أبعاد أيديولوجيا الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة الإسلامية

تُفكِّك الورقة أبعاد أيديولوجيا الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة وسيلةً ونصًّا ولغةً وصورةً، في سياق الحرب النفسية التي يخوضها ضد خصومه؛ ساعيًا لأن تكون شبكات التواصل الاجتماعي الوسيط الحامل لأيديولوجيته والعنوان الدَّال على كينونته، ومنصة لـ"السلطة والقوة" التي تجعل هذا الخطاب "مُهَيْمِنًا" وسائدًا.
2 March 2015
20153285134688734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
تُقدِّم الورقة قراءة تفكيكية لأيديولوجيا الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة في سياق اهتمامه (التنظيم) المتزايد بوسائل الإعلام الجديد، لاسيما شبكات التواصل الاجتماعي، ودورها في تشكيل الرأي العام، واستثماره لهذه الوسائط في نشر أيديولوجيته وبث دعايته. وقد أظهر فيديو إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة، والأقباط المصريين، قدرة هذا الخطاب على تكثيف رمزية علاماته، نصًّا ولغةً وصورةً، والتمثيلات المدركة لمرجعيته الفكرية ومنظومته القيمية.

وتنطلق الورقة في تحليل أبعاد أيديولوجيا الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة من استراتيجيات القائم بالاتصال في تنظيم المحتوى، وتحديد الوسائط الأكثر ثراء لإيصال رسالته في سياق الحرب النفسية التي يخوضها التنظيم ضد خصومه؛ لذلك يَجْهَد لأن تكون شبكات التواصل الاجتماعي (اليوتيوب وتويتر) الوسيط الحامل لأيديولوجيته، والعنوان الدَّال (عنوان الهوية الإلكترونية) على كينونته؛ ساعيًا إلى "تطبيع" مرجعيته الفكرية والعقائدية مع المستخدمين و"تسييل" العنف المتوحش عبر هذه الوسائل، وإبراز خصوصية الـ"نحن" (دولة الخلافة) التي تواجه الـ"هُمْ" (الصليبيين والمرتدين) في صراع وجودي أزلي؛ وهو ما يُفسِّر جزئيًّا الحرب الإلكترونية التي تخوضها دول التحالف ضد تنظيم الدولة لمحاصرته إعلاميًّا، والحيلولة دون تمدُّده في الفضاء الرقمي والسيطرة عليه؛ باعتبار أن إنتاج الخطاب يمثل القوة والسلطة.

ويهدف هذا الخطاب إلى خلق كتلة أيديولوجية من جمهور مُنْصَهِر المواقف والاتجاهات والسلوكيات وصولًا إلى قَوْلَبَةِ وتَنْمِيطِ وعي المستخدمين باتجاه النظام القيمي للتنظيم وممارساته الاجتماعية ورؤيته السياسية للصراع؛ فضلًا عن إثارة الخوف وإرهاب الـ(هُمْ) كما يبدو في التشفي والنكاية بالأسرى، والتمثيل بضحاياه؛ فـالغاية هنا (الترهيب) تبرر الوسيلة بالنسبة للتنظيم؛ وهو ما يبدو في إنتاج فهم لـ"البعثة المحمدية" خارج سياق النص القرآني والأدلة الشرعية عندما يجعلها مساوية للسيف (رحمة الرسالة المحمدية=السيف)؛ وبذلك يصبح الخطاب دعائيًّا مُشْبَعًا بالأيديولوجيا (أيديولوجيا التوحش)؛ يُروِّج، مُتَعَمِّدًا، منظومته الفكرية والعقائدية وتكوين اتجاهات مؤيدة لها.

مقدمة

أبرزت حادثة إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حَرْقًا والسرد البصري لِمُكوِّنات ساحة الإعدام والأطر العامة والخاصة لتلك العملية دور الإعلام الجديد، وبخاصة شبكات التواصل الاجتماعي، الحامل لأيديولوجيا تنظيم الدولة في نشر رسالته الإعلامية؛ باعتباره أداةً لا تَقِلُّ أهميته عن العمليات العسكرية التي يخوضها في جبهات القتال المتعددة، لذلك يستثمر التنظيم هذا الإعلام ليس فقط في نشر أيديولوجيته (منظومته القيمية والفكرية ورؤيته السياسية للصراع)، بل في الدعاية والحرب النفسية لمواجهة خصومه.

وهنا، يُقدِّم فيديو الكساسبة، والأقباط المصريين، وقبل ذلك فيديو الرهينتين اليابانيتين: هارونا يوكاوا وكينجي غوتو، هذه الرؤية بتكثيف ورمزية شديدين عبر خطابٍ مُشْبَعٍ بالقيم والمحدِّدات المرجعية الـمَسْكُوكَةِ في علامات مَخْصُوصة؛ وهو ما يستدعي دراسة أطروحاته وعلاماته (وتمثيلاتها المدركة)، وسماته لتحديد تلك الحمولة والقيم الأيديولوجية الجليَّة والـمُبَطَّنة. ولم تُغْفِلْ الورقة المواد الإعلامية والدعائية التي تُصْدِرُها المؤسسات الإعلامية التابعة للتنظيم رغم صعوبة الولوج إليها وحجبها باستمرار، وإن كان فيديو الكساسبة وحده كافيًا للكشف عن أيديولوجيا الخطاب الإعلامي في أبعادها المختلفة: وسيلةً ونصًّا ولغةً وصورةً.

وفي هذا السياق، يَبْرُز السؤال الجوهري الذي تحاول الورقة الإجابة عنه: ما أبعاد أيديولوجيا الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة: وسيلةً ونصًّا ولغةً وصورةً؟ وترتبط مقاربة هذا السؤال بقضايا فرعية يمكن إجمالها في الأسئلة الآتية: ما النظام القيمي والتمثيلات المدركة في الرسالة الإعلامية لتنظيم الدولة؟ ما رؤية القائم بالاتصال إلى محيطه والعالم؟ هل تتوافق هذه الرؤية مع المحددات الفكرية والثقافية للمتلقي أم تتناقض معها؟ ما ثيمات السرد البصري للرسالة الإعلامية؟ كيف يتشكل بناؤه؟ ما وظيفته؟ وما أهدافه؟

وتستمد هذه الأبعاد أهميتها انطلاقًا مما تمثله الأيديولوجيا والخطاب في علاقتهما بوسائل الإعلام؛ فالخطاب يُجسِّد الإرادة والقوة والسلطة "سلطة الخطاب"، مثلما يؤكد الفيلسوف والمفكر الفرنسي ميشيل فوكو كما سنرى في تعريفه للمصطلح. فتنظيم الدولة لا يكتفي بالقوة العسكرية وحدها لبسط نفوذه على الأرض وتثبيت سلطان "دولته"، بل يلجأ إلى الدعاية لعرض ممارساته الكلية (القوة أو السلطة الأيديولوجية لتحقيق الهيمنة) عبر الخطاب.

وستعتمد المقاربة الـمُوَجِّهة للورقة على بعض أدوات التحليل السيميولوجي للخطاب الإعلامي، والتي تبحث في شروط الدلالة، وشبكة العلاقات بين عناصر النص الدَّالة وأنساقها وكيفية تكوُّنها، والقواعد التي تحكم تغيرات مدلولاتها ومفاهيمها(1)، ووفقًا لذلك سيركز التحليل على البُعد التركيبي الذي يدرس العلاقات بين العلامات الموجودة في كل الأنساق السيميائية مع بعضها، ثم البعد الدلالي الذي يدرس علاقات المعنى وسياقاتها، ثم البعد التداولي الذي يُعْنَى بعلاقات العلامات بمؤولاتها، وبما يشمل السياقات الاجتماعية التي تستخدم فيها(2).

مفاهيم إجرائية 

يتمثل المدخل المناسب لمعالجة الأسئلة التي تطرحها الورقة في تحديد مصطلحي الأيديولوجيا والخطاب؛ باعتبارهما مفهومين إجرائيين يساعدان على تفكيك الوجود أو النظام القيمي للرسالة الإعلامية لتنظيم الدولة. ولن تكون الإحاطة بالمفهومين في جميع الحقول المعرفية يسيرة؛ إذ تتنوَّع مثلًا تعريفات مصطلح الأيديولوجيا، فليس هناك مفهوم مُوحَّد أو جامع؛ لأنه يحتوي على مضامين مختلفة ومتضاربة أحيانًا يُحدِّدها السياق الذي تُستخدم فيه، وكذلك منطلقات الباحثين الفكرية والفلسفية وتخصصاتهم العلمية؛ فقد عرَّفها أستاذ الدراسات الإعلامية صمويل بيكر (1923-2012) بأنها "مجموعة من المرجعيات، تتكون من محدِّدات قِيَميَّة متداخلة تساعدنا في تحديد رؤيتنا إلى العالم والتكيُّف معه"، ويشرح العالم السوسيولوجي والباحث في الدراسات الثقافية ستيوارت هول (1932-2014) كلمة المرجعيات في تعريفه الذي يحدد الأيديولوجيا بـ"المرجعيات الذهنية، مثل: الأفكار واللغة والمفاهيم التي تعمل وفقها جماعات معينة في المجتمع، وتؤثر في رؤية هذه الجماعات أثناء حراكها المجتمعي". ويؤكد أستاذ الاتصال السياسي دارين ليلكر أن عنصر الأفكار في مفهوم المصطلح هو العنصر الرئيسي والمؤثر في السلوك؛ باعتباره نتيجة الفكرة أو المعتقد، لذلك فـ"الأيديولوجيا هي مجموعة من الأفكار والمعتقدات التي تعمل بوصفها مُرْشِدة للسلوك أو ضابطًا له"(3)، وقد تتسع لتشمل النظم العقائدية ومفهوم الثقافة برمَّته وقد تضيق لتصبح مجرد فكرة يحملها الآخر(4).

إذن، فالأيديولوجيا هي نسق من المعتقدات والمفاهيم (واقعية ومعيارية) يسعى إلى تفسير ظواهر اجتماعية معقَّدة من خلال منظور يُوجِّه ويبسط الاختيارات السياسية والاجتماعية للأفراد والجماعات، أو هي نظام من الأفكار المتداخلة التي تؤمن بها جماعة معينة أو مجتمع ما، وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية والنظامية، وتبررها في الوقت نفسه. وتقوم الأيديولوجيات بمهمة التبريرات المنطقية والفلسفية لنماذج السلوك والاتجاهات والأهداف وأوضاع الحياة العامة السائدة(5).

وعَرَفَ مصطلح الخطاب هو الآخر تنوُّعًا في تعريفاته لِتَعدُّد مرجعياته ومنطلقاته النظرية والحقول المعرفية والثقافية التي استُخدم فيها (الأدب، اللسانيات، الاجتماع، الإعلام..)، وتنوُّع الموضوعات التي يطرحها. فقد حدَّد إميل بنفنست الخطاب باعتباره "الملفوظ منظورًا إليه من وجهة آليات وعمليات اشتغاله في التواصل، وبمعنى آخر هو كل تلفظ يفرض مُتكلِّمًا ومُستمعًا، وعند الأول هدف التأثير على الثاني بطريقة ما"(6). بينما اعتبر ميشال فوكو (1926-1984) الخطاب موضوعًا للرغبة والسلطة فـ"أشكال المنع الذي تلحقه تكشف باكرًا وبسرعة ارتباطه بالرغبة وبالسلطة. وما المستغرب في ذلك ما دام الخطاب ليس فقط هو ما يُظهر أو يُخفي الرغبة، لكنه أيضًا هو موضوع الرغبة. وما دام الخطاب ليس فقط هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة، لكنه هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها"(7).

ويُقصد بالخطاب في هذه الورقة: طريقة معينة للتحدث عن الواقع وفهمه، كما أنه مجموعة من النصوص والممارسات الخاصة بإنتاج النصوص وانتشارها واستقبالها؛ مما يؤدي إلى إنشاء أو فهم الواقع الاجتماعي، ويشير أيضًا إلى استخدام اللغة حديثًا وكتابةً، كما يتضمن أنواعًا أخرى من النشاط العلاماتي، مثل: الصور المرئية، والصور، والأفلام، والفيديو.. وهو اللغة المستخدمة لتمثيل ممارسة اجتماعية محددة من وجهة نظر معينة(8).

أيديولوجيا الوسيلة 

مثلما سعى تنظيم الدولة الإسلامية إلى بسط سيطرته على أكبر منطقة جغرافية، ومَدِّ نفوذه إلى الدول المجاورة، لم يَأْلُ جُهْدًا في تسخير إمكاناته وقدراته لاستغلال، أو "احتلال"، الفضاء الإلكتروني والحوامل الرقمية المختلفة لممارسة نشاطه الإعلامي المتنوع إنتاجًا وإصدارًا (مجلات، أفلام وثائقية، التدوين، محطات إذاعية، وكالات الأنباء...)، وترجمة إصداراته بلغات أجنبية متعددة (الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والأردو وغيرها). لذلك بات التنظيم مَصْدَرًا للخبر والمعلومة، وباثًّا للرسالة الإعلامية عبر وسائط إلكترونية لا تحتاج إلى معرفة تقنية كبيرة من قبل المستخدمين؛ مُسْتَغِلًّا حرية التجوُّل في المجال العام الإلكتروني الكوني الذي يُخرج الفرد من حدود الجغرافيا، في الوقت الذي "اعتمد فيه الجيل الأول من الجهاديين في بث دعايته خلال حقبة الثمانينات من القرن الماضي على وسائل الاتصال التقليدية الشفوية والكتابات الورقية، ثم استثمر الجيل الثاني دخول شبكة الإنترنت منذ منتصف التسعينات من خلال تأسيس آلاف المواقع الجهادية، ومع الجيل الثالث الذي وُلِدَ من رحم الثورة السورية بداية عام 2011، اعتمدت الجهادية العالمية، وخصوصًا تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها: "تويتر" و"فيسبوك" و"دياسبورا" بصورة مكثفة"(9).

وتؤكد هذه التحوُّلات وعي التنظيمات الجهادية بحاجة الوسيلة الإعلامية، ومن ثم الخطاب الإعلامي، إلى الانتشار وليس فقط إنشاء وسائط مختلفة لن يكون باستطاعتها ممارسة أي تأثير سواء كان معرفيًّا أو عاطفيًّا أو سلوكيًّا إذا لم يتمكَّن المتلقي أو المستخدم من الولوج أو الوصول إليها. وهنا يُلاحَظ أن تنظيم الدولة يحاول إنشاء منظومة إعلامية خاصة به مرتبطة بمواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الإعلام الجديد لخدمة أهدافه، وهو ما يبدو أكثر أهمية بالنسبة إليه في المرحلة الراهنة لما تتيحه هذه الوسائط من إمكانات اتصالية في نشر رسالته الإعلامية.

ويؤشِّر حجم المشاريع والمخرجات الإعلامية على قدرة التنظيم في استغلال وتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي التي تصبح ليس فقط حاملة لأيديولوجيته، وإنما منصة لـ"السلطة والقوة" التي تجعل هذا الخطاب "مُهَيْمِنًا" وسائدًا، ثم مُوَجِّهًا وراسِمًا لأولويات المستخدمين وما يجب التفكير فيه؛ وهو ما يُعبَّر عنه بـ"أيديولوجيا الوسيلة" التي ترتكز على منح تقنيات الاتصال سلطة معيارية لتكون العامل الأول في تنظيم المجتمع وإعطائه معناه، وقد لا يتراءى البعد الأيديولوجي للوسيلة في جانب الاستعمال، لكن يظهر جليًّا في جانب التوظيف، أي: توظيف المستجد التكنولوجي لأغراض لا يغدو عنصر الاستعمال في خِضَمِّها إلا تجليًا من تجلِّيات تلك الأغراض، وهو ما تلخصه مقولة عالم الاتصال شارل ماكلوهان: "الوسيلة هي الرسالة"(10). وبذلك تصبح هذه الوسائط في ذاتها علامة دالَّة على التنظيم، كعنوان الصفحة الشخصية؛ حيث يسعى تنظيم الدولة لأن تكون شبكات التواصل الاجتماعي عنوان هويته الإلكترونية؛ مُهَيْمنًا عليها لـ"تطبيع" المستخدمين مع أيديولوجيته، و"تسييل" منظومته القيمية، التي أصبحت تثير انتقادات حتى في صفوف الجماعات الجهادية التي يشترك معها في المنطلقات العقائدية، وهذا يتيح له بعبارة أخرى سرد القصة (قصة التنظيم) وإعطاء معنى لممارساته داخل المجتمعات لانتزاع السلطة(11).

من جانب آخر، حوَّل تنظيم الدولة مواقع التواصل الاجتماعي إلى وسيلة للاختراق الأيديولوجي، الذي يستهدف فضلًا عن اختراق المؤسسات السيادية (حساب القيادة الأميركية الوسطى على تويتر...)(12)، اختراق المنظومة الثقافية والقيمية الموروثة للأفراد والشعوب ومن ثم نشر النسق القيمي للتنظيم؛ واستمالة المستخدمين إلى صفوفه، وهو ما تسمح به هذه المواقع انطلاقًا من فضائها المفتوح الذي يتميز بالتفاعلية والمشاركة والانفتاح والترابط ومشاعر الحرية، بل والسلطة والقوة؛ مما يؤكد أن الكلمة ليست وحدها الظاهرة الأيديولوجية الأمثل، بل إن "الوسيلة تحمل الطابع الأيديولوجي من أجل السيطرة والسيادة على الإنسان والطبيعة أيضًا"(13). وهذا ما يفسر جزئيًّا كلام روبيرت هانيغان رئيس القيادة العامة للاتصالات البريطانية التي تتولى مراقبة المعلومات عبر شبكة الإنترنت عندما أوضح أن شبكة الإنترنت وشركات التكنولوجيا أصبحت بالنسبة لتنظيم الدولة "مركز مراقبة وقيادة"، وهو ما أشار إليه أيضًا ريتشارد بارت الرئيس السابق لشعبة مكافحة الإرهاب في الاستخبارات البريطانية مُبَيِّنًا أن التنظيم أوكل مهمة الدعاية إلى هذا الوسيط الخارجي؛ وهو أمر غير مسبوق، حيث يتقن التحكم في رسالته من خلال عدم التحكم في بثها(14).

لذلك نستطيع أن نفهم الحرب الإلكترونية التي تخوضها دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة في مواجهة تنظيم الدولة بالموازاة مع المعركة على الأرض لوقف التدفق الإعلامي النشط الذي يقوم به على شبكات التواصل الاجتماعي ومحاصرته رقميًّا (إلكترونيًّا) بعد أن حوَّل هذا "الوسيط الخارجي" منصة حاملة لأيديولوجيته (أيديولوجيا الوسيلة)، وبات بعض دول التحالف يطالب بالضغط على هذه الشبكات (تويتر وفيسبوك) للتعاون مع وكالاتها الاستخبارية لمراقبة أنشطة التنظيمات الجهادية ومتابعتها(15)، لكن تظل الأهداف الأساسية للحرب الإلكترونية:

  • منع تنظيم الدولة من الهيمنة على المجال العمومي الإلكتروني بخطابه الأيديولوجي الذي يهدف إلى "تطبيع" المستخدمين مع منظومته القيمية، ثم استمالة المتعاطفين وتجنيد المقاتلين.. إلخ.
  • منع التنظيم من تحويل شبكات التواصل الاجتماعي إلى عنوان لهويته الإلكترونية.
  • تحكم الدول الكبرى في وسائل الاتصال والإعلام.
  • التحكم في إنتاج الخطاب/القوة والسلطة.

في المقابل، يوجز الرسم الآتي استراتيجية تنظيم الدولة في تحويل شبكات التواصل الاجتماعي إلى وسيلة أيديولوجية لـ"التمكين، وتقويض الاحتكار التقليدي للسلطة"(16)، أي: سلطة الخطاب: 

 

أيديولوجيا النص

تحدد الدراسات والبحوث مصطلح أيديولوجيا النص في المجال الإعلامي بـ"التوجه الأيديولوجي الذي يعكس القيم والأفكار والمعتقدات للقائم بالاتصال، أو المؤسسة الإعلامية، أو المجتمع الذي تُوجَّه إليه الرسالة الإعلامية. ويمكن الحكم على أيديولوجيا النص في وسائل الإعلام من خلال الوقوف على طرق المعالجة للقضايا والأحداث السياسية والاجتماعية وغيرها، أو شخصيات الكُتَّاب وضيوف الحوارات ومسارات الطرح التي يقدمها القائم بالاتصال في هذه الحوارات، أو معايير ما يُنشر وما لا يُنشر، فضلًا عن استخدام وسائل الإيضاح والإبراز لجذب وإقناع الجمهور بالطرح المقدم"(17).

وفي سياق هذه الورقة، يُراد بأيديولوجيا النص، في الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة، الوجود والنظام القيمي للمُرسل أو القائم بالاتصال، والمحددات المرجعية التي تحكم معالجته للأحداث والقضايا السياسية في الرسالة الإعلامية التي يشكِّلها ويُوجِّهها إلى المتلقي. وتُظهر الدراسة التحليلية لفيديو "شفاء الصدور" (إعدام معاذ الكساسبة حرقًا)، ورسالتي هارونا وكينجي (الرهينتين اليابانيين)، و"رسالة مُوقَّعة بالدماء إلى أُمَّة الصليب" (الأقباط المصريين)، أن بِنية الخطاب الإعلامي ومكوِّناته تتوالد من خلال التقابلات والثنائيات الضدِّية الحدِّية التي تخلق الاختلاف بين طرفين متمايزين كليًّا (نقيضين)، هما: "المؤمنون/المجاهدون" و"الصليبيون وحلفاؤهم/المرتدون"، وتتفرَّع عن هذه الثنائية المركزية الـمُؤَسِّسَة للخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة جميع التقابلات الضدية الأخرى. ويمكن تأطير التمايزات التي تنتجها دلالات النص في مقولة: الـ"نحن" والـ"هُمْ"، فالنحن يبرز من خلال توظيف الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة ضميرَ الجماعة (نا) للتعبير عن كينونته ومحدداته المرجعية، والهُمْ الذي يبدو واضحًا باستخدام ضمير المخاطب (أنتم) أثناء الحديث عن الآخر (أنتم=التحالف الشيطاني).

وتبدأ التقابلات الحدية أو التمايز انطلاقًا من عنوان الرسالة الإعلامية، لنأخذ مثلًا فيديو الطيار الأردني معاذ الكساسبة "شفاء الصدور"؛ فهو أول عنصر يتم تَبْئِيرُهُ (بؤرة تُحدِّد إطار الرؤية) في الخطاب؛ والنواة التي "تُبَرْمِجُ" قراءة النص باعتباره علامة إخبارية وإقناعية؛ يُخْبِرُ المتلقي بالمصير المحتوم (قُضِي به وحُكم) الذي لقيه الطيار على يد تنظيم الدولة "وَيَشْفِ صُدُور قَوْم مُؤْمِنِينَ"، ويقنع الـمُرْسَلَ إليه بأهمية متابعة تفاصيل الخطاب ومكوناته بشأن الطريقة التي عالج بها التنظيم ملف الطيار (الانتقام). ويظهر هذا الاهتمام بمركزية العنوان في جميع الرسائل الإعلامية، مثل: "رسالة موقَّعة بالدماء إلى أُمَّة الصليب"؛ إذ يبدو البناء التركيبي للعنوان مُشْبعًا بدلالات مُؤَطِّرة للخطاب؛ تُحدِّد أفق انتظار المتلقي بتعيين مصير الضحايا الأقباط (زجِّ الرؤوس)، وتُخبِره بالصراع الوجودي مع "أُمَّة الصليب"، ويتكرر ذلك في جميع الرسائل: "رسالة إلى حكومة وشعب اليابان"، "رسالة إلى أميركا"... إلخ.

وهنا يصبح العنوان نقطة الانطلاق التي تتوالد منها التقابلات، أو العنصر المنظِّم للاختلافات، بين الـ"نحن" والـ"هُمْ". ويبدو ذلك في الحقل المعجمي المكوِّن لأول عبارة تصاحب ظهور ملك الأردن عبد الله الثاني (فيديو الكساسبة) "طاغوت الأردن عبد الله الثاني"؛ وهي علامة مَشْحُونة بسلسلة من الدلالات كما في ورد التراث الفقهي، أو "الأدبيات الفقهية" للحركات الجهادية التي تربط الطاغوت بـالحاكم الذي يحكم بغير الشريعة الإسلامية، أو يُغَيِّب "الحكم بما أنزل الله"؛ حيث يستند البناء الدستوري والمنظومة التشريعية والقانونية إلى القوانين الوضعية لهوية الدولة الوطنية الحديثة التي نشأت في حقبة الاستقلال، في مقابل تنظيم الدولة الذي يُحَكِّمُ "شرع الله" بإقامته الحكم الإسلامي أو "دولة الخلافة"(18)، وهو ما يعني رفض الدولة الوطنية (دولة جميع المواطنين)، أو أي شكل من أشكال الحكم الديمقراطي؛ والذي يعتبره كفرًا تجب مواجهته بكل السبل (العمل المسلح=الجهاد) من أجل الفتح والنصر (الحكم الإسلامي/دولة الخلافة).

ويمكن أن نشير إلى أهمية العنوان باعتباره نقطة الانطلاقة أو النواة التي تتوالد منها التقابلات في علاقتها بباقي العناصر الأخرى على هذا النحو:

 

ويستمر توالد التقابلات في إطار التمايز بين فئتي الـ"نحن" والـ"هُمْ" ليشمل الصراع بأبعاده الدينية والسياسية بين "ديار وبلاد الإسلام" و"الصليبيين الغزاة"؛ حيث تتجدَّد "الحملات الصليبية" على "أهل التوحيد" (المجاهدين) لوقف امتداد دولة الخلافة وتعطيل شرع الله وحماية دولة يهود(19)؛ بل يصبح هذا الصراع في جوهره وجوديًّا وأزليًّا يضفي عليه التنظيم لَبُوسًا دينيًّا؛ فهو بين "الصليبيين الذين يحقدون على الإسلام والمسلمين" و"دولة الخلافة" التي تسعى لـ"فتح" روما، ولن تَكَلَّ من المواجهة (أزلية الصراع) "حتى ينزل عيسى عليه السلام ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية..."(20).

هذا الصراع هو الذي يحكم العلاقة بين تنظيم الدولة ورموز الدولة الوطنية، وهنا يُعَظِّمُ الخطاب الإعلامي للتنظيم الاختلافات الحدية لينتفي الفرق بين من يعتبرهم "الغزاة الصليبين" (العدو البعيد) و"المرتدين" أو "سدنة الصلبيين" (العدو القريب)؛ فهما يشكِّلان وجهًا لعملة واحدة في الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة (العدو البعيد=العدو القريب)، وهنا تذوب الفوارق بينهما ولا يعدم هذا الخطاب تبريرًا لذلك؛ إذ يعدُّ بعض الدول "نقطة الارتكاز لإدامة الحرب المستعرة على أهل التوحيد والجهاد ممن يروم إقامة الدين ووحدة المسلمين"(21).

وفي هذا السياق، يُظهر القائم بالاتصال تنظيم الدولة حاميًا لديار الإسلام والمسلمين ضد المغتصبين، بينما تُقَدِّم "نقط الارتكاز" الدعم العسكري والاستخباراتي لـ"الصليبيين للسيطرة على بلاد المسلمين"، ويحاول هذا الخطاب إقناع المتلقي بأفعال وسلوكيات التنظيم في مواجهة خصومه، وبمشروعية القتال "الثأري والنكائي" لضحاياه (إعدام الكساسبة حرقًا، والتوحش في ذبح الأقباط المصريين)؛ وهو السلوك الذي باتت تنتقده حتى التنظيمات الجهادية التي تشارك دولة الخلافة نفس المنظومة أو المرجعية العقائدية والفكرية؛ إذ "تعود بداية التوحش إلى الزرقاوي الذي حذَّره الظواهري في الرسالة المنسوبة إليه في 2005 من "مشاهد الذبح" لخطورتها في معركة الإعلام التي هي "في سباق على قلوب وعقول أمتنا"(22).

وهنا، تبرز أزمة الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة، والذي يحاول إنتاج فهم خاص لـ"الدين" ولـ"البعثة النبوية" عندما يجعل الإسلام صنوًا للسيف (الإسلام=السيف)؛ إذ لا تُحقَّق الهداية (إقامة الخلافة) إلا بالسيف(19)، وبذلك يتحول السيف (السكين) إلى أيقونة دالَّة على مرجعية التنظيم الذي يربط رحمة الرسالة التي بُعث بها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بالسيف (رحمة الرسالة=السيف) "الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على من بُعث بالسيف رحمة للعالمين"(23)؛ وهي مقابلةٌ مُتَعَسِّفةٌ، وفهمٌ خارج سياق النص القرآني والسنة النبوية يُنَفِّر ولا يُبَشِّر؛ بينما المعلوم من الدين بالضرورة أن "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، سورة البقرة، الآية: 256. "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ"، سورة الغاشية، الآية: 21-22. "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"، سورة الأنبياء، الآية: 107. ويبدو ذلك الفهم متساوقًا مع أدبيات التنظيمات الجهادية في التنظير لـ"فقه الدماء"، واستراتيجيتها في إدارة الفوضى أو التوحش.

أيديولوجيا اللغة

لا يبدو هذا العنصر منفصلًا عن أيديولوجيا النص، فقد لاحظنا أن بناء الرسالة الإعلامية في الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة يخضع لتحكم القائم بالاتصال بدءًا بالنواة الأولى (العنوان)؛ باعتبار أن إنتاج هذا الخطاب يؤدي إلى فهم وإنشاء الواقع، بل يصبح ممثلًا لممارسات سياسية وأيديولوجية. لذلك فإن لغة النص هي نتائج للعديد من القرارات التي يتخذها القائم بالاتصال؛ وهو يدرك أن "الأيديولوجيا تكمن في المعنى الذي يحاول إيصاله للمستقبل عن طريق الرسالة الإعلامية التي تصل إلى الناس عبر اللغة الإعلامية التي تبني بدورها مفاهيم الناس عن الأشخاص والأحداث والوقائع والقضايا التي يعيشونها، أو يسمعون عنها، وتنقلها وسائل الإعلام. ولا شك في أن اللغة الإعلامية التي تحمل هذه الأيديولوجيا إنما هي من فعل القائم بالاتصال الذي يحاول إيصال المعنى (الأيديولوجيا) إلى الجمهور"(24)، بل وإعادة تشكيل الثقافة المشتركة(25).

وتبدو اللغة في الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة أحد المكونات الأساسية التي تحدد رؤيته المرجعية وجوهر بنيته الفكرية الجهادية، وتشكِّل وحداتها حقلًا معجميًّا مُتَّسِقًا ينتج رسالة متشاكلة تحقق الانسجام الدلالي للخطاب بفعل التراكم والتوارد لمجموعة من العلامات والمقومات السياقية التي تتأطر ضمن نفس الإطار الأول: الـ(هُمْ) والـ(نحن)، ودائمًا من خلال التقابلات الضدية؛ فـ"الصليبيون يحقدون على الإسلام والمسلمين، ويُسخِّرون أعوانهم وحلفاءهم لرعاية حشود الغزاة على ديار الإسلام بهدف الهيمنة والسيطرة". وفي المقابل، فإن أهل التوحيد والجهاد يذودون عن ديار المسلمين لإقامة شرع الله، وتتسلسل هذه الوحدات المعجمية المتعالقة في الخطاب لِتُولِّد مجموعة من المقومات السياقية المتجانسة والمنسجمة يحددها تشاكل الهيمنة والسيطرة بالنسبة للصليبيين، والجهاد وإقامة شرع الله (الدين) بالنسبة لتنظيم الدولة. كما أن المسار التركيبي الذي يميز وضعية الصليبيين؛ باعتبارهم مغتصبين لديار المسلمين وشرَّدوا أهلها من أرض المسرى، يقدم دولة الخلافة حامية للمسلمين؛ تدفع العدوان عن ديار الإسلام وتقاتل الصليبيين، وتحيل الوحدات المعجمية هنا على أن الـ(هُمْ) مصدر الشر والعدوان، والـ(نحن) مصدر (الخير) والحماية (حماية ديار المسلمين). ويتوسَّع عدد الوحدات التي تسهم في تحقيق هذا التراكم الدلالي (مصدر الشر=العدوان/ مصدر الخير=الحماية) وتمتد إلى مستوى الأنشودة المصاحبة لبعض الصور "بدأتم قتالي بحلف الضلال فذوقوا وبالي..."(26).

وفي سياق هذه الثنائيات الضدية، يزخر المعجم اللغوي للخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة بدلالات التقابل بين المرتدين والمعطِّلين لشرع الله (العدو القريب)، وفي الجهة الأخرى المجاهدون والصابرون، وهي اختلافات تكشف أيديولوجيا التنظيم بوصفها سلسلة لغوية تنتج الخطاب، ومن ثم الرؤية والمحددات المرجعية التي تضبط السلوك السياسي والاجتماعي لتنظيم الدولة؛ وبذلك تصبح اللغة "شعيرة وممارسة"*: شعيرة؛ لأنها تحدد هوية (الهوية الجهادية=السيف) أفراد التنظيم عبر المهام التي توكل إليهم والأدوار المنوطة بهم، وممارسة؛ إذ تتحول الشعيرة الكلية إلى الحياة الفردية حيث توزع الأيديولوجيا الجَمْعِية (مكلفون بإقامة دولة الخلافة).

أيديولوجيا الصورة

تشكِّل الصورة مكوِّنًا أو عنصرًا محوريًّا في الرسالة الإعلامية للخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة، وتكاد تهيمن على ما سواها من العناصر الأخرى؛ فكل صورة يتم اختيارها تكون حاملة لرسالة، وهو ما يدركه القائم بالاتصال الذي يُبَنْيِنُ عبر موضوعه تلك الرسالة ولا يمكنه أن يتجاهل ذلك؛ فهو يعمل من أجل المتلقي(27) لإحداث أثر مخطط له ومقصود بذاته، بل تعد الصورة خطابًا ناجزًا مكتملًا يسمح بالوقوف على أهمية السرد البصري في إنتاج المعاني وبناء القيم التي تحدد رؤية ومرجعية التنظيم للصراع مع خصومه، خاصة أن هذا السرد البصري هو الآخر يخضع للتبئير (وجهة النظر) انطلاقًا من ثنائية الـ(هُمْ) والـ(نحن).

ويمكن تحليل التمثيلات الأساسية لعناصر الصورة في الخطاب الإعلامي للتنظيم من خلال العناصر الآتية: الوجود، والأهمية، والقيم. ويوضح البعد الأول (الوجود) الكينونة التي تحدد الميزات الموضوعية والذاتية لواقع تنظيم الدولة والضحايا (الذات)، وتبين خصائصهما في نسق الرسالة الإعلامية؛ إذ يُقدِّم السرد البصري الطرف الثاني على المستوى التركيبي/الإخباري "صليبيًّا" أو "مرتدًّا"** يتم إعدامه (بأسلوب إدارة التوحش) ردًّا على "الحملة الصليبية" التي يشنُّها الغزاة وحلفاؤهم على ديار الإسلام، ووقف توسع الدولة الإسلامية(28)؛ وهي تملك القوة (جيشًا كاملًا) والسلطان لمواجهة خصومها حتى "تضع الحرب أوزارها". وتصبح رمزية الصورة التي تحيل على الكيانين ممثلة في التمايز أو التقابل الضدي بين الصليبي/المرتد الذي يلقى حتفه (الإعدام) على يد المجاهد (الثابت في أرضه)، وهو ما يعني الغياب للـ(هُمْ)؛ وهو المصير الذي يتهدد الآخرين (الغزاة)، وفي المقابل الحضور للـ(نحن).

ويحظى هذا الحدث (الإعدام) بـ"الأهمية"، وهو البُعد الذي يجيب عن السؤال: ما هو المهم؟، وتبرز مركزيته في المنظومة الفكرية للتنظيم من خلال السياق الذي يُؤَطِّره؛ إذ يؤكد المواجهة المفتوحة بين الـ(نحن) والـ(هُمْ)؛ والصراع الوجودي بين الطرفين، فيصبح (الإعدام) جزءًا من الدِّين "إذا كان في التمثيل الشائع دعاءً لهم إلى الإيمان، أو زجرًا لهم عن العدوان، فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع"(29). وتظهر أيضًا أهمية هذا الحدث بالنسبة للقائم بالاتصال من خلال طريقة إخراجه؛ حيث يقوم كل عنصر من عناصره بإرسال رسالة بعينها، أو بث معنى محدَّد، بدءًا بالزي البرتقالي للضحايا، والذي يحيل إلى رمزية الاستخدام الأميركي لهذا الزي في سجن غوانتانامو، انتقامًا وثأرًا للمعتقلين الجهاديين في السجون الأميركية.

ثم تتكثف أهمية الحدث عبر زاوية اللقطة وحدودها وعمليات المونتاج التي تتعرض لها؛ إذ يتحكم القائم بالاتصال في مسار السرد البصري؛ حيث يبرز عناصر تنظيم الدولة بهيئة قوية (مقاتلون أشداء) ونظرات حادة تبث الخوف في نفسية الضحية وتخلق لدى المتلقي شعورًا بالرهبة؛ مُعْتَمِدًا لغة الجسد؛ حيث تكون حركة الكاميرا باستمرار من الأسفل إلى الأعلى ليجعل مقاتلي التنظيم في وضعية "الأبطال"، بينما تكون حركة الكاميرا من الأعلى إلى الأسفل بالنسبة للضحية لكي يبدو محقَّرًا مُستسلمًا لمصيره. وتبدو لحظة الإعدام العنصر المركزي في صيرورة الحدث والتي تركز عليها حركة الكاميرا طويلًا؛ إذ تختزل المشهد الدرامي الذي يراد له إيصال الرسالة واضحة إلى خصوم التنظيم "سنقاتلكم حتى تضع الحرب أوزارها"، بل إن مشهد إعدام الأقباط على شواطئ إحدى المدن الليبية يعطي للحدث/الإعدام أبعادًا أكثر أهمية تؤكد مرة أخرى الصراع الوجودي بين الـ(هُمْ) والـ(نحن).

أما البعد الثالث المرتبط بالقيم فهو يُحَدِّدُ وجهة النظر والميول التي تُقَدَّم من خلالها الصور في الخطاب الإعلامي للتنظيم، ولا يمكن في العموم فصلها عن المنظور السردي البصري العام الذي يبرز التقابلات الضدية بين الـ(نحن) والـ(هُمْ)، وهنا يركز الخطاب على معاني وقيم القوة (العنف المتوحش) والتي يصطلح عليها التنظيم بـ"الجهاد"، ويبرز ذلك في تفاصيل عملية الإعدام، والنهاية المأساوية مثلًا للطيار الأردني؛ حيث تبدو إيحاءات الرسالة واضحة بقدرة التنظيم على اختراق ودكِّ حصون السلطة (تدمير الجرَّافة للقفص الحديدي). وهذه القوة لا يمكن فهمها خارج إطار الصراع الوجودي بين التنظيم والـ(هُمْ)، وهنا تبرز الحمولة الأيديولوجية لخطاب الصورة؛ فالصراع -ويستوي في ذلك العدو البعيد والقريب- لن تكون نهايته قريبة؛ لأنه صراع أبدي (حتى ينزل المسيح)، وهو بذلك في منزلة "الحكم".

استنتاجات

تُظهر بنية الخطاب الإعلامي لتنظيم الدولة تَحكُّم القائم بالاتصال في تنظيم المحتوى، وتحديد الوسائط الأكثر ثراء لإيصال رسالته في سياق الحرب النفسية التي يخوضها ضد خصومه؛ لذلك يحاول أن تكون شبكات التواصل الاجتماعي الوسيط الحامل لأيديولوجيا التنظيم، والعنوان الدَّال على كينونته، أي: عنوان هويته الإلكترونية؛ ساعيًا إلى "تطبيع" مرجعيته الفكرية والعقائدية مع المستخدمين و"تسييل" العنف عبر هذه الوسائل، وإبراز خصوصية الـ(نحن) التي تواجه الـ(هُمْ) في ما تعتبره صراعًا وجوديًا أزليًّا بين الحق والباطل.

هذا الصراع هو الذي يحكم العلاقة بين تنظيم الدولة ورموز الدولة الوطنية، وهنا يُعَظِّمُ الخطاب الإعلامي للتنظيم الاختلافات الحدية لينتفي الفرق بين من يعتبرهم "الغزاة الصليبين" (العدو البعيد) و"المرتدين" أو "سدنة الصليبيين" (العدو القريب)؛ وهو ما يعني رفض الدولة الوطنية (دولة جميع المواطنين)، أو أي شكل من أشكال الحكم الديمقراطي؛ والذي يعتبره كفرًا تجب مواجهته بكل السبل (العمل المسلح=الجهاد) من أجل الفتح والنصر (الحكم الإسلامي/دولة الخلافة). ويعكس ذلك فهمًا خاصًا لـ"الدين" ولـ"البعثة النبوية" عندما يجعل التنظيم الإسلام صنوًا للسيف (الإسلام=السيف)؛ إذ لا تحقق الهداية (إقامة الخلافة) إلا بالسيف، وبذلك يتحول إلى أيقونة دالَّة على مرجعية التنظيم الذي يربط رحمة الرسالة بالسيف (رحمة الرسالة=السيف)، وهو فهم خارج سياق النص القرآني.

ومن ثَمَّ، يهدف هذا الخطاب إلى خلق كتلة أيديولوجية من جمهور منصهر المواقف والاتجاهات والسلوكيات وصولًا إلى قَوْلَبَةِ وتَنْمِيط وعي المستخدمين باتجاه النظام القيمي للتنظيم وممارساته الاجتماعية والسياسية؛ فضلًا عن إثارة الخوف وإرهاب الـ(هُمْ) كما يبدو في التشفي والنكاية بالأسرى وعمليات الإعدام التي ينفذها ضد ضحاياه؛ إذ الغاية بالنسبة للتنظيم تبرر الوسيلة، وهنا يصبح الخطاب دعائيًّا مُشبعًا بالأيديولوجيا يُروِّج متعمِّدًا منظومته الفكرية والعقائدية ويكوِّن اتجاهات مؤيدة لها.
________________________________
محمد الراجي – باحث بمركز الجزيرة للدراسات

الهوامش
1. Vettraino-Soulard, M. Lire une Image, (Armand Colin, Paris, 1993), p. 16.
2. جبارة، صفاء، الخطاب الإعلامي بين النظرية والتحليل (دار أسامة، الأردن، 2009)، ط 1، ص96-97.
3. البشر، محمد بن سعود، أيديولوجيا الإعلام (غيناء للنشر، الرياض، 2008)، ط 1، ص12-13.
4. جبارة، الخطاب الإعلامي بين النظرية والتحليل، ص392.
Van Dijk, T. Ideology and Discourse Analysis (Routledge, Journal of political ideology, June 2006), 11 (2), p. 116.
5. بابكر مصطفى، معتصم، أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام (مركز التنوير المعرفي، الخرطوم، 2014)، ط 1، ص24.
6. الخوالدة، محمد ناصر، "مفهوم الخطاب كوسيلة اتصالية"، بوابات كنانة أونلاين، (تاريخ الدخول: 12 فبراير/شباط 2015):
http://kenanaonline.com/users/MOMNASSER/posts/380867
7. فوكو، م، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، (دار التنوير، 1984)، ط 1، ص5.
8. شومان، محمد، تحليل الخطاب الإعلامي: أطر نظرية ونماذج تطبيقية (الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2007)، ط 1، ص25.
9. أبو هنية، حسن، "الآلة الإعلامية لتنظيم الدولة الإسلامية: جيش الخلافة الإلكترونية"، عربي 21، 18 يناير/كانون الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 12 فبراير/شباط 2015):
http://webcache.googleusercontent.com/search?q=cache:hG1KMKhse7cJ:arabi21.com/Story/803770+&cd=6&hl=ar&ct=clnk
10. بابكر، أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام، ص57.
11. Lipschultz, J.H. Social Media Communication: Concepts, Practices, Data, Law and Ethics, (Routledge, London, 2015), p. 42.
12. بعد اختراق تنظيم الدولة لحساب القيادة المركزية الأميركية، التي تشرف على العمليات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط ووسط آسيا، قامت مجموعة تطلق على نفسها "الخلافة الإلكترونية" باختراق حساب مجلة "نيوزويك" على موقع تويتر، وكتب المتسللون عبارة "أنا الدولة الإسلامية" في إشارة مزدوجة لتنظيم الدولة والهجوم على مقر صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية. انظر: الخلافة الإلكترونية "تخترق حساب نيوزويك" على تويتر وتهدد أوباما، رويترز، 10 فبراير/شباط 2015، (تاريخ الدخول: 26 فبراير/شباط 2015):
http://ara.reuters.com/article/internetNews/idARAKBN0LE24E20150210
13. بابكر، أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام، ص60.
14. "عمالقة الإنترنت متهمون بخدمة الجهاديين"، بوابة الشرق، 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 13 فبراير/شباط 2015):
http://www.al-sharq.com/news/details/289627#.VOB0c2f9mUk
15. مينا الدروبي، كاميرون يضغط على شركات الإنترنت الأميركية للعمل مع الاستخبارات البريطانية، الدستور، 15 يناير/كانون الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 26 فبراير/شباط 2015):
http://www.dostor.org/752069
16. Hinton.S, Hjorth.L. Understanding Social Media (Sage, London, 2013), p. 22.
17. بابكر، أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام، ص72.
18. "شفاء الصدور"، اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 17 فبراير/شباط 2015):
https://www.youtube.com/watch?v=QszOIdFf-_g&spfreload=10
19. المصدر السابق.
20. "رسالة موقَّعة بالدماء إلى أُمَّة الصليب"، اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 18 فبراير/شباط 2015):
https://www.youtube.com/watch?v=nx4cKR_A_5c
21. "شفاء الصدور"، اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 17 فبراير/شباط 2015):
https://www.youtube.com/watch?v=QszOIdFf-_g&spfreload=10
22. الخطيب، معتز، "تنظيم الدولة الإسلامية: البنية الفكرية وتعقيدات الواقع"، مركز الجزيرة للدراسات، 23 نوفمبر/كانون الثاني 2014، (تاريخ الدخول: 12 فبراير/شباط 2015):
http://studies.aljazeera.net/files/isil/2014/11/2014112355523312655.html
23. "خطبة أبي بكر البغدادي"، اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 17 فبراير/شباط 2015):
https://www.youtube.com/watch?v=OVw4jtXMw-M
24. "رسالة موقعة بالدماء إلى أمة الصليب"، اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 18 فبراير/شباط 2015):
https://www.youtube.com/watch?v=nx4cKR_A_5c
25. بابكر، أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام، ص65-66.
21. Lipschultz. Social Media Communication.  p. 42.
26. "شفاء الصدور"، اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 17 فبراير/شباط 2015):
https://www.youtube.com/watch?v=QszOIdFf-_g&spfreload=10
* لمزيد من التفاصيل راجع: بابكر، أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام، ص64.
27. Vettraino-Soulard. Lire une Image, p. 20.
** في الحوار الذي أجرته مجلة دابق، التابعة لتنظيم الدولة، مع الطيار الأردني معاذ الكساسبة كانت تصفه بـ"المرتد"، وتعتبر مساره المهني "مسارًا كُفريًّا"، أما الدول العربية المشاركة في التحالف الدولي ضد التنظيم فتصفها بـ"الأنظمة العربية المرتدة"، والدول الغربية بـ"الصليبيون".
"حوار معاذ الكساسبة كاملًا لمجلة تنظيم الدولة الإسلامية (دابق)"، أورينت نيوز، (تاريخ الدخول: 21 فبراير/شباط 2015):
http://orient-news.net/?page=news_show&id=83908
28. "رسالة إلى حكومة اليابان"، اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 12 فبراير/شباط 2015):
https://www.youtube.com/watch?v=xHUjJp9IRy4
"رسالة موقعة بالدماء إلى أمة الصليب"، اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 18 فبراير/شباط 2015):
https://www.youtube.com/watch?v=nx4cKR_A_5c
29. "شفاء الصدور"، اليوتيوب، (تاريخ الدخول: 17 فبراير/شباط 2015):
https://www.youtube.com/watch?v=QszOIdFf-_g&spfreload=10

ABOUT THE AUTHOR