التنظيم القانوني للصحافة الإلكترونية العربية: سياقاته وأهدافه

ترصد الورقة التنظيم القانوني للصحافة الإلكترونية العربية وسياقاته الإقليمية والدولية، والتطوُّر الذي شمل الإطار القانوني للإعلام والاتصال الإلكتروني أثناء وبعد ثورات الربيع العربي وأهدافه، والجدل حول مدى مواكبة هذا الإطار واستيعابه لتحوُّلات تكنولوجيا الإعلام.
fddc3a31f79c4498a0c35f3dfa90abe1_18.jpg
(الجزيرة)

تتناول الدراسة التطوُّر التاريخي للإطار التشريعي للصحافة الإلكترونية في المجال العربي، والسياقات الإقليمية والدولية واللحظات الحاسمة في التنظيم القانوني لوسائل الاتصال والإعلام الإلكتروني؛ حيث تتضارب إزاء هذه المسألة مواقف الدول وتوجُّهاتها؛ فكلما تم تقنين بعض هذه الوسائل ظهرت الحاجة إلى تقنين ظواهر أخرى أشدَّ تعقيدًا، في ظل تطوُّر تكنولوجيا الإعلام؛ الأمر الذي يجعل المواكبة القانونية لا تساير هذا التطوُّر؛ إذ ما أَنْ يُسَنَّ قانون حتى يتمَّ تجاوزه بفعل التحوُّلات التكنولوجية السريعة. 

ويعالج الباحث إشكالية الدراسة باعتماد مرجعية تحليلية متعددة؛ تشمل المقاربة القانونية التي تُقرِّب من فهم النص ومحاولة تفكيكه للتعرُّف على مقاصد معناه ومَبْنَاه، ثم المقاربة السوسيو سياسية التي تهدف إلى دراسة أسباب سَنِّ هذا النص، فضلًا عن المقاربة التاريخية التي تُشدِّد على تطوُّر النصوص القانونية ذات الصلة بالإعلام الإلكتروني العربي. 

وخلصت الدراسة إلى أن النظام القانوني للصحافة العربية الإلكترونية مرتبط بتطور النظام القانوني للإعلام الإلكتروني على المستوى الدولي، وبهذا المعنى فهو شديد الصلة بمختلف منعرجات الشروط السياسية التي مرَّت بها المنطقة العربية في علاقتها مع تطور وسائل الإعلام الإلكترونية، ووسائل الإعلام بصفة عامة. وأشارت الدراسة إلى وجود توجُّهين في المجال العربي لهما حضور بارز ومؤثِّر في تنظيم الصحافة الإلكترونية: أولهما، وهو الغالب والأكثر انتشارًا، سعى إلى إدراج هذه الصحافة من حيث التقنين والضبط في خانة الصحافة التقليدية، فطبَّق عليها ما يسري على هذه الأخيرة وبالخصوص الصحافة المكتوبة. ثانيهما، وقد سارت فيه أقلية قليلة من الدول لمَّا  أفردت لهذه الصحافة قانونًا خاصًّا. 

وشدَّدت الدراسة على كون  التشريع في حقل الإعلام الإلكتروني، وفي مجال الإعلام بصفة عامة، ينبغي أن ينصبَّ على فكرة التنظيم، وأن لا يُسْرِف في النَّصِّ على العقوبات؛ لأن الدولة في نهاية الأمر هي سلطة مُنَظِّمَة، وليست سلطة جازرة. وعلى العموم، فإن الدولة تُشرِّع وفقًا لسلطتها على إقليمها، ولا يجوز لها أن تمدَّ تشريعها لمواقع ليست ملكًا لها، كما هي الحال فيما يخص المواقع الإلكترونية.

مقدمة  

لا يستقيم البحث في موضوع النظام القانوني للصحافة الإلكترونية في المجال العربي دون استحضار الشروط التي أسهمت في انتشارها في معظم الدول العربية بصورة سريعة ومذهلة، لاسيما في نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، كما يستدعي البحث جرعة زائدة من الجرأة التي تساعد على رسم ملامح اللحظات الأولى التي انفتحت فيها الدول العربية على تكنولوجيا الإعلام الحديثة، وكيف أن استخداماتها تسبَّبت لها في كمٍّ هائلٍ من المشاكل، ما فرض عليها اللجوء إلى تقنينها بمبرر اعتداءاتها على النظام العام والمرتكزات السياسية والدينية للدولة، وانتهاكها للحياة الخصوصية واستخدامها في الإرهاب ودعارة الأطفال(1)...إلخ. وقد بدأ هذا التقنين مُتَدَرِّجًا مُرْفَقًا بحذر شديد، واعتُبِر في كثير من الأحيان غير ذي جدوى؛ لأن التكنولوجيا لا تعترف لا بالحدود ولا بمنطق السيادات، ولا حتى بسيادة القانون ذي البُعد الوطني المحلي. إنها تستطيع بكل يسر التخلص من مضامينه، وذاك ما يطرح مدى نجاعة التنظيم القانوني للإنترنت، وفي صلبه الصحافة الإلكترونية. 

وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية استحضار بعض ملامح اللحظات الحاسمة من مسار تطور تكنولوجيا الإعلام، وكيف تأثَّرت الدول العربية بها في ظل النظام العالمي الجديد، الـمُيَسِّر لانتشار فكر الليبرالية المتوحشة، واندراج هذه التكنولوجيا فيها بشكل لا رجعة فيه مع مشروع "آل غور"(2). 

- تأثرت الدول العربية بمشروع "آل غور" حول الطرق السيَّارة للإنترنت في سنة 1992، الذي شقَّ سُبُل تطوره بشجاعة وتفاؤل وبجرأة منقطعة النظير؛ إذ أخرج هذه التكنولوجيا من دهاليز المختبرات العلمية التابعة للمؤسسات العسكرية، وخلَّصها من قبضة الاستخدامات الاستخباراتية العسكرية والأمنية ونقلها إلى الاستخدامات المدنية. وكان من نتائج ذلك أن استفادت الدول العربية من هذا التحوُّل. 

  • أدركت هذه الدول، أو على الأقل بعضها، منذ زمن بعيد أهمية تأثير تطور تكنولوجيا الإعلام على حقوق الإنسان، وخاصة على الحق في الإعلام وحرية الرأي والتعبير؛ فقد كانت لها مساهمات محترمة؛ في ذلك النقاش الخجول والأوَّلي المفعم بالتردُّد والحذر، خلال المؤتمر الأول لحقوق الإنسان بطهران عام 1986(3)، والذي خُصِّصت إحدى وِرَشِه لموضوع "تأثير التطور التكنولوجي على حقوق الإنسان".

وعلى العموم، فإن الإطار القانوني المنظِّم للصحافة الإلكترونية، تتضارب إزاءه مواقف الدول وتوجُّهاتها؛ فكلما تم تقنين بعض هذه الظواهر ظهرت الحاجة إلى تقنين ظواهر أخرى أكثر عددًا وأشدَّ تعقيدًا. نحن إذًا أمام حقل معرفي يتجدَّد باستمرار؛ الأمر الذي يجعل المواكبة القانونية له ضعيفة الفائدة وغير مسايرة لتطوُّره؛ إِذْ ما أَنْ يُوضع قانون جديد حتى يتمَّ تجاوزه بفعل التطوُّر التكنولوجي السريع.

  • في ظل هذا الواقع يطفو إشكال آخر على السطح يُعقِّد التحليل، ويتعلق الأمر هنا بكون الإعلام الإلكتروني يسري عليه في بعض الدول ما يسري على الإعلام المكتوب، وهذه الظاهرة نجدها في قوانين الدول العربية مع تفاوت في التعامل التنظيمي معها. فإذا رجعنا مثلًا إلى التشريع المغربي لعام 2002، وهو الذي ينظِّم الممارسة الإعلامية حتى الآن، فإنه يتضمن إشارات خجولة تهمُّ الإعلام الإلكتروني، وغالبًا ما تُصادفنا في بنوده المختلفة، هذه العبارة اليتيمة والوحيدة "...أو بكل وسيلة إلكترونية"(4) عند الحديث عن التحريض على ارتكاب الجرائم، أو المساس بالحياة الخصوصية للآخرين...إلخ. ويكاد هذا الأمر يشمل تشريعات الدول العربية الأخرى، لذلك يظلُّ عمق الإشكال هنا، مُجَسَّدًا ومحصورًا في ما يخص التطور القانوني الذي حصل بين الإشارة الخجولة للوسائل الإلكترونية في قوانين الإعلام، وبين تخصيص أبواب تُنظِّم الإعلام الإلكتروني، بعد استخدام المواقع الإلكترونية منصات إعلامية؛ ما أدَّى إلى تطور في هذا الشأن في جُلِّ القوانين المنظِّمة للإعلام في الدول العربية، فانتقلنا من الإشارات الباهتة وغير الدقيقة إلى تخصيص قسم(5) أو باب للإعلام الإلكتروني، في قانون الطباعة والنشر (في المغرب والجزائر)، أو وضع قانون خاص بالإعلام الإلكتروني (السعودية)(6). وهناك دول أخرى تؤكد على حرية الإعلام الإلكتروني في بنود دساتيرها لإعطائها قيمة قانونية أسمى (مصر وتونس)(7). هذه التجارب سيتم النظر في تطورها مع التشديد على أهميتها وعلى أهمية السياق السياسي الإقليمي العربي، والوطني الداخلي والدولي الذي صيغت فيه.

أسئلة الدراسة 

يطرح موضوع الدراسة أسئلة كثيرة في سياق مقاربة الإطار القانوني المنظِّم للصحافة الإلكترونية العربية، لكن نجمل أهمها في هذا الحقل الاستفاهمي: كيف تعاملت القوانين الخاصة بالإعلام والاتصال مع تكنولوجيا الإعلام؟ ما اللحظة التي بدأت فيها هذه الدول تقنين هذه التكنولوجيا؟ ما علاقة الإطار القانوني للصحافة الإلكترونية بالصحافة التقليدية؟ هل الضوابط التي تُحدِّد مجال اشتغال الصحافة المكتوبة والإعلام السمعي البصري تشمل الصحافة الإلكترونية أم أن الإعلام الإلكتروني يُنظِّمه قانون خاص؟ ألم يكن الجزء الأساسي من الإطار القانوني المنظِّم للصحافة الإلكترونية العربية في صلب تشريعات مكافحة الجريمة الإلكترونية على المستوى العربي وعلى مستوى كل دولة عربية على حدة؟ 

تُوسِّع الورقة مقاربة حقلها الاستفهامي، وتتساءل: هل يمكن الحديث عن وجود قانون دولي للإعلام الإلكتروني على غرار القانون الدولي للإعلام؟ هل هناك إرهاصات لقانون إقليمي عربي دولي للإنترنت؟ ألا يمكن اعتبار بعض بنود ومضامين اتفاقية بودابست 2001 والقوانين والتوجيهات الإرشادية لمجلس أوروبا والأمم المتحدة ومنظمة التعاون والتنمية، إضافة إلى قرارات وتوصيات الجمعية العامة والبروتوكولات الملحقة ببعض الاتفاقيات، مثل: البرتوكول الملحق باتفاقية حقوق الطفل والبروتوكول الملحق باتفاقية بودابست سنة 2003، اعتبارها أُسُسَ قانون دولي للإنترنت؟ ألا يمكن اعتبار القانون النموذجي الاسترشادي العربي الموحَّد لعام 2004، والاتفاقية العربية للجرائم الإلكترونية لعام 2010، أُسُسًا لقانون عربي للإنترنت؟ 

أهمية الدراسة 

تتجلَّى أهمية الدراسة في سعيها إلى رصد مسار التطور التاريخي للإطار التشريعي للصحافة الإلكترونية في المجال العربي، وإبراز الانتقال من عدم الاعتراف بها إلى التَّلكُّؤ في ذلك، وصولًا إلى محاولة تنظيم ما قد يُرتكب من جنح وجرائم ومخالفات، عبر الإنترنت وفي مواقع التواصل الاجتماعي، لدحض التصور الخاطئ الذي كان سائدًا؛ باعتبار أن هذا الفضاء هو مجال فوضوي وغير محكوم بقانون، وأيضًا مجال حرية التعبير المطلقة بامتياز. وكردٍّ على هذا الادِّعاء، سوف تَظهر القوانين المنظمة للجرائم الإلكترونية لسدِّ بعض الفراغ المزعوم، ورغم ذلك يجب الاعتراف بأن مجال الإعلام الإلكتروني حتى في غياب القوانين المنظمة لمجال اشتغاله، فإن جُلَّ الدول التي لم تُنظِّمه تُطبِّق عليه قانون الإعلام والاتصال التقليدي. واليوم بعد الربيع العربي، والدور الذي صارت تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي، وتطور وسائلها، هناك ضرورة ملحَّة لتنظيم هذه المواقع عبر تخصيص قانون للإعلام الإلكتروني، أو إدماجه ضمن قانون الطباعة والنشر الورقي. 

حدود الدراسة 

لا تطمح الدراسة إلى استعراض قوانين الدول العربية الخاصة بالإعلام الإلكتروني؛ فذلك يتطلَّب القيام بدراسة أكثر تشعُّبًا، وفريقًا بحثيًّا متكاملًا لرصد هذه القوانين. لذلك ستركز هذه الدراسة على حالات مختارة، حسب التقسيم الآتي: نموذج أو نموذجين في المنطقة المغاربية، وسوف يتم التركيز هنا على تونس مع الإشارة كلما أمكن للجزائر والمغرب، ونموذج آخر في بلاد النيل وهو مصر، لاسيما بعد إقرار دستور 2014، والنموذج الثالث يهم المنطقة المعروفة تاريخيًّا بسوريا الكبرى أو الهلال الخصيب وقد اخترنا فيها النموذج الأردني، ثم منطقة الخليج العربي وبالخصوص مجلس التعاون الخليجي واخترنا فيها النموذج الكويتي مع إشارات إلى السعودية. 

صعوبة الدراسة 

يمكن تلخيصها في خضوع موضوع الدراسة لقوانين مختلفة، بدءًا بقانون الإرهاب ثم قانون الجرائم الإلكترونية، وقانون الإعلام والاتصال التقليدي، والقانون الدولي للإنترنت، كما تكمن صعوبتها في كون تكنولوجيا الإعلام، ومعها الإعلام الإلكتروني، تتطور بسرعة فائقة، بينما لا تزال المواكبة التشريعية بطيئة. 

المقاربة المنهجية 

سيعالج الباحث إشكالية الدراسة باعتماد مرجعية تحليلية متعددة؛ تشمل المقاربة القانونية التي تُقرِّبنا من فهم النص ومحاولة تفكيكه للتعرُّف على مقاصد معناه ومبناه، ثم هناك المقاربة السوسيو سياسية التي تهدف إلى دراسة أسباب سَنِّ هذا النص، ولماذا جاء على الشكل الذي هو عليه؛ فضلًا عن المقاربة التاريخية التي تُشدِّد على تطوُّر النصوص القانونية ذات الصلة بالإعلام الإلكتروني العربي. 

أولًا: تقنين تكنولوجيا الإعلام والسياق السياسي العربي   

ظهرت الإرهاصات الأولى لتأثير تطوُّر تكنولوجيا الإعلام على حقوق الإنسان منذ 1967 و1968(8)، لكن التأثير الأساسي الذي كانت له انعكاسات على الدول العربية هو ما حصل في بداية الألفية الثالثة، مع هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وما أعقب ذلك من إدراك لخطورة استغلال تكنولوجيا الإعلام في الإرهاب عبر ربط وتسهيل الاتصال بين الإرهابيين، وتبادل المعلومات فيما بينهم، وتنظيم الاجتماعات...إلخ. هذه اللحظة كانت حاسمة في التنظيم القانوني لوسائل الاتصال والإعلام الإلكتروني، وتقنين الإنترنت على الصعيد العربي؛ إذ تأثرت خلالها الدول العربية بالموجة الدولية الساعية لمراقبة وتقنين وسائل الاتصال الإلكتروني، ووضع اتفاقية دولية لتنظيم مجال الجرائم الإلكترونية، وهي اتفاقية بودابست بتاريخ 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2001(9)، أي: مباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول. وتُشكِّل هذه الاتفاقية، والتوجيهات الإرشادية الصادرة عن مجلس أوروبا 1995(10)، والتوجيهات الإرشادية لمنظمة التجارة العالمية(11)، والتوجيهات الإرشادية لمنظمة التعاون والتنمية(12)، النواة الأساسية لظهور قانون دولي للإنترنت(13). 

تأثَّرت الدول العربية بهذا السياق السياسي الدولي والإقليمي، فصار هاجس تقنين الإنترنت يسيطر على سلوكها التشريعي عبر عدَّة طرق ومبررات مختلفة، يرتبط بعضها بمواكبة الموجة الدولية التي تهدف إلى تقنين هذا "الوحش الإلكتروني"، وبعضها الآخر بانعكاسات استخدامه في قضايا الإرهاب. وشدَّدت على ذلك بالخصوص عند إصدارها للقوانين المتعلقة بالجرائم الإلكترونية والقوانين المتعلقة بالإرهاب. ووُضعت هذه القوانين تأثرًا بمضامين اتفاقية بودابست، فصيغت على منوال منطوق ومضمون القواعد الواردة فيها. 

إذا كان لشروط السياق الدولي بعض التأثير في صياغة هذه القوانين بعد 2001، فلا ينبغي إغفال التأكيد على أن سياق وضعها مرتبط بما رُوِّجَ ويَرُوجُ داخل أروقة جامعة الدول العربية، وأشير هنا على الخصوص إلى القانون النموذجي العربي الموحَّد لعام 2004(14)، وما تلاه من قوانين عربية داخلية على مستوى كل دولة، ولم تخرج هذه القوانين -كما القانون النموذجي الاسترشادي الموحَّد- عمَّا كرَّسته اتفاقية بودابست من حيث الاهتمام بالإعلام الإلكتروني.  

يتطلَّب تتبع مسار تقنين الصحافة الإلكترونية في المجال العربي الرجوع إلى البيئة السياسية العربية والعالمية المواكبة له، والتي تم في رحمها التقنين، مع العلم بأن قراءة هذه البيئة تُفسِّر بما فيه الكفاية، لماذا هذا التنظيم هو على هذا النحو؟ ولا يتعلق الأمر هنا بمرحلة ما بعد الثورات؛ التي هزَّت العديد من الكيانات العربية، بل بما حصل قبل الربيع العربي، على الأقل منذ العشرية الأخيرة من القرن الماضي، وبداية الألفية الثالثة. 

لقد عرفت مسيرة التقنين الإعلامي في المنطقة العربية ثلاث محطات أساسية، أشرت لبعض عناصرها في السابق، لكن لا بأس من إعادة التأكيد عليها من جديد وباختصار على النحو الآتي:

  1. اللحظة الأولى: ترتبط بالتحوُّلات ذات النفحة الليبرالية، عندما بدأ بعض رياح التغيير الديمقراطي يتسلَّل نحو المنطقة بعد حرب الخليج الثانية أو قبلها بقليل، فقد ظهرت آنذاك قوانين لتنظيم الإعلام بقصد مواكبة التحوُّل على المستوى الدولي. وأشير هنا إلى القانون التونسي الجديد 1989، والقانون الجزائري لعام 1990، والموريتاني لسنة 1991(15)، والقانون المصري لعام 1996(16). هذه الموجة من التشريعات اهتمت بالإعلام المكتوب، وغضَّت الطرف عن الإعلام الإلكتروني؛ لأنه لم ينتشر بعد، وحتى إِنْ وُجِد بعض إرهاصاته، فهو ليس إلا إعلامًا مكتوبًا تحوَّلت نسخه الورقية إلى نسخ إلكترونية، كانت صحيفة الشرق الأوسط أول تجربة عربية في هذا المجال في العام 1995، تلتها صحف أخرى(17).
  2. اللحظة الثانية: وهي لحظة التقنين الخجول للإعلام الإلكتروني في صلب قانون الإعلام التقليدي، مع وضع ضوابط لهذا الإعلام بالإحالة على قوانين الجرائم الإلكترونية. لقد تم ذلك في سياق تداعيات أحداث 11 سبتمبر/أيلول، والتأثُّر بمضامين اتفاقية بودابست حول الجرائم الإلكترونية، والقانون النموذجي العربي الموحَّد والاتفاقية العربية لمكافحة الجرائم الإلكترونية...إلخ.
  3. اللحظة الثالثة: جاءت بعد ثورات الربيع العربي؛ حيث لاحظنا كيف أن بعض الدول تؤكد على حرية التعبير عبر الإعلام الإلكتروني، وتشير إلى ذلك في دساتيرها الجديدة؛ مُشدِّدة على حمايتها من خلال وسائل الاتصال والإعلام الإلكتروني. وفي هذه اللحظة تم الاهتمام بتخصيص قانون لتنظيم الصحافة الإلكترونية بالإشارة إلى بعض أُسُسه ومبادئه العامة في الدستور، وفيما بعد في التنظيم القانوني العادي للإعلام، مع إفراد باب ضمن هذا القانون خاص بالإعلام الإلكتروني. 

هكذا يمكن اعتبار بداية الألفية الثالثة لحظة جوهرية في عمقها؛ حيث تنامى الاهتمام بتقنين فضاء الشبكة العنكبوتية في المجال العربي، ومعالجة ما قد يُرْتَكَبُ بواسطة تكنولوجيا الإعلام الحديثة من مخالفات، كما هو الشأن فيما يتعلق بالصحافة الورقية والإعلام السمعي البصري؛ فانحصر اهتمام الـمُشَرِّع بها على ما قد يُلْحِقُهُ الاستخدامُ السيِّئُ لها من أضرارٍ فحمَّلَها مسؤوليةَ ما قد يُصيبُ الأفرادَ، والهيئات والدولة وسائر المؤسسات. من أجل ذلك وُضِعَت قوانين انصرف اهتمامها، ليس إلى تنظيم مهنة الإعلام الإلكتروني مثلًا، وكيفية تأسيس المقاولات الإعلامية الإلكترونية، ولمن يُقَدَّم التصريح أو طلب الترخيص حسب الحالات، ومن هو الصحفي الإلكتروني؟(18) وكيف يتم تصحيح الخبر الكاذب والعاري من الصحة في الصحافة الإلكترونية؟ وهل هو مشمول بأحكام الصحافة الورقية أم أن هناك اختلافًا بشأنِ ما يحكُمُ الوسيلتين؟ وإنما انصرف اهتمامها إلى الاستخدامات السيئة لمواقع التواصل الاجتماعي في مجال الإرهاب، والدعارة، والدعوة إلى الكراهية، والتمييز العنصري والديني والإثني والحثِّ على الحروب، والإشادة بها، وتخريب المواقع، وسرقة محتوياتها، أو الدخول إليها لإحداث تغييرات فيها, واهتمت أكثر بدعارة الأطفال، والمساس بالنظام العام(19)... إلخ. 

إن القضايا المشار إليها تُؤَسِّس لظهور قانون دولي للإنترنت، كما تُؤَسِّس لظهور قانون إقليمي عربي لتنظيم هذا "الوحش الإلكتروني"، كيف تم ذلك التنظيم؟ وما الآليات القانونية التي عَبْرَها وبواسطتها تم التأسيس له؟ كيف واكبت الدول العربية هذا التطور الذي يجري على الساحة العالمية من أجل تقنين دولي للإعلام الإلكتروني؟ وهل يمكن الحديث عن قانون عربي إقليمي للإعلام الإلكتروني على غرار القانون الدولي؟ 

ثانيًا: عناصر من القانون العربي للإعلام الإلكتروني 

واكبت الدول العربية عن كثب التحوُّلات العميقة التي يمر بها القانون الدولي للإعلام التقليدي وقصوره عن تنظيم الإعلام الإلكتروني، كما واكبت النقاشات الدولية المتعلقة بضرورة إيجاد قواعد قانونية تنظِّم تكنولوجيا الإعلام الحديثة، وحيث إن المجموعة العربية قد مَسَّها ما لحق بمعظم دول العالم من أضرار ناتجة عن الجرائم والمخالفات المرتكبة بواسطة وسائل الإعلام والاتصال الإلكترونية، وبالخصوص الإنترنت، فإنها قد لجأت إلى وضع قواعد قانونية إقليمية ذات طابع دولي لمحاصرة هذه الجرائم والمخالفات والخروقات، وحصرت ذلك في تقنين أسمته بـ"القانون العربي النموذجي الموحَّد"(20) في 2004، وأعيد سَنُّ مضامينه في القوانين العربية الخاصة بمكافحة الجرائم الإلكترونية. كما تجدر الإشارة إلى اهتمام وثيقة البث الإذاعي والتلفزي العربية(21)، الصادرة في 2008 عن مؤتمر وزراء الإعلام العرب، بوضع بعض أُسس قانون عربي للإعلام، وفيها إشارات لتنظيم وسائل الإعلام الإلكتروني، وإرساء بعض قواعد القانون العربي للإعلام الإلكتروني، وسوف تُتَوَّج هذه الإرهاصات بإصدار اتفاقية جديدة مكمِّلة، تُشدِّد على بعض قواعد هذا القانون، وهي اتفاقية "الجريمة الإلكترونية العربية"(22)، التي ستكون متأثِّرة باتفاقية بودابست والتشريعات العربية الداخلية الخاصة بالجرائم الإلكترونية. وقد شدَّدت هذه القوانين على الجرائم الإلكترونية، وضمنها الجرائم المرتبطة بالإعلام الإلكتروني؛ ففي بعض الدول العربية أُدْرِجَت ضمن القانون الجنائي التقليدي، وخَصَّصت لها دول أخرى إطارًا قانونيًّا خاصًّا بها للاحتفاظ بها كقواعد قانونية مستقلة عن القانون الجنائي. 

من هذا المنطلق، نتساءل: كيف تم الانتقال من قانون الجرائم الإلكترونية إلى وضع قواعد قانونية تنظِّم الإعلام الإلكتروني، خصوصًا في ظل التحولات الثورية التي شهدها بعض الدول العربية -ولا يزال- مع ظهور دساتير جديدة؟ وكيف أن المسار الذي سلكه قانون الجرائم الإلكترونية؛ باعتبار صلته بالقانون الجنائي، هو نفسه المسار الذي تعرفه علاقة تطور قانون الإعلام الإلكتروني بقانون الإعلام التقليدي؟ بعض الدول أدرجه ضمن التنظيم القانوني الخاص بالصحافة الإلكترونية، بينما أجرى بعضها الآخر تعديلات على قانون الإعلام التقليدي ليدمج فيه فصولًا تهم الصحافة الإلكترونية. كيف تم ذلك؟  

 لقد حصلت تطوُّرات مسَّت الإطار القانوني للإعلام والاتصال الإلكتروني أثناء وبعد ثورات الربيع العربي، تعود في مجملها إلى تنامي تأثير الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي على الرأي العام العربي. وقد رافق ذلك جدل واسع حول مدى مواكبة البحث العلمي الأكاديمي واستيعابه لتطورات هذا الحقل المعرفي الذي يمر بتحولات سريعة. لكن ما يثير الاهتمام والانتباه في هذا الصدد هو حصول نوع من التواطؤ بين الباحثين والمشتغلين بالإعلام والمشرِّعين, وحصر اهتمامهم جميعًا، في موضوع النظام القانوني للإعلام الإلكتروني، وليس على الإعلام الإلكتروني بمعناه الأكاديمي العلمي وأحيانًا المهني. فبقي اهتمامهم به أمرًا محصورًا في المنتديات، وفي المدونات كمنصات للإعلام الجديد، وتم التركيز على الجانب القانوني لهذه الأدوات التي أصبحت إلى حدٍّ ما قديمة ومتجاوزة؛ إذ إنها تعبِّر عمَّا كان سائدًا في منتصف تسعينات القرن المنصرم وبداية العشرية الأولى من الألفية الثالثة لما كان التنظيم القانوني لتكنولوجيا الإعلام مهتمًّا بما قد يُرتكب من جرائم بواسطتها، بينما اليوم هناك حاجة قوية ومُلحَّة إلى وضع قواعد خاصة بالإعلام الإلكتروني المهني. 

ظهرت بعد الربيع العربي جهود معتبرة، تضع أُسُسًا جديدة لتقنين الإعلام الإلكتروني، وهي جهود تختلف عمَّا كان قائمًا في الماضى. إن القوانين الجديدة إمَّا أنها مستقلة وخاصة بالصحافة الإلكترونية، أو قوانين شاملة للصحافة والنشر عمومًا، مع إيراد تفصيلات وتدقيقات خاصة بالإعلام الإلكتروني. وسيظهر هذا التوجُّه في مختلف الدول العربية بعد التحوُّلات التي أفرزها الربيع العربي، في تونس ومصر، وفي الأردن والمغرب والجزائر والكويت... إلخ. ففي بعض هذه الدول تمت دَسْتَرَة الإعلام الإلكتروني بالنص عليه في صلب دساتير الموجة الدستورية الجديدة لما بعد الربيع العربي(23)، بينما في بعضها الآخر يتم الاكتفاء بالإشارة إلى حرية التعبير وحرية الإعلام،  والحق في الإعلام والوصول إلى المعلومة(24). 

ثالثًا: النظام القانوني للإعلام الإلكتروني في الدول التي مرَّت بحالة الثورة 

يمكن أن نُدرج في هذا السياق دولتين، هما: مصر وتونس؛ باعتبارهما شهدتا حالة ثورية قادت إلى حصول تغييرات في نظام الحكم؛ ما أدى في كل منهما إلى وضع دستور جديد يطمح إلى مواكبة ومسايرة التغيير الثوري الذي مرَّت به البلاد؛ ففي كلا النموذجين كانت هناك جهود سابقة على النص الدستوري عَبَّدَت الطريق أمام محاولات ومبادرات تقنين الصحافة الإلكترونية. 

1. التجربة المصرية

إذا دقَّقنا النظر في التجربة المصرية سنجد أن هناك جهودًا كثيرة، بُذِلَت قبل الثورة وبعدها، من أجل النصِّ دستوريًّا على تقنين الإعلام الإلكتروني، ويرجع الفضل في هذه الجهود إلى الدور الذي لعبه الاتحاد العربي للصحافة الإلكترونية منذ مارس/آذار 2010؛ أي: قبل الثورة. فمنذ ذاك التاريخ شدَّد الاتحاد على وضع ميثاق شرف مهني للعاملين في مجال الإعلام الإلكتروني على الصعيد العربي، وضمنهم الصحفيون الإلكترونيون المصريون، ويمكن أن نضيف إلى ذلك، الجهود والدور الذي لعبته نقابة الصحفيين الإلكترونيين منذ 2011. إذا كانت هذه الجهود قد ساعدت على ضرورة إدراج تنظيم النشر الإلكتروني في متن النص الدستوري، فإن بعضها أسهم أيضًا في وضع الأفكار الـمُؤَطِّرة لقانون الصحافة الإلكترونية، وضمنها مواقع التواصل الاجتماعي التي لعبت دورًا مهمًّا في إنجاح الثورة، وتكثيف الاتصال بين شبابها في مختلف الدول العربية التي مرَّت بحالة الحراك(25). 

وقد لوحظ في مصر كيف عملت مثلًا نقابة الصحفيين الإلكترونيين، التي وُلدت من رحم الثورة، على وضع مسوَّدة مشروع قانون، عُرض على المجلس العسكري في "مؤتمر الإعلام والتحدي والريادة"، الذي عُقِد في 8 يونيو/حزيران 2011 وصدرت عنه توصية تُشدِّد على واجب تنظيم نشاط النشر الإلكتروني، كما شدَّدت على ضرورة حماية المجتمع من الممارسات الخاطئة، وأكدت على حقوق وواجبات العاملين في مجال النشر الإلكتروني، وضمان حماية المِلكية الفكرية الإلكترونية للأشخاص، وحفظ حق المجتمع. ونظرًا لحصول تطورات سياسية لاسيما بعد إجراء الانتخابات البرلمانية، تم سحب ذاك القانون من البرلمان من طرف النقابة مخافة إفراغه من محتواه التقدمي بفعل التعديلات التي ستُدخلها عليه الأغلبية البرلمانية (الإخوان المسلمون والسلفيون). على الرغم من أن الانتخابات التشريعية كانت نزيهة، وتم الاحتكام بشكل ديمقراطي إلى صناديق الاقتراع، كان هناك تخوف من أن يتم التضييق على هامش حرية الإعلام الإلكتروني. 

تجدر الإشارة إلى أن مسار ما بعد يونيو/حزيران 2013 أفسح المجال أمام تطورات جديدة، ومن ضمنها إعادة النظر في الدستور، ومن بين البنود التي طالها التغيير المادة 48 من دستور 2011، وكان الهدف من ذلك وضع أساس دستوري يتم بموجبه التمييز بين مختلف وسائل الإعلامية (صحافة مكتوبة وإعلام سمعي بصري وإعلام إلكتروني). وهكذا، فإن المادة 70 من الدستور، الذي تم إقراره في يناير/كانون الثاني 2014 عبر استفتاء شعبي، تنص على: "حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة للمصريين، من أشخاص ]شخصيات[ طبيعية أو اعتبارية عامة أو خاصة، وحق ملكية وإصدار الصحف، وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمي، وتَصدُرُ الصحف بمجرد الإخطار على النحو الذي ينظِّمه القانون. وينظِّم القانون إجراءات إنشاء وتملُّك محطات البث الإذاعي والمرئي والصحف الإلكترونية". 

يتضح أن النص وضع المبادئ الكبرى التي تحكم تنظيم الإعلام الإلكتروني بما في ذلك مسألة الإخطار عوض الترخيص، وهذا أمر مهم جدًّا في إقرار حرية الإعلام الإلكتروني. كما سعى إلى استعراض أنواع وسائل الإعلام وتصنيفها وحصرها، وأكَّد على ضرورة إخراج قانون ينظِّم إصدار الصحف الإلكترونية وتملكها. 

سوف يكون للنقاش الذي أعقب وضع هذه المادة في دستور 2014 تداعيات على تصوُّرات وتقديرات وحتى تحليلات الأكاديميين والقانونيين ليس داخل مصر فحسب، بل على المستوى العربي عمومًا، وسرعان ما ستكون للتجربة المصرية منذ 2010 بعض التأثير في المشرِّعين العرب، ويرجع ذلك إلى كون الإعلام الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي تحكمها ذات الإكراهات، وتعترضها ذات الصعوبات والتحديات. وعلى العموم، حتى الآن لم يتم إصدار قانون للنشر الإلكتروني يُطبَّق في مصر، بل لا نزال أمام مشروع قانون يتم حوله النقاش، وقد رَسَمت المادة 70 من دستور 2014 ملامحه الكبرى، كما رَسَم قانون الجرائم الإلكترونية بعضًا من تلك الملامح. 

إذا كان ذلك هو مسار تجربة التنظيم القانوني للإعلام الإلكتروني في مصر، فإن هناك تجارب عربية أخرى مشابهة على الأقل من حيث طبيعة الشرط السياسي الذي وُلدت فيه، وهو شرط الثورة الطامح إلى التغيير الجذري، ولعل التجربة التونسية لها دلالتها في هذا المقام. 

2. التجربة التونسية

لقد حركَّت تونس الغضب الثوري العربي، بسبب القمع الذي تجاوز كل الحدود، وضمنه ما عاشته هناك حرية التعبير والإعلام بموجب قانون 1975، والتي استمر تكبيلها كذلك بموجب قانون 1989، ومع نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة, بدأت طلائع القواعد القانونية تلوح في الأفق من أجل تنظيم الإنترنت. لكن إذا كان الإعلام الإلكتروني ظاهرة جديدة، فهل كان ممكنًا أن يُطرح الموضوع للنقاش عند صياغة الدستور الجديد إثر الثورة؛ حيث تبنَّى المجلس التأسيسي المنتخَب مسودة للدستور مسايرة للتطور التكنولوجي على المستوى القانوني انسجامًا مع مرحلة التحول الديموقراطي، ويكون بذلك ساعيًا إلى تبني قوانين منفتحة وحديثة لحماية حرية  التعبير، تأخذ بعين الاعتبار التقنيات المعلوماتية والاتصالات الجديدة، خاصة حرية الإنترنت وحرية الإعلام الإلكتروني(26). 

يُلاحَظ أن حرية التعبير، في تونس بعد الثورة، تنامت وتطورت عبر مختلف وسائل الإعلام الورقية والسمعية البصرية؛ وازدادت معها حرية الإنترنت، والإعلام الإلكتروني، لكن مقابل ذلك لا تزال القواعد القانونية ذات الطابع الزجري التعسفي قائمة في صُلب قانون الصحافة والنشر التونسي الذي وضع عام 2011. 

إذا كان الدستور التونسي الجديد قد وردت فيه إشارة إلى الإعلام الإلكتروني، فإنه لم يُفصِّل فيها كما فعل الدستور المصري لما تحدَّث عن هذه الحرية، ثم إن القانون الجديد المنظم للإعلام لم يهتم بالإعلام الإلكتروني، بل أغفله وصار على النهج الذي اتبعه التشريع المغربي لعام 2002؛ فاكتفى بالإشارة إلى تطبيق ما يَحْكُمُ الإعلام الورقي على الإعلام الإلكتروني بشكل غير صريح وواضح, ما يجعله يحتمل مختلف التأويلات والتفسيرات. وعند إشارته إلى الإعلام الإلكتروني في علاقته بالإعلام التقليدي حاول أن يساوي بينهما بشأن ما يُرْتَكَبُ من جرائم وجنح مُشدِّدًا على عبارة "... أو بكل وسيلة إلكترونية". 

المعضلة أن القانون لم ينص على كيفية إصدار الصحف الإلكترونية, والجهة التي يُقَدَّم إليها التصريح، فقد يكون غياب النص القانوني من هذا القبيل معرقلًا لإصدار الصحف الإلكترونية؛ باعتبار أن الجهة المختصة بتلقي التصاريح لم يُشَر إليها في نص القانون. من هنا يمكن للقضاء أن يرفض تلقي التصريح كما حدث ويحدث في المغرب. 

لم يهتم إذًا قانون الإعلام التونسي؛ أي: "مجلة الصحافة والطباعة والنشر في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2011" بالصحافة الإلكترونية إلا لمامًا، وهي بذلك في علاقتها بالإعلام الإلكتروني مشابهة للتشريع المغربي الذي تسري أحكامه حتى الآن. 

ينص قانون الصحافة التونسي الجديد في الفصل السابع في تعريفه للصحفي المحترف بكونه "هو ذاك الذي يشتغل في صحيفة أو مؤسسة أو عدة مؤسسات للإعلام السمعي البصري أو للإعلام الإلكتروني" كما يشير إلى الإعلام الإلكتروني في الباب المتعلق بالجرائم المرتكبة بواسطة الصحافة، أو بأية وسيلة من وسائل النشر التي تشتمل على الوسائل الإلكترونية، كما أن الفصل 50 من القانون مشابه تمامًا للمادة 38 من قانون الإعلام المغربي 2002؛ إذ يُعاقَب "كمشاركين في ارتكاب ما يمكن أن يوصف بجنحة كلُّ من يحرِّض مباشرة شخصًا أو عدَّة أشخاص على ارتكاب الجرائم بواسطة المنشورات أو المطبوعات والمنقوشات أو الإعلانات المعروضة على أنظار العموم، أو بأية وسيلة من وسائل الإعلام السمعي البصري أو الإلكتروني"، فهناك تطابق مع نص المادة 38 من القانون المغربي. 

كما ترد الإشارة إلى الوسائل الإلكترونية في الفصل 55 عند الحديث عن الجنح ضد الأشخاص "...فحوى العبارات الواردة في الخطب والنداءات والتهديدات أو الكتابات والمطبوعات أو المعلقات أو الرسوم أو الإعلانات أو المنشورات الإلكترونية". 

إذا كان قانون الطباعة والنشر قد تناول الإعلام الإلكتروني بعد الثورة بنوع من الحذر فيجب التأكيد على أن تونس عرفت الإنترنت في العقد الأخير من القرن العشرين، وأصدرت قوانين لتنظيمها تيسيرًا لتداول المعلومات. ففي 1997 صدر الأمر 501، بتاريخ 14 مارس/آذار 1997، المتعلق بالخدمات ذات القيمة المضافة للاتصالات، يؤكد فصله الأول على: "...إنتاج وتقديم وتوزيع وإيواء المعلومات في إطار وضع واستغلال الخدمات ذات القيمة المضافة للاتصالات مع الخضوع لقانون الصحافة والقانون المتعلق بالملكية الأدبية"(27). وتعني هذه الفقرة أن محتوى الشبكة يخضع لقانون الصحافة (عدد 32 لسنة 1975) ولجميع النصوص والتنقيحات التي تلته(28). 

ويحيل هذا القانون على قانون الإعلام والاتصال التونسي من حيث الجرائم والمخالفات التي يتم ارتكابها بواسطة وسائل الإعلام الإلكتروني، مثل: التحريض على ارتكاب الجنايات والجنح، كالجنح المرتكبة ضد النظام العام(29)، أو الجنح المرتكبة ضد الأشخاص(30)، أو الجنح المرتكبة ضد رؤساء الدول والدبلوماسيين الأجانب(31)، أو الجنح المتعلقة بالاعتداء على النظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي. ويتم التشديد على الاعتداءات على النظام العام بواسطة وسائل الإعلام الإلكتروني، عند الرجوع إلى المجلة الجزائية(32)، التي تُطبَّق على النشر الإلكتروني عبر الإنترنت، وعبر الإنتاج متعدد الوسائط. وهكذا، فإن هذا القانون، قد يُطبَّق على مستعملي الإنترنت ومنتجي الوسائط المتعددة إذا استخدموا هذه الوسائل في الاعتداء على النظام العام، والحياة الخصوصية للآخرين، والحث على الكراهية، ودعارة الأطفال، والدعوة إلى الإرهاب والعنصرية والإشادة بالحروب، وكل ما هو منصوص عليه في اتفاقية بودابست، والبروتوكول الإضافي الملحق بها والمكمل لها، وفيه تمت الإشارة إلى تجريم أعمال التمييز العنصري، وكره الأجانب، والتمييز الديني والعِرقي، وجرائم الإبادة ضد الإنسانية، المرتكَبة بواسطة أنظمة الحاسوب. 

رابعًا: تقنين الإعلام الإلكتروني في الدول العربية الأخرى بعد الثورة 

إذا كانت التجربة التونسية الجديدة في مجال تنظيم الإعلام وتقنينه بصفة عامة ذات أهمية مقارنة بتجربتي 1975 و1989، فإن هناك تجربتين مغاربيتين تجدر الإشارة إليهما، دون تفصيل في محتواهما، وهما: تجربتا المغرب  والجزائر. ونتساءل أيضًا كيف تعاملت التشريعات العربية الأخرى لاسيما الأردنية والكويتية مع الإعلام الإلكتروني وإنشاء المواقع الإعلامية الإلكترونية، هل أفردت لها قانونًا خاصًّا بها أم أنها أدرجت تنظيمها في قانون الإعلام التقليدي؟ 

1. التجربة المغربية والجزائرية

تناولت التجربة المغربية بحذر كبير الموضوع في تعاملها مع الإعلام الإلكتروني باستخدامها لذلك التعبير الخجول مؤكدة على "...أو بكل وسيلة إلكترونية"، الواردة في قانون أكتوبر/تشرين الأول 2002، لكن حصل اليوم تطور في مشروع القانون الجديد للإعلام الذي يُنْتَظَر صدوره بعد أن تمت مناقشته داخل البرلمان، والذي مرَّ بعدة قنوات من النقاش المستفيض، واستوفى ما يلزم من إجراءات. لقد أُدْمِج في هذا القانون تنظيم الصحافة الإلكترونية، بشكل صريح وواضح، فاعتبرت الصحف الإلكترونية مثلها مثل الصحف الورقية، وبذلك فإن ما ينطبق على النشر الورقي ينطبق على النشر الإلكتروني. 

نشأت فكرة إعادة النظر في قانون الإعلام في المغرب مباشرة بعد صدور قانون 2002، الذي اعتبره الفاعلون الإعلاميون والحقوقيون مُكَرِّسًا للعقوبات السالبة للحرية، ولا يهتم بالصحافة الإلكترونية، لذلك استمر النقاش حول تعديله منذ العام 2005 حتى اليوم. ويمكن القول: إن الحراك العربي، والتأثيرات السياسية لحركة 20 فبراير/شباط 2011، قد لعبت دورًا أساسيًّا في ذلك. وهكذا شُكِّلَت، في أكتوبر/تشرين الأول 2012، لجنة استشارية علمية تتكون من تسعة خبراء، وضعوا المسودة الأولية لهذا المشروع، مستحضرين المعايير الدولية لحرية الرأي والتعبير, ومبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان, وقرارات الأمم المتحدة لاسيما القرار المتعلق بإلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر لسنة 2000 والقرار الخاص بعدم الإساءة إلى الأديان وبالخصوص الديانة الإسلامية لسنة 2011. 

أمَّا في الجزائر، وبعد إعادة النظر في قانون إعلامها لسنة 1990، فإنها وضعت قانونًا جديدًا، في 11 يناير/كانون الثاني 2012، ضمَّنته الصحافة الإلكترونية التي لم تُعِرْها أي اهتمام في قانون 1990. وردت الصحافة الإلكترونية في هذا القانون دون تفصيل إذا ما قورنت بمشروع القانون المغربي، ففي القانون الجزائري نجد تخصيص الباب الخامس، لوسائل الإعلام الإلكتروني، المشتمل على الفصول الآتية: 67-68-69-70-71-72. 

من الأمور التي أكَّد عليها هذا القانون وفصَّل فيها، كيفية تأسيس المؤسسات الصحفية الإعلامية، والجهة التي يُقدُّم إليها التصريح لإصدار الصحيفة أو الموقع الإلكتروني، ومكونات هذا التصريح، والكيفية التي يتم بها الحجب أو الحجز أو التوقيف، وهل ينطبق على المواقع الإعلامية الإلكترونية ما ينطبق على الصحف الورقية؟ 

وإذا كان قانون 1990 ينصُّ على تقديم التصريح الخاص بإصدار الصحيفة الورقية إلى الجهاز القضائي؛ أي: إلى المحكمة الابتدائية التي يوجد مقر الصحيفة تحت ولاية نفوذها القضائي، وهو ذات الأمر الذي يسري في المغرب منذ 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1958 إلى 1973 ثم 2002, ويؤكِّد عليه مشروع القانون المرتقب، لكن الأمر مخالف لذلك في نص القانون الجزائري الجديد لسنة 2012؛ إذ إن هذا الأخير يؤكد على كون تصريح إصدار الصحيفة الورقية يُقدَّم إلى سلطة ضبط الصحافة المكتوبة، فهل التصريح لإصدار الصحيفة الإلكترونية سوف يوجَّه كذلك إلى هذه السلطة؟ 

2. الأردن وتقنين الصحافة الإلكترونية

طالت موجة تقنين الإعلام الإلكتروني مجموعة من الدول المشرقية، وعلى رأسها الأردن، إثر أحداث الربيع العربي؛ حيث أُدخلت تعديلات على قانون المطبوعات والنشر في سنة 2012. أُدمجت هذه التعديلات في القانون رقم 8 لسنة 1998، الذي يُشار إليه بالقانون الأصلي، فأعطانا قانونًا جديدًا ضمن مشمولاته قضايا تنظيم وسائل الإعلام الإلكتروني, لكن هذا التعديل وردت به قيود قانونية، وتشوُّهات بنيوية، لذلك سجَّل عليه وضدَّه الفاعلون في الإعلام الإلكتروني عدَّة مؤاخذات، على رأسها أنه وُضع دون استشارتهم أو استشارة من يمثِّلهم، كما وُضِع دون مراعاة تكييفه مع القوانين الأخرى الداخلية، وقد خالفت هذه التعديلات بنود الدستور والمعاهدات الدولية بفرضها مزيدًا من القيود على حرية الإعلام والتعبير عبر الإنترنت(33). 

بدأت فكرة هذه التعديلات تتبلور منذ أن أصدرت محكمة التمييز قرارًا في 2010، يؤكد على إخضاع المواقع الإلكترونية لقانون المطبوعات والنشر، والتقطت الحكومة هذه الإشارة فأصدرت مشروع قانون عرضته على البرلمان، حدَّد وعرَّف المطبوعة الإلكترونية على النحو الآتي: "...هي كل وسيلة نشر دُوِّنَت فيها المعاني، والكلمات والأفكار بأي طريقة من الطرق بما فيها الوسائل الإلكترونية أو الرقمية أو التقنية". وبأنها "....موقع إلكتروني له عنوان إلكتروني محدد على الشبكة المعلوماتية، يُقدِّم خدمات للنشر، بما في ذلك الأخبار والتقارير، والتحقيقات، والمقالات، والتعليقات، ويختار التسجيل في سجل خاص ينشأ بموجب تعليمات يصدرها الوزير لهذه الغاية". 

وفي تعديل 2011 أضيفت المادة 49 وجاء فيها: "لا تستفيد المطبوعة الإلكترونية، ومالكها وناشرها وكاتبها، وصحفيوها والعاملون فيها من مزايا هذا القانون، ما لم تكن مرخصة ومسجلة وفقًا لأحكامه". 

ومن المعلوم أن تعديلًا آخر أُدْخِل على هذا القانون في 2012 أكَّد على "التسجيل الاختياري" الذي حلَّ محلَّ "الترخيص الإلزامي"، والتشديد على "الحجب" بالنسبة للمواقع الإلكترونية غير المرخصة. ويتضح من هذا أن الحكومة بإمكانها أن تلجأ إلى حجب المواقع الإلكترونية حتى وإن لم يكن هناك حكم قضائي؛ وهذا يجعلها خصمًا وحكمًا في الآن ذاته. لكن تعديلًا جديدًا أُدْخِل على المادة 49 في سنة 2013 يتعلق بإسناد قرار الحجب إلى القضاء؛ فأصبح تبعًا لذلك يتم وفق "مقرر قضائي"، فأبقى على حجب المواقع غير المرخص لها. 

من محاسن القانون الأردني الجديد أنه جاء بشيء جديد طالما نادى به مهنيُّو الإعلام على صعيد النظام الإقليمي العربي، ويتعلق الأمر بمقتضى جديد هو إحداث غرف قضائية متخصصة تتولى النظر في قضايا المطبوعات والنشر بشقيها, الجزائي (جرائم النشر), والمدني (دعوى التعويض المدني), وهذا الإجراء قد أُدْخِل مؤخرًا في القانون المغربي بإحداث غرف متخصصة مكلفة بالبث في قضايا الإعلام(34). وتكمن أهميته في إسناد البتِّ في القضايا المتعلقة بالإعلام إلى قضاة متخصصين في شؤون الإعلام يفهمون ويستوعبون طبيعة العمل الإعلامي ومشكلاته، وصعوباته مع تقدير كون احتمالات الخطأ كثيرة وجد واردة فيه. 

- استخدم القانون الأردني لفظة المطبوعة الإلكترونية في المادة 49، وفي المادة 2 التي حدَّدتها في كونها "...عبارة عن موقع إلكتروني له عنوان إلكتروني محدد على الشبكة المعلوماتية يُقدِّم خدمات للنشر....". إن هذا التعريف عام ويشمل جميع المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت بغضِّ النظر عن مصدرها، ونوعها وحتى شكلها ولغتها، وهذا سيجعل مواقع، مثل: غوغل، ياهو، الفيسبوك، اليوتيوب...إلخ، وفقًا لهذا القانون وأحكامه مُلْزَمَةً بالحصول على ترخيص من دائرة المطبوعات والنشر، وهو أمر يستحيل تطبيقه، بل إن النص إياه غير قابل للتطبيق على أرض الواقع من عدة وجوه؛ فالقانون وفقًا للمادة 13 يشترط لمنح التراخيص لإصدار المطبوعة أن يتم تسجيلها كشركة وفقًا لأحكام قانون الشركات المطبق في الأردن، وذاك يعني أن جميع المواقع الإلكترونية، التي تُقدِّم الأخبار مجبرة على التسجيل كشركة في الأردن وفقًا لأحكام الشركات في القانون الأردني، وهذا غير قابل للتطبيق. فالقانون يعتبر أن مكان مشاهدة المواقع الإخبارية الإلكترونية هو مكان طبعها وصدورها، ولم يأخذ بعين الاعتبار من أين تمنح المساحة الافتراضية للموقع الإلكتروني على الإنترنت، وما الجهات أو الشركات الدولية التي تملك مساحة على شبكة المعلومات الدولية "الإنترنت" وتمنح تلك المساحة الافتراضية وكيف يتم ذلك. 

هناك إشكال آخر، وقع فيه المشرِّع الأردني وربما جُلُّ المشرِّعين العرب وهو أنهم اعتبروا المطبوعة الإلكترونية شخصية اعتبارية مثلها مثل سائر المطبوعات الدورية، مع العلم بأنها ليست كذلك، بل هي إحدى الخدمات التي تُقدِّمها الإنترنت. والإنترنت كما هو معلوم عبارة عن شبكة معلومات دولية (فضاء افتراضي) لا يمكن لا تقنيًّا ولا قانونيًّا إخضاعه لقواعد الترخيص في أية دولة من العالم. 

إن تشديد النص القانوني سواء في الأردن أو في الدول العربية التي حذت حذوه، يُعتبر مخالفًا لنص أعلى موجود في الدستور الأردني كما في دساتير كل الدول العربية، وهو النص الخاص بحرية التعبير، وحرية الإعلام والصحافة، التي من بين أركانها عدم فرض أية قيود على إنشاء وصدور الصحف والمواقع الإلكترونية، وممارسة العمل الإعلامي على العموم. إن الترخيص المسبق يعتبر قيدًا على حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير، فالسائد اليوم على المستوى الدولي، هو التوجه نحو التصريح والإخطار عوض الترخيص، انسجامًا مع المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادق عليه الأردن فصار ملتزمًا به، وخاضعًا لأحكامه. 

3. التنظيم القانوني للإعلام الإلكتروني في الكويت

لا تختلف التجربة الكويتية في تنظيمها للصحافة الإلكترونية عن تجارب بقية الدول العربية، ففي الكويت أكد مشروع قانون الإعلام الموحد على أن من أهدافه دعم وتعزيز الحريات الإعلامية، ووضع قانون يلم شتات القوانين والقرارات الوزارية المبعثرة الخاصة بالمطبوعات من جهة, والإعلام المسموع والمرئي وكافة الأنشطة الإعلامية في قانون واحد وموحد؛ أي: في إطار مدونة للإعلام، التي تشتمل على قانون المطبوعات والنشر لسنة 2006، وقانون الإعلام المرئي والمسموع لسنة 2007 مضافًا إليه قانون الإعلام الإلكتروني، من قنوات إلكترونية ومواقع ووكالات للأنباء. 

لقد تضمن هذا القانون عقوبات بالحبس في حال المساس بالذات الإلهية أو القرآن الكريم، أو الأنبياء والرُّسل، أو الصحافة، أو زوجات الرسول صَلَّى الله عليه وسلَّم، وآل البيت، كما منع التعرض لشخص أمير البلاد وولي العهد، أو نِسبة أقوال وأفعال لهما، بغير إذن مكتوب من الديوان الأميري، أو ديوان ولي العهد، ورتب على ذلك غرامات مالية لا تقل عن 50 ألف دينار ولا تزيد على 300 ألف دينار كويتي، وتعرَّض ذات القانون إلى منع تحقير الأديان أو الإساءة إليها، كما منع المساس بالحياة الخاصة للموظف العام أو المكلف بخدمة عامة، أو تنسب إليه أقوال وأفعال عارية من الصحة ، تنطوي على تجريح لشخصه أو الإساءة إليه(35). 

وأعطى مشروع القانون لوزارة الإعلام صلاحية الإغلاق الإداري لمعظم الأنشطة الإعلامية، كما أعطاها صلاحية وقف أو حجب أي محتوى أو برنامج, وأشار الفصل 9 إلى أن "الإعلام الإلكتروني وضوابط استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي" من أجل ممارسته سيصبح على من يريد ذلك، الحصول على ترخيص مسبق لإنشاء أي موقع إعلامي أو أية دعاية أو إعلان إلكتروني، مع اشتراط تعيين مدير كويتي يكون مسؤولًا عن المحتوى(36). 

وُجِّهت انتقادات كثيرة لهذا القانون؛ باعتباره يتعارض مع المقتضيات الواردة في المادة 37 من الدستور الكويتي التي تؤكد على حرية الطباعة والنشر،كما يتعارض مع المادة 18 و36 منه، بل إن قانون الإعلام الإلكتروني في صيغته هذه, يُلْمَس من خلاله تراجع الحريات، بالإضافة إلى ذلك يتناقض مع المعايير الدولية لحرية الإعلام، وهو في النهاية مُكَمِّم للأفواه؛ فضلًا عن ذلك يتعارض مع حرية فضاء الإنترنت بتأكيده على تكاليف باهظة لاستصدار ترخيص إنشاء المواقع الإلكترونية. 

لم ينص هذا المشروع صراحة على كونه يشتمل على المدونات الشخصية التي قد تتضمن أخبارًا، ومقالات شخصية لصاحب المدونة، أو مقالات ينقلها عن غيره، لكنه في باب التعاريف يشير بوضوح للمدونات؛ ففي المادة 1 يُعرِّف بــ"النشر الإلكتروني"، و"الموقع الإلكتروني"... ويبدو من خلال نص التعريف أن المدونات الشخصية مشمولة بأحكام هذا القانون، وهو يتعارض مع الدستور والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجميع مواثيق الشِّرْعَة الدولية لحقوق الإنسان التي تؤكد على حرية الرأي والتعبير. إن حرية التعبير وفقًا لهذه المواثيق مكفولة للأفراد ولا يجوز أن يُفرَض على أي فرد ضرورة الحصول على إذن الحكومة قبل أن يُصْدِر مدونته الشخصية، وإن تضمَّنت أخبارًا ومقالات لغيره. 

وتُلْقِي المادة 7 من ذات القانون المسؤولية على كاهل المسؤول عن الموقع الإلكتروني حول كل ما ينشر في هذا الموقع، أليس من الأجدر بالقانون أن يُلقي بهذه المسؤولية على صاحب المقال أو الجهة التي صدر عنها البيان؛ إذ كيف يمكن أن يتحمل صاحب الموقع مسؤولية المخالفة، وهي لم تصدر عنه بل صدرت عن الغير؟ 

ثم إن المادة 17 من قانون الإعلام الإلكتروني سوَّت بين الإعلام الإلكتروني والإعلام المطبوع حين جعلت المحظور واحدًا في الحالتين رغم الاختلاف الكبير بينهما، من حيث طرق تناول المواضيع وصياغتها، أليس في ذلك ما من شأنه إلغاء قدرة الإعلام الإلكتروني على التأثير اللحظي؟ 

يتضح من خلال ما جاء به المشرِّع الكويتي من قواعد ومبادئ لتنظيم الصحافة الإلكترونية مدى تأثره بالتطور الذي عرفته هذه الصحافة بصورة عامة على الصعيد العربي؛ فالتشريع الكويتي كما بقية التشريعات العربية  الأخرى ذات الصلة بالإعلام الإلكتروني، تأثَّر بشروط تطور تكنولوجيا الإعلام الحديثة. وتأثَّر في الآن ذاته بواقع التحولات التي عرفها النظام العربي بعد الربيع العربي. 

خلاصة 

نلاحظ أن النظام القانوني للصحافة العربية الإلكترونية مرتبط بتطور النظام القانوني للإعلام الإلكتروني على المستوى الدولي، وبهذا المعنى فهو شديد الصلة بمختلف منعرجات الشروط السياسية التي مرَّت بها المنطقة العربية في علاقتها مع تطور وسائل الإعلام الإلكترونية، ووسائل الإعلام بصفة عامة. وشدَّدت الدراسة على شروط وملابسات تقنين الصحافة الإلكترونية، وبيان العلاقة الارتباطية بين الإعلام الإلكتروني والإعلام السمعي البصري والإعلام المكتوب، وأشارت إلى وجود توجُّهين في المجال العربي لهما حضور بارز ومؤثِّر في تنظيم الإعلام الإلكتروني، على النحو الآتي:

  • التوجه الأول: وهو الغالب والأكثر انتشارًا، وقد سعى إلى إدراج هذه الصحافة من حيث التقنين والضبط في خانة الصحافة التقليدية، فطبَّق عليها ما يسري على هذه الأخيرة وبالخصوص الصحافة المكتوبة.
  • التوجه الثاني: سارت فيه أقلية قليلة من الدول؛ إذ أفردت لهذه الصحافة قانونًا خاصًّا.

كما أن هناك دولًا من داخل التوجه الأول سعت إلى تأكيد الصحافة الإلكترونية في صلب دستورها، وتجدر الإشارة إلى أن هناك دولتين شهدتا حالة الثورة، وهما: تونس ومصر، أشارتا إلى ذلك بشكل واضح. 

وأظهرت الدراسة كيف تطوَّر التعامل قانونيًّا مع الصحافة الإلكترونية العربية، انطلاقًا من التنظيم الخجول لها، إلى التنظيم الكامل والشامل، مع التأكيد على اعتبارها مثل الصحافة التقليدية، وخلصت إلى ما يلي:

‌أ. لفهم قواعد قانون الإعلام الإلكتروني في عمقها يجب البحث عن حقيقة هذه القواعد وأهدفها ومعانيها ومقاصدها، ليس في متن النص القانوني المنظِّم لها، بل في المحيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي في رحمه نشأت هذه  القواعد، ومن ثم الرجوع إلى الشرط السياسي الذي في رحمه وضعت هذه القاعدة أو القواعد من أجل إدراك معناها ومقاصدها.

‌ب. صعوبة المواكبة التشريعية لتطور تكنولوجيا الإعلام التي تعرف تحولات سريعة، في حين أن المواكبة التشريعية لها ضعيفة جدًّا بسبب بطء مسطرة صياغة القانون والمراحل التي يمر بها والقنوات التي يَعْبُرُها وما يعتري العملية التشريعية من تعثر.

‌ج. هناك اليوم ضرورة لوضع مدونة إقليمية عربية خاصة بالإعلام الإلكتروني تهتدي بها الدول عند وضعها لقوانين إعلامها الإلكتروني الداخلي، ما يفرض فصل الإعلام الإلكتروني عن الإعلام والنشر الورقي، خاصة أن بينهما اختلافًا كبيرًا، وكذلك مع الإعلام السمعي البصري، ورغم ذلك فإن الاعلام الإلكتروني يشتمل في الآن ذاته على الثلاثة معًا، فهو من جهة ينطبق عليه ما يسري على الإعلام الورقي من حيث النشر، ومن جهة ثانية ما ينطبق على الإعلام السمعي البصري، لاشتماله على الصوت والصورة والكتابة.

كما أن هذه الدراسة شدَّدت على كون  التشريع في حقل الإعلام الإلكتروني، وفي مجال الإعلام بصفة عامة ينبغي أن ينصبَّ على فكرة التنظيم، وأن لا يُسْرِف في النص على العقوبات؛ لأن الدولة في نهاية الأمر هي سلطة مُنَظِّمَة، وليست سلطة جازرة. وعلى العموم، فإن الدولة تُشرِّع وفقًا لسلطتها على إقليمها، ولا يجوز لها أن تمد تشريعها لمواقع ليست ملكًا لها، كما هي الحال فيما يخص المواقع الإلكترونية. إن هذه المواقع تبعًا لاتفاقية التجارة العالمية ليست ملكًا لدولة حتى تمنع الناس من إنشاء حساباتهم فيها، لكن في المقابل قد يمكن للدولة أن تجرِّم المحتوى الإلكتروني مثلًا إِنْ كان يتضمن ما قد يعتبر جريمة جنائية. ومن ثمة فإن منع إنشاء المواقع والحسابات إلا برخصة, فيه تجاوز لسلطات الدول الأخرى على اعتبار أن شبكة الإنترنت ليست ملكًا لدولة بعينها.

_____________________________________

د. علي كريمي - أستاذ القانون بكلية الحقوق بالدار البيضاء- المغرب

References

1. Ambalard, P. Régulation de l’internet: l’élaboration des Règles de Conduite par le Dialogue Internormatif, (Bruylant, Bruxelles, 2004), p. 130.

2. Mathieu, M. Evolution de l’économie libérale et liberté d’expression, (Bruylant, Bruxelles, 2007), p. 210.

3. أبو عيسى، فاروق، "الاتجاهات الدولية الحديثة في حرية الإعلام وحقوق الإنسان"، دراسات إعلامية، العدد 73، أكتوبر/تشرين الأول 1993، ص 75.

4. انظر المادة 38 من القانون المغربي الخاص بالطباعة والنشر الصادر في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2002، رقم 77.00، الجريدة الرسمية، العدد 5075، 20 يناير/كانون الثاني 2003.

5. القانون الجزائري لسنة 2012 الذي أفرد بًابًا خاصًّا بالإعلام الإلكتروني، وهو الباب الخامس من القانون العضوي رقم 12-05 الصادر في 12 يناير/كانون الثاني 2012 بالجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية، العدد 02، 15 يناير/كانون الثاني 2012. وكذلك مشروع قانون الإعلام المغربي الجديد منشور بموقع وزارة الاتصال.

6. في السعودية هناك اللائحة التنفيذية الخاصة بالإعلام الإلكتروني صدرت عام 2011 عن وزارة الثقافة والإعلام السعودية تهمُّ مشروع الإعلام الإلكتروني وتتكون من 20 مادة. وفي الدستور المصري 2014، تشير المادة 70 إلى الإعلام الإلكتروني.

7. اللبان درويش، شريف، الإنترنت: التشريعات والأخلاقيات، (دار العالم العربي، القاهرة، 2010)، ص 149- 157.

8. Bertrand, A. Droit a la vie privée et droits a l’image, (Litec, Paris, 1999), p. 14-22.

9. عبد الكريم عبد الله، عبد الله، جرائم المعلوماتية والإنترنيت "الجرائم الإلكترونية"، (منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2007)، ص 124-136.

وتسمى هذه المعاهدة بمعاهدة المجلس الأوروبي، رقم 185، حول جرائم الفضاء السيبراني أو معاهدة بودابست بتاريخ 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2001.

10. التوجيه الإرشادي رقم: 95/46/EC الصادر عن البرلمان والمجلس الأوروبي بتاريخ 24 أكتوبر/تشرين الأول 1995، كما أن هناك توجيهًا آخر رقم: 2002/58/EC الصادر عن البرلمان الأوروبي بتاريخ 12 يوليو/تموز 2002.

11. أنطونيو أيوب، بولين، الحماية القانونية للحياة الشخصية في مجال المعلوماتية: دراسة مقارنة، (منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2009)، ص 304-308.                       

12. Guerrier, C. Monguet, M-C. Droit et sécurité des télécommunications, (Springer, 2000), p.151.

13. Chatillon, G. le droit international de l’internet, (Bruylant, Bruxelles, 2002), p.158.

14. بيومي حجازي، عبد الفتاح، مكافحة جرائم الكمبيوتر والإنترنت في القانون النموذجي العربي الموحَّد، (منشأة المعارف، الإسكندرية، 2009)، ص 24-25.

15. كريمي، علي، قوانين الإعلام المكتوب في دول المغرب العربي: الواقع والتحديات، (منشورات الإيسيسكو 2011).

16. قانون الصحافة والنشر المصري لسنة 1996.

17. ضمنها الحياة اللندنية، وصحيفة الصباح المغربية، وتلاهما جُلُّ الصحف الورقية سواء منها الصادرة باللغة العربية أو بلغة أجنبية.

18. Chabriere, karénne, Le statut et le régime juridique applicable au cyber journaliste, D.E.S.S, de droit de multimédias et de l’informatique, (Université Panthéon, Paris II, 2002-2003), p. 3.

19. Frank, R. L’Enfant et les conventions internationals, (PUF de Lyon 1996), p.120-123.

20. طلال العامري، فاضل، حرية الإعلام في الوطن العربي في ظل غياب الديمقراطية، (هلا، مصر، 2011)، ص 119-131.

21. الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات صدرت عن جامعة الدول العربية، بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول 2010.

22. الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات صدرت عن جامعة الدول العربية، بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول 2010.

23. نموذج الدستور المصري لسنة 2014 وخاصة المادة 70.

24. نموذج الدستور المغربي لسنة 2011 والدستور الجزائري والدستور التونسي...إلخ.

25. Typhaine Lanuel- Zoé Simon; Mathieu payet, “Approche de droit comparé sur les réseaux sociaux”, Rapport pour la table ronde, “Quels droit pour les réseaux sociaux”, (Faculté de droit, Aïx Marseille, 20 février 2014), p. 9-40.

26. جموسى، جوهر، مدخل إلى قانون الإنترنت والملتيميديا، (الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، تونس 2010)، ص 138-143.

27. المرجع السابق، ص 139-140.

28. المرجع السابق، ص 149.

29. المرجع السابق، ص 150.

30. Lusseault, Pierre-luc, “Protection de la vie privée et medias sociaux a l’ère des megadonnées” Rapport pour la 41eme législature, premier session, Avril 2013, p. 43-48.

31. Ibid, p. 24-29.

32. EL Shazly, Yassin, “les droits de l’homme a l’épreuve de l’internet: Essai sur la diffusion du modèle européen du procès equitable à la politique uniforme de résolution des litiges relatifs aux noms de domaine “UDRP”, Mémoire de Master, (Faculté de droit et de science politique, 2006-2007), p. 23-28.

33. زيادة، سوسن، "ترخيص المواقع الإخبارية، قيود قانونية وتشوهات بنيوية"، موقع حبر، 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2014:

http://7iber.com/2014/11/news-websites-licensing-in-jordan

34. هناك غرفتان في محكمتين: هما المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء، وغرفة في المحكمة الابتدائية بالرباط، وكان مطلب إحداث الغرف للبتِّ في قضايا الإعلام مطروحًا منذ وقت طويل من قِبل الفاعلين الحقوقيين والإعلاميين.

35. مشروع قانون الإعلام الموحد، الرأي، 9 إبريل/نيسان 2013:

http://www.alraimedia.com/ar/article/local/2013/04/09/401944/nr/nc

36. المرجع السابق.