(الجزيرة) |
ملخص ومن مظاهر ذلك:
وتؤكد هذه الورقة أن الطريق نحو مصر التي تريدها ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، لا يرتهن فقط بتعديل مواقف السلطة ومواقف الجماهير، وإنما يرتبط أيضًا بتغيير مواقف النخب الثقافية والسياسية ذات التأثير في توجيه الرأي العام، التي يسهم بعضها في تضليل الجماهير وصرفها عن المشاركة في تعبيد الطريق إلى دولة مدنية ومجتمع ديمقراطي يحقق العيش الكريم والحرية والعدل الوفير للمواطنين. |
مقدمة
بعد انقضاء أربع سنوات ونصف على الخروج الشعبي التلقائي لإسقاط نظام مبارك، وسنتين منذ الخروج الانتقائي المبرمج لإسقاط أول رئيس مدني منتخب، ولفرض سلطة حكم جديدة بقوة السلاح، لا شك في أن الأوان قد آن لمواجهة الروايات المغلوطة والصور الزائفة عن الأحوال المصرية، التي روَّجتها تلك السلطة، والأجهزة الإعلامية التي استجابت لدعوتها إلى أن تكون ظهيرًا يدعم توجهاتها ويُسَوِّق سياساتها للجماهير. كما أنه بات من الأمور الأكثر إلحاحًا أن يراجع الناس على العموم، والنخب ذات التأثير الإعلامي على الخصوص، مواقفهم مما جري منذ 3 من يوليو/تموز 2013؛ انطلاقًا من حقيقة ما آلت إليه أحوال البلاد. وما لهذه الكتابة من غرض سوى عرض الخطوط الرئيسة لصورة مصر اليوم، حتى يتبين البون الشاسع بينها وبين صورة مصر التي أرادتها ثورة يناير/كانون الثاني 2011: دولة مدنية وموطنًا للعيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية.
انقسام مجتمعي واضح
فلنبدأ بحالة الانقسام المجتمعي البغيض؛ التي بدأت قبل أحداث 30 من يونيو/حزيران-3 من يوليو/تموز 2013، التي تنامت بعدها بتسارع ملحوظ بفعل عمليات الإقصاء، وحملات الكراهية والشيطنة والتخوين والتنكيل؛ التي شنتها السلطة وأذرعها الإعلامية بحق قطاع من المجتمع. إن استمرار هذه الحالة يناقض حتى ما وعدت به خريطة طريق 3 من يونيو/حزيران بالتوجه إلى "بناء مجتمع مصري قوي ومتماسك لا يُقصي أحدًا من أبنائه وتياراته، ويُنهي حالة الصراع والانقسام". كما أن السلطة الجديدة لم تفِ بما تعهَّدت به في خريطة طريقها من "تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات تتمتع بمصداقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية، وتمثِّل مختلف التوجهات". بل إنها سارت بأقصى سرعة في طريق إقصاء وقمع المعارضين، وتوسعت في عمليات الترهيب والاعتقال والإخفاء القسري للناشطين، وفي ممارسة التعذيب في أقسام الشرطة والسجون، وفي فضِّ التظاهرات والاعتصامات بالقتل والحرق، وفي فصل طلاب وأساتذة الجامعات وصدور أحكام قاسية بحق الكثيرين منهم.
ومن المفارقات أن هذه العمليات قد طالت عددًا غير قليل من شباب ثورة يناير/كانون الثاني بمن فيهم مَنْ أيَّد السلطة الجديدة، كما أن الحديث عن المصالحة التي دعت إليها خريطة الطريق صار مستهجنًا من السلطة والإعلام الخادم لها، وصار مَنْ يدعو إليها يُرمى بأقذع الصفات ويُتَّهم بخيانة الوطن. ومن المدهش أن تستهجن السلطة دعوات المصالحة والحل السياسي لأزمة الاستقطاب، وتُوَاصِل السير في طريق تأجيج الصراع السياسي والمجتمعي في مصر؛ بينما تحث الأطراف المتنازعة في ليبيا وسوريا واليمن على ضرورة بلورة حل سياسي سلمي لصراعاتها باعتباره الخيار الوحيد المتاح.
ميثاق شرف إعلامي في مهب الريح
وفي زخم الأحداث واشتداد الصخب الإعلامي، تناسى القوم وعدًا آخر لأصحاب خريطة الطريق؛ وهو "وضع ميثاق شرف إعلامي يكفل حرية الإعلام، ويحقق القواعد المهنية والمصداقية والحيدة، وإعلاء المصلحة العليا للوطن". وطغى على الساحة الإعلامية الكثير مما ينافي القواعد المهنية، وما تقتضيه من حيدة ونزاهة وتأدب، وسيطر إعلام الصوت الواحد والرأي الواحد في إهدار بَيِّنٍ لقيم التعددية وحرية الرأي والتعبير. وكثر ترديد الدعوة للاصطفاف الوطني، لا بمفهوم الوحدة الوطنية التي تحتمل اختلاف الآراء والتوجهات، بل بمفهوم انضواء الجميع في طابور الموالاة للحاكم والتهليل له والابتهاج بكل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، حتى إذا اتسم بعضها بالابتذال وأثار الاستهجان؛ مثلما حدث عندما اصطحب الرئيس مجموعة من الفنانين والإعلاميين الموالين له لمساندته في زيارته لألمانيا.
لقد تحوَّل بعض البرامج الإذاعية والتليفزيونية بل والمسلسلات إلى أبواق خاصة للأجهزة الأمنية والمخابراتية، وتمادى بعض القائمين عليها في سبِّ المعارضين وقذفهم وشيطنتهم، وفي الدعوة لأقصى درجات العنف معهم، وفي التحريض على قتل المتظاهرين. وهذا في الواقع من الجرائم التي تستوجب المحاكمة؛ ولكن هيهات أن تطول يدُ الشرطة والقضاء الناطقين باسمهم والمبررين لتجاوزاتهم للقانون وانتهاكاتهم لحقوق الإنسان. وما كان لهذا كله من نتيجة سوى تهتك النسيج الاجتماعي، وتنامي الاستقطاب السياسي، وتحوُّل المجتمع إلى جماعات يتوجَّس بعضها من بعض؛ بل يُعادي بعضها بعضًا؛ وبهذا أُهدرت قيمة التسامح وما إليها من مقتضيات العيش المشترك، وافْتُقِدَ الحدُّ الأدنى من التماسك الاجتماعي؛ الذي لا غنى عنه للشعور بالأمن والأمان، ولإنجاز تنمية قابلة للاستدامة.
إبعاد الرئيس المنتخب والانقضاض على الديمقراطية
وإذا انتقلنا إلى النظر في تطورات الحياة السياسية، يلاحظ أننا حظينا لمدة وجيزة بمجلس نيابي وبرئيس مدني منتخبين انتخابًا حرًّا نزيهًا؛ ولكن سرعان ما حَكَم القضاءُ بحلِّ المجلس النيابي؛ انطلاقًا من اعتبارات يراها بعض كبار القانونيين متعسفة. وسرعان ما أُطيح بالرئيس المنتخب؛ وبذلك حُكِمَتْ مصر طوال الجزء الأكبر من الأربعة والخمسين شهرًا الماضية حكمًا أبعد ما يكون عن الديمقراطية، بواسطة مجلس عسكري، أو رئيس مؤقت، أو منتخب ينفرد بسنِّ القوانين وتنفيذها. ومنذ 3 من يوليو/تموز 2013 صارت مصر تُحْكَم بتحالفٍ للجيش والأمن والرأسمالية الكبيرة التي ترعرعت في عهد مبارك، مع استحواذ الرئيس على سلطتي التشريع والتنفيذ في غياب أي نوع من المشاركة أو الرقابة الشعبية، وعلى الرغم من أن المادة 230 من الدستور تقضي ببدء إجراءات الانتخابات النيابية خلال مدة لا تزيد على ستة أشهر من تاريخ العمل به (وهو يناير/كانون الثاني 2014)، فما زال موعد إجراء هذه الانتخابات في علم الغيب.
ومما يزيد الأمور سوءًا أن البرلمان القادم قد يعمل على استمرار الوضع القائم الذي تسيطر فيه السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية؛ وذلك بالنظر إلى غلبة المقاعد الفردية بمجلس النواب، والعملُ بنظام للقوائم الانتخابية ينطوي على إهدار الكثير من أصوات الناخبين، وذلك في ضوء قانون تقسيم الدوائر الانتخابية الذي صدر مؤخَّرًا وكثرت انتقاداته، وفي ضوء القوانين الجاري الحديث عن مشروعاتها بشأن مجلس النواب والحقوق السياسية.
وقد تمادى النظام الحاكم في استغلال هذا الانفراد بالإسراف الشديد في إصدار القوانين (263 قانونًا في السنتين الماضيتين)؛ وذلك خلافًا لما استوجبته المادة 156 من الدستور من ارتباط إصدار القوانين بقرارات جمهورية بحالة الضرورة. والإفراط في التشريع على هذا النحو يجعل من المستحيل تطبيق المادة 156 من الدستور؛ التي تقضي بعرض التشريعات الصادرة بقرارات من رئيس الجمهورية على مجلس النواب ومناقشتها والموافقة عليها خلال 15 يومًا من انعقاده؛ وذلك مع أن الكثير من هذه التشريعات منتقد حتى من جانب الموالين لسلطة 3 من يونيو/حزيران لأسباب شتى؛ بما فيها شبهة مخالفة الدستور؛ ومن ثمَّ يستوجب التعديل؛ مثل: قانون التظاهر، وقانون منع الطعن في العقود الحكومية من غير أطرافها، وقانون الاستثمار، وقانون مكافحة الإرهاب، والقانون الذي يمنح رئيس الجمهورية سلطة تغيير رؤساء الهيئات المستقلة والرقابية. ولا معنى لاستحالة تطبيق المادة 156 سوى أن هذه التشريعات صارت محصَّنة.
ولم يقف الأمر عند التركز الشديد للسلطة في يد الرئيس وإسرافه في التشريع؛ بل إنه امتدَّ أيضًا إلى التعجل في اتخاذ الكثير من القرارات بما في ذلك تلك المتعلقة بمشروعات كبرى، والمسارعة إلى تنفيذها دون دراسة دقيقة لأولوياتها ولجدواها ولمدى تناسقها مع غيرها من المشروعات؛ وهو ما قد يؤدي إلى سوء استخدام للموارد النادرة، أو إلى تدهور الثقة في النظام الحاكم لعدم قدرته على تنفيذ ما يعلن عنه من مشروعات.
خروقات في السلطة القضائية وغياب العدالة الانتقالية
وفيما يتعلق بما آلت إليه أحوال السلطة القضائية، فإن تقارير المنظمات الحقوقية المحلية والإقليمية والدولية تتوالي كاشفة عن خروقات صارخة للمبادئ والضمانات القانونية المستقرة بشأن ممارسة هذه السلطة؛ فثمة تجاهل للكثير من الإجراءات والحقوق المقررة بالمواد من 51 إلى 60 من الدستور للأفراد عمومًا، ولمن يُقبض عليه أو يُحبس أو تُقَيَّد حريته خصوصًا. وقد زُجَّ في السجون بما يزيد على 40 ألف شخص بتهم يراها بعض القانونيين واهية أو ملفقة، أو حتى دون توجيه تهم محددة. ومع إزالة الحد الأقصى للحبس الاحتياطي بالتعارض مع المادة 54 من الدستور، فإنه تحوَّل من إجراء احترازي إلى إجراء عقابي، ويصدر بعض الأحكام بتعجل في غيبة الشهود، ودون إتاحة فرصة كافية للدفاع عن المتهمين. وازدادت الأمور سوءًا بالتوجه لإصدار تشريع شاذ يجيز للقاضي إصدار حكمه دون استدعاء شهود -وهو ما وافقت عليه الحكومة من حيث المبدأ- أو بإعلان السلطة التنفيذية رغبتها في اختصار مراحل التقاضي بدعوى الإسراع بالبت في القضايا، بما في ذلك الاتجاه إلى إلغاء طعن النيابة على أحكام الإعدام، وهو أمر ملزِم طبقًا للقانون الحالي.
لقد توارى مطلب تطهير القضاء مثلما توارى مطلب تطهير الشرطة، وضاع أمل القصاص من قتلة المتظاهرين مع توالي أحكام البراءة لمبارك وصحبه، وللمتهمين من رجال الجيش والشرطة؛ وبينما تتوالى أحكام البراءة لمن عاثوا في الأرض فسادًا إداريًّا وماليًّا وسياسيًّا طوال ثلاثة عقود، تتوالى أحكام المؤبد والإعدام على الخصوم السياسيين للسلطة لأوهى الأسباب. وتنهار الادعاءات باستقلال القضاء وابتعاده عن السياسة عندما يستهل بعض القضاة أحكامهم ببيانات تنضح بالانحياز السياسي للسلطة الحاكمة؛ كما يكشف بعض الأحكام عن ميل لمسايرة السلطة، كما بدا في الحكم بتجريم الإضراب ومعاقبة الموظفين المضربين بالإحالة إلى المعاش. وكيف يُطْمَأَنُّ إلى الحيدة السياسية للمحكمة الدستورية وقد عاد ليرأسها مَنْ قَبِل أن يكون رئيسًا مؤقتًا للبلاد في الثالث من يوليو/تموز 2013؛ أي من صار رجل سياسة بامتياز. وبينما يُعاقب قضاة لاتهامهم بالاشتغال بالسياسة، يُكافأ بالوزارة قاضٍ اشتهر بالانغماس في السياسة، وجعل من نادي القضاة منتدى سياسيًّا إبَّان الاستعداد لتظاهرات 30 من يونيو/حزيران 2013 وبعدها، وتبدَّد الأمل في العدالة الانتقالية مع غياب أية إرادة سياسية لتفعيلها؛ فقد اكتفى النظام بتخصيص وزارة لها في غياب قانون تنفذه تحقيقًا لهذا النوع من العدالة، حيث رحَّلت لجنة الخمسين مهمة إصدار هذا القانون إلى مجلس النواب في أول دورة لانعقاده.
بطء النمو الاقتصادي وارتفاع معدل البطالة
واستكمالاً لرسم صورة مصر اليوم حتى نتبين مدى بُعدها عن صورة مصر التي رسمتها شعارات ثورة يناير/كانون الثاني 2011، سننظر في ملف الاقتصاد وما يتصل به من قضايا؛ كمستوى المعيشة والفقر واللامساواة، وسوف أبدأ بشهادة مؤسسة مالية لا يمكن اتهامها بمعاداة النظام الحاكم، وهي صندوق النقد الدولي! طبقًا للتقرير الذي أعدته بعثة الصندوق عن أحوال الاقتصاد المصري في فبراير/شباط الماضي، فإن النمو الاقتصادي بطيء، ومعدل البطالة مرتفع، وإن الاقتصاد المصري معرَّض لتحديات ضخمة جرَّاء اختلال التوازنات الاقتصادية الكلية، وانخفاض مستوى كلٍّ من رأس المال البشري والبنية التحتية، وضعف إمكانيات الحصول على التمويل، وارتفاع مستوى الدَّيْن العام، وضعف الاحتياطيات الدولية، وتدهور القدرة التنافسية(1).
ويشير مؤشر سهولة ممارسة أنشطة الأعمال لسنة 2015 الصادر عن البنك الدولي إلى أن مصر احتلت المرتبة 112 من بين 189 دولة؛ أي إنها كانت قريبة من الـ40% الأسوأ أداءً من الدول؛ وعلى ذلك فإن هذا الوضع البائس لم يتغيَّر تغيُّرًا يُذكر عن الوضع المقابل في تقرير 2014؛ حيث كانت مصر تحتل المرتبة 113 من بين 189 دولة(2)، وطبقًا لمؤشر التنافسية العالمية الذي يُصدره المنتدى الاقتصادي العالمي؛ فقد كان ترتيب مصر 119 من بين 144 دولة في تقرير 2014-2015؛ أي إنها كانت ضمن الربع الأسوأ أداءً من الدول. وبالمقارنة بترتيب مصر الوارد في تقرير 2013-2014 (118 من بين 148 دولة، وهو ما يعادل المرتبة 115 من بين 144 دولة) يتضح أن تنافسية مصر قد تراجعت بنحو أربع رتب(3).
لقد كان متوسط معدل النمو الاقتصادي في السنوات الثلاث الماضية نحو 2.2%، وهو ما يقل عن معدل نمو السكان، بما يعني تعرُّض متوسط الدخل الحقيقي للفرد للانخفاض. واقترن النمو المنخفض بارتفاع في معدل البطالة إلى 13.4% مقابل 10% من قبل، والراجح أن المعدل الفعلي أعلى كثيرًا. كما اقترن بوصول نسبة الفقراء والقريبين من خط الفقر إلى 46% وفقًا لصندوق النقد الدولي؛ بينما يرتفع معدل الفقر كثيرًا لو انطلق القياس من خط فقر أكثر مراعاة للاعتبارات الإنسانية. كما أن الغلاء في تزايد؛ حيث بلغ المعدل السنوي للتضخم 13.5% في مايو/أيار 2015، بعد أن كان في حدود 10%(4)، ومن المعلوم أن وطأة الغلاء على الفقراء وأصحاب الدخول الثابتة أشد كثيرًا من وطأته على الأغنياء؛ وهو ما يسهم -إلى جانب السياسات المنحازة للأغنياء، وتقلُّص دور الحكومة في تقديم الخدمات العامة، والتحول إلى النظام النقدي والاستهدافي للدعم بدعوى ترشيده- في تدهور توزيع الدخل، واتساع الفوارق بين الطبقات.
وإذا كانت الحكومة تتحدَّث عن تحسُّن بعض المؤشرات مؤخرًا؛ كمعدل النمو ومعدل البطالة، فإنه تحسُّن محدود وغير قابل للاستمرار؛ لأنه مرتبط بعوامل طارئة كالانخفاض العالمي في سعر البترول والمعونات والقروض التي قدمها بعض دول الخليج، وليس مرتبطًا بتحولات إيجابية في السياسات الاقتصادية والتنموية. كما أنه من الطبيعي عندما توضع تحت تصرف الحكومة موازنة تقترب من 800 مليار جنيه أن يحدث بعض التحسن في بعض القطاعات، أو في الأجور، أو المعاشات، أو الخدمات أيًّا كان مقداره؛ ولكن الأمر المقلق مع هذا الإنفاق الضخم هو أن تستمر تلك الحالة العامة من تواضع الأداء وتذبذبه، وأن تبقى المؤشرات الحاكمة للنمو الاقتصادي في وضع بائس، وعلى رأسها معدل الادخار المحلي (5.2%) ومعدل الاستثمار (14%) حسب بيانات 2013-2014(5)، وليس لذلك من نتيجة سوى تراكم الديون المحلية والأجنبية، والتهام أعباء خدمتها لنسبة كبيرة من الإيرادات العامة، وارتهان قدر غير يسير من دخل الأجيال القادمة للوفاء بفوائد هذه الديون وأقساطها.
المسؤولية السياسية للسلطة الحاكمة عن الأوضاع الأمنية والاجتماعية
ولا شك في أن المسؤولية عن سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن يُلْقَى كلُّها على السلطة الحاكمة منذ 3 من يوليو/تموز 2013؛ فهي تعود في جانب منها إلى مشكلات مزمنة فشل نظام مبارك ونظام السادات من قبله في علاجها؛ بل إنهما زاداها تفاقمًا، كما تعود في جانب آخر منها إلى اضطراب الأوضاع السياسية والأمنية منذ ثورة يناير/كانون الثاني 2011.
ولكن ثمة جانب ثالث من المسؤولية يقع على عاتق سلطة 3 من يوليو/تموز، وهو يتمثل في أمرين:
أولهما: تمسك هذه السلطة بالمنهج الأمني، وما يرتبط به من إجراءات عنيفة، وملاحقات شرطية، وترويع، واعتقالات، وتعذيب، وقتل في مواجهة خصومها السياسيين عمومًا، وبحق المتظاهرين السلميين ونشطاء المجتمع المدني خصوصًا؛ وهو ما ولَّد بدوره ردود فعل عنيفة، وأدخل البلاد في دائرة مفرغة من عنف السلطة والعنف المضاد له، وفاقم من الاضطراب السياسي والأمني؛ وهي ظروف معطِّلة للإنتاج ومعرقِلة للاستثمار والنمو الاقتصادي.
وثانيهما: عجز هذه السلطة عن إخراج السياسات الاقتصادية والاجتماعية من المسار الذي كانت تداعياته السلبية سببًا من أسباب قيام ثورة يناير/كانون الثاني، ومواصلتها السير في هذا المسار مع مستحدثات تزيد من مساوئه. ومن أبرزها التعديلات في قانوني الضرائب على الدخل والاستثمار بدعوى تحفيز المستثمرين، وتأجيل تنفيذ قانون الضريبة على أرباح البورصة، وقصر حق الطعن في العقود التي تبرمها الحكومة مع أي طرف على طرفي العقد، والتوسع في تنفيذ المشروعات بالأمر المباشر؛ لاسيما من خلال الجيش الذي توسع نشاطه الاقتصادي توسعًا هائلاً، علاوة على امتداد نفوذه لشؤون الأمن والإدارة والسياسة؛ بما يسوِّغ الحديث عن عسكرة الاقتصاد والمجتمع، والتسرع في الإعلان عن مشروعات كبيرة؛ بل تنفيذ بعضها، قبل التثبت من أولوياتها وجدواها في تناقض صارخ مع منطق التخطيط؛ وهذه الإجراءات تكرس أسلوب اقتصاد الانفتاح المنفلت؛ الذي عرفته البلاد منذ سبعينات القرن الماضي، وتعمل على ترسيخ التبعية؛ ومن ثَمَّ استدامة التخلف، كما أنها تزيد أسباب الفساد واللامساواة.
الخلاصة
الظاهر مما تقدم أن صورة مصر اليوم بعيدة كل البُعد عن الصورة التي راودت قطاعًا واسعًا من المصريين في 25 من يناير/كانون الثاني 2011، وأغلب الظن أنها بعيدة أيضًا عن تطلعات نسبة غير قليلة ممن تظاهروا في 30 من يونيو/حزيران وأيَّدوا انتقال السلطة بالقوة في 3 يوليو/تموز 2013؛ وإنْ أنكر بعضهم ذلك من باب ردِّ الجميل لمن خلَّصهم من حكم الإخوان. والأمر الأكثر خطورة هو أن هذه الصورة تُنْذِر بتحرُّك مصر نحو مستقبل غير آمن سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا. ولا يُغَيِّر من هذا التوقُّع قليلاً أو كثيرًا الإعلان عن استراتيجية للتنمية المستدامة حني عام 2030؛ إذ تظل هذه الاستراتيجية مجرَّد شعارات وأمنيات معلقة في الهواء؛ ما دام استمر تمسك النظام بنهج اقتصاد السوق الحر المفتوح، وبالرهان على القطاع الخاص المحلي والأجنبي، وبالاندماج في النظام الرأسمالي العالمي من موقع الضعف وغياب التكافؤ.
ومن الغريب أنه بدلاً من أن تستدعي صورة مصر اليوم وما يُرَجَّح أن تؤول إليه في المستقبل مراجعة للمواقف، واستنفارًا للهمم من أجل إنجاز تحوُّل ديمقراطي حقيقي، ومن أجل تغيير جوهري في السياسات الاقتصادية والتنموية يُمَكِّن من التحرُّك الجاد نحو أهداف ثورة يناير/كانون الثاني، أن تصدر عن بعضهم دعوات لتكريس الوضع القائم بكل عيوبه؛ بل الدعوة إلى أمور استهجنوها من الرئيس المعزول محمد مرسي واتخذوا منها ذريعة لإزاحته؛ منها: الدعوة إلى تحصين مجلس النواب القادم بتأجيل تطبيق أي حكم ببطلان قوانين البرلمان تصدره المحكمة الدستورية إلى الانتخابات التالية. وفضلاً عن ذلك -وبالتناقض الصارخ مع إلحاح السلطة على اختصار مدة التقاضي- فقد أصدر رئيس الجمهورية القرار بقانون 91 لسنة 2015؛ الذي أعفى المحكمة الدستورية العليا من الالتزام بالمواعيد التي كانت مقررة في القانون 26 لسنة 2014 بشأن الدعاوى الدستورية المتعلقة بالانتخابات الرئاسية والنيابية؛ حيث كانت المحكمة ملزمة ضمن أمور أخرى للإسراع بالفصل في الدعوى الدستورية في ميعاد لا يجاوز خمسة أيام من تاريخ أول جلسة محددة لنظرها(6).
ومن الأمور الغريبة أيضًا السعي لتحقيق رغبة السلطة في تعطيل الحق في التظاهر والإضراب؛ وذلك بتقديم قيادة الاتحاد الرسمي للعمال ضمن ما أسمته ميثاق الشرف تعهدًا برفض الإضراب، والتزامًا بقصر حسم المنازعات العمالية على الحوار مع الحكومة وأصحاب الأعمال، كما يستمر هذا الاتحاد في دعم رفض السلطة الحاكمة إنشاء منظمات عمالية مستقلة، مع أن مطلب إنشاء هذه المنظمات كان من المطالب الشهيرة لثورة يناير/كانون الثاني.
ومما يثير الأسى أن يدعو نفر من النخب الثقافية والسياسية إلى غلق باب المعارضة للرئيس وأعوانه لمدة ستة أشهر، أو حتى تاريخ الانتخابات النيابية المقبلة، وتركه ليعمل بالطريقة التي أرادها لنفسه، ومنحه الوقت والفرصة لتصحيح الأخطاء التي وقعت، ولو كانت جسيمة أو خطيرة(7)؛ ويا لها من دعوة خطيرة لشرعنة حكم الفرد وتمهيد الطريق لطغيانه! وكأنه لم يكفِ البلاد ما تعانيه من انفراد الرئيس بسلطتي التشريع والتنفيذ في غيبة أية مشاركة أو رقابة شعبية، ومن تقييد وانتهاكات لحقوق الإنسان، فأراد هؤلاء إطلاق يده في حكم البلاد بالامتناع عن معارضته، والاكتفاء معه "بالكلمة اللينة والنصح الرقيق". ويبدو أنه لم يدر بخلد أصحاب هذه الدعوة أن الاستبداد الذي استمر لعقود في بعض البلاد -ومنها مصر- كثيرًا ما بدأ بإجراءات قيل: إنها مؤقتة، وسرعان ما ستُلغى. ولكنها استمرت في التجدد والتوسع مع تضخم نفوذ الحاكم ومع تبرير المنافقين وأصحاب المصالح لهذا التضخم بالمصلحة الوطنية.
إن هذه الدعوات الشاذة تؤكد أن انفتاح الطريق نحو مصر التي نريدها لا يرتهن فقط بتعديل مواقف السلطة ومواقف الجماهير، وإنما يرتبط أيضًا بتغيير مواقف النخب الثقافية والسياسية ذات التأثير في توجيه الرأي العام، التي يسهم بعضها في تضليل الجماهير، وصرفها عن المشاركة في تعبيد الطريق إلى دولة مدنية ومجتمع ديمقراطي يحقق العيش الكريم والحرية والعدل الوفير للمواطنين.
____________________________________
إبراهيم العيسوي: خبير اقتصادي، وسياسي مصري.
المراجع والهوامش
(1)International Monetary Fund(IMF), Arab Republic of Egypt, Staff Report for the 2014 Article IV Consultation, completed 13 Jan.2015, issued after IMF Executive Board discussion in Feb. 2015.
(2)World Bank ,Doing Business , 2014 and 2015 Reports.
لاحظ أن ترتيب مصر في عام 2014 هو الترتيب المعدل من جانب البنك الدولي للترتيب الوارد في تقرير 2014 (وهو 128 من 189 دولة)؛ وذلك بعد إجرائه لبعض التصحيحات في البيانات، ولمراعاة التغير في منهجية إعداد المؤشر.
(3) World Economic Forum, Global Competitiveness Report, 2013-2014 and 2014-2015 Reports
(4) هذه البيانات مستمدة من: وزارة المالية، التقرير المالي الشهري، مجلد 10، عدد 7، القاهرة، مايو/أيار 2015، ومن: وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري، أهم مؤشرات الأداء الاقتصادي والاجتماعي خلال النصف الأول من العام المالي 2014-2015، القاهرة، 7 مايو/أيار 2015.
(5) وزارة المالية، مرجع سبق ذكره.
(6) انظر خبر إصدار القرار بقانون 91 لسنة 2015 في: جريدة الأهرام، عدد 29، يوليو/تموز 2015.
(7) راجع مقال د. محمد عبد الشفيع عيسى: "قبل أن تندلع النيران: نداء إلى كلمة سواء"، جريدة الأهرام، عدد 9، يونيو/حزيران 2015، وتأييد د. أسامة الغزالي حرب لدعوة عبد الشفيع في عموده اليومي في جريدة الأهرام، عدد 11، يونيو/حزيران 2015.