(الجزيرة) |
ملخص فدستور البوسنة والهرسك لم يكن نتيجة عملية تدافع سياسي واتفاق بين اللاعبين السياسيين المباشرين، وإنما تدخلت في صياغته وفرض بنوده عوامل خارجية كان لها الكلمة الفصل في وضع هذا الدستور، الذي يصفه فقهاء القانون الدستوري بالـ"الصديق للقانون الدولي", والذي وَقَّعت عليه أطراف لا تملك أية صفة قانونية تخوِّلها أن تكون كذلك. يُضاف إلى هذا أن صياغة نص "دستور دايتون" تمت باللغة الانجليزية وليس بلغة الشعوب المعنية به؛ ما يجعل من أمر تأويله وتفسيره عملية مضنية وغير خاضعة لمعايير محددة مسبقًا. |
العُيوب القانونية في اتفاق دايتون(1)
من أبرز النقائص العديدة التي تضمَّنها اتفاق دايتون -باعتباره الإطار القانوني الأوحد الذي يهدف إلى إعادة بناء دولة البوسنة والهرسك بعد العدوان عليها- توقيع نصِّ الوثيقة من أطراف فاقدة ابتداءً للصفة القانونية التي تخولها الإمضاء عليها.
في الفقرات التالية سنولي اهتمامًا خاصًّا لبيان خطورة تلك العُيوب القانونية، بما فيها الجوانب العديدة المتناقضة في بنوده.
وبالرغم من أن هذا الجانب كان مهمَلًا بشكل عام، إلا أنه ثمة بعض التحليلات الذكية تطرَّقت إلى شرح بيانه خلال السنة الأولى أو الثانية من إقرار الاتفاق.
في هذا السياق، ونظرًا لإلمامها بالقضايا القانونية وملاحظاتها المميزة، نجد أن دراسة باولا غاييتيا المعنونة "اتفاق دايتون في ضوء القانون الدولي (1996)"، أكثر من مفيدة.
فقد قبل كلٌّ من جمهورية يوغسلافيا الفيدرالية وجمهورية البوسنة والهرسك التزامهما باعتراف كل منهما باستقلال وسيادة الدولة الأخرى على أراضيها داخل الحدود المعتَرَف بها دوليًّا (Ar. L X). وقد كانت الدولتان المعنيتان قد أوفيتا بالتزاماتهما هذه في باريس قبل التوقيع على اتفاق دايتون.
بتأكيدها على حقيقة أن اتفاقيات دايتون، من وجهة نظر القانون الدولي، تتميز ببعض الأوجه القانونية الفريدة التي تعكس تعقيد عملية السلام في يوغسلافيا السابقة، فإن الكاتبة باولا غاييتيا سعت إلى إجراء مناقشة سريعة للجوانب "الأصيلة والغريبة" في الاتفاقيات من وجهة نظر القانون الدولي.
إذ إنه، ورغم قبول كلٍّ من جمهورية يوغسلافيا الفيدرالية وجمهورية البوسنة والهرسك التزامهما باعتراف كلٍّ منهما باستقلال وسيادة الدولة الأخرى على أراضيها داخل الحدود المعترف بها دوليًّا (Ar. L X) ووفاء الدولتين المعنيتين بالتزاماتهما تلك في باريس قبل التوقيع على اتفاق دايتون، إلا أن "جمهورية البوسنة والهرسك" اختفت، في ظروف غامضة، من نصِّ الوثيقة النهائية لاتفاق دايتون. بمعنى، أن ملحقات الاتفاقيات، التي وضعت اشتراطات السلام في "البوسنة والهرسك" (المفهوم القانوني الأساسي "جمهورية" تم تغييبه تمامًا هنا)، تم إقرارها مرة أخرى من قِبل "البوسنة والهرسك" والكيانين المنخرطيْن مباشرة في الصراع، وهما: ريبوبليكا صربسكا وفيدرالية البوسنة والهرسك (وهذان الكيانان ليسا طرفين في الإطار العام للاتفاق). وهنا قائمة بـ(البيانات ذات الصلة: رسم الحدود والقضايا المتعلقة بها (الملحق الثاني)، والاتفاق بشأن الانتخابات (الملحق الثالث)، والدستور (الملحق الرابع)، والاتفاق بشأن حقوق الإنسان (الملحق السادس)، والاتفاق بشأن اللاجئين والمهجَّرين (الملحق السابع)، والاتفاق بشأن اللجنة المكلَّفة بالحفاظ على المعالم الوطنية (الملحق الثامن)، والاتفاق بشأن مهام فريق الشرطة الدولية (الملحق الحادي عشر).
هذا، في حين تم إضافة اتفاقيات أخرى سواء من قبل الكيانين فقط، وهي: (الاتفاق بشأن التحكيم (الملحق الخامس) والاتفاق بشأن مؤسسات البوسنة والهرسك العمومية (الملحق التاسع)، أو من قِبل كل الأطراف المنخرطة في الاتفاق الإطاري العام وحلف الناتو، وهي: (الاتفاق بين جمهورية البوسنة والهرسك وحلف الناتو المتعلِّق بوضع حلف الناتو وموظَّفيه، والاتفاق بين جمهورية كرواتيا وحلف الناتو المتعلق بوضع حلف الناتو وموظفيه، والاتفاق بين جمهورية يوغسلافيا الاتحادية وحلف الناتو المتعلق بترتيبات العبور الخاصة بالقوات المكلفة بعمليات السلام (المرفق في الملحق 1-أ))؛ أو من قِبل الأطراف المنخرطة في الاتفاق الإطاري العام بالإضافة إلى الكيانين، وهما: (الاتفاق بشأن استقرار المنطقة (الملحق 1-ب) والاتفاق بشأن التنفيذ المدني لتسويات السلام (الملحق العاشر).
وبالإضافة إلى كل ما تقدم، فإن ثمة مشكلًا قانونيًّا يتعلق بالدور الذي لعبه رئيس يوغسلافيا (صربيا ومونتنيغرو) سلوبودان ميلوشيفيتش.
وبشكل رسمي وفي وسائل الإعلام أيضًا، أُعلن أن ميلوشيفيتش هو الممثِّل، أو بعبارة قانونية أكثر تحديدًا "الوكيل القانوني" لصرب البوسنة في عملية السلام، بينما نجد ثلاثة عناصر في اتفاقيات دايتون تؤكِّد على أنه كان يتصرف نيابة عن طرف قانوني آخر، غير صرب البوسنة، بمعنى أنه كان يمثِّل متمردي صرب البوسنة (ريبوبليكا صربسكا).
أولًا: وقَّع وزير خارجية جمهورية يوغسلافيا الفيدرالية، السيد ميليتينوفيتش، بالأحرف الأولى على كل الاتفاقيات التي كانت فيها ريبوبليكا صربسكا طرفًا.
وبهذه الطريقة، تكون ريبوبليكا صربسكا قد أعربت عن موافقتها على الالتزام باتفاقيات السلام عن طريق جهاز سلطة دولة أخرى وليس عبر أجهزة سلطاتها هي.
ثانيًا: أشارت توطئة الإطار العام لاتفاق دايتون إلى ترتيب تم التوصل إليه، في 29 أغسطس/آب عام 1995، "الذي أعطى بعثة وفد جمهورية يوغسلافيا الاتحادية الإذن بالتوقيع، باسم ريبوبليكا صربسكا، على الأجزاء التي تخصها من اتفاق السلام، مع التعهد بالتزامها بتنفيذ الاتفاق الذي تم التوصل إليه بكل صرامة...".
ثالثًا: أن ما مارسه ميلوشيفيتش من سلطاتٍ، تندرج في نطاق المفهوم القانوني للوكالة الدولية، يبدو أنه قد جرى تأكيده في الفصلين الأول والثاني من الاتفاق عند توقيعه بالأحرف الأولى، وذلك من خلال إشارته إلى "الأطراف والكيانات التي تمثِّلها، لكن بالمعنى القانوني الضيق، فإن ميلوشيفيتش لم يكن يحق له لعب دور "الوكيل القانوني" لأن الوضع القانوني لـ"ريبوبليكا صربسكا" -وهي الطرف الذي مثَّله-، مثلها مثل الطرف الآخر المشارك في المحادثات -فيدرالية البوسنة والهرسك- كان في ذلك الوقت غير واضح.
وقد تعاملت الأطراف المتفاوضة في دايتون وفقًا لمسلَّمةٍ بأن كلًّا من كياني فيدرالية البوسنة والهرسك وريبوبليكا صربسكا قد كانت لهما شخصية قانونية، وذلك على الرغم من أنها كانت جدَّ محدودة. غير أن هذا الافتراض، الذي يمكن أن يكون موضوع نقاش طويل، كان مبنيًّا بالنسبة للكيانين، على مُعطى سيطرتيهما الفعلية على جزء من الأرض. على عكس ريبوبليكا صربسكا، فإن فيدرالية البوسنة والهرسك لم تستوفِ كل الشروط الضرورية لتكون حكومة فعلية بحكم الأمر الواقع(2).
وقد جاء في ملاحظات المحكمة الموجهة إلى الأطراف المستأنفة أن "نظام كارادجيتش يلبِّي مواصفات الدولة"، بما أن "ريبوبليكا صربسكا تزعم سيطرتها على أراضٍ محددة، وتفرض سلطاتها على مجموعة من الشعب، وأنها دخلت في اتفاقيات مع حكومات أخرى، ولها رئيس وهيئة تشريعية وعملة خاصة بها". بالنسبة للمحكمة فإن "هذه الظروف تُظهر أنها مستوفية للمعايير المطلوب توفرها في الدولة وفقًا لكل قواعد القانون الدولي".
بالإضافة إلى كل ما تقدم، يجب ملاحظة أنه في 24 من مايو/أيار 1992، وقَّع كلٌّ من صرب البوسنة وجمهورية البوسنة والهرسك وكروات البوسنة، وذلك تحت رعاية الصيب الأحمر الدولي، اتفاقًا يتعلق بتطبيق الفصل الثالث المشترك لمعاهدات جنيف وغيرها من معايير القانون الدولي الإنساني.
كل ما استطاعت الفيدرالية تقديمه كدليل على وضعها القانوني، الذي يتسق مع معايير القانون الدولي، يؤكد أنها لم تكن، في الواقع، سوى كيان وهمي أُنشئ عام 1994 تحت إصرار أميركي، وذلك لأهداف سياسية. بالفعل، فقد كان الجانب الكرواتي من الفيدرالية خاضعًا، بالأساس، لسيطرة كرواتيا المباشرة، وذلك وفقًا لاعتراف كرواتيا نفسها كما جاء في إعلاناتها أحادية الجانب التي أشارت إلى "الموظفين والمنظمات العاملة في البوسنة والهرسك...تحت سيطرتها".
لماذا إذن شاركت فيدرالية البوسنة والهرسك في مفاوضات السلام دون أن تكون شخصية اعتبارية دولية؟ الغاية سياسية أكثر منها قانونية؛ ذلك لأن الفيدرالية كانت مرفوضة بالشكل الذي كانت عليه، فإن حقيقة أن كروات البوسنة والهرسك ما كانوا أبدًا ليقبلوا بأن يكونوا ممثَّلين من طرف الرئيس بيغوفيتش، تم قبولها باعتبارها حُجَّة كافية.
ومع ذلك، فإن مشاركة كروات البوسنة المباشرة في المفاوضات، كانت ستُضعف موقف جمهورية البوسنة والهرسك تجاه البوسنيين الصرب، وكانت أيضًا ستهدد النجاح السياسي للتحالف المسلم-الكرواتي. وبالتالي، فإن مشاركة فيدرالية البوسنة والهرسك في محادثات السلام تلبِّي هذين الشرطين، بالرغم من أنها، وفقًا لكل معايير القانون الدولي، ليست سوى كيان قائم أساسًا على خيال قانوني.
ما يلفت النظر أكثر هو سقوط الشخصية القانونية الدولية عن كلٍّ من ريبوبليكا صربسكا وفيدرالية البوسنة والهرسك، سواء أكانت شخصية قانونية فعلية أم وهمية، مع نهاية المفاوضات ودخول اتفاقيات السلام حيز التنفيذ؛ بمعنى أن الكيانين قَبِلا بالدستور الجديد لجمهورية البوسنة والهرسك (الملحق الرابع من الإطار العام للاتفاقيات)، باعتبارهما طرفين قانونيين فعليين، ولكن مع تأكيدهما على أن هذا لا يمكن أن يكون مقبولًا قانونيًّا إلا إذا اعتُبر هذان الكيانان عضوين في الدولة الفيدرالية، وهو ما يعني، بالنسبة لجمهورية البوسنة والهرسك، أنهما لا يتمتعان بالحقوق والسلطات التي يمنحها القانون الدولي.
تحت الفصل الرابع؛ الفقرة 4 (د) من أحكام الدستور الجديد، فإن الهيئة البرلمانية المركزية، أي الجمعية العامة للبرلمان هي من يقرر "ما إذا كانت توافق على إمضاء المعاهدات أم لا"، أمَّا الفصل الخامس في فقرته 3، فيؤكد على أن مجلس رئاسة الجمهورية هو المكلَّف بـ"وضع وإدارة السياسة الخارجية"، وتسمية السفراء وغيرهم من الممثِّلين الدوليين للبوسنة والهرسك (البند أ)، وتمثيل الدولة "في المنظمات والمؤسسات الدولية والأوروبية" (البند ب)، والمجلس الرئاسي من يسعى إلى الحصول على "عضوية مثل تلك المنظمات والمؤسسات التي لا تكون البوسنة والهرسك عضوًا فيها" (البند ج)، وأن يتفاوض ويُصادق ويُوقِّع على المعاهدات (البند د).
أمَّا بالنسبة للكيانين، فلهما الحق فقط في أن "يُقيما علاقات موازية مع الدول المجاورة بما يتوافق مع سيادة دولة البوسنة والهرسك، وفي إطار احترام وحدتها الترابية (الفصل HI، الفقرة 2 (أ))، كما يمكنهما "الدخول في اتفاقيات مع الدول أو المنظمات الدولية"؛ وذلك فقط "بموافقة الجمعية العامة للبرلمان" التي "يمكنها، وفقًا للقانون، أن تُصادق على أن بعض أنواع الاتفاقيات لا تتطلب مثل تلك الموافقة" (البند د).
يجب أن يُضاف إلى ما تقدم، أنه تحت الفصل الرابع في فقرته 3 (أ) فإن للمحكمة الدستورية أن تقرِّر، ضمن أمور أخرى "ما إذا كان قرار الكيانين في بناء علاقات موازية مع الدول المجاورة يتوافق مع أحكام هذا الدستور أم لا، بما في ذلك الأحكام المتعلقة بسيادة البوسنة والهرسك ووحدة أراضيها".
ووفقًا لأسس القانون الدولي، فإن الاستنتاج المُستخلص هو أنه بالإمكان الادِّعاء بأن فيدرالية البوسنة والهرسك كانت معترَفًا بها، باعتبارها شخصية قانونية دولية، فقط ما دامت طرفًا مشاركًا في مفاوضات السلام. أمَّا فيما يتعلق بريبوبليكا صربسكا، فنحن بصدد مواجهة حالة "حكومة متمردة" أُنشئت بطريق اعتداء عسكري مدعوم من دولة أجنبية باعتبارها "طرفًا ثالثًا" (أي: يوغسلافيا بزعامة ميلوشيفيتش)، وقبلت لعب دور عبثي "باستخدامها" شخصيتها القانونية الدولية من أجل إنهاء وجود نفسها بنفسها؛ فبعد حصولها على وضع قانوني دولي، بفضل الإقرار بفرض سيطرتها الفعلية، عن طريق العدوان العسكري، على جزء من أراضي البوسنة والهرسك، فإن ريبوبليكا صربسكا قبلت بالدستور الجديد للدولة التي سعت، أصلًا، إلى الانفصال؛ بل إنها قبلت أيضًا بتخفيض صفتها إلى وضع مجرد عضو داخل دولة سيادة.
لكن، حتى الأستاذة باولا غاييتيا، في تحليلها المتميز، لم تتفطن إلى النقطة التي تؤكد الوضع السيادي لريبوبليكا صربسكا، وهو منحها رسميًّا صفة "ريبوبليكا" أو "الجمهورية"، وهي نفس الصفة التي تم نزعها، بطريقة غير مبررة بالمرة وعن قصد، من اسم جمهورية البوسنة والهرسك!
بالإضافة إلى ما سبق، فإنه يجدر التذكير أيضًا بأن الدستور تمت مناقشته والقبول به في دايتون من قِبل كل الأطراف المعنية (جمهورية البوسنة والهرسك، وفيدرالية البوسنة والهرسك، وريبوبليكا صربسكا) وذلك في ثلاث إعلانات مختلفة تضمنت نفس المحتوى. ومن غير الواضح قانونيًّا ما إذا كان يتعين اعتبار تلك الإعلانات الثلاث عناصر داخلة في الاتفاق الدولي، أم أن يُنظر إليها باعتبارها عملًا مُنفردًا.
صعوبة التكييف القانوني لدستور دايتون
على عكس الملحقات الأخرى المرفقة في الإطار العام للاتفاق، فإن الدستور لا يبدو أنه اتفاق دولي؛ فقد أُرفق نص معاهدة الدستور بثلاثة إعلانات منفردة، مع عدم تضمينها رسميًّا في متن الدستور نفسه.
هذه الإعلانات هي: الإعلان نيابة عن جمهورية البوسنة والهرسك، والذي بمقتضاه: "تُصادق جمهورية البوسنة والهرسك على دستور البوسنة والهرسك الوارد في الملحق الرابع من الإطار العام للاتفاق"؛ الإعلان نيابة عن فيدرالية البوسنة والهرسك، الذي يقول: إن "فيدرالية البوسنة والهرسك، ونيابة عن شعوبها ومواطنيها المؤلِّفين لها تُصادق على دستور البوسنة والهرسك الوارد في الملحق الرابع من الإطار العام للاتفاق"؛ والإعلان نيابة عن ريبوبليكا صربسكا الذي جاء فيه "إن ريبوبليكا صربسكا تُصادق على دستور البوسنة والهرسك الوارد في الملحق الرابع من الإطار العام للاتفاق". وهنا يمكننا التساؤل: لماذا واجه الملحق الرابع، دون غيره، إعلانات منفردة بدلًا من معاهدة دولية "رسمية"؟ إن الإطار القانوني، الذي جرت فيه عملية وضع أحكام نص الدستور الذي أُعِدَّ في دايتون، كان بكل تأكيد إطارًا شاذًّا عن التكييف القانوني السليم والمتعارف عليه دوليًّا؛ إذ يكفي أن ندقِّق النظر بعناية في شذوذ تلك العملية، لتأكيد موقفنا هذا، من خلال ما تضمنته ديباجة الاتفاق التي ورد فيها أن الشعوب المؤسسة الثلاثة، هي: "البوشناقيون والكروات والصرب...(بالإضافة إلى الآخرين)، ومواطني البوسنة والهرسك".
بعض هذا الشذوذ قد يمكن فهمه إذا ما استحضرنا في أذهاننا أن معاهدة الدستور لدولة قائمة أصلًا قد صِيغت ووُفِق عليها في محفل دولي، ثم دخل حيز التنفيذ بفعل تفاهمات دولية. وكما أشرنا إليه أعلاه، فإن مناقشة الدستور تمت على مستوى دولي بين جمهورية البوسنة والهرسك بصحبة مجموعتين متمردتين داخلها من جهة، وبين مجموعة أخرى من الدول الأجنبية.
ليس من باب الصدفة، بأية حال، أنه تمت صياغة الدستور باللغة الإنجليزية وليس بلغة الشعوب المعنية به. هذا بالإضافة إلى أن معظم الاتفاقيات التي نوقشت في دايتون صِيغت وصودق عليها فقط في نصها الإنجليزي، دون أن يكون ذلك معلَنًا بشكل صريح في ختام نص الاتفاق، وعلى النقيض من ذلك، فإنه أثناء التوقيع على الاتفاق بالأحرف الأولى، كان ثمة تنصيص صريح على أنه قد "صِيغ باللغة الإنجليزية"، في حين أن الإطار العام للاتفاق نصَّ بوضوح على أنه كُتب "باللغات البوسنية والكرواتية والإنجليزية والصربية، في نصوص تُعد كلها أصلية ومتساوية في حُجيتها".
يكمن العيب الجوهري الآخر في أن الدستور لم يكن نتيجة عملية "داخلية" لوضع دستور للبلاد. وعلينا ملاحظة أن هذا يمثِّل حالة شاذَّة للغاية، كما نشدِّد على أن إلغاء صفة الجمهورية من اسم البوسنة والهرسك يشكِّل خدعة وهمية تجعل من دولة قائمة ومعترَف بها دوليًّا تُبرم اتفاقًا مع مجموعات متمردة لمجرد كونها كانت تسيطر فعليًّا على جزء من أراضي تلك الدولة، ثم بعد ذلك تختفي بالكامل وإلى الأبد.
دستور "صديق للقانون الدولي"!
لا عجب في أن يُصنَّف الدستور المؤسِّس للدولة الجديدة الوهمية -البوسنة والهرسك- ضمن الدساتير الموصوفة بأنها تُظهر أكبر قدر مما اصطُلح عليه "الصديقة للقانون الدولي"(3).
وبتعبير آخر، فنحن أمام دستور يُولِي اهتمامًا كبيرًا لأحكام ومبادئ القانون الدولي؛ فالأحكام الدستورية التي "تفتح" النظام القانوني للبوسنة والهرسك على النظام القانوني الدولي، هي: الفصل الثاني، المتعلق بحقوق الإنسان والحريات الأساسية (انظر الملاحظة 36 الموجودة في الهامش)؛ والفصل الثالث في فقرته 2 البند (ج)، الذي ينص على أن "الكيانات مطالَبة بتوفير السلام والمناخ الآمن لكل الأشخاص داخل النطاق القضائي لكل منها، وذلك عن طريق الحفاظ على المؤسسات العاملة على تنفيذ القانون المدني بما يتلاءم مع المعايير المعترف بها دوليًّا، وفي ضوء احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية المشار إليها في الفصل الثاني المذكور أعلاه"، والفقرة 3 في بندها (ب)، والذي ينص على أن: "المبادئ العامة الأساسية للقانون الدولي يجب أن تكون جزءًا لا يتجزأ من قوانين البوسنة والهرسك والكيانين"؛ أمَّا الفصل السادس، الفقرة 1 في بندها (أ)، فيبدو أكثر غرابة بكثير، حيث ينص على أن ثلاثة من أصل تسعة أعضاء في المحكمة الدستورية للبوسنة والهرسك "يتم تعيينهم من قِبل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بعد التشاور مع مجلس الرئاسة"، في حين تنص الفقرة (ب)، على أن "القضاة المعينين من قِبل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لا يمكن أن يكونوا من مواطني البوسنة والهرسك ولا من مواطني أيٍّ من الدول المجاورة"؛ ويقترب من الإذلال منطوق الفصل السادس، فقرة 3، بند (ج)، الذي ينص على أن للمحكمة الدستورية ولاية قضائية على القضايا المتعلقة "بما إذا كان القانون يتوافق مع المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية". وأخيرًا، الفصل DC في فقرته 1؛ حيث ينص على أن: "كل شخص يقضي عقوبة سجنه بعد أن يصدر ضده حكم قضائي من طرف المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، وكل شخص صدرت في حقه لائحة اتهام من قِبل المحكمة ولم يستجب لأمر المثول أمامها، لا يحق له أن يقدم ترشحه لأي منصب، سواء أكان بالتعيين أو الانتخاب أو بأي شكل آخر، داخل أرض البوسنة والهرسك".
هكذا إذن، ومع التركيز على المعايير الدولية لحقوق الإنسان، فإن ديباجة الدستور تُحيل إلى "مقاصد ومبادئ الأمم المتحدة"، وتدعو إلى "التعهد بمراعاة الاحترام الكامل للقانون الدولي الإنساني" وأن تتمسك بالمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان (بما فيها: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمعاهدات الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية والثقافية، والإعلان المتعلق بحقوق الأشخاص المنتمين إلى الأقليات الوطنية الإثنية، والأقليات الدينية واللغوية) إلى جانب المواثيق الأخرى الخاصة بحقوق الإنسان. يجب هنا إضافة ملاحظة أن الملحق الأول للدستور ينص على "قائمة من الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان، التي يتعين على البوسنة والهرسك الإبقاء على عضويتها فيها/أو أن تكون عضوًا فيها، وذلك وفقًا للفصل الثاني، في فقرته 7".
أمَّا ذروة التركيز على قضية حقوق الإنسان، فقد تم بلوغها في الالتزامات التي نصَّ عليها الدستور لتأكيد احترام حقوق الإنسان المعترف بها دوليًّا والمُبينة في الفصل 2 الفقرة 2؛ حيث جاء في متنها "الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدة الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية والبروتوكولات المُلحَقة بها يجب أن تكون مطبقة، بشكل مباشر، في البوسنة والهرسك. وتلك المعاهدات لها الأولوية على ما سواها من قوانين". وعلاوة على ذلك، فإن الفصل 2، فقرة 1 تنص على أنه: "يجب على البوسنة والهرسك والكيانين ضمان أعلى مستويات حقوق الإنسان والحريات الأساسية المعترف بها دوليَّا"، ووفقًا للفقرة 8 من هذا الفصل، فإنه: "يجب على كل السلطات المختصة في البوسنة والهرسك التعاون وتقديم كافة التسهيلات وعدم إعاقة طريق الوصول أمام أي فريق أو نظام دولي لمراقبة تطبيق حقوق الإنسان في البوسنة والهرسك؛ أو أمام الهيئات الرقابية التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية المُضمَّنة في الملحق 1 من هذا الدستور؛ أو أمام المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا (وخاصة على السلطات المختصة في البوسنة والهرسك أن تستجيب للأوامر القضائية الصادرة، وفقًا للفصل 29 من القانون الأساسي المنشِئ للمحكمة)، وكذلك أمام كل منظمة أخرى مأذون لها من قبل مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة لتنفيذ مهام تتعلق بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني".
الفقرات الأخرى من الفصل موضوع نقاشنا، تتعلَّق بـ"تعداد الحقوق" (الفقرة 3)، وعدم التمييز (الفقرة 4)، واللاجئين والأشخاص المهجَّرين (الفقرة 5)، وقضية التنفيذ والمتابعة (الفقرة 7)، والاتفاقيات الدولية (فقرة 7). كما تجدر الملاحظة هنا إلى أن الفصل العاشر، في فقرته 2، يجعل كل أحكام الدستور المتعلقة بحقوق الإنسان غير قابلة للتعديل عن طريق إجراءات دستورية. وقد نصت المادة 37 على أنه "لا يمكن لأي تعديل يُجرى على هذا الدستور أن يلغي أو يقلِّص أيًّا من الحقوق والحريات المشار إليها في الفصل الثاني من هذا الدستور أو أن يلغي هذه الفقرة". وبالإضافة إلى كل ما سبق، فإنه لا أحد بإمكانه الاعتراض على أو انتقاد مغزى الأحكام التي تمت ترقيتها لتكون التزامات دستورية، والمتعلِّقة بواجب التعاون مع محكمة الجنايات الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة (وهو ما نصَّ عليه الفصل الثاني ، المشار إليه أعلاه، في فقرته 8)، والذي أسَّس لحالة فريدة في دستور البوسنة والهرسك على غير ما في دساتير دول العالم بأسره.
خلاصة
ما من شك في أن اتفاقيات دايتون تجد أسسها الرئيسية في عاملين سياسيين:
-
أولًا: إرادة كل الأطراف المعنية في وضع حدٍّ لحمَّام الدم ولعمليات التخريب الشامل من جهة، والرغبة الجامحة لحكومة الولايات المتحدة الأميركية في ممارسة زعامتها السياسية إزاء أزمة أوروبية جدية، وبالتالي، تحقيق نجاح دبلوماسي باهر، من جهة ثانية.
-
ثانيًا: توظيف الكراهية المتبادلة الراسخة بين الأطراف المتصارعة، فضلًا عن الصعوبات الكامنة في التوصل إلى اتفاق سياسي دائم، كل ذلك جعل من الضروري دعم الاتفاقيات التي تمت المصادقة عليها في دايتون بحزمة من الضمانات الدولية التي تنسحب على مختلف المستويات؛ فقد وصل المنطق الملتوي إلى ذروته في القرار، المكسو بطابع إلهي مزيف، لتأكيد وضع المحمية للبوسنة والهرسك، أي للدولة التي كانت ضحية الاعتراف الرسمي بالعدوان عليها، بدلًا من فرض ذلك الوضع على المعتدي. وفي هذه الحالة الخاصة، فإن المعتدين كانوا جمهورية يوغسلافيا الفيدرالية (التي استُدعي رئيسُها سلوبودان ميلوشيفيتش للتوقيع على اتفاق دايتون للسلام)، وكذلك، وبدرجة أقل كرواتيا (وهنا أيضًا كان رئيس هذه الدولة المعتدية، فرانيو تودجمان طرفًا في اتفاق دايتون للسلام)!؟ وهو نفس المصير الذي كان يُفترض أيضًا، وفقًا لهذا المنطق الملتوي، أن تلقاه مثلًا فرنسا والاتحاد السوفيتي، على إثر الحرب العالمية الثانية، بدلًا من ألمانيا واليابان.
____________________________________
د. فريد موهيتش، محاضر لمادة الفلسفة بجامعة القديسين سيريل وميثوديوس بالعاصمة المقدونية سكوبيا، ورئيس الأكاديمية البوشناقية للعلوم.
ملاحظة: النص بالأصل أُعِدَّ لمركز الجزيرة للدراسات باللغة البوسنية، وترجمه إلى العربية الباحث المتخصص في شؤون البلقان د. كريم الماجري.
الهوامش والمراجع
1. This chapter is inspired by and greatly based on the scholarly impeccable text addressing international law aspects of Dayton Agreement, by Paola Gaeta, The Dayton Agreements and International Law, 7EJIL (1996) 147-163 http://ejil.org/pdfs/7/2/1358.pdf written 19 years ago, during the first year of its implementation
2. As for the Republika Srpska, see the decision of 11 October 1995, case Kadic et al. v. Karadzic, delivered by the United States Court of Appeal for the Second District, related to a lawsuit in application of the Alien Tort Act of 1789.
3. See Cassese, 'Modem Constitutions and International Law', III, RdC (1985), 343, where the author, relying upon notions suggested by some German jurists, underlines that 'through the medium of national constitutions' it can be ascertained whether States are 'dominated by 'nationalist introversion' or rather tend to be inspired by 'friendliness to international law'.