اتفاق دايتون للسلام: ماذا تحقق؟ وما المُنتظر؟ (1/4)

تُجري هذه الدراسة، في أجزائها الأربعة، تقييمًا شاملًا لاتفاقيات دايتون للسلام بعد عشرين عامًا من توقيعها رسميًّا في 14 ديسمبر/كانون الأول 1995 في دايتون/أوهايو الأميركية، برعاية دولية، بين ممثِّلين عن مختلف الأطراف المنخرطة في حرب البوسنة ما بين 1992 و1995.
20151126155053402734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
تُجري هذه الدراسة، في أجزائها الأربعة، تقييمًا شاملًا لاتفاقيات دايتون للسلام بعد عشرين عامًا من توقيعها رسميًّا في 14 ديسمبر/كانون الأول 1995 في دايتون/أوهايو الأميركية، برعاية دولية، بين ممثِّلين عن مختلف الأطراف المنخرطة في حرب البوسنة ما بين 1992 و1995.

يجادل الكاتب، في الجزء الأول من الدراسة، بأنَّ من المفارقات الواضحة خلال العقدين الماضيين، أنَّ اتفاق دايتون للسلام الذي أنهى أربع سنوات من الحرب التي شُنَّت على البوسنة والهرسك، قد فرض أيضًا وبشكل مباشر مشروعين متعارضين جذريًّا في هذا البلد -الذي حصل على استقلاله عام 1991 عقب استفتاء عام  نُظِّم ما بين 29 فبراير/شباط والأول من مارس/آذار 1992-. فمن ناحية، فرض دايتون مسار بناء الدولة الجديدة وإحلال السلام الإثني، لكن من ناحية ثانية، فرض الاتفاق أيضًا مأسسة تقسيم إثني صارم في البوسنة والهرسك، ويقدِّر الكاتب أن اتفاق دايتون للسلام، من خلال ما أنتجه من آثار، يُمثِّل الدليل على التناقض الجوهري للتدخل الدولي الذي صنَّف الحرب في البوسنة، منذ البداية، على أنها حرب أهلية. إلا أن كاتب هذه الدراسة يختلف بالكامل مع ذلك التصنيف ويرى أنها قطعًا لم تكن "حربًا أهلية" حتى من وجهة نظر القانون الدولي، لأن الهدف منها كان محو دولة البوسنة وتقسيم أراضيها بين الجارتين العدوتين صربيا وكرواتيا.

وبالرغم من أن دايتون أحلَّ السلام، غير أن البوسنة والهرسك، بعد مرور عشرين عامًا، لا تزال تمثل محمية تقليدية خاضعة بالكامل، عمليًّا، إلى المجتمع الدولي دون وجود آفاق قد تُعيد لها وضعها كدولة ذات سيادة في المستقبل القريب.

من أجل فهم هذا الاتفاق وأهميته بالنسبة للوضع السياسي الراهن في البوسنة والهرسك، فإنَّ الدراسة تقدم في جزئها الأول هذا توضيحًا خاطفًا للأحداث التي أدَّت إلى إبرام اتفاق دايتون، كما تبحث في مواقف وأدوار اللاعبين الدوليين أثناء الحرب وكذلك خلال المفاوضات، وفصَّلت الدراسة في أهم التحديات التي واجهها الفريق المفاوض بقيادة ريتشارد هولبروك، كبير المفاوضين الذي أشرف على تلك المحادثات.

مقدمة

بعد التوصل إلى الاتفاق في دايتون(1)، أعلن الرئيس كلينتون ما يلي:

"إن رؤساء البوسنة وكرواتيا وصربيا، قد اتخذوا قرارًا تاريخيًّا وبطوليًّا. لقد استجابوا إلى إرادة شعوبهم. بقطع النظر عن انتماءاتهم الإثنية، فإن الأغلبية الساحقة من سكان البوسنة وسكان كرواتيا وصربيا يريدون الشيء ذاته. إنهم يرغبون في إيقاف المذابح، يريدون وضع حدٍّ للعنف والحرب، إنهم يريدون أن يمنحوا أبناءهم وأحفادهم الفرصة ليعيشوا حياة طبيعية"(2).

بعد عشرين عامًا عن ذلك، لا يزال أطفال وأحفاد شعوب البوسنة وكرواتيا وصربيا يعيشون حياتهم الطبيعية -بشكل ما- في إطار صارم لاتفاق دايتون للسلام. هذا ما توضحه فعليًّا مذكرة رسمية صادرة عن جامعة دايتون، التي تؤكد بكل فخر، أن الرئيس بيل كلينتون سيشارك في احتفالات الذكرى العشرين لاتفاق دايتون للسلام المزمع إقامتها في شهر نوفمبر/تشرين الثاني. ووفقًا لهذه المعلومة، فإن الرئيس كلينتون سيكون ضمن زعماء ورؤساء العالم الحاليين والسابقين المشاركين في تلك الاحتفالات. وسيكون كلينتون محاضرًا رئيسيًّا أثناء حفل غداء في يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني، وهو اليوم الأول من ندوة خاصة بتخليد الذكرى العشرين لإبرام اتفاقية دايتون للسلام في المركب الجامعي-دايتون. وقد حصل ذلك بالفعل وشارك كلينتون في تلك الاحتفالات.

إن دايتون لا تزال أهم وثيقة بالنسبة للبوسنة والهرسك تُنظِّم كل أنشطة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتخلِّد سنة 2015 حدثين على غاية الأهمية في تاريخ البوسنة والهرسك الحديث، مرتبطين فيما بينهما: الإبادة الجماعية في سربرينيتسا واتفاق دايتون الذي وُقِّع في أعقاب أحداث جريمة الإبادة الجماعية في سربرينيتسا في يوليو/تموز من عام 1995، وقد أضاف قصف حلف الناتو مواقع جيش صرب البوسنة زخمًا قويًّا إلى الضغوط المُمارَسة على رئيس يوغسلافيا، سلوبودان ميلوشيفيتش، من أجل وقف العدوان على البوسنة والهرسك.

بالرغم من أن النتائج لم تكن آنيَّة، إلا أنها عجَّلت بتوقيع اتفاق دايتون للسلام ووضعت نهاية لثلاثة أعوام ونصف من الحرب الوحشية الأشرس في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1995 أقنع فريق المفاوضات، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، زعماء بلدان المنطقة بالتوقيع على اتفاق دايتون للسلام. وقد شرح رئيس الفريق المفاوض الأميركي، ريتشارد هولبروك، أن اتفاق دايتون للسلام تم تصميمه وتوقيعه من أجل "... تحويل أيام الهدنة الستة إلى سلام دائم، والتوصل إلى اتفاق حول دولة متعددة الإثنيات"(3).

من المفارقات الواضحة خلال العقدين الماضيين، أن اتفاق دايتون للسلام فرض بشكل مباشر مشروعين متعارضين جذريًّا في البوسنة؛ فمن ناحية، فرض دايتون مسار بناء الدولة الجديدة وبناء السلام الإثني، لكن من ناحية ثانية، فإن دايتون فرض أيضًا مأسسة تقسيم إثني صارم في البوسنة والهرسك!؟ وبهذا، وأكثر من أية وثيقة أخرى في تاريخ البوسنة الحديث، فإن اتفاق دايتون للسلام، من خلال ما أنتجه من آثار، يُمثِّل الدليل على التناقض الجوهري للتدخل الدولي.

لابد من الملاحظة أيضًا أن هدف الاتفاق الأساسي كان إقامة نظام مراقبة دولية مؤقتة على الانتشار العسكري على الأرض، إلى جانب بناء دولة جديدة وترسيخ السلام في المنطقة.

تطلَّبت ملحقات اتفاق دايتون الإحدى عشر؛ أن تكون الدولة البوسنية الجديدة معتمدة بشكل كبير على الإشراف الدولي، على أن ينتهي ذلك الإشراف مع تنظيم أول انتخابات عامة في سبتمبر/أيلول من عام 1996، ومن ثم تتحول سلطات صناعة القرار تدريجيًّا إلى السلطات المركزية البوسنية. وعلى القوات المسلحة والمؤسسات الحكومية أن تكون مراقَبة بشكل واسع من قِبل المنظمات الدولية وأن يتم تعيين المسؤولين من طرف جهة خارجية، وذلك على امتداد ست سنوات من تاريخ توقيع اتفاق دايتون. كل أبعاد التدخل الدولي هذه تم تدوينها في دستور البوسنة وفي وثائق عمليات إعادة البناء التي تلت الحرب. وهكذا، كانت قطاعات الجيش والسياسية والقضاء والاقتصاد خاضعة لرقابة خارجية مباشرة من قِبل مراقبين عيَّنهم مختلف المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والمجلس الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا وصندوق النقد الدولي.

من ناحية أخرى، وبعد مرور عشرين عامًا، لا تزال البوسنة والهرسك تمثِّل محمية تقليدية، خاضعة بالكامل، عمليًّا، إلى المجتمع الدولي دون وجود آفاق قد تعيد لها وضعها كدولة ذات سيادة في المستقبل القريب.

من أجل فهم هذا الاتفاق وأهميته بالنسبة للوضع السياسي الراهن في البوسنة والهرسك ( بما في ذلك علاقاتها مع كلٍّ من صربيا وكرواتيا)، فإنه من الضروري إجراء توضيح للأحداث التي أدَّت إلى إبرام اتفاق دايتون.

على إثر تفكك الاتحاد اليوغسلافي، عرض المجتمع الدولي الاعتراف بوضع الدولة المستقلة ذات السيادة لكل الجمهوريات اليوغسلافية السابقة شريطة إجراء استفتاء شرعي يكون القرار فيه للشعب. صوَّت أغلب مواطني البوسنة والهرسك في استفتاء على الاستقلال independence referendum نُظِّم في البوسنة والهرسك Bosnia and Herzegovina ما بين 29 فبراير/شباط والأول من مارس/آذار 1992، وقد شارك في الاستفتاء 63,4% من مجموع الناخبين المؤهَّلين، صوَّت 99,7% منهم لصالح استقلال البوسنة والهرسك. في الثالث من مارس/آذار 1992، أعلن رئيس مجلس الرئاسة في البوسنة والهرسك، علي عزت بيغوفيتش Alija Izetbegovic استقلال جمهورية البوسنة والهرسك Republic of Bosnia and Herzegovina، ثم صادق البرلمان على ذلك. في السادس من إبريل/نيسان اعترفت الولايات المتحدة الأميركية United States ودول الاتحاد الاقتصادي الأوروبي European Economic Community باستقلال دولة البوسنة والهرسك، التي أصبحت عضوًا في الأمم المتحدة United Nations في 22 من مايو/أيار من نفس العام تحت الاسم الدستوري "جمهورية البوسنة والهرسك".

وفي خطوة استباقية لنتائج الاستفتاء حول الاستقلال، أصدر رئيس يوغسلافيا الاتحادية (المشكَّل من الجمهوريتين اليوغسلافيتين السابقتين: صربيا والجبل الأسود) سلوبودان ميلوشيفيتش في شهر يناير/كانون الثاني عام 1992 قرارًا سريًّا يقضي بنقل كل ضباط الجيش الصرب المولودين في البوسنة والهرسك إلى جمهورية صربيا الاشتراكية Socialist Republic of Serbia وإعادة تجنيدهم في جيش صرب البوسنة الجديد(4).

أمَّا كوْن هذا العدوان كان قد تم التحضير له بعناية بشكل مسبق، فتؤكده حقيقة حصول اتفاق بين الرئيسين الكرواتي، فرانيو تودجمان، والصربي، سلوبودان ميلوشيفيتش لاحتلال وتقاسم البوسنة والهرسك وفقًا لما يُعرف باسم اتفاقيات كارادجوردج وغراتس، كما أنهما خطَّطا لعمليات عسكرية مُتزامنة حرَّكا خلالها قواتيهما العسكريتين ضد جيش البوسنة والهرسك، ونجحا في احتلال ما يزيد عن70% من أراضيها في غضون الأشهر الأولى من العدوان.

أمَّا بالنسبة لحكومة يوغسلافيا وقوات جيش جمهورية الجبل الأسود، بالإضافة إلى صرب البوسنة Bosnian Serbs المدعومين من قبل حكومة صربيا Serbian government والجيش الشعبي اليوغسلافي Yugoslav People's Army، فقد حرَّكوا قواتهم، في عملية عدوان واسعة على جمهورية البوسنة والهرسك بهدف استكمال عملية "التطهير العرقي"(5) “ethnic cleansing” ضد الشعبين البوشناقي المسلم والكرواتي(6).

في بدايات الحرب العدوانية قاتلت قوات الجيش الشعبي اليوغسلافي بشكل مباشر إلى جانب صرب البوسنة، وبعد الخامس من مايو/أيار 1992، كان على صربيا سحب جنودها من البوسنة -التي كانت في ذلك الوقت معترَفًا بها كدولة سيدة مستقلة- تحت ضغط المجتمع الدولي. بعد ذلك التاريخ، سُلِّم الجيش الشعبي اليوغسلافي مقاليد قيادة ما يُقدَّر بألف جندي من القوات المدربة، وبالتالي أنشأت صربيا فعليًّا جيش صرب البوسنة.

النسبية الأخلاقية للمجتمع الدولي كعذر لعدم فعل شيء(7)

في الفترة الممتدة ما بين إبريل/نيسان 1992 وإلى نهايات العام 1994، تعاطت الولايات المتحدة الأميركية ومنظمة الأمم المتحدة وكذلك الاتحاد الأوروبي مع العدوان على البوسنة والهرسك باعتباره قضية أوروبية داخلية، متجاهلين حقيقة أن البوسنة عضو في الأمم المتحدة، وقد عبَّر بيانان لا يُنسيان عن هذا الموقف؛ فبينما أعلن رئيس وزراء لوكسمبورغ بنشوة المنتصر أن "ساعة أوروبا قد أشرقت"، كان وزير خارجية أميركا، جيمس بيكر، يعبِّر عن الموقف الرسمي للولايات المتحدة الأميركية، عندما قال: "نحن –أميركا- ليس لدينا مصلحة في هذه الحرب"(8).

ووفقًا لما ذهب إليه دانيال كونفيرسيDaniel Convesi ، فإن الدول الغربية في تلك الفترة، صنَّفت الصراع على أنه حرب أهلية، "حرب لا ضحية فيها ولا معتدٍ"؛ حيث عُومل كلُّ الأطراف بصفتهم "فصائل متحاربة"(9). لكن، وكما رأينا، فإن ما سُمِّيت "حربًا أهلية" لم تكن في الواقع غير عدوان على دولة البوسنة والهرسك المستقلة ذات السيادة والعضو في منظمة الأمم المتحدة.

قطعًا لم تكن "حربًا أهلية" حتى من وجهة نظر قانونية؛ فالحرب الأهلية لا تهدد وجود الدولة في ذاتها. تُشير أمثلة الحرب الأهلية في فرنسا عام 1789 وحرب روسيا الأهلية 1918/19، وغيرهما من أمثلة الحروب الأهلية الكثيرة، أن هدف الحرب الأهلية، في الأساس، لا يضع مسألة وجود الدولة ذاتها محل تساؤل، بل يسعى فقط إلى تنحية النخبة الحاكمة أو تغيير النظام السياسي والاجتماعي! وفي حالة البوسنة والهرسك، فإن الهدف كان محو دولة البوسنة بغرض تقسيم أراضيها بين صربيا وكرواتيا كما يظهره بوضوح اتفاق ميلوشيفيتش-تودجمان الذي توصلا إليه في كارادجوردجيفا وغراتس!

تقبَّل الدبلوماسيون وصُنَّاع القرار الغربيون هذا التوصيف على أنه حقيقة لا تقبل الجدل -أو على الأقل أرادوا الاعتقاد بذلك لتبرير تخاذلهم- ورضوا بما قدمه الباحثون والمؤرِّخون من تفسيرات تقول: إن العداءات القديمة هي السبب الذي أدَّى إلى نشوب الحروب في كرواتيا والبوسنة، ولجعْل الأمور أكثر سوءًا، فإن الزعماء الغربيين تمسكوا بالقول بمسؤولية كل الأطراف المتساوية عن نشوب الحرب، غير أن هذا التفسير يُخفي حقيقة غاية في الأهمية؛ هي أن الصرب ارتكبوا 90% من الفظائع -بما فيها التطهير العرقي والاغتصابات المُمنهجة للنساء وعمليات القتل الجماعي(10).

منعت مصالح دول أوروبا المتناقضة الاتحاد الأوروبي من أن يتحرك بصفته كتلة تفاوضية موحدة بأهداف ومطالب محددة وواضحة؛ فالعلاقات الروسية-الصربية من ناحية، والتعاطف المؤيِّد للصرب من قِبل البريطانيين والفرنسيين خلال عهدي إدارتي جون ميجور وفرانسوا ميتران، من ناحية أخرى، منعا من اتخاذ إجراءات فعلية ضد الصرب من قبيل رفع الحظر عن الأسلحة إلى البوسنة والهرسك أو حظر القصف الجوي الصربي عليها(11)؛ هذا بالإضافة إلى فشل الدبلوماسيين الأوروبيين في ضمان تنفيذ أربعة مشاريع سلام: خطة كارينغتن-كوتيلايرو (Carrington-Cutileiro) المقترحة في عام 1992، والتي دعت إلى إقامة كونفيدرالية كانتونات على الطريقة السويسرية، وخطة فانس-أوين Vance-Owen (ربيع 1993)، و"الخطة التي لا تقبل الفشل" "Invincible plan" (سبتمبر/أيلول 1993)، وأخيرًا خطة مجموعة الاتصال (مايو/أيار 1994) التي اقترحت تقسيم البوسنة وفقًا للخارطة الإثنية.

وجدت كل مشاريع خطط السلام تلك رفضًا، إمَّا من طرف الحكومة المسلمة أو نظيرتها الصربية(12)؛ ففي حين رفض صرب البوسنة خطتي فانس-أوين ومجموعة الاتصال، فإن الرئيس عزت بيغوفيتش لم يكن راضيًا عن المقترحات الثلاثة الأخرى بداعي أنها تمنح المسلمين رقعة صغيرة من أرض البوسنة والهرسك. ومع ذلك، فإن ما وصفه هولبروك بـ"الغباء الوحشي لصرب البوسنة" بدأ يُحدث تغييرًا في مواقف الزعماء الغربيين؛ حيث لم يعد بإمكان أحد تجاهل جرائم مثل القصف المدفعي الذي استهدف سوقًا في سراييفو في الخامس من فبراير/شباط 1994، أو مذبحة سربرينيتسا التي أودت بحياة أكثر من 8 آلاف مسلم من الرجال والأطفال كانوا يحتمون بـ"مخيم آمن" تابع للأمم المتحدة في يوليو/تموز 1995؛ وقد نقلت شبكة سي إن إن وبعض المراسلين الشجعان مثل روي غوتمانRoy Gutman وديفيد رود David Rohde صور تلك الجرائم للعالم(13).

هكذا تحولت أنظار العالم من "وهم فظ السلام المحايد" إلى إعلان الصرب كمعتدين ووصف المسلمين بالضحايا(14).

انسحبت قوات الجيش الصربي بشكل فوضوي ومن دون أن تُبدي أية مقاومة تُذكر؛ فقد تخلَّى عنهم ميلوشيفيتش ولم يهبَّ لنجدتهم. وعلاوة على ذلك، فإن الجيشين الكرواتي والبوشناقي المسلم بدَءَا هجومًا مضادًّا خلال الصيف وتمكَّنا من استعادة مساحات واسعة من الأراضي الواقعة في غرب ووسط البوسنة. وتمكَّن مسلمو البوسنة -رغم فرض حظر مدِّهم بالأسلحة من طرف الأمم المتحدة- من الحصول على بعض الأسلحة، مع أن الكرواتيين لم يسمحوا بتمرير الأسلحة الثقيلة لهم بهدف الإبقاء على تفوق قواتهم في مقابل قوات المسلمين(15).

كما أن العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على جمهورية يوغسلافيا الفيدرالية كانت قد بدأت في التأثير على نظام بلغراد. عند هذه النقطة، بدأت الإدارة الأميركية في رسم أسس الجهود الجديدة للمفاوضات حول البوسنة. تلك الجهود الجديدة ستكون، لأول مرة، تحت قيادة أميركية، وستعتمد ليس فقط على جهود دبلوماسية مكثفة، ولكن أيضًا على التلويح باستخدام قوات حلف الناتو من أجل حمل الأطراف إلى القبول باتفاق يضع حدًّا للحرب. وقد كان ريتشارد هولبروك هو الشخص الذي اختير من قبل الإدارة الأميركية لتدشين ما سيُصبح يُعرف بـ"عهد الدبلوماسية الجديدة في البلقان".

على مسرح المفاوضات

بالرغم من أن مقترح المبادئ الأساسية لاتفاق دايتون قد تم طرحه خلال محادثات دولية شهدتها بدايات العام 1992، فإن انطلاق تلك المفاوضات جديًّالم يبدأ إلا بعد فشل كل جهود السلام المبذولة سابقًا من أجل التوصل إلى اتفاق بين الأطراف, وما تلاها في شهر أغسطس/آب من عمليات عسكرية كرواتية، كان أهمها "عملية العاصفة"، بالإضافة إلى الهجمة العسكرية الحكومية ضد "ريبوبليكا صربسكا". خلال شهري سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول من عام 1995، اجتمع ممثلو الدول العظمى (خاصة أميركا وروسيا) في إطار مجموعة الاتصال، وفرضوا ضغوطًا مكثفة على زعماء الأطراف الثلاثة وحملهم على المشاركة في مفاوضات دايتون، أوهايو.

ضمَّت قائمة أهم الأشخاص المشاركين في المفاوضات كلًّا من كبير المفاوضين الأميركيين ومساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية، ريتشارد هولبروك؛ والرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش، والرئيس الكرواتي، فرانيو تودجمان؛ والرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش.

خلال المفاوضات الطويلة، واجه هولبروك ثلاثة تحديات تفاوضية كبرى.

أولًا: كان يتوجب عليه إيقاف الحرب الدموية. ثانيًا: كان عليه ضمان سلامة عمليات انسحاب قوات حفظ السلام، التي كانت، فعليًّا، رهينة لدى قوات صرب البوسنة. وثالثًا: كان على هولبروك العمل على إيجاد صيغة مقبولة لتوزيع أرض البوسنة التي ستقود إلى تقسيمها بشكل يحول دون تجدد الصراع. وكانت أول خطوة نفَّذها هولبروك هي محاولته تبسيط هيكلية الفريق المفاوض وذلك بـ"توحيد الغرب عن طريق إخضاع أهم اللاعبين الأوروبيين لهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على كامل العملية التفاوضية"(16). وبالتالي، فإن هدف هولبروك الأول كان التوصل إلى اتفاق حول حزمة من المبادئ التي تعالج في المقام الأول الترتيبات المؤسسية، وهي: الاعتراف بالحدود البوسنية القائمة، والقبول بإقامة كيانين داخل البوسنة؛ أحدهما للبوسنيين المسلمين والكروات، والثاني للبوسنيين الصرب، وتمكين كل كيان منهما من إقامة علاقات مع دولتي الجوار، والتوصل إلى تأكيد على الالتزام بحقوق الإنسان.

وقد أثبتت الوقائع أن هذه النقطة الأخيرة كانت الأكثر جدلية بالنسبة للزعماء البلقانيين الثلاثة. استطاع هولبروك وفريقه المفاوض، بمواصلته التأكيد وتذكير الزعماء البلقانيين بأن تلك كانت الفرصة الأخيرة لوضع حدٍّ للحرب الدائرة بمساعدة الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي، إقناع كل الزعماء بالتنازل عن مساحة من الأرض بهدف التوصل إلى إنهاء الحرب وإحلال السلام في المنطقة. فقد كان الزعماء يعلمون أن ذلك في مصلحتهم على المدى البعيد، لأن شعوبهم كانت تعاني، وأنها كانت في وضعية لا يبدو أنها في طريقها إلى الانفراج. كما كانوا مهدَّدين بفرض عقوبات عليهم وكانوا أيضًا يعلمون أنهم بفقدانهم الدعم الأميركي فسيواجهون وضعًا أسوأ إذا ما واصل الأوروبيون قيادة المفاوضات في المستقبل(17).

أبدى هولبروك إصرارًا غير عادي على الوصول إلى هدفه (وهدف حكومته)، وكان قادرًا على الدفع إلى الأمام برغم إرهاق الجميع. وقد وصف روجر فيشر هولبروك بأنه كان "مصارعًا أكثر منه مفاوضًا"(18)، ومع ذلك، كانت تكتيكاته فعَّالة في التعاطي مع الزعماء البلقانيين، في مقابل فشل كل أشكال التفاوض الأخرى التي قادها الأوروبيون والأمم المتحدة والرئيس كارتر ولم تؤدِّ إلا إلى تشدُّد مواقف القادة البلقانيين. ووفقًا لشهادة هولبروك، فإن القادة البلقانيين لا يستجيبون إلا وهم تحت الضغط وممارسة أسلوب "البلطجة".

إحدى أهم النتائج التي حققها الاتفاق أنه قضى بتمكين الأقليات المهجَّرة قسرًا من العودة إلى الأماكن التي هُجِّروا منها قبل الحرب في بعض مناطق البوسنة، لكن مع الأسف، فإن تلك الأماكن كانت في الغالب تقع داخل أراضي الفيدرالية، في حين لم يعد سوى القليل من المهجَّرين إلى ريبوبليكا صربسكا(19).

قاد مفاوضات مؤتمر السلام كل من وزير خارجية أميركا، وارن كريستوفر، والمفاوِض، ريتشارد هولبروك، مع ممثلين -مساعدي الرئيس- أحدهما عن الاتحاد الأوروبي وهو الممثِّل الخاص، كارل بيلدت، ووزير خارجية روسيا سيرغي لافروف. شارك في البعثة الأميركية الجنرال ويسلي كلارك (أصبح لاحقًا القائد العام لقوات التحالف -الناتو- في العام 1997). وترأَّس فريق البعثة البريطانية بولين نيفيل-جونس، ورافقها الممثل العسكري البريطاني العقيد أرونديل ديفيد ليكي (أصبح في العام 2005 قائد القوات الأوروبية). وكان الممثل القانوني لحكومة البوسنة والهرسك خلال المفاوضات السيد بول وليامس، عن مجموعة القانون الدولي العام والسياسات.

اختيار الموقع المحصَّن كان بهدف نقل كل الأطراف المشاركة من مواقعها المريحة لتحفيزها على المشاركة الفعَّالة في المفاوضات؛ وتقليل حظوظهم في التفاوض عبر وسائل الإعلام؛ ولتأمين إقامة ما يزيد عن 800 مشارك وضيف. كان للحدِّ من قدرة المفاوضين على اللجوء إلى التفاوض عبر وسائل الإعلام أهمية خاصة؛ حيث كانت رؤية هولبروك في ذلك تقوم على عدم ترك أي مجال للتسريبات الإعلامية. بعد أن تم التوقيع عليه بالأحرف الأولى في دايتون، أوهايو في 21 نوفمبر/تشرين الثاني، خضع الاتفاق النهائي رسميًّا إلى التوقيع عليه في باريس في 14 ديسمبر/كانون الأول 1995، وقد شهد حفل التوقيع كل من الرئيس الفرنسي جاك شيراك، والرئيس الأميركي بيل كلينتون، ورئيس وزراء بريطانيا جون ميجور، والمستشار الألماني هيلموت كول، ورئيس وزراء روسيا فيكتور تشيرنوميردين.

أهم أهداف الاتفاق كان تعزيز السلام والاستقرار في البوسنة والهرسك، وتحقيق التوازن داخل الإقليم وفي داخل جمهوريات يوغسلافيا السابقة (البند الخامس، الملحق الأول- ب(art. V, annex 1-B) -(

إن ما تشهده البوسنة والهرسك اليوم من انقسام سياسي والشكل الذي تبدو عليه هيكلية حكومتها، كان من الأمور التي تم الاتفاق عليها باعتبارها جزءًا من الدستور البوسني المؤلَّف من الملحق الرابع من الاتفاق العام الموقَّع عليه في دايتون.

أحد أهم العناصر الأساسية لهذا الملحق هو ترسيم خطوط الحدود بين الكيانين، والتي أشارت إليها الملحقات ضمن ما تضمنته من إشارات إلى مهام كل طرف.

فدولة البوسنة والهرسك باتت تتكون من فيدرالية البوسنة والهرسك وريبوبليكا صربسكا، والبوسنة والهرسك دولة ذات كيان كامل، في مقابل الفيدرالية التي هي جزء من الدولة، ولا إمكانية مطلقًا لأحد الكيانين أن ينفصل عن دولة البوسنة والهرسك إلا وفقًا لما يتطلبه القانون.

ومع أن إدارة الدولة البوسنية شديدة عدم المركزية في علاقتها مع الكيانين، إلا أنها تُبقي على الطبيعة المركزية للحكومة، مع تداول على رئاسة مجلس رئاسة الدولة (مكوَّن من ثلاثة رؤساء)، وبنك مركزي ومحكمة دستورية. بالإضافة إلى ذلك، فإن اتفاق دايتون كلَّف عددًا كبيرًا من المنظمات الدولية بالإشراف ومراقبة وتنفيذ ما تضمَّنه الاتفاق.

تم تكليف قوات تنفيذ بنود دايتون، التابعة لحلف الناتو والمعروفة اختصارًا باسم IFOR، بتنفيذ الجانب العسكري من الاتفاق، وبدأت في مهامها في 20 ديسمبر/كانون الأول 1995 خلَفًا لقوات الحماية الأممية المعروفة باسم UNPROFOR. أمَّا مكتب الممثِّل السامي فقد كُلِّف بتنفيذ الجوانب المدنية من الاتفاق، في حين تكفلت وكالة الأمن والتعاون في أوروبا بتنظيم أول انتخابات حرة في عام 1996.

دولة البوسنة والهرسك، التي تشكلت بناءً على هذا الاتفاق (التي فقدت، بشكل غير مفسر إلى يومنا هذا، صفة "الجمهورية" والذي كانت تحمله عندما تم الاعتراف بها من قبل الولايات المتحدة الأميركية وعدد كبير من الدول، والتي حصلت على موقعها، باعتبارها دولة ذات سيادة كاملة، داخل منظمة الأمم المتحدة)، كانت تتألف من وحدتين (كيانين) : فيدرالية البوسنة والهرسك، والتي تتكون من الإثنيات الثلاثة المنخرطة في الحرب، وهم البوشناق والكروات والصرب؛ ويتكون الكيان الثاني، والمسمى ريبوبليكا صربسكا، رسميًا من ثلاث إثنيات أيضًا، لكن في الواقع نجد سيطرة صربية المطلقة على تسيير كل المرافق داخل الأراضي التي كسبتها عن طريق العدوان العسكري. تتألف فيدرالية البوسنة والهرسك من عشرة كانتونات مستقلة لها حكوماتها الخاصة.

يسكن في الفيدرالية أساسًا البوشناق والبوسنيون الكروات، وهو ما يجعلها تسمى أحيانًا، بشكل غير رسمي، فيدرالية البوشناق والكروات (مع تواجد للسكان البوسنيين الصرب Bosnian Serbs باعتبارهم المكون المجتمعي الثالث)، وتُعرف أحيانًا أخرى بالاسم المختصر Federation of B&H.

تم تأسيس الفيدرالية بموجب اتفاق واشنطن عام 1994، الذي أنهى جانب الصراع العسكري الذي كان قائمًا بين البوسنيين الكروات من ناحية، والبوسنيين البوشناق من ناحية ثانية، وقد شكَّلت الفيدرالية مجلسًا تأسيسيًّا واصل عمله إلى حدود شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 1996. تتمتع الفيدرالية بعاصمة وحكومة ورئيس وبرلمان وشرطة حدود وشرطة مدنية، ونظامين بريديين وشركة طيران موحدة، هي طيران البوسنة والهرسك (BH Airlines).. كان للفيدرالية أيضًا جيشها الخاص، جيش فيدرالية البوسنة والهرسك، الذي تم إدماجه لاحقًا مع جيش ريبوبليكا صربسكا ليشكِّلا القوات العسكرية للبوسنة والهرسك.

تم توقيع الاتفاق الإطاري العام، بما في ذلك الملحقات الإحدى عشر التابعة له، في باريس في 14 ديسمبر/كانون الأول، وحضر إلى جانب الأطراف المتصارعة، الرئيس بيل كلينتون والرئيس جاك شيراك، ورئيس الوزراء البريطاني، جون ميجور، والمستشار الألماني، هلموت كول، ورئيس الوزراء الروسي فيكتور تشيرنوميردين.

دعا الاتفاق كلًّا من البوسنة والهرسك وكرواتيا وجمهورية يوغسلافيا الفيدرالية إلى الموافقة على الاحترام الكامل لسيادة كل دولة وأن تخضع خلافات تلك الدول إلى الحلول السلمية. بالإضافة إلى موافقة الأطراف على الاحترام الكامل لحقوق الإنسان وحقوق اللاجئين والأشخاص المهجَّرين. أخيرًا، اتفقت الأطراف على التعاون الكامل مع كل المنظمات، بما فيها تلك المخوَّلة من قبل مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة بتنفيذ إجراءات إحلال السلام وإجراء التحقيقات ومحاكمة الضالعين في جرائم الحرب وغيرها من انتهاكات القانون الدولي الإنساني.

عانى السلام كثيرًا منذ توقيع اتفاق دايتون للسلام. ولا يزال الملحق الرابع للاتفاق الإطاري العام قائمًا باعتباره دستور البوسنة والهرسك، وبالتالي، فإنه لا يزال يمثِّل أساس الانقسام السياسي الحالي الذي تعيشه البوسنة والهرسك، وهو أيضًا الأساس الذي قاد إلى تشكيل الحكومة كما هي عليه اليوم. كما وضع ذات الاتفاق أساس العمليات العسكرية الميدانية لحلف الناتو في كوسوفا عام 1999، والذي أدَّى إلى حصول كوسوفا على استقلاله.

دور الأمم المتحدة

خلال الإعداد لمؤتمر دايتون، وأثناء المحادثات أيضًا، لم يكن للأمم المتحدة من تأثير يُذكر على صياغة النص النهائي للاتفاق، وكان دورها محدودًا جدًّا، هذا إذا كان لها أصلًا استقلالية اتخاذ القرار. عندما تم التوصل إلى الاتفاق، وعلى شاكلة الأمر المقضي، بعثت مادلين أولبرايت -وكانت حينها تشغل منصب سفير أميركا في الأمم المتحدة- مذكِّرة هذا نصها:

رسالة من الولايات المتحدة الأميركية إلى الأمم المتحدة:

مؤرَّخة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1995
من الممثل الدائم للولايات المتحدة الأميركية لدى الأمم المتحدة، إلى الأمين العام؛ سأكون ممتنة لكم لو عمَّمتم النص المرفق، باعتباره وثيقة صادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي، تحت البند 28 من أجندة العمل، والنص المرفق هو جزء من الاتفاق الإطاري العام المتعلق بالسلام في البوسنة والهرسك والملحقات التابعة له (المعروف باسم "اتفاق السلام")، والذي تمت المصادقة عليه بالأحرف الأولى، من طرف جمهورية البوسنة والهرسك وجمهورية كرواتيا وجمهورية يوغسلافية الفيدرالية، بالإضافة إلى الأطراف الأخرى أيضًا، في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1995 في دايتون، أوهايو.
التوقيع: مادلين أولبرايت، الممثل الدائم

تُحدد ملحقات الاتفاق المرفقة شروط السلام المتعلقة بالبوسنة والهرسك، وهي في مجملها متفق عليها من طرف البوسنة والهرسك والكيانيْن المنخرطيْن في الصراع بشكل مباشر (وهما ليسا طرفين في الاتفاق الإطاري العام)؛ أي ريبوبليكا صربسكا وفيدرالية البوسنة والهرسك(20).

وتُختتم الرسالة:
إن الوفود الممثِّلة لجمهورية البوسنة والهرسك، وجمهورية كرواتيا، وجمهورية يوغسلافيا الفيدرالية (والتي تمثِّل أيضًا ريبوبليكا صربسكا)، وفيدرالية البوسنة والهرسك، تُلزم نفسها، بشكل خاص، بالامتناع عن إتيان أي عمل عدائي ضد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، أو التدخل في عملها أو في عمل القوات الدولية، التي سيتم نشرها وفقًا لحيثيات الاتفاق الإطاري العام، أو في عمل موظفي المنظمات والوكالات الإنسانية.

كما ألزمت الأطراف نفسها، تحديدًا، بالمساعدة في البحث عن الطيارين الفرنسيين المختطفين في البوسنة والهرسك وضمان إعادتهم فورًا سالمين إلى بلدهم. كما عبَّر المشاركون عن عميق تقديرهم للحكومة والشعب الأميركيين على حُسن الضيافة الذي خصتهم به طيلة جولة المحادثات.

ومع ذلك، وبعد التوصل إلى الاتفاق، فإن دور الأمم المتحدة كان أكثر قوة بكثير على مختلف المستويات، بدءًا من دور قوات حفظ السلام، مرورًا بالمساعدة في إعادة تنظيم مؤسسات الدولة وتقديم المساعدات الإنسانية، وصولاً إلى المساعدة اللوجستية المقدمة وتركيز المؤسسات الديمقراطية.

دور الولايات المتحدة الأميركية

انتهت الحرب في البوسنة والهرسك باحتفال أقيم بمناسبة توقيع اتفاقيات السلام التي انعقدت في باريس في 14 من ديسمبر/كانون الأول 1995 وحضرها رؤساء حكومات كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الفيدرالية وجمهورية ألمانيا الفيدرالية والمملكة المتحدة وفرنسا إلى جانب المفاوِض الخاص للاتحاد الأوروبي. وقد كان الاحتفال الأول قد أقيم بعد نهاية المفاوضات، بمناسبة التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاقيات، في دايتون بتاريخ 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1995.

فما هو المعنى القانوني لهذين الاحتفالين؟ الإجابة يُقدمها نص الاتفاق عند توقيعه بالأحرف الأولى. فهذا هو الاتفاق الوحيد الذي وُقِّع عليه في دايتون، ودخل حيِّز التنفيذ بشكل فوري. وقد نصت المادة السادسة من الاتفاق في فقرتها الثانية على أن إقرار الأطراف بإلزامية اتفاقيات السلام يُعبَّر عنه من خلال توقيعها بالأحرف الأولى على الاتفاقيات، في حين يقول منطوق المادة الأولى: إن الاتفاقيات تدخل حيِّز التنفيذ وتكتسي أثرًا فعليًّا (ما يُعرف بـ dies a quo) أي من يوم توقيعها في باريس. وهذه بكل تأكيد، طريقة في العمل مستجدة وغير مألوفة.

فهذا أمر غير متعارف عليه، ليس فقط بالنسبة للمعاهدات ذات الأهمية السياسية البالغة التي يتم إبرامها بمجرد التوقيع عليها بالأحرف الأولى، بل إنه من اللافت للنظر أيضًا أن المعاهدات المُبرمة وفقًا لهذه الطريقة تكون عرضة لشرط وقف التنفيذ حتى يتم توقيعها بشكل رسمي، بمعنى أنها تكتسي صفة الإلزام بالتوقيع عليها بالأحرف الأولى، إلا أن قوة ذلك الإلزام لا تؤتي آثارها إلا بعد التوقيع عليها بشكل نهائي.

جرت عملية المفاوضات في دايتون، بشكل أساسي، بمبادرة وضغط قوي من قبل فريق بعثة الولايات المتحدة الأميركية، وتحمل الاتفاقيات بصمة النفوذ القوي للولايات المتحدة. مع نهاية المفاوضات تم التواضع على ألا يُسمح للدول ولا لكيانات يوغسلافيا السابقة، ولا لأية دولة أخرى مشارِكة في العملية السلمية، بإعادة فتح باب المحادثات.

في المجمل، فقد كان على السلام أن يكون على شاكلة "باكس أميركانا" أو "سلام مفروض، يعكس قوة هيمنة الولايات المتحدة الأميركية). لقد مثَّل حفل التوقيع محاولة من طرف القادة الأوروبيين، وخاصة الرئيس الفرنسي جاك شيراك، لأن يبدوا وكأنهم مساهمون في عملية السلام، وأن يُضفوا على الدور الأوروبي اعترافًا رسميًّا.
_____________________________________
د.فريد موهيتش - محاضرًا لمادّة الفلسفة بجامعة القديسين سيريل وميثوديوس بالعاصمة المقدونية سكوبيا، ورئيس الأكاديمية البوشناقية للعلوم.

ملاحظة: النص بالأصل أعد لمركز الجزيرة للدراسات باللغة البوسنية، وترجمه إلى العربية الباحث المتخصص في شؤون البلقان د.كريم الماجري.

المراجع والهوامش
1 The General Framework Agreement for Peace in Bosnia and Herzegovina, also known as the Dayton Agreement, Dayton Accords, Paris Protocol or Dayton-Paris Agreement, is the peace agreement reached at Wright-Patterson Air Force Base near Dayton, Ohio, United States, in November 1995, and signed in Paris on 14 December 1995, which put an end to the 3 1⁄2-year-long Bosnian War, one of the Yugoslav Wars.
2 President William Clinton, “Agreement Reached on Peace In the Balkans,” (Washington, DC, November 21, 1995, Statement, 1.)
3 Richard Holbrooke, To End a War (New York, NY: Random House Publishing Group, 2011, 232)
4 see more in Ramet, Sabrina P. (2006). The Three Yugoslavias: State-Building and Legitimation, 1918–2005. Bloomington: Indiana University Press.p. 382, ISBN 978-0-253-34656-8., and Silber, Laura; Little, Allan (1997). Yugoslavia: Death of a Nation. New York: Penguin Books. .p. 218, ISBN 978-0-14-026263-6.
5 Silber, L (1997), Yugoslavia: Death of a Nation. Penguin Books, p. 185).
6 See: Laura Silber and Allan Little, Yugoslavia: Death of a Nation (London: Penguin Books, 1996), p. 225)
7 This part is based largely on the document: An Analysis of the Dayton Negotiations and Peace Accords by Adriana Camisar Boris Diechtiareff Bartol Letica Christine Switzer Final Research Paper DHP D224: International Multilateral Negotiation Professor Adil Najam The Fletcher School of Law and Diplomacy 2005.
8 As quoted in “Back to Bosnia: Charlemagne” in The Economist, March 19, 2005
9 Daniel Conversi, "Moral Relativism and Equidistance in British Attitudes to the War in the Former Yugoslavia," in This Time We Knew: Western Responses to Genocide in Bosnia, edited by Thomas Cushman and Stjepan G. Mestrovic (New York: New York University Press, 1996, p.245.
10 Richard Holbrooke, To End a War (New York: Random House, 1998, 23).
11 Brad K. Blitz, "Serbia's War Lobby, Diaspora Groups and Western Elites," in This Time We Knew. See also James Gow, Triumph of the Lack of Will: International Diplomacy and the Yugoslav War (London: Hurst and Company, 1997), 156-183.
12 For a more detailed description of these various peace plans see David Owen's Balkan Odyssey (New York: Harvest Book, 1995).
13 Laura Silber and Allan Little, Yugoslavia: Death of a Nation (London: Penguin Books, 1996, p. 345.
14 Richard K. Betts, "The Delusion of Impartial Intervention," Foreign Affairs, vol. 73, Nov./Dec. 1994, p. 24.
15 Richard Holbrooke, p. 50-51.
16 Michael Watkins, “Strategic Simplification: Toward a Theory of Modular Design in Negotiation”, in International Negotiations, 8 (the Netherlands: Kluwer Law International, 2003), 160.
17 Richard Holbrooke, To End a War (New York: Random House, 1998), 241.
18 f. n. 56 Roger Fisher, presentation given at the Fletcher School of Law & Diplomacy (Medford: Tufts University, 2004)
19 Woodard, Colin, “In rebuilt Bosnia, no terror toehold” (The Christian Science Monitor: March 24, 2004)
20 A/50/790 S/1995/999 English Page 149

ABOUT THE AUTHOR