في تجاذبات العلاقة بين الإعلام والاتصال والسياسة

تبحث هذه الورقة في الإشكالية بين مجال الإعلام والتواصل ومجال السياسة.وتقوم الورقة بمساءلة هذه العلاقة على ضوء التجاذبات القائمة بين فضاء ينشد المهنية والاستقلالية والمصداقية، وفضاء يحاول لجم هذا الطموح بالأدوات الناعمة أو بالأدوات الخشنة أو بها مجتمعة.
20131114101158502621_20.jpg

 

المصدر [الجزيرة]

 

ملخص

يعيش التواصل السياسي وضعية إشكالية خاصة؛ فهو يبدو ككلمة السر التي ينضوي تحت لوائها باقي الكلمات؛ حيث كل مسؤول مطالب بأن يتواصل بهذا الشكل أو ذاك. التواصل السياسي يعبّر هنا عن طريقة الممارسة السياسية؛ إنه ينتزع لنفسه شرعية باعتباره "قيمة سياسية" في حد ذاته.
بالمقابل، نرى أن التواصل السياسي يتعرض لكل أشكال الطعن والمناهضة؛ إذ يكرّس عدم المساواة بين راكبي ناصيته، ويحول دون الدفع بالنقاش الديمقراطي؛ حيث مجال القضايا الجوهرية الكبرى.
التواصل ملازم للسياسة إذن، والفعل السياسي لا يمكن أن يستقيم دون اتصال وتواصل، والديمقراطية تستوجب اتصالاً حرًا ومنفتحًا، حتى قيل: إن الديماغوجيا أفضل من غياب الاتصال.
وعلى الرغم من أن الاتصال يشتغل وفق تصور محصور الأفق، عكس السياسة التي تراهن على المدى البعيد، فإنه يتقاطع معها في توجهها "لإنتاج الواقع" أو الفعل فيه، وهو ما يستوجب تحديد نطاق ذات الفعل، لاسيما في ظل تقوي دور وسائل الإعلام، وتزايد تأثير الأشكال المقابلة للسياسة أو المناهضة لها.
من هنا أهمية مساءلة الجدلية القائمة بين حقل التواصل وحقل السياسة، من باب التكامل ومن زاوية التنافر الذي قد يطول دورهما.

التواصل السياسي ظاهرة إنسانية، اجتماعية وثقافية، قديمة قدم التجمعات البشرية، وحاجة هذه الأخيرة للتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي وما سواه. وعلى الرغم من قدمها كممارسة، فإن الظاهرة لم تخضع للتحليل الإبستمولوجي والتدقيق المعرفي إلا أواسط القرن الماضي، لاسيما في ظل بروز الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والتنظيمات المدنية بمختلف أشكالها وتلويناتها. وقد ترتب على ذلك تعريفات متعددة ومتباينة أحيانًا، لكنها تمحورت في معظمها، حول اعتبار التواصل السياسي كل "تواصل هادف حول السياسة يتضمن:

• كل أشكال التواصل التي يقوم بها الفاعلون السياسيون لتحقيق أهداف معينة.
• التواصل الموجه إلى السياسيين من غير المشتغلين بالسياسة، كالناخبين وكتّاب الأعمدة الصحفية وغيرهم.
التواصل الذي يتناول الساسة وأنشطتهم، بما تتضمنها التقارير الإخبارية والافتتاحيات، والأشكال الأخرى من تناول وسائل الإعلام للسياسة" (1)

يبدو، من خلال هذا التعريف، أن السياسة هي مجال الاتصال والتواصل السياسي بامتياز، لا بل قل: هي المادة الخام التي يشتغل عليها في شكله كما في جوهره. بمعنى أن الخطاب السياسي يبقى مجردًا ومحصورًا ومحدد الأثر، طالما لم يخضع لعملية تلجأ لوسيط لبلوغ ذات الهدف، إما الأدوات المكتوبة التقليدية، أو وسائط الاتصال الإذاعي والتليفزيوني، أو بنية الإعلام الجديد الذي حملته الثورة الرقمية، وتمت ترجمته على مستوى شبكة الإنترنت والشبكات الاجتماعية التي تفرعت عنها.

بالمقابل، يبقى البعد الاتصالي والتواصلي الذي يثوي خلفه الساسة، غير ذي جدوى كبرى إذا لم يتم الاتكاء في ذلك، على منابر إعلامية واتصالية تفسح له في المجال للشيوع والرواج بين الجماهير. القناعة الثابتة إذن أن لا سياسة بدون تواصل، ولا تواصل سياسيًا بدون توفر خطاب سياسي تركب الأدوات الإعلامية والاتصالية ناصيته لتطول الجمهور المتلقي.

تبحث هذه الورقة في هذه الإشكالية من خلال مساءلة الجدلية القائمة (أو التي يجب أن تقوم) بين مجال الإعلام والتواصل ومجال السياسة، ليس فقط من باب التكامل وضمان الامتداد لبعضهما البعض، ولكن أيضًا من زاوية التنافر القائم بينهما، لاسيما في الجانب التوظيفي الصرف الذي قد يجنحان إليه في الزمن والمكان.

وقد آثرنا مساءلة هذه العلاقة على ضوء التجاذبات القائمة بين فضاء الإعلام والاتصال من جهة وفضاء السياسة من جهة أخرى، أي بين فضاء ينشد المهنية والاستقلالية والمصداقية، وفضاء يحاول لجم هذا الطموح بالأدوات الناعمة أو بالأدوات الخشنة أو بها مجتمعة.

الاتصال والتواصل السياسي: ملاحظات منهجية

ثمة ثلاث ملاحظات منهجية، لابد من إبدائها هنا، رفعًا لكل لبس وتجاوزًا لكل التباس، فيما يتعلق باستعمال كلمتي الاتصال والتواصل:

• الأولى: ومفادها القول بأن مفهوم التواصل هو الأقرب للحديث في هذا الباب من مفهوم الاتصال، لأن التواصل يقوم على التفاعل والتأثير في الناس "إما بإكسابهم معرفة سياسية، أو تأثيرًا في قراراتهم وخياراتهم؛ وهو ما يستوجب في جميع الحالات، ردة فعل، أو تغذية راجعة أو حتمية من المرسل إليه، تعادل صفة الإكثار والدوام والتبادل" (2).

•  الثانية: ومؤداها أن صفة الخطية التي تميز الاتصال تراجعت كثيرًا لدرجة الانتفاء "إما بسبب الانفتاح العام للدول على الخيار الديمقراطي، أو لتراجع الديكتاتوريات وأنظمة الحكم الشمولية، أو لأن وسائل التواصل والإعلام الحديثة أصبحت تتيح إمكانيات هائلة للتفاعل مع الجمهور، وخصوصًا مع برامج الحوار المباشرة، وبرامج إشراك المستمعين والمشاهدين في إبداء آرائهم بكل حرية" (3).

• الثالثة: وتكمن في القول بأن استحضار الحديث عن الاتصال، يحيل على لغة الخطاب التي غالبًا ما تكون ذات طبيعة عمودية، فوقية وإلى حد ما أبوية، في حين أن التواصل غالبًا ما يحيل على القرب، وعلى الإشراك وعلى التفاعل، وهو ما نلاحظه مثلاً أثناء الحملات الانتخابية، حيث اللقاء مباشر بين طرفي العملية، والخطاب تفاعلي، وقد يكون شبكيًا، على اعتبار توظيف المواقع الاجتماعية من لدن المرشحين والجمهور(4).
هذه الملاحظات الأولية أساسية، ليس فقط من زاوية تركيزها على عنصري المعادلة التواصلية، ولكن أيضًا لأنها تحيل على مركزية البعد التفاعلي الذي يطبع ذات المعادلة، والذي حال طغيان البعد الأدواتي دون تصريفه بالفضاء العام لفترة طويلة.

 
 النسق المعرفي للتواصل السياسي 

يعتبر التواصل السياسي، شأنه في ذلك شأن التواصل في صيغته العامة، ظاهرة إنسانية، اجتماعية وثقافية، يتفاعل في معادلتها طرفان اثنان، مرسل ومرسل إليه، بالمباشر الحي أو بالتفاعل المموسط لأداة تقنية محددة. وقد ارتبط التواصل ومنذ القدم بنشأة وتطور المجتمعات، إلا أن الاهتمام بالتواصل السياسي تنظيرًا وممارسة لم يبدأ إلا حديثًا، أعني أواسط القرن العشرين.

إن القول بأن مجال التواصل السياسي موغل في القدم، هو من القول بأن المعرفة السياسية ارتبطت، منذ الفكر اليوناني القديم، بالاعتبارات الفلسفية والأخلاقية السائدة أو المهيمنة؛ حيث نظر أرسطو إلى الإنسان باعتباره كائنًا سياسيًا بطبعه، يحكمه قانون أسمى، وحيث مؤسسة الدولة من وجهة نظره، ما هي إلا "شركة بين قوم يعيشون معًا، لتحقيق أفضل حياة ممكنة" (5)، وفق قانون التكامل بين أفراد وجماعات المجتمع.    

لم يتناول الفكر السياسي لهذه المرحلة قضايا مختلفة، بل ركز على البنية الفوقية للهرم السياسي، واعتمد على المنهجية الوصفية والانطباعية في تحليل المواضيع السياسية وسيادة التنظير الفلسفي فيها، مع غياب شبه تام لدراسة التواصل السياسي بين الدولة وأفراد المجتمع. وهي المنهجية التي استمر اعتمادها حتى مع بروز مفكرين سياسيين واجتماعيين كبار، من أمثال هوبز ولوك وروسو وميكيافيلي، والذي (ميكيافيلي أعني) درس المجال السياسي بمعزل عن الدين والأخلاق، واهتم بالحاكم وسبل تقويته على حساب المحكومين.

ومع بروز عصر النهضة، "بدأ بعض المفكرين في طرح أفكار جديدة، تعبر عن التحولات السياسية والاجتماعية والمعرفية الجديدة في أوربا، في ارتباطها بالتواصل السياسي. إلا أن أول من أعطى دفعة قوية لهذا العلم هو جون ميلتون، صاحب النظرية الليبرالية في القرن السادس عشر الميلادي، من خلال تأكيده على الحرية في التعبير والتواصل والمشاركة السياسية، ورفض منطق احتكار السلطة والإيمان التام بالديمقراطية. وهذه "الأفكار هي التي عمل كانط وهيجل وماركس وغيرهم، على التأسيس لها لوضع أسس الديمقراطية الحديثة" (6)، لعصر ما بعد الثورة الصناعية.

وقد تزامنت هذه الفترة مع بروز مفاهيم جديدة، باتت فيما بعد من صميم التواصل السياسي، كالرأي العام والأحزاب والنخب ولوبيات الضغط وما سواها. وقد جاء ذلك كنتيجة طبيعية للتحولات والطفرات الديمقراطية التي توالت على مر السنين.  ومع التغييرات العالمية المتتالية، وتقدم مد العولمة، ثم انتشار وسائل الإعلام والاتصال، وانفجار الشبكات الرقمية، تزايدت الحاجة إلى التواصل السياسي، والاهتمام بدراسة العلاقة بين الفرد والسياسة، ومكونات المجتمع، وتفاعل النظام السياسي مع بقية النظم الاجتماعية الأخرى، فلم تعد السياسة: "حكرًا على من يمارسون العمل السياسي، بل أصبحت سلوكًا يقوم به أفراد المجتمع العاديون، كما يقوم به القائم على السلطة السياسية، إلى الحد الذي دفع البعض إلى تسمية هذا العصر بعصر السياسة والتسييس" (7).

وقد تعدى الأمر ذلك؛ حيث ذهب العديد من المعاهد والجامعات الغربية إلى الاعتراف بالتواصل السياسي كحقل تعليمي قائم الذات، وميدان مستقل عن باقي الحقول المعرفية، على الأقل من زاوية أن نتائجه نافعة، وتجري الإفادة منها في مجالات عديدة، وفي مقدمتها التحليل الخطابي والدعاية ودراسات الإقناع، وما سوى ذلك.

 
جدلية العلاقة بين التواصل والسياسة

ليس من القائم تصور العملية السياسة بدون عملية تواصلية موازية لها أو قائمة بصلبها. والواقع أن العلاقة بين طرفي المعادلة هي علاقة جدلية بكل المقاييس، تختلف دائرة التأثير بينهما باختلاف الأنظمة السياسية السائدة "فالنظامان، أي التواصل والسياسة، كلاهما يتأثر بالآخر ويؤثر فيه، وإن كان التأثير الذي يمارسه النظام السياسي على نظام الاتصال في البلدان النامية بشكل خاص، أكبر من تأثير الاتصال على النظام السياسي" (8).  

من هنا تتمظهر عملية استقطاب وسائل الإعلام من لدن السلطة السياسية، إما بغرض توظيفها للدعاية، أو من أجل اعتمادها كوسيلة لتجميل صورة هذا النظام السياسي أو ذاك. يقول راسم الجمال عن ذات العملية، في السياق العربي: "تتجه السياسات الاتصالية كلها إلى دعم سلطة النظام القائمة، وتوجهاته في المجالات المختلفة، وخدمة مصالحه الحقيقية والمتصورة، على النحو الذي يخدم تماسك النظام وديمومته؛ مما نجم عنه أن اصطبغ مضمون الاتصال في معظم أشكاله في بعض الأقطار، بالصبغة الدعائية المباشرة، التي تعزز مصالح النظام وأهدافه، وتعزز المصالح القُطرية، وتغرس الولاء لها في عقول الجماهير" (9).  

مقابل ذلك أو على نقيضه، نجد أن وسائل الإعلام والاتصال في الدول الديمقراطية، هي التي تمارس ضغطها على النظام السياسي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالشؤون الداخلية لهذه الدولة، أما عندما يتعلق الأمر بالسياسات الخارجية؛ فإن هذه الأنظمة تمارس ضغطها على وسائل الاتصال من حيث وظائفه ومضمونه وحجمه.

وعلى هذا الأساس، يرى بعض الباحثين أنه ليس هناك بالعديد من الدول العربية، أيديولوجية للدولة وأخرى لوسائل الإعلام، بل هناك أيديولوجية واحدة، تحدد الخط السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة، وتحدد موقف الدولة من الإعلام وأدواره ووظائفه، فيما يرى البعض الآخر أن العلاقة ما بين التواصل والسياسة يجب أن يُنظر إليها من زاويتين: من زاوية أن وسائل الاتصال أداة رقابية وتوجيهية مؤثرة في سياسات وقرارات المؤسسة السياسية، استنادًا إلى المقولة الديمقراطية الشهيرة: "إن الصحافة هي السلطة الرابعة في الدولة. ومن زاوية أن السلطة السياسية تمارس الرقابة والتأثير على وسائل الاتصال، لتصبح ضمن أدواتها في تحقيق أهدافها السياسية" (10).

بالتالي، فإن العلاقة بين التواصل والسياسة تبدو وثيقة ومتداخلة إلى حد بعيد، لدرجة لا يمكن أن نعزل فيها العملية السياسية عن الأنشطة الاتصالية مختلفة المشارب، اللازمة لقيامها. ويتضح التأثير على مستويين اثنين: فردي خاص بما يتصل بالقيم والسلوك والاقتناع أو التعبئة، ثم جماعي من خلال التكامل السياسي أو التفكك الاجتماعي.

من جهة أخرى، وبصرف النظر عن المقاربة "المجتمعاتية" العامة، فبالإمكان تلمس العلاقة بين التواصل والسياسة من خلال أنواع التواصل المعتمدة:
فالتواصل الما بين شخصي في مجال السياسة، "يتيح للفرد إمكانيات اتخاذ قراراته السياسية، كالتصويت مثلاً، بناء على المعلومات والأحاسيس والتأثيرات التي يتلقاها من الخارج، وعلى مدى تأثره بالزخم الإدراكي، والتجارب السابقة عن الأشخاص والرموز والأحداث والأفكار من حوله.  كما أن وسائل الإعلام والتواصل تلعب دورًا مهمًا في التوعية والتثقيف السياسيين، من خلال تلقين الأفراد السلوك المرئي والسمعي، وكيفية استجابتهم وتفاعلهم مع ما يدور حولهم من أحداث وقضايا" (11).

والتواصل الشخصي يمكّن السياسيين من التواصل مع جمهورهم مباشرة ووجهًا لوجه؛ وهذا ما يوظفه المرشحون للانتخابات الأميركية مثلاً، والذين ورغم استخدامهم لوسائل الإعلام، "إلا أنهم لتدعيم حملتهم، يقومون بزيارات شخصية إلى المجمعات السكنية، وأحيانًا يقومون بزيارة الناس في منازلهم" (12)، ويتحدثون معهم بالمباشر الحي.

والتواصل الجماهيري، وهو التواصل الذي يتم عبر قنوات وسائل الإعلام وشبكات الإنترنت، وتكمن قوته في "قدرته على إيصال الرسائل والخطابات في آن واحد لجمهور واسع، غير معروف، مشتت ومتباين. ورغم ما يمكن أن يبدو وكأن هذا التواصل هو اتصال خطي في اتجاه واحد، حيث تنعدم التغذية الراجعة، فإن التطور التكنولوجي ألزم هذه الوسائل بتعديل طرقها في توصيل الرسائل؛ حيث برز ما يسمى بالتواصل التفاعلي، وذلك ضمانًا لمشاركة أكثر وتأثير أقوى" (13).
ويعتبر هذا النوع من التواصل مهمًا للغاية، لأنه: "أصبح بمقدور السياسيين استخدام وسائل الإعلام الجماهيري في إدارة الحملات الانتخابية، والوصول مباشرة إلى الجمهور المستهدف" (14)، ناهيك عن قدرة هذه الوسائل على نشر المعلومات والأخبار والأحداث السياسية زمن وقوعها.
غير أنه يجب أن نقر بأن التواصل الجماهيري لا يمكن أن يكون بديلاً عن باقي أنواع التواصل الأخرى بالنسبة للفاعل السياسي؛ إذ إن المطلوب منه هو أن يعمل على توظيفها مجتمعة، وفق مقاربة تكاملية مندمجة، ليكون تأثيرها أبلغ ومفعولها أقوى.

التواصل والسياسة من منظور طبيعة النظام السياسي

ثمة عوامل متعددة لعبت -ولا تزال تلعب- دورًا كبيرًا في التأثير على فاعلية التواصل السياسي، وأدائه العام. وترتبط أساسًا بنوعية النظام السياسي وطبيعته وشكل نظام التواصل والإعلام السائد فيه، إضافة إلى العوامل العامة التي تؤثر في كل بنية مجتمعية، وأخيرًا العوامل الخارجية، المتمثلة في الثورة المعلوماتية وثورة الشبكات الرقمية.

وللتذكير فقط، فقد شهد العالم بعد سقوط جدار برلين "ثورة ديمقراطية تجلت في اندحار جل الأنظمة الشمولية، وانعزال المتبقية منها. وتبنت دول العالم بما فيها الدول النامية، الممارسة الديمقراطية، من خلال اللجوء إلى الانتخابات وصناديق الاقتراع، وكثر الحديث عن الديمقراطية الحزبية ونهاية حكم الحزب الواحد، والحديث عن حرية وسائل الإعلام والتواصل، من خلال توجه بعض الدول لتوسيع مجال حريتها، فيما فضلت دول أخرى البدء بتنظيم المؤسسات السياسية لديها على أسس ديمقراطية" (15).

وعليه، فقد كان هذا المناخ السياسي الجديد من بين العوامل المؤثرة في التواصل السياسي، والذي تجلى -ولا يزال- في "رؤية السلطة السياسية لدور المواطن، ومدى توافر التنظيمات الشعبية والمجالس النيابية المختلفة، ورؤية السلطة للنظام الإعلامي. أما المشاركة التي تمارس في المجتمعات الغربية، فترتبط بالإطار الدستوري والمؤسسي، الذي يشمل التعدد الحزبي، والجماعات المصلحية... والبرلمان وأجهزة الحكم المحلي" (16).

وقد تكرس ذلك على النقيض من فلسفة النظم الشمولية حيث الدولة، ممثلة بنظامها السياسي وتحكمها في وسائل الإعلام والتواصل، هي التي تعمل على إخضاع هذه الأخيرة لتوجهاتها وأهدافها، فيصبح الصحفيون والإعلاميون مجرد موظفين في دوائر الدولة، يعملون على تنفيذ كل ما يطلب منهم، من خلال الدعاية للنظام السائد وإنجازاته، وتجميل صورته أمام الجماهير الداخلية؛ "فالأنظمة غير الديمقراطية في دول العالم الثالث، باستثناءات قليلة، تكون وسائل الإعلام فيها خاضعة للسلطة، ومنفذة لتوجهاتها وملبية لأوامرها، وساعية باستمرار لخدمة أهدافها. ولهذا، فإن في مثل هذه العلاقة أحادية الجانب، لا يمكن لوسائل الإعلام أن تقوم بأي دور أو تسهم في أي حدث، وهو ما ينعكس سلبًا على اتجاهات الجمهور نحوها وتصوره لأدوارها" (17).

ويترتب على ذلك فقدان الجماهير للثقة في السلطة وفي وسائل التواصل معًا؛ مما يؤدي إلى العزوف السياسي، أو اتجاه الجمهور إلى قنوات التواصل الخارجية الأخرى، للبحث عن المعلومة واستقاء الخبر.

الخلاصة الأولية مما سبق هي القول بأن تنوع الأنظمة السياسية، ونظرتها إلى وسائل الإعلام والتواصل، واتساع قاعدة المشاركة السياسية أو ضعفها، والإيمان بالديمقراطية أو انعدامه، واختلاف القوانين الضابطة لوسائل الإعلام والاتصال، كل هذا وغيره، يؤثر وبشكل مباشر في وعلى التواصل السياسي.

من جهة أخرى، فالملاحظ أن أهمية وظائف التواصل السياسي تتأثر بشكل كبير بعوامل تحددها حصرًا طبيعة التنظيم الإعلامي السائد في هذا البلد أو ذلك:

 فهناك تمييز بين نمط الملكية السائد لوسائل الإعلام والتواصل، يتراوح بين مؤمم، خاضع للسلطة، وآخر مستقل، تطور مع الزمن إلى إمبراطوريات إعلامية ضخمة، راهنت على البعد الاقتصادي والربحي على حساب الجوانب الأخرى.
 وهناك تمييز على أساس مصادر التمويل، والتي تؤثر على سياسات وسائل الإعلام والاتصال وتوجهاتها العامة والأيديولوجية. ومن هذه المصادر نجد موارد الإشهار، والمساعدات الرسمية وغير الرسمية. أما بالنسبة لوسائل الإعلام التجارية، فإنها "تحرص فيما تطرحه من مواضيع وقضايا، على عدم معاداة جماهيرها ومعلنيها، كما تتحاشى أن تُظهر تأييدًا قويًا لسياسة معينة أو أخرى، وبالتالي تكون متوازنة" (18)، بينما تعمل وسائل الإعلام الحكومية على الترويج لسياسات الدولة الداخلية والخارجية.

وهناك تمييز ينطلق من شكل العلاقة بين وسائل الإعلام ومصادر المعلومات، لاسيما في ظل النظم التي لا تتوفر على قوانين للولوج إلى المعلومات، أو النفاذ إلى مصادرها.

ثم هناك التمييز القائم على دور الرقابة؛ إذ هي في الدول الغربية، رقابة ذاتية تمارسها المؤسسات الإعلامية على نفسها، دونما حاجة لتدخل مقص الرقيب، عكس الدول النامية حيث يسود التعتيم وإعلام السلطة. إلا أن المؤسسات الإعلامية بالدول الديمقراطية هي في الغالب الأعم، ملك لكبار الرأسماليين، هم من: "يقرر سياستها وفقًا لخطهم السياسي، وليس هيئة التحرير، وهذا بحد ذاته نوع من أنواع الرقابة المستترة والمفروضة ضمنًا على هذه الوسائل؛ مما يحد من التنوع في الفكر والمحتوى" (19).

زمن الفضائيات وثورة الشبكات الرقمية

المقصود بهذه الثنائية في الوقت الحاضر، هو ادعاء بعض منابر الإعلام، في الوطن العربي تحديدًا، أنها باتت تمثل الجماهير، وتعبر عن نبضها في ظل تهاوي الخطاب الرسمي للحكومات، وتراجع قدرتها على التأثير في الرأي العام، بفضل انتشار التكنولوجيا الإعلامية وتقدم الشبكات الرقمية وما سواها (20).

والمقصود أيضًا زعم بعض من المنابر الفضائية العربية أنها أضحت أكثر تمثيلية للجماهير من الخطاب السياسي، الذي تقدمه الحكومات، أو تثوي خلفه الأحزاب السياسية بهذا البلد العربي أو ذاك، نتيجة التعرية التي طاولتها من مدة.
صحيح أن العديد من الفضائيات العربية قد بدأ يلعب دورًا متزايدًا في توجيه الشارع العربي، خاصة فيما يتعلق بالقضايا القومية الكبرى. وصحيح أن تأثيرها في الرأي العام بات أكثر من تأثير الحكومات، فما بالك بالأحزاب والنقابات وهيئات المجتمع المدني وغيرها والتي تراجع مدها، أو انحسر الإقبال عليها، أو تم تطويعها، أو تقوضت القدرة من بين ظهرانيها على التجنيد!

وصحيح أيضًا أن العديد من القنوات العربية بات من الاتساع والانتشار والشيوع، امتداد ساعات الليل والنهار، بما يفوق قدرة أي حزب سياسي على أن يكون له القدرة ذاتها في التأثير ونشر الموقف على نطاق واسع(21).

إلا أنه للأحزاب السياسية ميزات كبرى على القنوات الفضائية، بجهة وحدة الخطاب، ووضوح الأجندة الخاصة بالحزب، إلى جانب افتراض أن الحزب مدرسة للتربية والثقافة السياسية والتجنيد السياسي، فضلاً عن جانب عمق وشمولية التأثير في الرأي العام، وسهولة أشكال الاتصال على المستوى التنظيمي داخل الحزب، في حين أن الاتصال بين المواطنين والقنوات الفضائية قد يتم بأشكال عشوائية، وحسب درجة قوة تأثير هذه القناة أو تلك، ومدى تماهي المتلقي مع خطابها، وهكذا(22).

إلا أن عيب هذا الطرح أنه لا يميز كثيرًا بين طبيعة الخطابين، الإعلامي والسياسي، تمامًا كما لا يميز بين أدوار مختلف المؤسسات في المجتمع، خاصة النقابات المهنية والأحزاب السياسية، والتي لكل منها دوره ووظيفته، تمامًا كما أن للإعلام دوره ووظيفته.

إن وظيفة الإعلام تختلف عن تلك المنوطة بالسياسة، ليس فقط من زاوية أفق الاشتغال وطبيعة الرسالة، ولكن أيضًا بحكم طبيعة الغايات المرتجاة من هذا كما من تلك. ثم إن زمن السياسة ليس بالضرورة هو زمن الإعلام؛ فللأولى الاشتغال بجوهر المنظومة، في حين أن للثاني الإخبار العابر، الذي قد لا يترك أثرًا كبيرًا في البنية أو تأثيرًا في السياق(23). من هنا تتجلى أهمية طرح إشكالية الاستقلالية التي قد يدعيها هذا المنبر أو ذاك إزاء السياسي.

 

إشكالية الاستقلالية الإعلامية

عبارة الاستقلالية عمومًا، والاستقلالية الإعلامية والاتصالية تحديدًا، أضحت عبارة مستفزة، بل وتطلق على عواهنها دون تحفظ. الاستقلالية عمن؟ وبالقياس إلى ماذا؟ وعلى أي أساس؟ ولأية غاية؟ هل المفروض أن يكون الإعلام مستقلاً؟ وإذا كان كذلك، فعلى أي مستوى بالتحديد؟
إن مسألة الاستقلالية مسألة نسبية للغاية، على الأقل من زاوية أن لكل منبر أو محطة غاية وهدفًا، وقبل كل هذا وذاك رسالة، المفروض في الدافع بها أن يتبنى هذه الجهة أو تلك. قد تكون السلطة، وقد تكون الجماعة، وقد تكون الرأي العام، وقد تكون عالم المال والأعمال وقد تكون غيرها. كل مستوى من هذه المستويات يدفع بطروحاته وأفكاره، ويدافع عن مصالحه أو عن تطلعاته أو عن مطالبه. أين الاستقلالية في كل هذا؟

قد يدعي بعض المنابر غير الحزبية هنا وهناك، أنه مستقل وصاحب قرار حر، ولا سلطان لأحد على خطه التحريري. قد نسلّم بذلك تجاوزًا بوجه السلطة وبالنسبة لبعض المنابر المكتوبة، لكننا لا نستطيع أن نسلم بذات الاستقلالية عندما نعلم من أين يأتي دعم هذه المنابر، وكيف تتحصل على الإعلانات، وكيف تتم مجاراة هذه الجهة أو مماراة تلك(24).

ثم إ "تحامل" بعض المنابر على السلطة، أو التعرض لممارسات الحكومة ومرافقها الإدارية، ليس عربون استقلالية دائمًا، بقدر ما قد يكون مزايدة صرفة على خلفية من الظن بأن ذلك من شأنه زيادة المبيعات واستقطاب الإعلانات أو الترويج "للسلعة الإعلامية" المعروضة. الاستقلالية هنا تتحول بحكم الأمر الواقع، إلى أصل تجاري صرف، وتخرج عن كونها أداة بناء مجال إعلامي المفروض فيه أن يتحول إلى سلطة رابعة، أو على الأقل إلى سلطة مضادة بوجه سلوكات فاعلي الدولة ودواليبها المختلفة.

إن العديد من المنابر الإعلامية، التي تدعي الاستقلالية، غير قادرة على رفع رهان هذه الاستقلالية، أي الدفع برأي وتأدية الثمن عليه بهذا الوجه أو ذاك. على العكس من ذلك، فقد رأينا في العديد من الحالات، كيف يتم اللجوء إلى رسائل الاستعطاف لدى رأس الدولة، وكيف يتم تخفيف حدة النبرة تحت هذا التهديد أو ذاك، وكيف أن بعضًا منها حرّم على نفسه الاقتراب من بعض مكامن السلطة، أو من اللوبيات الدائرة في فلكها، وهكذا(25).

كل ذلك للخلوص إلى القول بأن الإعلام والسلطة عنصرا معادلة ملؤها التناقض والتنافر والتمنع والممانعة والاحتراب؛ إذ اكتساب مساحة إضافية لهذا، غالبًا ما يتم على حساب ذاك... ومن ثمة على حساب الاستقلالية والمصداقية والمهنية التي ينشدها رجل الإعلام والاتصال.
_______________________________________________________
د.يحيى اليحياوي: أكاديمي متخصص في الإعلام ،جامعة محمد الخامس، المغرب

المصادر و المراجع

1-Brian McNair, An introduction to political communication (London : Ed Routeledge, 2003), 4.
  2- محمد البشر، مقدمة في الاتصال السياسي (الرياض: مكتبة العبيكان، 1997)، 15.
3-  يحيى اليحياوي، في القابلية على التواصل (الرباط: منشورات عكاظ، 2012)، 272.
4- يحيى اليحياوي، الاتصال والتواصل، موقع المؤلف www.elyahyaoui.org 
5-   سعد بن سعود بن محمد بن عبد العزيز آل سعود، الاتصال السياسي في وسائل الإعلام وتأثيره في المجتمع السعودي (الرياض: منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 2006)، 37.
 6- آل سعود، الاتصال السياسي، 39 
 7-محمد بن عبد العزيز آل سعود، العلاقة بين وكالات الأنباء العالمية وترتيب أولويات اهتمام الصحف السعودية بالقضايا الخارجية (الرياض: منشورات كلية الدعوة والإعلام، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 2002) 75.
8-   كمال الدين جعفر عباس، الاتصال السياسي (دمشق: منشورات المكتب الإسلامي، سلسلة في البعد الفكري، 2004) 41.
9-  راسم محمد الجمال، الاتصال والإعلام في الوطن العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991) 52-53.
10-  المصالحة محمد حمدان، الاتصال السياسي، مقترب نظري تطبيقي (عمان: دار وائل للنشر والتوزيع، 2002) 55.
11-آل سعود، الاتصال السياسي، 47.
12- Lindon Denis, Le marketing politique (Paris, Ed. Dalloz, 1986), 43.
13-  عصام زكرياء، "ثورة اتصالات الإنترنت"، مجلة ستالايت هايد، العدد 95، لندن، 1 غشت 1995.
14- آل سعود، الاتصال السياسي، 52.
15-Zaki Abdellatif, Aspects de la communication politique au Maroc (Rabat : 14-Ed. Okad, 2004), 220.
16- Dahmani Bouarab, La médiatisation de la communication politique, (Fès : Mémoire D.E.S en sciences politiques, Université Sidi Mohammed Ben Abdellah, 1991), 180.
17- عواطف عبد الرحمن، "العلاقة بين الإعلاميين والسياسيين في الوطن العربي"، سلسة عالم الفكر، المجلد 23، العدد 1-2 (2009): 49.
18- محمد طلال، "الصحافة الحزبية: الواقع وآفاق التحديث"، الدورية المغربية لبحوث الاتصال، العدد 14، (2002): 15.
19- عبد الرحمن، "العلاقة بين الإعلاميين والسياسيين في الوطن العربي"، 52.
20- El Yahyaoui Yahya, De la gouvernance des réseaux numériques, (Rabat : Ed. Okad, 2011), 452.
21-  Gaxie Daniel, Sur quelques concepts fondamentaux de la science politique, (Paris : Mélanges Duverger, P.U.F, 1987), 611.
22-  Achache Gilles, Le marketing politique, (Paris : Hermès, n° 4,1989), 103-112.
23-Miège Bernard, La société conquise par la communication, (Paris : PUG, 1989), 216.
24
-  يحيى اليحياوي، حصار الإعلام، (الرباط: منشورات عكاظ، أكتوبر 2006)، 152.
25-  قوي بوحنية، عصام بن الشيخ، "الرسالة الإعلامية العربية التغييرية: المضامين والرؤى"، المؤتمر الدولي 17 لجامعة فيلادلفيا حول "ثقافة التغيير: الأبعاد الفكرية والعوامل والتمثلات"، عمان، 6 و 8 نونبر 2012.

ABOUT THE AUTHOR