باكستان: مواجهة تعيد رسم علاقة الإعلام بالعسكر

تبحث هذه الورقة تداعيات هذه المواجهة على العلاقة بين الإعلام والمؤسسة العسكرية في باكستان، وترى أن هذه العلاقة تركت تأثيرا كبيرًا على مهنة الصحافة ومعالجتها للقضايا السياسية والاجتماعية؛ حيث غابت التحقيقات الصحفية عن الإعلام المقروء والمرئي، مع تفشي حالة التعبئة وغلبة للمواقف الإيديولوجية والسياسية.
20146974051127580_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
تراجع إعلام الخبر والمهنة كثيرًا في باكستان لصالح الإعلام السياسي، فغالبية الإعلاميين الباكستانيين بدؤوا يمارسون مهمة السياسي وليس الإعلامي، عملاً بمقولة: "كل إعلامي يطمح أن يكون سياسيًّا وبالعكس". واليوم تشهد الساحة الباكستانية حربًا إعلامية حقيقية أطرافها عدَّة، والمنتفعون منها كثر، تمامًا كالمتضرِّرين، اختُلِف فيمن أطلق صافرتها، أهي الأجهزة الأمنية المتهمة بمحاولة اغتيال المذيع الأشهر في مؤسسة "جنك" المعروفة، أم الأخيرة التي اتهمت الجهاز قبل أي تحقيق قضائي بالمسؤولية عن محاولة قتل مذيعها.

تبحث هذه الورقة تداعيات هذه المواجهة على العلاقة بين الإعلام والمؤسسة العسكرية في باكستان، وترى أن هذه العلاقة تركت تأثيرًا كبيرًا على مهنة الصحافة ومعالجتها للقضايا السياسية والاجتماعية؛ حيث غابت التحقيقات الصحفية عن الإعلام المقروء والمرئي، مع تفشي حالة التعبئة والحشد التي انتهجها الإعلام وسط غلبة للمواقف الإيديولوجية والسياسية، وانسحبت حالة التعبئة والأيديولوجية حتى على قضايا كثيرة من بينها: العلاقات مع الهند، وقضية الحوار مع طالبان؛ فبينما كانت الحكومة تحاور طالبان كانت معظم الوسائل الإعلامية تقرع طبول الحرب ضدها، وتعبئ الناس ضد عملية الحوار.
 
وتُرجع الورقة حالة التشرذم والفوضى التي تعيشها الساحة الإعلامية إلى التوسع الأفقي الكبير دون وجود مراكز تدريب إعلامية متخصصة، إضافة إلى غياب ميثاق شرف موحَّد يلتزم الجميع به. 

تشهد الساحة الباكستانية حربًا إعلامية حقيقية أطرافها عدَّة، والمنتفعون منها كثر، تمامًا كالمتضررين، اختُلِف فيمن أطلق صافرتها؛ أهي الأجهزة الأمنية المتهمة بمحاولة اغتيال المذيع الأشهر في مؤسسة "جنك" المعروفة، أم الأخيرة التي اتهمت الجهاز قبل أي تحقيق قضائي أو أدلَّة ثابتة بالمسؤولية عن محاولة قتل مذيعها.

القصة بدأت حين بثت قناة "جيو" التابعة لمؤسسة "جنك" تصريحات للصحافي عامر مير -شقيق المذيع الباكستاني الشهير حامد مير- يتهم فيها مدير المخابرات العسكرية الباكستانية الجنرال ظهير الإسلام بمحاولة اغتيال شقيقه التي وقعت في كراتشي، ترافق هذا مع بث الخبر لساعات مع صورة ظهير الإسلام، دون ردِّ فعل من المؤسسة العسكرية، وهو ما فسَّره بعضهم على أنه دعم خفي من حكومة نواز شريف الساعية إلى تقليص صلاحيات العسكر وجهازه الأمني بعد إذلاله بمحاكمة مشرف(1)، ضاعف من شكوك العسكر والأمن هرع شريف إلى المشفى الذي يرقد فيه حامد مير لعيادته؛ بينما توجَّه قائد جيشه إلى مبنى المخابرات للتضامن معه بسبب تهمة لم تثبت حتى الآن، وهو ما قد يضرُّ بالروح المعنوية للجهاز وللعسكر بشكل عام.

الجاسوس والإعلامي

منذ تأسيس مجموعة "جنك" الصحافية العريقة، والعلاقة بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة قوية ومتينة تجلى ذلك يوميًّا عبر فتح أبواب العسكر لها والسماح لها بتحقيق سبق صحافي تلو آخر؛ وذلك على حساب مؤسسات إعلامية أخرى، غير أن القشة التي قصمت ظهر البعير -كما تراءى للمتابعين- هو إقحام مؤسسة "جنك" الإعلامية للجنرال ظهير الإسلام -بصفته مديرًا لجهاز المخابرات العسكرية- الأقوى والأكثر نفوذًا في محاولة اغتيال مذيع المؤسسة الأشهر حامد مير في كراتشي؛ إذ واصلت قناتها "جيو" نشر الخبر لساعات مع صورة مدير المخابرات على أنه وراء محاولة الاغتيال، دون أن تكلِّف نفسها الحصول على ردٍّ من الجهاز العسكري(2).

ويلحظ المنتقدون أو المشفقون على مؤسسة "جنك" أنه كان عليها انتظار لجنة التحقيق القضائية قبل بثِّ هذه الاتهامات بشكل مباشر؛ لكونه يفقدها المصداقية والنزاهة، فالمستهدف لا يزال في غيبوبة ولا يُنتظر بُرؤه ليُدلي بشهادته(3).

وقد سبق أن كتب مير قبل محاولة اغتياله مقالاً عن تهديد الجهاز الأمني له، ومطالبته بوقف تغطية المفقودين بسبب الحرب على ما يُوصف بالإرهاب، مع تعرُّض أولاده للتهديد(4).

رأى جهاز المخابرات الباكستاني في الاتهام خدمة للعبة إقليمية ودولية لإضعافه؛ حيث ظلَّ عصيًّا على المخابرات العالمية، كما نقل المقرَّبون منه: "نحن كسرنا رؤوس مخابراتية دولية فمَنْ هم جنك حتى يلووا ذراعنا".

بدأ الفتور في العلاقة بين الطرفين مع اصطفاف قناة "جيو" والمؤسسة بشكل عام إلى جانب المؤسسة القضائية الباكستانية عام 2007 ضد الرئيس الباكستاني الأسبق الجنرال برفيز مشرف ابن المؤسسة العسكرية، وهو ما اعتبرته الأخيرة وجهازها الأمني تمرُّدًا وخروجًا عن نصِّ حكم علاقة الطرفين؛ فقد أدَّت المؤسسات الإعلامية -ومن ضمنها جنك- دور منصة إطلاق لكل الناقمين على مشرف ككبش فداء؛ لكن الحقيقة أن الهدف من خلفه كان ممثلاً في المؤسسة العسكرية حتى تمت الإطاحة به، وهو ما عُدَّ انتصارًا قضائيًّا وإعلاميًّا مشتركًا على مشرف ومن خلفه المؤسسة العسكرية، ولم تُفلح كل محاولات مشرف التي سبقت الإطاحة به في تكميم الأفواه وتقليص حرية الإعلام، الذي سعى في بداية حكمه إلى جعله ليبراليًّا أملاً في تحسين صورته؛ لكنه انقلب عليه(5).

ويظل هاجس المؤسسة العسكرية اليوم هو تهديد القوة الناعمة لها؛ وذلك من خلال القضاء والإعلام، وليس من الأحزاب السياسية وقوى الضغط الاقتصادية(6)، وهو ما يُفَسِّر إعلانها عن معركة مفتوحة مع مؤسسة "جنك"، ربما ككبش فداء.

ابتلع الجهاز الأمني على ما يبدو الإهانة بانتظار فرصة أخرى؛ لكن المؤسسة الإعلامية واصلت عملية تفكيك الجهاز إعلاميًّا حين شكَّلت مع تايمز أوف إنديا مؤسسة "أمن آسيا" للتصالح بين البلدين، وتسارعت وتيرة التقارب الثقافي والإعلامي وغيرهما بين البلدين؛ لكن المؤسسة الأمنية على الرغم من موافقتها اللفظية -كما أعلن منظِّمو المؤسسة في باكستان- لم يكن يروق لها ذلك، ولم تكن مستعدَّة في المقابل أن تُتَّهم أنها المعرقل في تحسين علاقات البلدين؛ مما يضر بسمعتها إقليميًّا ودوليًّا، فالعسكر -الذين يحتكرون على مدى عقود العلاقة مع الهند بعيدًا عن شريف- لن يسمحوا بمَنْ هو دونه أن يفرض أجندته عليهم.

ويُفَسِّر ذلك أكثر طرد صحفيين هنديين لاحقًا من باكستان دون إبداء الأسباب، ويعزوه خبير باكستاني إلى احتمال فوز حزب جاناتا بارتي الهندوسي المتطرف في الانتخابات الهندية وتشكيله حكومة متشددة، وهو ما دفع العسكر في باكستان إلى سحب ملف العلاقة مع الهند من قبضة نواز شريف والإمساك به(7).

إعلام الخبر هو الضحية

لا شك أن إعلام الخبر والمهنة تراجع كثيرًا في باكستان لصالح الإعلام الديماغوجي والسياسي، فغالبية الإعلاميين الباكستانيين بدؤوا يمارسون مهمَّة السياسي وليس الإعلامي؛ ربما يكون عملاً بمقولة تاريخية: "كل إعلامي يطمح أن يكون سياسيًّا وبالعكس". لينتقما من بعضهما بعضًا، وألقى ذلك بظلاله على حالة التشظِّي الإعلامي الضخم في غياب حواضن إعلامية تدريبية، وبرزت معها ظاهرة المشاهير الإعلاميين الذين بدؤوا يزاحمون مشاهير الساسة والفن، حتى ولو على حساب المهنة.

فقد جرت العادة عالميًّا أن تقوم الشرطة بالتحقيق في حالات كهذه -إلا في باكستان- لتقديم تحرياتها إلى القضاء؛ لكن سارعت الحكومة على الفور بتشكيل لجنة قضائية، واختلفت التفسيرات باختلاف أصحابها؛ فبعضهم يراها بريئة؛ وذلك للجدية في معرفة القاتل، وبعضهم الآخر يراها لذرِّ الرماد في العيون كحال لجان قضائية عدَّة شُكِّلت وانتهت تحرياتها إلى النسيان.

حالة التعبوية والأيديولوجية انسحبت حتى على قضايا مثل الحوار مع طالبان؛ فبينما كانت الحكومة تحاور طالبان كانت معظم الوسائل الإعلامية تقرع طبول الحرب ضدها وترفض الحوار، وفي الوقت الذي من المفترض أن يكون الإعلامي ناقلاً للخبر والمعلومة لصناع القرار، يشرح ذلك الإعلامي المعروف رحيم الله يوسف زي عضو لجنة التفاوض الحكومي مع طالبان "طرح الإعلام 15 شرطًا لطالبان للحوار مع الحكومة، وكلها كاذبة، فلدى الإعلام أسبابه الأيديولوجية والسياسية لمعاداة الحوار مع طالبان؛ وهو ما ألحق الضرر بمهنية الإعلام وحرفيته"(8).

ويتفق معه رئيس قسم الإعلام في جامعة البنجاب البروفيسور مغيث الدين على أن الإعلام الباكستاني أصبح أجندة للآخرين؛ خصوصًا فيما يتعلق برفض الحوار مع طالبان لإبقاء الجيش الباكستاني مشغولاً عن العدو الهندي في الجبهة الشرقية(9).

 لقد غاب حضور الإعلاميين تمامًا عن مناطق القبائل وإجراء تحقيقات صحفية معمَّقة مع شريك المعادلة الحوارية طالبان لتسهيل فهم الآخر؛ ومن قبلُ سبق أن شحذ الإعلام سكاكين أقلامه وكاميراته ضدَّ الجماعة الإسلامية الباكستانية؛ وذلك لانتقادها الجيش بصمته على قتل زعيم طالبان حكيم الله محسود بطائرة أميركية بلا طيار؛ بينما الحوار يدور بين الحكومة وطالبان.

على الأرض تراجع إعلام الخبر لصالح إعلام السياسة، وغابت التحقيقات الصحافية عن الإعلام المقروء والمرئي؛ وذلك مع تفشي حالة التعبئة والحشد، التي انتهجها الإعلام مع غلبة المواقف الأيديولوجية والسياسية على الإعلامية والخبرية.

لم تقتصر الحالة "المكارثية" على الإعلاميين فحسب؛ وإنما امتدَّت إلى نشطاء حقوقية؛ فشخصية مثل أسماء جهانكير -التي كانت مرشحة يومًا ما لتولِّي منصب المفوض الحقوقي الأممي- اتهمت زعيم حركة الإنصاف الليبرالي المعروف بأنه مخبر لدى حركة طالبان لتأييده الحوار معها(10).

على مدى سنوات كان استهداف إعلام الخبر قتلاً واعتقالاً هو الأساس؛ ففي عام 2006 تم قتل الصحافي هدايت الله في وزيرستان، وفي عام 2011 قُتل الصحافي سليم شاه زاد، وعلى الرغم من صمت الجهاز الأمني على اتهامات له بالضلوع في قتلهما؛ فإنه لم يُبْدِ موقفًا بخلاف ردِّه على محاولة اغتيال حامد مير؛ حيث لا تزال الضحية حية بخلاف سابقيه(11).

وصنفت منظمة العفو الدولية باكستان ضمن الترتيب 141 من أصل 197 في حالة الاعتداء على الصحافيين متقدِّمة بذلك على أفغانستان والصومال؛ فخلال الفترة الممتدة من 2008 وحتى الآن قُتل 34 صحافيًّا باكستانيًّا؛ من بينهم ثمانية خلال فترة حكم نواز شريف بحسب تقرير المنظمة(12).

وفي المقابل لابُدَّ من الاعتراف أن مادة الإعلام الباكستاني وروحه هي مؤسسة "جنك" الصحافية؛ بغضِّ النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها في معركتها مع الجهاز العسكري وإمكانية أن يُصَبَّ ماؤها في طاحونة الآخرين، كما يقول معارضوها؛ لكن هزيمتها تعني هزيمة روح الإعلام الباكستاني وتراجعه أيضًا(13).

إن أهم ضحايا المعركة الإعلامية السياسية في باكستان هو القارئ والمشاهد، الذي يُحرم من الخبر الدقيق في القضايا التي تهمه بغية تشكيل رأيه وقراره؛ فالساحة الباكستانية تشهد تشرذمًا وتشظيًا وتشتتًا غير مسبوق؛ وذلك بسبب التنافس المذموم بين وسائل الإعلام وحجم الضغوط التي يتعرَّض لها.

تخبط حكومي

بينما سارع رئيس الحكومة الباكستانية نواز شريف إلى عيادة الصحافي المستهدف حامد مير في مشفاه، كان قائد جيشه الجنرال راهيل شريف يزور مبنى المخابرات العسكرية الباكستانية؛ لمنح دعم سياسي ومعنوي لذراعه الأمني، وهو ما عكس البون والفجوة بين الطرفين، لاسيما وأن جبل جليد الخلاف بين السياسي والعسكري يزداد سماكة؛ وذلك مع إصرار الحكومة على محاكمة مشرف، التي تعني محاكمة العسكر كلهم.

لجأ العسكر إلى وزارة الدفاع لمطالبة مصلحة الإعلام الإلكتروني بوقف بث قناة "جيو"؛ بينما كان وزير الإعلام يُعارض، وعاد بعدها الوزير إلى القول: إن فضل حرية الإعلام يعود إلى العسكر، لم ينتظر الأخير رأي أحد فسارع إلى قطع بث القناة عن مقارِّه العسكرية ومجمَّعاته السكنية، وتراجع ترتيب جيو على أنظمة الكيبل من رقم 2 إلى رقم 65(14).

ربما شعر الحزب الحاكم بزعامة شريف كعادته متأخرًا أنه كرَّر خطأ تاريخيًّا اقترفه من قبلُ بمعاداة العسكر؛ فسعى حزبه إلى التنسيق مع سياسيين آخرين بالبرلمان للتضامن مع العسكر والجهاز؛ ولكن على ما يبدو "الصيف ضيّعت اللبن"؛ فقد كان الجهاز ومعه العسكر قد بدؤوا عملية البحث عن أذرع سياسية وشعبية بديلة لتحصين أنفسهم.

اصطفافات سياسية

حين يقع الثور يكثر سالخوه؛ وهو ما حصل في حالة الحكومة ومؤسسة "جنك" الإعلامية؛ فقد لجأ الجيش والأمن إلى شحذ سكاكينهم الإعلامية والشعبية والسياسية لتصفية حسابات قديمة جديدة مع مَنْ يُهَدِّدهم، فكان أن خرجت جماعتا: منهاج القرآن، والدعوة الكشميرية المستنسخة عن عسكر طيبة -المصنفة إرهابيًّا عالميًّا وباكستانيًّا، والمتهمة بالهجمات على مومباي عام 2008- بمظاهرات تُنَدِّد بقناة "جيو"، وتصفها بالعميلة للهند، في حين غيَّر عمران خان أعداءه، وشنَّ حربًا لا هوادة فيها على مؤسسة "جنك" الإعلامية؛ ليعزفا معزوفة العسكر، وهو ما ردَّ عليه كتاب الصحيفة من أن عمران يحاول استثمار الوضع لصالحه؛ وذلك بنيل دعم الأجهزة الأمنية في تشكيل تحالف سياسي على غرار ما فعلته الأجهزة من تشكيل التحالف الديمقراطي الإسلامي عام 1988 لمواجهة فوز "بي نظير" بالانتخابات حينها(15).

ورُفعت -ربما لأول مرة في تاريخ التظاهرات الباكستانية، وربما العالمية- صور مدير المخابرات العسكرية الباكستانية ظهير الإسلام؛ وذلك في رسالة لا تُخطئها العين فحواها أن الجهاز وواجهته العسكر يخشون الإضرار بشعبيتهم؛ فسعوا إلى تعويضها بالمظاهرات، ولو من جماعات لا دعم شعبي كبير لها؛ وذلك مع رسالة إلى الآخرين من أن العسكر لديهم البدائل التي تكفل مصالحهم.

ترافق شحذ سكاكين الساسة في وجه المؤسسة والحكومة الباكستانية شحذ سكاكين إعلامية، ونيران الزمالة الإعلامية؛ فظهرت معظم وسائل الإعلام الباكستانية المرئية والمكتوبة معادية لمؤسسة "جنك" وكأنها وجدت الوقت المناسب لتصفية حسابات قديمة جديدة معها، فكان استثمار أي خطأ تقع فيه قناة "جيو"، وهو ما حصل حين سعت قناة منافسة إلى شنِّ هجوم عنيف على قناة "جيو" لبثِها لقطات من إعادة تمثيل عرس الممثلة الباكستانية "فينا ملك" مع زوجها حسن زيدي، وتشبيه زواجهما بزواج صحابي مع زوجته(16). وعلى الرغم من الخطأ المهني الذي وقعت فيه قناة "جيو"؛ فإن التشهير بها يعكس مدى الإسفاف في العلاقة المهنية بين زملاء المهنة، والقاع الذي وصل إليه الإعلام الباكستاني تحت ذريعة حصد مشاهدين أكثر، ولو كان على حساب المهنة وأخلاقياتها.

تبقى الإشارة إلى أن ما تُعانيه المؤسسات الإعلامية في هذه الحالة هو سكين قطع رزقها؛ وذلك من خلال حرمانها من إعلانات حكومية، وهو ما يعني تركيعها على المدى البعيد، أو إضعافها، أو الاثنين معًا.

ظلت مؤسسة "جنك" منفردة في الساحة تواجه أعداءها الكثر، وواصل إعلاميوها بأقلامهم وكاميراتهم التصدِّي للحملة ضدهم، فكتب أحد كتابها "أنصار عباسي" مقالاً هزليًّا بعنوان: "أنا بطل". والمقصود به مشرف؛ وبالتالي أفعلُ كلَّ شيء من التحالف مع الأميركيين، وقتل شعبي في مناطق القبائل إلى تعليق الدستور، وفرض الأحكام العرفية، وإخفاء آلاف الأشخاص المفقودين، وبالتأكيد فالمقصود العسكر وليس "مشرف" وحيدًا(17).

لكن زميله "طارق بت" كان أقلَّ عنفًا منه حين كتب عن خبرته في المؤسسة، التي امتدت إلى 22 عامًا كلها مهنية كما كتب، لم يتدخَّل أحد في عمله، أو في الخط التحريري للصحيفة لغايات سياسية(18).

في مقابل ذلك ربما الجهة الأهم المستفيدة من هذه المواجهة وانشغال الإعلام كله ببعضه أو بالعسكر والأمن هو حركة طالبان باكستان، التي كانت هدفًا على مرِّ سنوات -وتحديدًا الأشهر الأخيرة- للانتقاد والحرب عليها.

تعريفات بانتظار الحسم

تعريفان هلاميان هَيُولان لم يُحسما في كثير من بلدان العالم الثالث؛ ليظلاَّ أداتين من أدوات الدولة العميقة النافذة، تُشهرانه في أي وقت تشاء، وضدَّ مَنْ يقف في وجهها، اليوم باكستان ليست نشازًا عن هذه القاعدة؛ فما يُطرح في وجه مؤسسة "جنك" هو سلاح الوطنية، وكأن الوطنية هي التهجم فقط على جهاز مخابرات أو على العسكر فقط؛ أما التهجم والتشهير برئيس الحكومة ورئيس الدولة فهو ليس أمنًا قوميًّا؛ لذا فإن غياب تعريف جامع مانع متَّفق عليه ومعلن من قِبَل المؤسسات النافذة الباكستانية تشريعية أو قضائية أو تنفيذية أو عسكرية أو مدنية هو ما يجعل تفسير المفهومين الوطنية والأمن القومي خاضعًا لسلطة الأقوى، وما على الأضعف إلا تقبُّل الهزيمة.

ويجادل بعضهم بقوله: إن الأمن القومي الذي كان قبل أشهر وسنوات يكمن في ترقية العلاقة مع الهند، وتعزيز التبادل التجاري معها، وبحث منحها الدولة الأكثر تفضيلاً في التجارة معها، هي اليوم بنظر بعضهم عدوَّة، والتعامل معها إعلاميًّا خيانة؛ فلِمَ شراء البطاطا وغيرها من المنتجات حلال، وشراء المعلومات والأخبار وتبادلها مع الهند خيانة وطنية كما يقول مؤيدو مؤسسة "جنك"؟

لعلَّ ما ساعد هيمنة رؤية الجهاز العسكري هو دولته العميقة أولاً، وأذرعه السياسية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والدينية وغيرها ثانيًا؛ فالبلد لا يزال يمرُّ في مرحلة انتقالية، وهي المرحلة التي لم تتخطَّاها باكستان منذ قيامها 1947؛ لكن منذ عام 2008، وباكستان تعبر مرحلتها العسكرية من حكم مشرف إلى حكم مدني زرداري-شريف، وفي العام الماضي تمَّ نقل السلطة لأول مرَّة بشكل سلس وديمقراطي من حكومة منتخبة إلى أخرى، والأمر الثالث أن المنطقة تعيش مرحلة انتقالية بسبب الانسحاب الأميركي من الجارة أفغانستان والفراغ الذي سيُشَكَّل مع الرحيل، إضافة إلى انتظار تشكيل حكومة هندوسية متشدِّدة في الهند.

خلاصات

  1. يبدو أن المؤسسة الإعلامية "جنك" كان عليها أن تكون أكثر مهنية في بثِّ خبر محاولة اغتيال مذيعها، وتدع مساحة للطرف الآخر وهو العسكر، وأن تعمل على كسب المؤسسات الإعلامية المنافسة لها؛ وذلك عبر إبراز أن القضية لا تخصَّها وحدها بقدر ما تخصُّ حرية الإعلام الباكستاني برُمَّته؛ لكن غرورها هو من أوقع بها، فضلاً عن عدم تنسيقها مع مؤسسات المجتمع الأخرى من سياسية، ومدنية، ومجتمعية، وبرلمانية، ومراكز أبحاث، ونحوها.
  2. إن حالة التشرذم والفوضى التي تعيشها الساحة الإعلامية -بسبب التوسع الأفقي الكبير دون وجود مراكز تدريب إعلامية متخصصة- لابُدَّ من وضع حدٍّ لها؛ بحيث تلتزم المؤسسات الإعلامية بتدريب كوادرها بنفسها، أو بالتنسيق مع الحكومة؛ وذلك مع اتفاق بين المؤسسات الإعلامية على وضع ميثاق شرف موحَّد يلتزم الجميع به.
  3. تسرّع رئيس الحكومة الباكستانية نواز شريف في الوقوف إلى جانب المؤسسة الإعلامية على حساب جهاز مخابراته والمؤسسة العسكرية برمتها، التي تنتظر خطأ له كهذا، وهي التي لن تنسى له مواجهته معها أيام مشرف، وإصراره على إذلالها بمحاكمة مشرف، فضلاً عن عدم تريُّثه بانتظار نتائج التحقيق، وبالتالي كان على شريف أن يُدرك أن ذلك طُعْمًا ربما ألقته المؤسسة فيتفادى ابتلاعه؛ لكنه ابتلعه، ثم سعى إلى تغيير موقفه في الوقت الضائع.
  4. كان على العسكر أن يدركوا أنه لا أحد يستطيع أن يُعلن الحرب على إعلامي فضلاً عن مؤسسة إعلامية عريقة؛ بغض النظر عن أخطائها حتى التحريرية، وبالتالي لابُدَّ من التوصل إلى تسوية معها، تتصاحب مع وضع حدٍّ لتعريف مصطلحات مهمَّة مثل الوطنية والأمن القومي، يُشارك الجميع في تحديدها والالتزام بها.

_____________________________________
د. أحمد موفق زيدان - مدير مكتب الجزيرة في باكستان

الهوامش والمصادر
1- سعيد شاه: الجيش الباكستاني يطالب بإغلاق مؤسسة إعلامية، صحيفة وول ستريت جورنال، بتاريخ: 22 من إبريل/نيسان 2014، انظر الرابط: إضغط هنا
2- جاويد جبار: حول مسلسل جهاز الآي إس آي وقناة جيو، صحيفة ذي نيوز الباكستانية الصادرة بتاريخ 14 من مايو/أيار 2014 انظر الرابط:
http://www.thenews.com.pk/Todays-News-2-250009-About-the-Geo-ISI-episode
3- حارث خالقيو: الحقيقة تجلب الثقة، صحيفة ذي نيوز الباكستاني الصادرة بتاريخ 23 من إبريل/نيسان 2014 انظر الرابط:
 http://www.thenews.com.pk/Todays-News-9-245883-Truth-will-bring-trust
4- Hamid Mir, the pressure of censorship and self censorship ,pp17.reporting under threat.testimonies of courage in the face of impunity from Pakistani journalists. Published in Pakistan 2014.
5- أكرم شهيدي مدير جهاز الإعلام في حزب الشعب الباكستاني: حلفاء طبيعيون: الإعلام والشعب صحيفة ذي نيوز الصادرة بتاريخ 14 من مايو/أيار 2014، انظر الرابط:
 http://www.thenews.com.pk/Todays-News-2-248192-Natural-allies-People-and-media
6- الدكتور نياز مرتضى: من يحكم باكستان، صحيفة ذي نيوز الصادرة بتاريخ 15 من مايو/أيار 2014، انظر الرابط:
http://www.thenews.com.pk/Todays-News-9-250170-Who-rules-Pakistan
7 - جون بون: الطلب من صحافيين هنود مغادرة باكستان، صحيفة الغارديان البريطانية الصادرة بتاريخ 15 من مايو/أيار 2014، انظر الرابط:
 http://www.theguardian.com/world/2014/may/14/indian-journalists-ordered-out-pakistan
8- لقاء الكاتب مع الإعلامي رحيم الله يوسف زي في بيشاور بتاريخ 5 من إبريل/نيسان 2014.
9- لقاء الكاتب مع البرفيسور مغيث الدين في لاهور بتاريخ 8 من إبريل/نيسان 2014.
10- تقرير إخباري لصحيفة ذي نيوز الباكستانية الصادرة بتاريخ 21 من فبراير/شباط 2014، انظر الرابط:
http://www.thenews.com.pk/Todays-News-2-233979-Asma-terms-Imran-Taliban-informer
11- حسن زيدي: تكميم الإعلام الباكستاني؛ نيويورك تايمز، الصادرة بتاريخ 4 من مايو/أيار 2014، انظر الرابط:
 http://www.nytimes.com/2014/05/05/opinion/muzzling-pakistans-media.html?_r=0
12- ديفيد غريفيث: ذي نيشن، الصادرة في 30 من إبريل/نيسان 2014، انظر الرابط:
 http://www.nation.com.pk/columns/30-Apr-2014/pakistani-media-under-siege
13- أنصار عباسي: تحركات لإضعاف الإعلام المستقل والديمقراطية، صحيفة ذي نيوز الباكستاني، الصادرة بتاريخ 5 من مايو/أيار 2014، انظر الرابط:
http://www.thenews.com.pk/Todays-News-13-30129-Moves-on-to-weaken-independent-media-democracy%20-
14- جاويد جبار: مسلسل جهاز الآي إيس آي وقناة جيو. مصدر سبق ذكره.
15- مظهر عباس: هل تشكيل تحالف ديمقراطي إسلام وشيكًا، صحيفة ذي نيوز الباكستانية، الصادرة بتاريخ: 14 من مايو/أيار 2014، انظر الرابط:
http://www.thenews.com.pk/Todays-News-2-250020-Is-another-IJI-in-the-offing
16- انظر الرابط:
http://www.zemtv.com/2014/05/14/geo-blasphemy-attempt-in-morning-show-must-watch/
17- أنصار عباسي: أنا بطل، صحيفة ذي نيوز، الصادرة بتاريخ: 23 من إبريل/نيسان 2014، انظر الرابط:
http://www.thenews.com.pk/Todays-News-13-29879-I-am-a-hero
18- طارق بت: 22 عامًا من العمل مع ذي نيوز، انظر صحيفة ذي نيوز، الصادرة بتاريخ: 14 من مايو/أيار 2014، والرابط: http://www.thenews.com.pk/Todays-News-2-250010-My-22-years-with-The-News

ABOUT THE AUTHOR