيس خطاب سياسي مناوئ للحرب وداعٍ إلى معالجة التشدُّد من أسسه، فلم تكن سوى محاولات نادرة الحدوث على الساحة السياسية الصربية المعاصرة؛ أما ما هو أكثر من ذلك، فإنَّه في كل مرَّة تظهر فيها شخصيات تبدي استعدادًا لقيادة صربيا إلى طريق السلم والتعاون مع الكرواتيين والبوشناقيين والألبانيين وغيرهم... إلاَّ وتمت معاقبتهم بالقتل(1) أو إبعادهم عن السلطة عن طريق محاولات اغتيالهم(2).
للأسف، لا تزال أسس نسيج السياسة الصربية في البلقان طاغية على المشهد العام من خلال اصطناع رواية مختلقة؛ وذلك فيما يتعلَّق بالأزمة أو بالحرب عامة، أو بحروب حقبة تسعينات القرن الماضي (من 1990 إلى 1999)(3)، واختلاق الرواية المغلوطة، تبدو بكل وضوح اليوم في حالة الاعتراف (أو بالأحرى: الإنكار المتغطرس!) للإبادة الجماعية المرتكبة في حق المدنيين، في حق البشر، في حق البوشناقيين من أهل سربرينيتسا.
لا يعني هذا، بأي حال من الأحوال، أنه لا يوجد داخل المكوِّن الوطني الصربي؛ سواء أكان ذلك داخل ريبوبليكا صربسكا أم في دولة صربيا ذاتها، مثقفون وأدباء وفنانون ومحامون وموظفون وناشرون وسياسيون.. يريدون أن يُنظر إلى الإبادة الجماعية في سربرينيتسا بعيون محكمة العدل الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة؛ بل على العكس من ذلك، فإنَّ هذه الأصوات موجودة؛ لكنَّ الجلبة الأعلى تحدثها الأصوات الصربية الأخرى المعارضة داخل الساحة السياسية الصربية؛ التي تعمل ليلاً ونهارًا على إنتاج رواية مفتعلة للأحداث.
صربيا بين صورتها الذاتية وصورتها الأوروبية
تجد صربيا اليوم نفسها، مثلها مثل كل دول منطقة غرب البلقان، أمام إمكانيات وفرص يقدِّمها الاتحاد الأوروبي، وقد بدأت صربيا قبل 15 عامًا تجربتها الأوروبية من خلال تعاطيها مع عدد كبير من المهام التي كلفتها بها بروكسل وباقي العواصم الأوروبية الأخرى.
فاليوم تفرض أوروبا، والغرب بشكل عام، شروطًا عديدة ومتنوعة على دول غرب البلقان، وتمدُّ دول أوروبا الغربية اليوم، كما في المدَّة القريبة الماضية، الدول البلقانية بقروض مالية لإعادة بناء الاقتصاد البلقاني المنهار، وكذلك للحفاظ على السلم المدني.
في مثل هذا السياق الأوروبي، ومن أجل تحقيق بعض حاجاتها على طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، تفاعلت دولة صربيا، في نهاية الأمر، مع القرار القضائي حول سربرينيتسا الصادر عن محكمة العدل الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة في فبراير/شباط من عام 2007، ومن الصعب القول: إنَّ صربيا كانت ستتفاعل مع هذا القرار الصادر عن الهيئة القضائية الدولية من تلقاء نفسها وبقرار سياسي سيادي، أو بقرار ناجم عن قناعة ذاتية، لو لم تتعرَّض إلى ضغوط مختلفة المستويات من قبل أوروبا.
ولنذكِّر في هذا المقام بسرعة بما يلي: عندما صدر القرار القضائي عن محكمة العدل الدولية في عام 2007؛ الذي جاء بعد مرور ما يقرب من عشرين عامًا كاملة من مذبحة سربرينيتسا(4) وقد جاء القرار حاسمًا ومؤكدًا "أن في سربرينيتسا نفَّذت قوات الجيش والشرطة التابعتان لـ"ريبوبليكا صربسكا" جريمة إبادة جماعية في حق المدنيين البوشناق"! عندها وجدت "ريبوبليكا صربسكا" نفسها في مواجهة مطالب أوروبية بتحديد موقفها بوضوح من هذا القرار؛ لأنَّ اسم صربيا ورد في نص القرار القضائي الدولي باعتبارها: "غير ضالعة ولا متواطئة ولم تقدم مساعدات مباشرة لتنفيذ الإبادة الجماعية؛ لكنَّ صربيا انتهكت واجب منع ومعاقبة منفذي الإبادة الجماعية...".
كان لصدور هذا القرار حول الإبادة الجماعية في سربرينيتسا أثر مباشر على الأقل في حمل الرأي العام الصربي على متابعة تفاصيله داخل صربيا، وأظهر أنَّ هناك أصواتًا بديلة في هذا البلد على الرغم من ضعفها، وعدم قدرتها، في أغلب الأحيان، على التأثير في الموقف الرسمي الصربي، أو في الرأي العام الصربي، وحمله على تحديد موقف واضح وغير ملتبس من القرار القضائي الدولي حول سربرينيتسا الصادر عن محكمة العدل الدولية، وأن يكون الردُّ واضحًا على نحو: "نعم، لقد قُتل في سربرينيتسا أكثر من ثمانية آلاف بوشناقي".
مع مرور الوقت، ولعديد من الأسباب البراغماتية، أدركت بلغراد أنَّه بإمكانها اللعب على ورقتين، وأنه بالإمكان بالتالي مراعاة متطلبات صورتها الداخلية وصورتها الأوروبية، في الوقت ذاته.
في الواقع، بعد صدور قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي في 26 من فبراير/شباط 2007 حول ثبوت تنفيذ جريمة إبادة جماعية في حق أهل سربرينيتسا، فإنَّه كان بيِّنًا للعيان أن دولة صربيا، وكيان "ريبوبليكا صربسكا" تبنَّتا موقفًا من هذا القرار غير مختلف -في عمومه- عن موقفيهما الأصلي حيال ارتكاب الإبادة الجماعية في سربرينيتسا.
فمن كان ينكر داخل صربيا وقوع جريمة إبادة جماعية ضد البوشناق في سربرينيتسا -قبل صدور هذا القرار القضائي- واصل إنكاره؛ ومن ثَمَّ تجاهل أيضًا حتى قرار محكمة العدل الدولية حيال الإبادة الجماعية.
بالطبع، فإنَّ هذا الإنكار (السابق والحالي) لأصل وقوع جريمة إبادة جماعية ضدَّ أهالي سربرينيتسا له من يدعمه بقوة داخل دوائر سياسية واسعة في كل من الكيان الصربي داخل البوسنة "ريبوبليكا صربسكا"، وأيضًا داخل الدوائر السياسية في بلغراد نفسها.
من وقت لآخر، داخل صربيا، واليوم أيضًا، فإنَّ عملية إنكار الإبادة الجماعية تخضع لمحاولات "تجميل" و"غسيل"، إلاَّ أنَّ ذلك لم يُخْفِ وجهها الحقيقي، والأمثلة الدالة على ذلك كثيرة، ولنكتفِ هنا بواحد منها فقط: كما هو معروف، وبعد مداولات شابها التردُّد، تبنَّى برلمان "ريبوبليكا صربسكا" في 31 من مارس/آذار 2010، وبأغلبية نسبية ما سُمِّيَ حينها بـ"الإعلان حول سربرينيتسا" الذي أطلق عليه رسميًّا مُسمَّى "إعلان الجمعية الوطنية في ريبوبليكا صربسكا حول إدانة الجرائم في سربرينيتسا". ويبدو واضحًا للعيان، من خلال نص هذا الإعلان، ورود كلمة "جريمة"؛ لكن ومع وجود توصيف الإعلام لما جدَّ في سربرينيتسا بالـ"جريمة"، فإنَّه كان من المفترض تسمية ذلك بوضوح "إبادة جماعية في سربرينيتسا".
لكن، ومن خلال كل ما يمكننا رصده في هذا الإعلان الصادر عن الجمعية الوطنية لـ"ريبوبليكا صربسكا" عام 2010، فإنَّ الكلمات المنتقاة والإطار العام لتكوين هذا الإعلان، تشكل مثالاً وضاحًا في حدِّ ذاته يحيلنا إلى تاريخ العمل البرلماني عندما يريد البرلمانيون قول شيء غير محبب لديهم، فيكون عليهم قوله بشكل أكثر ليونة، وإن كان حتى ذلك الشكل مؤلِمًا وبمثابة إخراج عظم من الحلق.
في الواقع، فإنَّ الجمعية الوطنية في ريبوبليكا صربسكا تُعلن في تلك الوثيقة إدانتها للجريمة المرتكبة في حق سكان سربرينيتسا من البوشناق في يوليو/تموز من عام 1995؛ وذلك وفقًا لما جاء فيها: "... على النحو الذي أكَّده القرار القضائي الصادر عن محكمة العدل الدولية". ويواصل الإعلان: "... مع انتظارنا أن تُدين مؤسسات الدول الأخرى السيادية في فضاء يوغسلافيا السابقة، على النحو ذاته، كل الجرائم المُرتكبة في حق الشعب الصربي".
يبدو واضحًا هنا أنَّ برلمان ريبوبليكا صربسكا أبدى إصرارًا ونية بيِّنة في هذا الإعلان للتهرُّب من استعمال توصيف الإبادة الجماعية، وهو ما فعله فعلاً في هذا الإعلان بتجنُّب ذكر وصف الإبادة الجماعية.
بعبارة أخرى، فإن ما أراد البرلمانيون قوله هو: نحن في الجمعية الوطنية لريبوبليكا صربسكا تفاعلنا مع القرار القضائي الصادر عن محكمة العدل الدولية حول الإبادة الجماعية في سربرينيتسا، لكننا لن نأتي على ذكر كلمة الإبادة الجماعية، وأن كل ما سنقوله هو أننا نُدين ما وقع فعلاً في سربرينيتسا "على النحو الذي أكَّده القرار القضائي الصادر عن محكمة العدل الدولية".
إلا أنَّه، وبكل تأكيد، فإنَّ هذا المنطق الذي اتَّبعه البرلمانيون في ريبوبليكا صربسكا؛ الذي "يُشبع الذئاب والخرفان على حدٍّ سواء"، له ثمنُه، وهو في الوقت نفسه يأتي على حساب الشعب الصربي نفسه؛ الذي تعرَّض لمعاناة كبيرة خلال الحرب العالمية الثانية.
في الواقع، فإنَّ واضعي هذا الإعلان ومحرَّريه، وربّمَا عن غير قصد، قد أساءوا بشكل غير مباشر، ولم يُنصفوا ضحايا المواطنين الصرب في ياسينوفاتس؛ الذين تعرَّضوا إلى إبادة جماعية قاسية خلال الحرب العالمية الثانية على أيدي زعماء النظام السياسي حينها؛ المعروفون بالـ"الأوستاشا"، (وهي حركة قومية شوفينية كرواتية تأسست في إيطاليا عام 1929 على يد "آنتي بافليتش" كردِّ فعل عن غضب القوميين الكروات من وَضْعِ بلدهم داخل الاتحاد اليوغسلافي، وهي حركة موصوفة بالفاشية، كانت تسعى إلى إقامة ما يُعرف بدولة كرواتيا المستقلة؛ التي يعيش على أرضها الكروات دون غيرهم، وتمتد على أوسع مساحة ممكنة من الأراضي)؛ وذلك حين طالب أولئك البرلمانيون الدول البلقانية الأخرى بإدانة "الجرائم" التي ارتُكِبَت في حق المواطنين الصرب حينها؛ بينما كانت في الحقيقة جرائم إبادة جماعية للصرب؛ ويبدو ذلك فيما استعمله أولئك البرلمانيون من كلمات في إعلانهم؛ حيث جاء فيه: "ننتظر من مؤسسات الدول الأخرى داخل فضاء يوغسلافيا السابقة أن يدينوا، بالطريقة نفسها، الجرائم التي ارتُكبت في حق المواطنين الصرب".
وبطبيعة الحال، فليس من المُنصف توصيف الإبادة الجماعية -التي كان الصرب ضحيتها في ياسينوفيتس من قبل البرلمان الكرواتي أو البرلمان البوسني- على تلك الشاكلة نفسها؛ التي تم بها توصيف الجمعية الوطنية لريبوبليكا صربسكا لما جرى في سربرينيتسا على أنَّه جريمة وحسب! إذ يجب أن يكون هذا واضحًا لدى الناس العاديين، فضلاً عن الحقوقيين والقضاة والمحامين وغيرهم..
لكن، مع الإنكار الرسمي الصربي للإبادة الجماعية المرتبكة في سربرينيتسا كما هو اليوم، فهل سنرى في المنظور القريب مؤشرات تدلُّ على أن تحوُّلاً ما سيطرأ في نهج السياسة الرسمية الصربية يؤدي إلى اتخاذ موقف جدي من المشاركة الوحشية للجيش الشعبي اليوغسلافي وغيره من القوات الصربية في حروب تسعينات القرن الماضي؟ -ليس هذا سوى سؤال واحد؛ لكنه بالتأكيد هو السؤال الأهم بالنسبة إلى غرب البلقان حتَّى يعم السلام بين شعوب المنطقة والأمن بين المواطنين والنموّ بين بلدانها.
تمامًا مثل غيره من شعوب غرب البلقان، فإن للشعب الصربي أيضًا، على طريقته الخاصة، دوره المهمَّ في إنجاز مستقبل خالٍ من الحروب في هذه المنطقة، وسيكون من متطلبات بناء ذلك المستقبل وإحلال الأمن في المنطقة، حدوث عمليات تغيير داخل السياسية الصربية الرسمية الحالية، التي لا تزال إلى الآن تُزَيِّف الحقائق حول ما حدث من كوارث في تسعينات القرن الماضي، وسيكون أيضًا على العواصم الرئيسية في المنطقة: زغرب، وسراييفو، وبودغوريتسا، وسكوبيا، وبريشتينا.. تشجيع بلغراد وصربيا على إحداث تغيير في سياساتيهما؛ غير أنَّ تشجيع ومساندة الاتحاد الأوروبي لبلغراد يبدو أيضًا من الأهمية بمكان في هذا الموضوع.
لكن، إذا كان خلال السنوات الماضية، وأحيانًا اليوم أيضًا، لا تزال تُسمع هتافات في كثير من ملاعب كرة القدم وترفع أصواتها بـ"سكين، أسلاك، سربرينيتسا"؛ (في إشارة إلى ما حلَّ بضحايا الإبادة الجماعية في سربرينيتسا)، وإذا علمنا أن تلك الهتافات تصدر عن جيل الشباب الصربي؛ (وهم الشباب الذين كنا نظن أنهم منخرطون في العولمة والاتحاد الأوروبي)، فإنَّه يصعب علينا عندئذٍ التخلِّي عن تشاؤمنا حول إمكانية حلول الاستقرار والأمن والتنمية المستقبلية في منطقة غرب البلقان وجنوب أوروبا بشكل عام.
كيف لسربرينيتسا أن تتعافى؟ وكيف لها أن تندمل جراحها إذا كان يوجد حولها آلاف وآلاف الحناجر التي تهتف: "سكين، أسلاك، سربرينيتسا"؟!
لا يزال الكثير الذي يجب عمله حتى يُغيِّر الرأي العام في دولة صربيا وفي الكيان الصربي في البوسنة والهرسك -ريبوبليكا صربسكا- من نظرته إلى أحدث الحروب التي شهدتها منطقة غرب البلقان في تسعينات القرن الماضي.
سربرينيتسا وسياقها الدولي
كما كان الأمر بالنسبة إلى قضية البوسنة والهرسك في سنوات 1992-1995، فإنَّ لقضية سربرينيتسا، في يوليو/تموز 1995 أيضًا وإلى حدِّ هذا اليوم، سياقها الدولي الذي تتنزل فيه؛ ولن يكون بالإمكان تغيير أي شيء على الساحة الدولية في شأن القضيتين دون حدوث تغيير على ساحة غرب البلقان أولاً.
ففي الوقت الذي فيه لقضية مأساة البوسنة والهرسك التي عاشتها منذ عام 1992، أصداء دولية قوية؛ سواء أكان ذلك في الغرب أم في العالم الإسلامي، فإن دولة البوسنة والهرسك تحمَّلت وعانت بمفردها كلَّ ما أمكنها معاناته.
هذا البعد الدولي لكارثة البوسنة والهرسك أشار إليه بقوة بيل كلينتون، وهو ما يظهر في كتاب "أشرطة كلينتون، تاريخ الصراع مع الرئيس" لمؤلفه تايلر برانك(5).
في هذا الكتاب، الذي هو في الواقع نوع من المذَّكِّرات، يسرد الرئيس الأميركي بيل كلينتون ما قاله له بعض الزعماء الأوروبيين عندما تحدث إليهم بخصوص وجود حلٍّ لقضية البوسنة والهرسك، وما كان من طرح لإمكانية تدخل عسكري لوقف معاناة مسلمي البوسنة والهرسك. وبحسب ما ورد في هذا الكتاب، يؤكد بيل كلينتون أنَّ: "بعض الحلفاء الرئيسيين قالوا: إنَّ دولة بوسنية مستقلة ستكون "غير طبيعية" باعتبارها ستكون لشعب (دولة) مسلم في أوروبا"(6).
ثم بعد ذلك، يؤكد بيل كلينتون في مذكراته تلك أنَّ بعض المسؤولين البريطانيين، في ردهم على محاولة كلينتون إقناعهم بضرورة فعل شيء لإنقاذ البوسنة والهرسك، تحدثوا عن "واقعية إقامة دولة مسيحية أوروبية، من جديد في البوسنة، رغم الألم المصاحب لذلك"(7).
من خلال شهادات الرئيس كلينتون -سابقة الذكر- يبدو واضحًا بعض ما كان يعتمل على الساحة السياسية الدولية، ولا يزال يتواصل إلى يومنا هذا، من توجهات تعامل القوى الدولية الكبرى ومواقفها مع قضية معاناة البوسنة والهرسك.
إن وضع سربرينيتسا في عام 1995، هو تعبير ومثال واضح عن كيفية "حلِّ" قضايا المسلمين كما يراه بعض اليمينيين المتطرفين في أوروبا؛ القاتل أندرياس بريفيك، الذي قتل أكثر من 70 مسلمًا، قريبًا من أوسلو، وإن لم يذكر في بيانه (المانيفيستو) واقعة سربرينيتسا، فإنَّه أثنى غير مرة على قادة الحرب الصرب وفي مقدمتهم رادوفان كاردجيتش.
سربرينيتسا أيضًا تُذْكَر اليوم بكثرة في السياق الدولي، وفي غالب الأحيان دون ربطها بسربرينيتسا ذاتها وكما هي؛ التي باتت اليوم مدينة صغيرة شبه ميِّتة في شرق البوسنة والهرسك.
فيما يتعلق بحضور قضية سربرينيتسا في مختلف أروقة المجتمع الدولي وفي علاقاته، سنقدم هنا على سبيل المثال السياق الدولي الذي تُعدُّ فيه أحدث القرارات حول سربرينيتسا؛ فبحسب المعلومات الْمُتاحة لنا، فإنَّ ثلاثة مشاريع قرارات تعدُّ اليوم من أجل إقرارها أو اقتراحها؛ أحدها وأكثرها دلالة، يُعِدُّه مجلس الأمن البريطاني، أما الثاني فيعدُّه البرلمان الأوروبي، في حين يعدُّ الكونغرس الأميركي مقترح القرار الثالث.
بطبيعة الحال، كان قبل هذا عدَّة مشاريع قرارات أخرى حول سربرينيتسا داخل أروقة دوائر سياسية دولية مختلفة؛ إلا أن مشاريع القرارات الحديثة الثلاثة هذه حول سربرينيتسا تستحضر واقع البلقان الحالي، ولا يُمكن فهمها أو تفسيرها بشكل واقعي خارج السياق البلقاني الحالي.
من أبرز ملامح السياق الدولي الذي تتنزل فيه مناقشة القرارات المطروحة حاليًّا حول سربرينيتسا، تأتي ملاحظة تنامي تأثير بوتين وروسيا عمومًا على العديد من السياسيين الراديكاليين الصرب وأحزابهم السياسية في غرب البلقان. وهكذا، فإن مشاريع القرارات هذه (البريطانية والأوروبية والأميركية) حول سربرينيتسا تسعى إلى إرسال عدَّة رسائل.
أولاً: تسعى هذه القرارات إلى توجيه رسالة إلى دولة صربيا؛ لكن أيضًا إلى كيان ريبوبليكا صربسكا، أن أوروبا والغرب عمومًا لن يتخلَّيا عن تواجدهما في البلقان.
ثانيًا: من خلال هذه القرارات حول سربرينيتسا، تسعى الدول الغربية إلى القول: إنَّ إنقاذ غرب البلقان وتعافيه يجب أن يندرجا في إطار الاندماج الغربي والأوروبي، وبكل تأكيد ليس في إطار أي تحالف استراتيجي أو تقارب مع بوتين وروسيا.
ثالثًا: هذه القرارات الأخيرة حول سربرينيتسا تريد توجيه رسالة نوايا حسنة إلى مسلمي البلقان، ومسلمي أوروبا والعالم من خلالهم، بأنَّ الغرب وأوروبا يسعيان إلى تأكيدهما أنهما يريدان إقامة علاقات صداقة مع المسلمين.
يجب علينا في هذا السياق وهذا التوجه قراءة مساعي الوساطة الحالية التي يسعى إليها بعض السياسيين الصرب في البلقان، من خلال توسيط المسؤولين الروسيِّين، وفي مقدمتهم وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، فيما يتعلق بمشروع القرار المذكور آنفًا حول سربرينيتسا؛ الذي تُعِدُّ بريطانيا لتقديمه إلى مجلس الأمن فيها.
من المعروف أنَّ كل مشاريع القرارات هي ذات طبيعة رمزية، ولا تملك قوَّة إلزامية؛ وهي قرارات بطبيعتها لا تستند إلى أوامر أو قوانين تجعلها مُلزمة لأي طرف.
غير أن كل الأطراف على مستوى أعلى الهيئات السياسية الدولية تعي رمزية وأهمية سربرينيتسا؛ فمن خلال مساعدة سربرينيتسا وإحياء الذكرى العشرين للإبادة الجماعية، تريد عديد القوى السياسية الدولية تأكيد وتعزيز مواقفها داخل منطقة البلقان؛ كم ستُفيد تلك السياسة البراغماتية سربرينيتسا؟ وهل ستُفضي إلى إعطائها قروضًا ميسَّرة لإصلاح الاقتصاد في سربرينيتسا؟ فإن ذلك ما سننتظر الحكم عليه لاحقًا.
هل سيتم من خلال إحياء الذكرى العشرين للإبادة الجماعية في سربرينيتسا التفكير في ضحاياها؟ وهل ستهتم بالناجين منها؟ وهل هناك تفكير في مشاريع تغيِّر من واقعها؟ إن كل السياسات الكامنة وراء كل تلك مشاريع القرارات تؤكِّد تفكيرها في كل ذلك، وأنَّها معنية بحل تلك الإشكاليات كلها؛ لكن الحكم على هذا أيضًا يظلُّ متروكًا للأيام القادمة.
لكن، ومع ذلك، وعلى الرغم من (رمزية أو لا رمزية) أهمية القرارات، التي من الأكيد أن يقترحها الكونغرس الأميركي ومجلس الأمن البريطاني والبرلمان الأوروبي، فإنَّه يبقى من الصعب توقُّع حدوث تحوُّل أو تغيير في المناهج التعليمية، ومناهج تاريخ الثقافة المعاصرة التي تُدَرَّس في مدارس دولة صربيا، وفي مدارس الكيان الصربي في البوسنة والهرسك؛ خاصَّة تلك النصوص التي تتحدث عن الصراعات والمعاناة والحصار والحروب التي عاشتها منطقة البلقان في الفترة ما بين 1992-1999.
مطلوب، بطبيعة الحال، أن يكون هناك سياق دولي تتنزل فيه قضية البوسنة والهرسك وسربرينيتسا أيضًا؛ فلو لم يكن هناك سياق دولي، لما كان هناك حكم قضائي حول الإبادة الجماعية في سربرينيتسا، صادر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي في فبراير/شباط من عام 2007.
للأسف، علينا أن نستحضر على الدوام، أنَّه داخل المجتمعات الصربية في منطقة البلقان، ومنذ مدَّة طويلة، هناك تنميط في الصورة التي تُرَوِّج للرأي العام حول سربرينيتسا وما شهدته من إبادة جماعية في حق أكثر من ثمانية آلاف من أهلها؛ فكما أوردنا من قبل في هذه الدراسة، فإنَّ الرأي العام الصربي، في توجُّهه العام، لا يذكر الإبادة الجماعية في سربرينيتسا، في حين يُنظر إلى فترة الحرب الممتدة بين أعوام 1992-1995 وتُفسّر في سياق بُطولي هدفه حماية الشعب الصربي، وفي سياق تلك الحماية التي خاضها الصرب ضدَّ السلطات التركية في البلقان.
فهل ستؤدي القرارات الجديدة المنتظرة، وما هو قادم من إحياء ذكرى مرور عشرين عامًا على الإبادة الجماعية في سربرينيتسا، إلى إحداث تغيير، ولو طفيف، في قناعات الرأي العام الصربي داخل البلقان؟
من الصعب توقُّع حدوث ذلك؛ لكن ومع صعوبة تحقق ذلك، فإنَّه لابدَّ من العمل في هذا الاتجاه؛ ومن المطلوب تشجيع المؤسسات الصربية من أجل العمل على ذلك، من أجل إعادة النظر في الحروب التي خيضت ضد البوسنة والهرسك في أعوام 1992-1995، وتلك أيضًا التي حدثت في كوسوفو أعوام 1997-1999، وعليهم أن يمتلكوا الشجاعة للنظر في عيون البوشناقيين والكرواتيين والألبانيين.
سربرينيتسا خلال العشريَّتَيْن الماضيتين وفشل السياسة البوشناقية
لم تكن سربرينيتسا، خلال العشرين عامًا الأخيرة، فقط أداة للمساومة على مستوى الساحة السياسية الدولية؛ بل استُخدمت أيضًا وسيلة قبيحة للتحيُّل والْمُغالبة داخل المشهد السياسي البوشناقي في البوسنة والهرسك.
هل مثَّلت قضية إعادة تأسيس بلدية سربرينيتسا، في أي وقت من الأوقات، مصلحة استراتيجية رئيسية لدى السلطات السياسية البوشناقية؟ للأسف، فإن الإجابة سلبية، لماذا؟! فلنتوسَّع بعض الشيء في الإجابة على هذا السؤال؛ وحتى نفعل ذلك، فإننا نحتاج إلى مناقشة معمَّقة للقضايا الأساسية التالية المتعلقة بمأساة سربرينيتسا؛ وتلك القضايا الأساسية هي:
-
قضية عودة المهجرين والناجين من الإبادة الجماعية إلى سربرينيتسا.
-
رفع مستوى الميزانية التمويلية لسربرينيتسا إلى أعلى درجات الأولويات على أجندة السياسة البوشناقية.
-
إعلان سربرينيتسا، التي شهدت الإبادة الجماعية، بلدية تحظى بالأولوية على مستوى الدولة ومصالحها.
إذا بدأنا بالترتيب المدرج أعلاه، فنقول: إنه منذ 1996 وإلى حدود 1999، كانت وتيرة عودة اللاجئين والمهجرين إلى سربرينيتسا بطيئة أو معدومة؛ وفي تلك الفترة، هَجَر عدد كبير من شباب سربرينيتسا مراكز إيوائهم في البوسنة والهرسك وهاجروا إلى دول أوروبا وأميركا؛ وهكذا فإنَّ جزءًا مهمًّا من المكوِّن الديمغرافي لسربرينيتسا يكون قد ضاع وإلى الأبد.
عندما يتعلق الأمر بهجرة أهل سربرينيتسا إلى أوروبا وأميركا، فإن خطأ السياسية البوشناقية والسلطات البوشناقية يتمثَّل في أنها لم تُعِدُّ برامج للعودة إلى سربرينيتسا في الوقت المناسب وبالفعالية المطلوبة، وبالإضافة إلى ذلك، فإن برامج إعادة أهالي سربرينيتسا إليها يجب أن تكون منظَّمة؛ وليست وفقًا لأجندات الحملات الدعائية ولا عشوائية. وإلى ذلك، فإننا نعتقد أن برامج العودة وتقديم المساعدات الاقتصادية للعائدين يجب أن تُنظَّم بشكل يسمح باستيعاب الصرب الذين نزحوا عن سربرينيتسا في فترة الحرب.
وعلى الرغم من أن غياب وجود استراتيجية لمساعدة سربرينيتسا في الفترة ما بين 1992-1995 يمكن تبريرها بالوضع الصعب الذي مرت به البلاد في السنوات الأولى لفترة ما بعد الحرب، فإنَّ ذلك لا يُعفي السياسة البوشناقية من المساءلة وتحميلها المسؤولية.
آثار هذا الخطأ في السياسة البوشناقية تبدو واضحة -وبعد سنوات عديدة بعد الحرب والإبادة الجماعية- في أننا بدأنا نشهد عودة كبار السن إلى سربرينيتسا في الغالب، وهم أشخاص غير قادرين على تجديد النسيج السكاني في سربرينيتسا.
إن حجم الدمار الهائل الذي تعرضت له وتحمَّلته بلدية سربرينيتسا، وهي التي هُدِّم فيها حوالي 6500 (منزل)، ودُمِّر فيها ثلاث من مناطقها الصناعية الكبرى بالكامل، كان من المفروض أن يكون مؤشرًا على أنه يجب التوقف عن الشكوى والبكاء والنحيب على سربرينيتسا، وأن تتخذ السلطات البوشناقية طريقة أخرى في تعاطيها مع سربرينيتسا وأهلها؛ ويتمثَّل في منهجية واضحة في إعادة بناء اقتصاد هذه البلدية.
لقد كان إخفاق السلطات البوشناقية كبيرًا فيما يتعلق بتمويل خطَّة عودة اللاَّجئين والمهجرين من سربرينيتسا؛ الذي لم يكن قط تحت إشراف وتسيير جهة حكومية رسمية منظمة لصندوق التمويل ومراقبته بكل صرامة؛ أما لماذا لم تجعل السلطات البوشناقية على مختلف مستويات المؤسسات الفيدرالية ودولة البوسنة والهرسك صندوق تمويل عودة اللاّجئين والمهجرين ضمن اهتمامات الدولة؟ فذلك يعود إلى التعامل مع سربرينيتسا باعتبارها حالة إنسانية تُعالج في إطار الصَّدقات والتبرعات وجمع الزكاوات، وتعتمد أساسًا على الوعي المتوقِّد وضمائر المتبرِّعين من المؤمنين المتديِّنين؛ حقيقة إنَّ التعاطي مع مساعدة بلدية سربرينيتسا كان خطأ جسيمًا؛ لأنَّه لم يخرج قط من إطاره العاطفي إلى إطارٍ يكون فيه مشروعًا مُنظَّمًا لتقديم المساعدة وإعادة بناء البنية التحتية لتيسير حياة أهالي سربرينيتسا.
بطبيعة الحال، فقد كان هناك إعادة بناء وإعمار للعديد من المرافق والمدارس والمستشفيات المتنقلة في سربرينيتسا في الفترة ما بين 1999-2010؛ كما أنَّ عددًا جديدًا من المساجد بُني وأخرى أُعيد ترميمها إلى جانب عدد من المساكن، وقد كان تمويل أكبر عدد من تلك المساجد والمباني قادمًا من دول إسلامية وصناديق إغاثة إسلامية؛ ومع ذلك، فإنَّ المساعدات التي كان من المفروض أن تخصص إلى أبناء سربرينيتسا؛ أي أولئك الذين بقوا منهم على قيد الحياة، لم تصلهم في الوقت المناسب، وهو ما جعلهم يفقدون الأمل ويغادرون نحو مختلف بلدان العالم، ولم يعد منهم إلى سربرينيتسا سوى عدد قليل منهم.
على سبيل المثال، قبل حرب 1992-1995، كان يعيش في بلدية سربرينيتسا ما يقرب من 37 ألف نسمة، في حين يقدَّر عددهم اليوم في تلك البلدية بحوالي 15 ألف نسمة، لا يتجاوز عدد البوشناقيين منهم النصف.
بعض الإحصاءات الواقعية تتحدث أن عدد البوشناقيين المقيمين في بلدية سربرينيتسا يُقدَّر بحوالي 5 آلاف نسمة فقط؛ وأكبر عدد من سكان سربرينيتسا اليوم، من البوشناقيين والصرب معًا، هم من الفقراء الْمُعدمين، وأغلبهم عاطل عن العمل؛ لأن اقتصاد سربرينيتسا ومصانعها وشركاتها قد تمَّ تدميرها على يد مختلف أباطرة الحرب وغيرهم؛ وعليه فإن اقتصاد سربرينيتسا المدمَّر ما هو إلاَّ ضحية للصراع والمنافسة غير الشريفة بين القوميات والأحزاب السياسية.
ومع ذلك، فإنَّ الوقت لم يفت، والفرصة لا تزال متاحة أمام إعلان إعادة تأهيل أهالي سربرينيتسا وإعمارها كأولوية في السياسة البوسنية والبوشناقية؛ ويمكن أن يكون إحياء الذكرى العشرين للإبادة الجماعية في سربرينيتسا فرصة مناسبة لذلك.
المستقبل بعد عشرين عامًا من جريمة الإبادة الجماعية
بعد مضي عشرين عامًا على جريمة الإبادة الجماعية في سربرينيتسا، تُطرح اليوم الأسئلة التالية: ماذا بعد؟ هل من أمل في السلام؟ هل من أمل أمام حياة آمنة ومزدهرة؟ إن مستقبل سربرينيتسا، ومستقبل البوسنة والهرسك أيضًا، سيكون رهينًا بالأوضاع القائمة في منطقة البلقان، وأوروبا بشكل عام، وكيفية تطوُّرها.
فيما يتعلق بالبلقان، فإنَّ القرار الرئيسي والضروري لإعادة العلاقات إلى مستواها الطبيعي، يبقى، رغم كل شيء، بأيدي السياسيين الصرب؛ فهل سيعمل السياسيون الصرب على تدشين توجُّه رسمي جديد، وإعادة النظر في طريقة فهمهم وتفسيرهم للصراعات والحروب التي دارت في تسعينات القرن الماضي؟ ذلك سؤال تبقى الإجابة عنه متروكة إلى المستقبل.
إن كاتب هذه السطور قد شارك عن كثب في العديد من المؤتمرات بين ممثلي مختلف الديانات وكثير من النقاشات، وخرج منها أحيانًا، ببعض التجارب المريرة.
على سبيل المثال، فإنَّ التوجُّه العام لدى طيف واسع من ممثلي النخبة الأكاديمية الصربية، وعدد كبير من رجال الكنيسة الأرثوذكسية في البلقان، هو اعتبار الإسلام "دينًا أجنبيًّا" في البلقان، وأنه "دين غريب"، و" دين وافد" إلى أوروبا، وعندما يقولون مثل هذا، فذلك يعني أن الإسلام دين "لا ينتمي لا إلى البلقان ولا إلى أوروبا"(8).
وفي سياق ديني بحت، فإن أوروبا بأكملها ما هي إلا قارة مستعمرة؛ حيث وجدت كلٌّ من المسيحية والإسلام موطنًا لهما، وقد وصل الإسلام إلى بعض مناطق أوروبا قبل دخول المسيحية إليها، وفي بعض المناطق الأخرى سبقت المسيحية الإسلام إليها.
علينا اليوم تعليم كل هذا وغيره إلى الأجيال الشابة داخل المدارس وفي الجامعات، علينا تعليمهم ذلك حتى نتجنب الفتن والكراهية بين الأديان، ونُعزِّز التفاهم بين مختلف الأديان والثقافات.
في الوقت الذي نستعد فيه لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية في سربرينيتسا، فإنَّه من الأهمية بمكان أن نأخذ بعين الاعتبار ما نشهده اليوم من تنامي ظاهرة خطيرة في أوروبا؛ وهي التخويف من الإسلام وانتشاره الواسع والمفاجئ؛ بكل تأكيد، هناك دائمًا وجه آخر لأوروبا، وجه إيجابي يعمل من خلال مؤسساته الديمقراطية على منع تحوُّل ظاهرة التخويف من الإسلام إلى أعمال دامية؛ لكن ظهور اليمين المتطرف -من قبيل جماعة بيغيدا في ألمانيا- فيه تهديد جدِّي قد يدمِّر كل العلاقات الطيبة بين المسلمين والمسيحيين.
خاتمة
مستقبل سربرينيتسا والبوسنة والهرسك سيعتمد إلى حدٍّ كبير على طبيعة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا.
وعلى الجميع في الاتحاد الأوروبي وفي أوروبا عمومًا وداخل روسيا وفي العالم بأسره، أن يُدركوا ويعتبروا من مأساة سربرينيتسا؛ فإذا كان انهيار النازية والفاشية خلال الحرب العالمية الثانية قد رافقه ارتكاب جرائم إبادة جماعية ومحرقة لليهود، فإنَّ انهيار الشيوعية في تسعينات القرن الماضي سجَّل إبادة جماعية في حق المسلمين في البوسنة والهرسك. سربرينيتسا تُذَكِّرنا اليوم، في صمت، بكل ذلك وتحذِّرنا من إعادته.
_______________________________________
الدكتور أنس كاريتش، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلاميين في الأكاديمية الإسلامية في سراييفو، وهو باحث متخصِّص في شؤون قضايا البوسنة والهرسك ومنطقة غرب البلقان، وناشط بارز في عدد من الحوارات بين الحضارات والديانات.
ملاحظة: النص أُعِدَّ في الأصل باللغة البوسنية وترجمه إلى العربية الدكتور كريم الماجري.
الهوامش والمراجع
(1) يرى الكثير من المراقبين أن عملية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، زوران دجينديتش، في 12 من مارس/آذار 2003، تندرج في سياق "الصراع بين توجُّهين في صربيا"، ذلك التوجه الذي يروم قيادة البلد نحو الديمقراطية والتنافس الجدي، في مقابل التوجه المتشدد الحالم "بالعهد البطولي" وخرافة موقعة كوسوفو.
(2) وفقًا للتقارير الصحفية الصادرة في الصحف الصربية وفي غرب البلقان فإنَّ المعارض الصربي فوك دراشكوفيتش كان قد تعرَّض لمحاولة اغتيال قبل 15 عامًا.
(3) أبرز من يمثل الخط السياسي الصربي المتشدِّد والنافي لوقوع إبادة جماعية هو رئيس الوزراء الصربي السابق فويسلاف كوشتونيتسا؛ اطلع على ما كتبه حوله نورمان سيغار:
Norman Cigar: Vojislav Koštunica and Serbia?s Future, Saqi Books & The Bosnian Institute, London, 2001.
(4) صدر القرار في لاهاي، عن محكمة العدل الدولية في 26 من فبراير/شباط 2007، وقد تم نشر نص القرار ويمكن العودة إليه على موقع المحكمة الرسمي.
(5) Taylor Branch, The Clinton Tapes, Wrestling History With the President, Simon & Schuster, London/New York/ Sydney/Toronto, 2009. , pp. 9-10.
(6) Taylor Branch, p. 9. (“... key allies objected that an independent Bosnia would be “unnatural“ as the only Muslim nation in Europe.“).
(7) Taylor Branch, p. 9. (“... the British officials also spoke of a painful but realistic restoration of a Christian Europe.“).
(8) حول هذا الموضوع، كتب نورمان سيغار في درساة له تحت عنوان:
The Role of Serbian Orientalists in Justification of Genocide Against Muslims of the Balkans, objavljeno u Islamic Quarterly: Review of Islamic Culture, London, volume XXXVIII, number 3. 1994. pages 147-170