البنية الخطابية لإعلام الثورة السورية وتَمْثِيل الصراع والقيم

تتناول الدراسة البنية الخطابية لإعلام الثورة السورية بوسائله المختلفة التي تشكلت مع خروج السوريين للمطالبة بالحرية؛ حيث برز خطاب إعلامي جديد عكس مستجدات الحياة السورية، وتبحث أيضا الحوامل والأنماط اللغوية والفنية التي أنتجها وتمثلاته للواقع، وترصد التحديات التي واجهته عبر مختلف محطاته الزمنية.
e57becff5a804407a73c2226d6682aa2_18.jpg
(الجزيرة)

تبحث الدراسةُ البنيةَ الخطابية لإعلام الثورة السورية بوسائله المختلفة التي تَشَكَّلَت مع خروج السوريين للمطالبة بالحرية؛ حيث برز خطاب إعلامي جديد عَكَسَ مُسْتَجَدَّات الحياة السورية، وتدرس أيضًا الحوامل والأنماط اللغوية والبلاغية والفنِّية التي أَنْتَجَها وانْتَهَجَها إعلام الثورة عبر مختلف محطاته الزمنية الممتدة حتى اللحظة؛ والتي ميَّزته عن إعلام السلطة السائد. كما تتناول الدراسة طبيعة التحديات التي حالت دون أن يصبح إعلام الثورة السورية "إعلامًا بديلًا". وتعتمد الدراسة منهجيةوصفيةتحليليةمقارناتية للأداءالإعلامي للثورة، و"الرسالة الإعلامية" وحْدةَ تحليلٍ لكشف تَمَثُّلاتِها للواقع السياسي والثقافي والاجتماعي والقيمي للمجتمع السوري. 

وخلصت الدراسة إلى أن إعلام الثورة السورية منح للُّغة حياة جديدة تترجم إرادة السوريين، وتعكس مكنونات إرثهم الثقافي والاجتماعي وتحمل توقهم إلى الحرية والانعتاق. فقد رافق الانتفاضة السورية "انتفاضة لغوية" أخرجت الخطاب السوري من بعض قوالبه وأُطُرِه المصمتة إلى فضاء كَسَرَ "الكودات" والترميزات؛ مُحْدِثًا تغييرًا لغويًّا ملحوظًا بين السوريين. ورغم ذلك، يرى الباحث، أن حال إعلام الثورة عمومًا يبقى كحال الثورة ذاتها؛ تغيب عنه رؤية إعلامية حقيقية واستراتيجية تبتعد عن المحاصصات السياسية والأجندات المتضاربة والطروحات المذهبية أو الطائفية، وتنأى بنفسها عن الخطاب الشعبوي أو المتطرف، والحرص على خطاب جامع لأي تشتت وتعزيز أبعاده الإنسانية والثقافية والاجتماعية بالعودة إلى روح الثورة.

مقدمة 

لا تختلف صراعات اليوم كثيرًا عن صراعات الأمس إلا بمنسوب استخدام الإعلام فيها. وكما يَصْعُب إنكار دور "الغوبلزية"(1) في الحرب العالمية الثانية، فلا يمكن أيضًا التغافل عن دور صوت أميركا أو إذاعة أوروبا الحرة في تَهْيِئَة الأرضية الاجتماعية والثقافية والسياسية لسقوط الاتحاد السوفيتي، أو التغاضي عن دور الصرخة الإعلامية السورية الجديدة على الذهنية السورية وما أحدثته الرسالة الإعلامية للثورة من تأثير في حياة السوريين حاضرًا ومستقبلًا. كما أن محاولات إعادة تأهيل نظام بشار الأسد تتم اليوم وتُقَدَّم على طبق إعلامي أكثر من أي شيء آخر. 

ومهما كان عمق الدراسة وحجمها، فلا يمكنها أن تحيط بالتغطية الإعلامية لما حدث في سوريا خلال الأعوام الستة الماضية، ولا أن ترصد بيئة الحالة الإعلامية (البنية والوظيفة والوكالة) السائدة قبل 2011، وحَسْبُها أن تُسَلِّط الضوء على أُطُر ومُحَدِّدات العملية الإعلامية للثورة السورية من خلال بعض ملامح الإعلام قبل وإبَّان انتفاضة* سوريا عبر البحث في الحوامل اللغوية والفنية التي أتت بها الثورة السورية، والتي كانت ترجمة للواقع السياسي والثقافي والاجتماعي والقيمي للمجتمع السوري، وأن تقف كذلك على حقائق ما عاشه هذا الإعلام (البديل) من عجز أو ضعف أو انتكاسات؛ وصولًا إلى تحديد بعض الرؤى والاقترحات لإعلام سوري مستقبلي. 

1. الإطار المنهجي للدراسة 

‌أ. مشكلة الدراسة

ولَّدت الفَوْرَة الإعلامية التي واكبت وتَمَاهَت مع الثورة السورية تداعيات وتأثيرات على الذهنية السورية تجلَّت في خطاب إعلامي ناشئ (بديل) لإعلام سائد طوال عقود في سوريا كرَّسه نظام مركزي يُهَيْمِن على هَمْسِ السوريين ويَكْتُم أنفاسهم. هذه الفَوْرَة أثَّرت وتأثَّرت بالثورة كما نافست وتشاحنت وتمايزت وتشابهت أحيانًا مع الإعلام السلطوي القائم. وكان لافتًا أن هذا الإعلام الناشئ الواعد -رغم نقله للواقع السياسي والثقافي والاجتماعي والقيمي للمجتمع السوري- قد جَمَد عند نقطة مُعَيَّنَة تمثَّلت في وقت من الأوقات في تفرُّده بنقل الخبر؛ فاعتقد أن ذلك التفرُّد مُبَرِّر للوجود والنهوض والاستمرار كإعلام بديل. 

‌ب. أسئلة الدراسة

1- ما الملامح الأساسية والخلفية العامة لإعلام الثورة السورية وأدائه؟

2- ما البيئة العامة لإعلام النظام وأدائه إبَّان اندلاع الثورة السورية

3- ما سرُّ تنافر السرديات بين الإعلاميْن؟

4- ما سمات البنية الخطابية والحوامل اللغوية والفنية لإعلام الثورة السورية وتمثيلها للصراع والقيم؟

5- ما طبيعة وأوجه التحديات التي تواجه إعلام الثورة السورية؟ وما الرؤى التي تؤسِّس لإعلام بديل؟ 

‌ج. أهمية الدراسة

تتجلى أهمية الدراسة في تسليطها الضوء على واقع إعلام الثورة السورية، وما مرَّ به أو عاناه هذا الإعلام، وتُقَدِّم بعض الرؤى التي  يمكن أن تُشَكِّل أرضية معرفية لإعلام سوري مستقبلي حر، كما تكمن أهمية الدراسة في تركيزها على ما تُسَمِّيه "الهدف" و"الـمُنْتَج" الأساسي والجوهري المُتَمَثِّل في قيمة "الحرية" للثورة السورية، والذي كان الدافع والحافز لها؛ حيث إن الرسالة الإعلامية كانت التَّجلِّي لتحوُّل وتغيُّر مجتمعي وسياسي عبر مرتسمات تاريخية. 

‌د. هدف الدراسة

تهدف الدراسة إلى تحليل الخطاب الإعلامي للثورة السورية من حيث المحتوى والأنماط اللغوية والبلاغية وتلك الفنِّية غير اللغوية التي شكَّلت الحوامل التي استخدمها وأبدع بها إعلام الثورة من خلال ترجمة رسالته الإعلامية للواقع السياسي والثقافي والاجتماعي والقيمي للمجتمع السوري. وتُقَدِّم الدراسة بعض الملامح المقارناتية في الاستراتيجيات التخاطبية مع إعلام النظام وانعكاساته على الثورة وإعلامها. وتقارب الدراسة أطر ومحددات العملية الإعلامية في الثورة السورية بناءً على عينات عشوائية من الأداء الإعلامي خلال شهور وأعوام الثورة السورية، كما تُسَلِّط الضوء على إعلام الثورة وصفًا وتحليلًا عبر سَبْرِ الإيجابيات والسلبيات مهنية كانت أم لوجستية ومادية، وتبحث في الأسباب الكامنة وراء ذلك إضافة إلى تداعياته وانعكاساته على الفعل الإعلامي للثورة. 

‌ه. المقاربة المنهجية والنظرية

تعتمد الدراسة منهجية وصفية تحليلية مقارناتية للأداء الإعلامي للثورة السورية مُسْتَنِدَة إلى جملة من النظريات اللسانية وما قدَّمَته في تحليل الخطاب(2) من الناحية الدلالية المعجمية (التركيبية)، والتعابير، والأقوال(3)، كما تستند أيضًا إلى تحليل مقارناتي لاستراتيجيات الخطاب(4) المستخدمة لحمل الرسالة الإعلامية. وتُسَلِّط الدراسة الضوء على بعض الحوامل الفنية للرسالة الإعلامية من خلال إطلالة على نظريات الفنون الإبداعية لِسَبْر إمكانية تَحَوُّل الإبداع الفَنِّي إلى "رسالة إعلامية" تحمل مضامين سياسية وثقافية واجتماعية. كما تعتمد الدراسة على بعض ما جاء في علوم الإعلام ونظرياته لِسَبْر تطور العملية الإعلامية من حيث الصنوف والأداء والمحتوى والسياسات التحريرية، إضافة الى التحديات التي تواجه أو تعرقل وصول الرسالة الإعلامية وتأثيراتها. 

2. واقع الخطاب الإعلامي السوري بين النظام والثورة 

أ‌. ملامح أولية للخطاب الإعلامي للثورة السورية

عَكَس خطاب الثورة السورية ما اخْتَزَنَتْه الذاكرة السورية من مَوْرُوثٍ شَعْبِيٍّ بَثَّه إعلام الثورة في شعارات غَلَب عليها الطابع العفوي أحيانًا كثيرة والـمُبَرْمَج أحيانًا أخرى؛ وتجلَّى ذلك في مَشْهَدِيَّات بصرية تجاوزت في معظمها الدلالة اللغوية إلى دلالة ثقافية طَيْفُها أوسع وأبعد. وبرز ذلك أحيانًا من خلال تشكيلات فنِّية وظَّفت مختلف الفنون لخدمة الهدف الأكبر للثورة. كان للمظاهرات طقوس غرفت من الموروث الفنِّي الشعبي السوري في حركات للأجساد، وكأن السوري يكتشف جسده ذا الرأس واليدين والحنجرة للمرة الأولى؛ وجاءت الأنغام والأهازيج والشعارات التي صَدَحَت بها حناجر السوريين المتظاهرين تعبيرًا عن "تراتيل" في فضاء الخلاص والحرية. 

في البدايات، حملت الشعارات التي رفعها المتظاهرون آمال وتطلعات ومطالب الشعب السوري؛ مُكَثِّفةً كل ذلك في قِيَم الحرية ورفض الإهانة التي طالما مارسها النظام على الشعب السوري لعقود؛ فقد هَتَف المتظاهرون منذ اللحظة الأولى: "الشعب السوري ما بِينْذَلْ"، ثم رفعوا درجة رفضهم لـ"المذلَّة" إلى تفضيل "الموت" عليها، برفعهم شعار: "الموت ولا المَذَلَّة"، وبعدها تبلور التصعيد من خلال رسم المحددات لأهداف الثورة، فأطلقوا شعار: "الله، سوريا، حرية، وبَسْ"؛ مُسْتَبْدِلِين وناسِفين أحد مرتكزات الشعار الأساسي للنظام المُتَمَثِّل برأسه (بشار) والذي يقول:" الله، سوريا، وبشار، وبَسْ" بعبارة "حرية"، وصولًا في التصعيد إلى شعار: "الشعب يريد إسقاط النظام". 

ب‌. حالة الإعلام الرسمي أثناء اندلاع الثورة السورية   

ما أن بدأت الإرهاصات الأولى للانتفاضة السورية حتى اسْتُنْفِر إعلام النظام الذي أُخِذَ على حين غرَّة إلى رسم استراتيجية إعلامية تَشْوِيهِيَّة لما يحدث: إخفاءً وتغييرًا وفَبْرَكَةً؛ فحقيقة ما يحدث يجب ألا تظهر، وإذا كان لابد من ظهورها، فلا مناص من تغييرها، أو حتى قَلْبِها أو تشويهها(5)، وإذا استلزم الأمر رَسْم مشاهد مُفَبْرَكَة فلا ضير. وقد ركَّز إعلام النظام على أن "الأمور في سوريا طبيعية"؛ و"الشعب يحب الرئيس"؛ وهو "حامي الأقليات"، وهو "مانع التقسيم"؛ و"الجيش العربي السوري وطني ويحمي البلد"(6). 

لقد راعى الإعلام الرسمي تصوير صِدام دموي بين سلطة هو بوقها، وشعب هو افتراضيًّا جمهوره؛ فكان هاجسه المشترك مع السلطة الأمنية السعي إلى خلق طرف ثالث (عسكري أو تطرفي) كي يُقَدِّم قصة الدَّم التي حاول إخفاءها، والإجرام الذي أنكره بالمطلق. هنا، سعى إلى خلط الأوراق، والتحايل، وتمرير الوقت، ومحاولة كسبه قدر الإمكان. كان لابد من إبراز "الأزمة" باعتبارها "طائفية" كما زعم مسؤولو النظام(7) الذي ضاق إعلامه ذَرْعًا بالثورة عندما كان المتظاهرون يهتفون: "واحد واحد واحد؛ الشعب السوري واحد"، و"حرية" و"سلمية" التي تشير إلى وَحْدَة الشعب السوري لا طائفيته أو دمويته. 

لم يكن الإعلام الرسمي إلا وجهًا آخر للأجهزة الأمنية، ولكن دون صلاحيات؛ فمع اندلاع الثورة السورية كان إعلام النظام -كما يؤكد أحد الذين عملوا في مؤسساته- طرفًا في الأزمة السورية وليس ناقلًا أو عاكسًا لمجرياتها؛ فـ"قَلَّل من شأن ما كان يحدث في مختلف بقاع سوريا؛ مُشَكِّكًا في مصداقيته؛ رابطًا إيَّاه بمؤامرة خارجية، بل سعى لإيصال ما يريده هو فقط لمَن يتلقَّى رسالته(8). وهنا، كان الإطار النَّاظم للخطاب الإعلامي الرسمي الذي يصوغ رؤيته للأزمة وتداعياتها هو تقسيم الشارع السوري إلى "وطنيين"، وهم أولئك الذين يُرَدِّدون سَرْدِيَّتَه، و"خونة" و"عملاء" و"سلفيين"، كما دعا علنيًّا للتصدي الأمني لهم، وحتى قتلهم(9). 

ج‌. تنافر السَّرديات

تصدَّعت لغة الإعلام الرسمي مع الصرخات الأولى المطالِبة بالحرية؛ فاستدعى النظام على الفور عبارات مثل: "الفتنة الطائفية"، و"الإمارات السلفية"، التي كانت تُعَدُّ من المحرمات في الخطاب الرسمي؛ حيث كان السائد: "اللُّحمة الوطنية" و"التناغم بين مكونات الشعب السوري". ومن هنا أتى استنفار النظام للعصبيات الطائفية ووضعها في مواجهة بعضها البعض(10). 

في مقابل سردية الثورة حول سلمية التظاهر، ونفي وجود الشعارات الطائفية؛ وأن الشغب والتخريب والقتل مصدره النظام، حرص الإعلام الرسمي ومنظومته الأمنية الموجِّهة على استخدام عبارات "العصابات المسلحة"، وأن "قناصة مجهولين يعتدون على الجميع"، وهناك "هتافات طائفية ضد المسيحيين والعلويين"؛ وهناك "زعران" يُخَرِّبُون ويُرَوِّعُون الناس ويجبرونهم على التظاهر ترهيبًا أو إغراءً ببعض المال. وهنا نشير إلى أن العدو الأول للنظام كان هم الناشطين الإعلاميين. فمع منعه لأي إعلام خارجي من الوجود على الساحة السورية- باستثناء إعلام إيران وروسيا- كان النظام يتمنى أن يحمل المتظاهرون أسلحة فتاكة، لا أن يحملوا جهاز موبايل أو آلة تصوير. 

3. الحوامل الإعلامية لخطاب الثورة السورية 

1.3. الحوامل اللغوية 

أ‌. كسر "الكودات" الـمُقَيِّدَة

كما كانت المناحي الاجتماعية والثقافية والسياسية للحياة السورية مصابة بالجمود والخمول بسبب الضبط والضغط والقمع السلطوي، كذلك كانت حال اللغة المتداولة قبل 2011؛ فقد رافق الانتفاضة السورية "انتفاضة لغوية" أخرجت الخطاب السوري من بعض قوالبه وأُطُرِه المصمتة إلى فضاء كَسَرَ "الكودات" والترميزات؛ مُحْدِثًا تغييرًا لغويًّا ملحوظًا بين السوريين. 

فقد كان السائد تخاطبيًّا بين السوريين -بسبب الخوف المتأتِّي من استبداد النظام وبطشه- ذلك "الكود" أو "الشِّفرة" اللغوية المحدِّدة والمقيِّدة التي لا تَخْرُج حدودُ استخدامها عن تجمُّع لغوي يسوده الثقة؛ قوامه الأسرة والأقرباء والأصدقاء الخُلَّص، وهي المجموعات السكانية اللغوية -كما يُسمِّيها "جون غمبرز" (John Gumperz)- التي تشترك في خلفيات ثقافية ومعرفية ومفاهيم وافتراضات واحدة(11). 

إن المعنى الدَّارج أو السائد للعبارات السورية، مثل: "مريض" ، "عَمْيَدْرُس"، "مشغول" لا يحتاج إلى تفسير؛ ولكنها في الأشهر الأولى للانتفاضة السورية أخذت أبعادًا دلالية جديدة؛ حيث أصبحت أوجهًا مختلفة للدلالة على من يختبئ من ملاحقة المخابرات. فهناك عبارات كانت سائدة قبل 2011، لكنها مع الانتفاضة اكتسبت بُعدًا دلاليًّا أكثر حِدَّة وتأثيرًا في جانبه التحذيري من المخبرين: "خطُّه حلو" و"عوايني" أمثلة على ذلك. 

ب‌. التغيير الدلالي في لغة إعلام الثورة

لم يمس التغيير اللغوي في الخطاب الإعلامي للثورة السورية البعد التركيبي أو البنيوي للغة، وإنما بقي محصورًا في المستوى المفرداتي(12) وفي التعابير الاصطلاحية والأمثال؛ وتجلَّى ذلك في البعد الدلالي للغة عبر التغيير في المعنى للمفردات القائمة، وفي خلق أو نحت مفردات جديدة تواكب وتتماهى وتعكس مُسْتَجَدَّات الأحداث والوقائع، وعبر تحويل الأمثال والأقوال المأثورة إلى مقولات جديدة مرتبطة بالثورة(13). 

  • مفردات بأبعاد دلالية جديدة

مع انطلاقة الثولاة السورية، اكتشف المنتفضون الفجوة المفرداتية في المخزون اللغوي السوري؛ فهناك واقع مُسْتَجَد، ولابد من التفاعل معه لغويًّا. لم يقتصر انتشار المصطلحات اللغوية الجديدة على الساحة السورية، بل تعدَّاها وأخذ طريقه إلى الإعلام العالمي للدلالة على حال أو ظاهرة أو فعل يعكس ما يجري على الساحة السورية؛ فعبارة "شَبِّيح" وتُجمَع على "شبِّيحة" أُعِيد استخدامها بدلالة جديدة للإشارة إلى أولئك الذين تصدَّوا للمتظاهرين بالضرب والقتل. خضع المصطلح إلى تغيير دلالي، واكتسب بُعدًا وحشيًّا إجراميًّا، ثم أخذ امتدادًا دلاليًّا باستخدامه للإشارة إلى قوى النظام المسلحة، الجيش. جذر المصطلح هو الفعل "شَبَحَ"؛ ويدل على عملية تعذيب في معتقلات النظام؛ حيث يكون المعتقل في وضعية جسدية تكسر عموده الفقري أحيانًا. ويطابقه في المخزون اللغوي المصري مصطلح "بلطجي" المشتق والدالُّ على تلك الآلة القاطعة الثقيلة القاتلة "البلطة". 

دفعت الفجوة المفرداتية في اللغة منتجي ومُصَمِّمِي الشعارات والهتافات ولغة تخاطب الثورة إلى إعطاء بعض المفردات السائدة بُعدًا دلاليًّا جديدًا، وإطلاقها للتعبير عن حال أو فعل أو ميزة أو شخص لتشكل في النهاية جزءًا من قاموس جديد للثورة السورية.* فالتغيير الدلالي يأتي أيضًا من التغيير في المشار إليه(14) واستخدامه في مفردات دارجة ترميزيًّا:

  • بشارون: عبارة خضعت لتغيير في بنية الكلمة صوتيًّا وصرفيًّا "مورفوفونيمك" (Morphophonemic) بإضافة اللاحقة (suffix) لينتهي بها اسم "بشار" وتصبح "بشارون" لتشبيه رأس النظام السوري برئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "آرئيل شارون"، وذلك للدلالة على دمويته. وفي سياق الإشارة إلى بشار الأسد، شاع استخدام مفردة "بطة" التي ابتدعها المخزون اللغوي للثورة لدلالة على مَثْلَب أخلاقي في سلوكه.
  • رمادي: مصدر الكلمة هو عالم اللون، والتي توسعت ودلالتها. لم تكن خاصة بلغة الثورة بل مشتركة مع اللغة المضادة للنظام وتشير إلى حالة التذبذب أو غياب الاصطفاف مع الثورة أو مع السلطة؛ وحملت بعدًا دلاليًّا سلبيًّا. 
  • أقوال وأمثال بدلالات جديدة

جدَّد خطاب الثورة الكثير من الأمثال والأقوال المأثورة وحمَّلها معاني جديدةً تخدم أغراضه وتتماهى مع الواقع الناشئ، وطوَّر الناشطون الإعلاميون في الثورة عبارة: "لا تُؤَجِّل عمل اليوم إلى الغد" إلى "لا تُؤَجِّل مظاهرة اليوم إلى الغد" في فعل تحريضي على التظاهر عبر استبدال مفردة"مظاهرة" بـ"عمل" السامية إلى مصاف العبادة وإعطائها ذلك البُعد الدلالي القدسي. ودفعت الخشية من مراقبة الهواتف ووسائط التواصل الاجتماعي من قِبَل السلطة الناشطين إلى نحت مصطلحات جديدة لترميز الفعل الثوري؛ فـ"بُكْرَة عَنَّا حفلة" تعني للناشطين والحاضنة الاجتماعية أن هناك مظاهرة في اليوم التالي، وردًّا على الاستخدام المبطَّن للطائفية مَسْلَكًا وخطابًا من طرف النظام، خرج الناشطون حاملين لافتة تقول: "الطائفية رِجْسٌ من عَمَل النِّظَام فاجْتَنِبُوه"، مُسْتَبْدِلِين المفردة الدالة على فعل شائن بمفردة "الطائفية"؛ و"الشيطان" بـ"النظام" في العبارة الجديدة. 

وشكَّل استخدام العبارات الدينية الرمضانية جانبًا مهمًّا من التحول الدلالي لبعض العبارات لتأخذ بُعدًا سياسيًّا كان له مفاعيله في لغة الثورة. يقال عند إيقاظ الصائمين في رمضان من أجل السحور: "يا نَايِمْ وَحِّدِ الدَّايِمْ"؛ تم استبدال بعض المفردات والاستفادة من الإيقاع والجرس الموسيقي للعبارة، لتصبح: "يا نَايِمْ بشار مُو دَايِمْ" باستهداف للخانعين الموالين لبشار الأسد. وثمة أيضًا الاستخدام الرشيق للصور البيانية والبلاغية من جناس وطباق في تَوْلِيد أقوال تخدم الثورة؛ فالأنشودة التي يُطلقها المشيِّعون للشهيد تقول: "لا إله إلا الله، والشهيد حبيب الله"؛ لكن الناشطين أبدعوا أنشودتهم الخاصة التي تقول: "لا إله إلا الله، والأسد عدو الله" في إشارة إلى رأس النظام كعدو لله. في السياق اللغوي الديني ذاته، شاعت عبارة: "حزب اللاَّت" للدلالة على "حزب الله" بارتكاز على إرث ما قبل الإسلام؛ والغاية نَزْع أي بُعْد دلالي إسلامي عن هذا الحزب عبر استبدال كلمة "اللاَّت" بلفظ الجلالة "الله"، استذكارًا وتذكيرًا بـ"اللاَّت والعُزَّى" وبُعْدِهما الإلحادي.  

ج‌. الصراع الرَّمزي بين الثورة والنظام

في الصراع الرَّمزي، أو حرب الكلمات، بين الثورة والنظام شكَّلت عبارة "مؤامرة" أو "مؤامرة كونية" مرتكزًا للخطاب الإعلامي للنظام، فكل ما يجري في سوريا يُمثِّل في منظوره مؤامرة على بلد "الصمود والتصدِّي" وعلى "العلمانية" وعلى "الأمن والأمان". وكان هدف النظام من ذلك نَزْع أي صفة ثورية أو صبغة تحرُّريَّة عن الحراك السوري في وجه استبداد السلطة؛ وهنا جاءت شَيْطَنَة "الآخر" عبر نزع الصفة المدنية أو السلمية عنه باستخدام عبارات مثل: "العصابات المسلحة"، و"الـمُنْدَسِّين" وحتى عبارة "المخرِّبين" التي اختصت بها إسرائيل للإشارة إلى الفلسطينيين. وإضافة إلى ذلك، بذل النظام عبر إعلامه جهدًا ملحوظًا بداية -ولا يزال- في التركيز على البُعد الديني الطائفي لما يحدث باستخدام عبارات، مثل: "تكفيريون" و"سلفيون"، وتوَّج ذلك بتكريس البُعد الخارجي لما سمَّاه "مؤامرة" من خلال استخدام مفردة "وهابية". 

في هذا الصراع الرمزي، حرص النظام على تحريم استخدام عبارة "ثورة"، فلم تَرِدْ في إعلامه قطعًا؛ وإن كان هناك أي إشارة إلى ذلك، فلابد أن ترد من باب السخرية باستخدام عبارة "فورة" كبديل للدلالة على فعل فوضوي مزعج بلا هدف أو شرعية. وفي لغة الشارع الموالي، لم يكن هناك حرج من استبدال حرف الصاد بحرف الضاد في كلمة المعارضة. وقابل الناشطون الإعلاميون سخرية النظام من "الثورة" بتحويلها إلى مفردات "فورة" و"مؤامرة" و"مُنْدَس" أيضًا بسخرية مماثلة عندما كانوا يسألون بعضهم البعض: "متى انضممت إلى المؤامرة؟" أو "متى انضممت إلى الفورة؟" أو "متى أصبحت مندسًّا؟". 

وتحديًا لمفردات وعبارات استخدمها إعلام الثورة، وكانت مؤلمة للسُّلطة، رفع مؤيدو النظام شعار "شبيحة للأبد، لأجل عيونك يا أسد"؛ ليقابله ناشطو الثورة بـ"حرية للأبد، لأجل عيونك يا بلد"؛ وكلاهما يلعب على الإيقاع وتغيير المفردات. وعندما سخر وليد المعلم، وزير خارجية النظام، من أوروبا بعبارته الشهيرة: "...سننسى أن هناك أوروبا على الخارطة" شاعت الإشارة إلى وليد المعلم بين نشطاء الثورة بـ"ملتهم القارات". 

2.3. الحوامل الفنِّيَّة لإعلام الثورة السورية 

شكَّلت الروافع الفنِّية لإعلام الثورة السورية ذخيرة لغوية وفنِّية عبَّرت عن مكنونات أهل الثورة الثقافية والاجتماعية والسياسية بشكل تجاوز النسق اللغوي التقليدي، ليخلق الذاكرة الفنية الإبداعية للثورة السورية. ولحسن حظ الثورة فإن هناك من تطوع وأطلق موقعًا إلكترونيًّا بالعربية والفرنسية باسم "الذاكرة الإبداعية للثورة السورية" لحفظ ما أبدعته العقول السورية(15) 

وقد حوت تلك الذاكرة الإبداعية مختلف الفنون، وجعلت الفنون السبعة أربعة عشر؛ حيث أضافت إليها "اللافتات" و"الجداريات" و"القصص المصوَّرة" و"الملصقات" و"الطوابع" و"الكاريكاتير" و"الرسومات الخاصة". كل تلك الفنون -إضافة للفنون الأساسية- كانت روافع "لا لغوية" نقلت ثقافة الثورة السورية ووَثَّقَت إرثها وإبداعاتها في رسائل تجاوزت الأثر والإرث اللغوي.

  • اللافتات: حملت لافتات الحراك الشعبي التي ذكرها الباحث سابقًا نَبْضَ الإنسان السوري بلغة مكثَّفة؛ كل عبارة فيها وكأنها مجلدٌ ينقل سجلَّ الثورة السورية منذ أول لافتة قرأنا عليها: "الشعب يريد إسقاط النظام" في درعا عام 2011 وصولًا إلى تكرارها في مدينة سقبا بريف دمشق، في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، مرورًا بمعظم اللحظات المفصلية في الثورة السورية. فقد خطَّ الحراك أقوى الرسائل تأثيرًا حول "المعتقلين"، و"الكيماوي"، و"المجازر"، و"جنيف"، و"الدمار"، و"إيران"، و"حزب الله"، و"الأمم المتحدة"، دون أن ننسى لافتة "صمتكم يقتلنا". والجدير بالذكر هنا أن اللافتات أصبحت تُكْتَب في الفترة الأخيرة على ورق مقوًّى أو الورق العادي لنفاد القماش في صناعة الأكفان.
  • الجداريات: تقوم فكرة هذا الفن على "هدم فكرة المتحف ونقل الرسوم التصويرية من الأمكنة المغلقة إلى الفضاءات العامة لتُقدِّم الرسالة الإعلامية للثورة متضمنة معاني ثورية شعبية". وقد حَمَلَت جدران سوريا القائمة منها والمهدَّمة بفعل القصف مفرداتٍ وصورًا كثَّفت رسائل تلخِّص الحال السوري بشأن تعزيز دور المرأة عبر رَسْمِها محاطة بشمس الحرية؛ وكُتِبَ بجنبها "الثورة أنثى"، إلى رسم أسلاك شائكة على جدار وصور لمعتقلين خلفها؛ وعبارة تقول: "لن ننساكم". وبات معروفًا أن شرارة الثورة بدأت بكتابة على جدران مدرسة في مدينة درعا: "أجاك الدور يا دكتور"؛ وكان المقصود "الدكتور بشار الأسد"؛ وكان لتلك العبارة الجدارية تأثير أكبر من أي مجلدات في الثورة.
  • الملصقات: رافقت الثورة السورية منذ انطلاقتها ملصقات، أو بوسترات، قطعت مع الملصق الاستبدادي الذي كُرَّس في جزء كبير منه لحمل مفردات وعبارات التبجيل للقائد وصوره. ليس هناك سوري لم يقرأ عبارة "منحبك" مُرفقة بصورة لبشار الأسد. ملصقات الثورة التي كانت قد انتشرت عبر الإنترنت ورافقت المظاهرات أَسَّسَت لملصق سوري جديد منفتِح على آفاق الحرية التي نشدتها الثورة. وكان لافتًا أيضًا ملصق كُتبت عليه عبارة "حرية" باللغة الإنجليزية (Freedom) يتحوَّل فيها الحرف (O) إلى بقعة دم تغطي وجهًا، وكأنه يُردِّد مع الشاعر أحمد شوقي: "وللحرية الحمراء بابٌ * بكلِّ يدٍ مُضَرَّجة يُدَقُّ". وتستمر الملصقات كعمل فني لإيصال رسائلها يوميًّا على مدار أحداث الثورة مثلما تابعنا، يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، في مصلق "أنقذوا حلب".
  • الخط: ربط خطَّاطو الثورة بين جمالية الخط العربي وقدسية أو بلاغة النص الذي يُكتب به مما حوَّله إلى حامل زُخْرُفِي خادم للمعنى. هذا الفن أخذ طريقه إلى الجدران والمواقع الإلكترونية كلوحات فنية تحمل رسائل ذات دلالات بالغة التأثير في تحفيز جماهير الثورة مُشَكِّلةً ذاكرة فنية وتأريخية للحظات الفارقة في الثورة من خلال حمل أسماء المدن السورية وأحداثها، وأسماء الشهداء والمجازر، ومفاهيم ثورية مختلفة. كان آخر إبداعات الخط في الثورة لوحة الفنان منير الشعراني في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2016: "لا للترحيل"(16).
  • النحت: معروف أن تكاثر تماثيل "حافظ الأسد" قد شكَّل عنصرًا طاغيًا في الفضاء العام السوري للتأثير في ذاكرة المواطن؛ حيث تحوَّلت إلى أمر ماثل في الواقع، وانتقلت كما يرى مصمِّمو الموقع "...من مستوى المُتخَيَّل إلى مستوى المحسوس المادي، وساهمت في انحسار فن النحت في سورية". ورغم ندرته في الثورة السورية، فإن بعض المنحوتات خلال الأعوام الستة الماضية حملت رسائل تعكس الحال السوري في أحداث ونقاط مراحل ثورته. في منحوتة ليامن يوسف تظهر فتاة بين الموت والحياة؛ وتقول العبارة المرافقة: "لا أزال على قيد الحياة؛ أنا لست ميتة". تلك المنحوتة تُؤَرِّخ للعبارات الأشهر لتلك الطفلة الضحية التي كانت تقول لأبيها إثر استخدام النظام للسلاح الكيماوي على بلدات في غوطة دمشق، باللهجة الشامية: "أنا طيبة؛ أنا طيبة؛ أنا مُو ميتة". 
  • الأهازيج: شكَّلت الهتافات والأهازيج أول الصرخات الثورية التي صدحت بها حناجر المتظاهرين. وكان أهم ما فيها -إضافة إلى رسائلها الإعلامية- اكتشاف السوري أن له جهاز نطق، وخاصة حنجرة، تستطيع أن تصدح بكلمة: "لا". من هنا، كان استئصال النظام لحنجرة الفنان الشعبي "القاشوش" ولم يقتله برصاصة. وكان لأهازيج الثورة لغة خاصة حمَّلتها تعابير ورسائل بإيقاعات شجية عبَّرت عن وحدة الشعب السوري دون حسابات دينية أو طائفية أو فئوية أو مناطقية، وسمع السوريون أُهْزُوجَة: "يا درعا حنا معاكِ للموت" من متظاهري ريف دمشق ودير الزور؛ وكانوا قد أطلقوا الأُهْزُوجَة ذاتها لحماة وحمص وإدلب. وبالتعبير المباشر صدحت حناجر السوريين: "واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد".
  • الغناء والموسيقى: تحوَّلت أغنية الفنان سميح شقير "يا حيف" بما حملته من معان وصوت شجي مؤثر وموسيقى عذبة إلى نشيد للثورة السورية ملخِّصةً قصة الصراع؛ راوية حقائق الاستبداد وتخاذله أمام محتل الأرض ومغتصب الحقوق، القوي على شعبه فقط، ومُعَبِّرَة عن أسف وحسرة تجاه ما يحدث بين سلطة قاتلة، وشعب ينشد الحرية. وحملت أغاني الثورة وحدة في الموضوع عمَّت الجغرافيا السورية، وتجاوز عدد الأغاني المئة ولا يزال الإنتاج مستمرًّا حتى اللحظة وآخرها: "كاتيوشا الروسية" وحبيبها "إيفانوشكا" إثر التدخل الروسي العسكري في سوريا. ولا ننسى هنا وصول غناء وموسيقى الجندلي إلى العالمية؛ فاللحن الذي وضعه لأغنية "يلَّا ارحل يا بشار"، وعزفته أوركسترا عالمية؛ لا يزال السوريون يُدَنْدِنُونَه حتى اللحظة. 
  • السينما والفيديو: أبدعت الثورة السورية شكلًا جديدًا من هذا الفن الذي يتداخل فيه الفيديو بالسينما؛ ففي غالب الأحيان يكون المخرج والمصور والمونتير وفني الصوت والمكساج والإضاءة هو حامل الهاتف النقال، الذي تحوَّل إلى كل هؤلاء؛ فأنتج صورة ولغة الحدث عند وقوعه، وحوَّله إلى فيلم قصير يجد طريقه إلى البث الفضائي بلغة وقصة لأناس لا علاقة لهم بفن التمثيل، بل أجساد من لحم ودم وخلايا دماغية تتحرك -وربما تُقتَل- في موقع الحدث. كانت صور هذا الفن تُغْني عن مجلدات في اللغة؛ حيث كان لرسائلها كبير التأثير في الثورة وخارجها.

4. تحديات إعلام الثورة السورية 

أ‌. خصوصية التحديات التليفزيونية

يبقى التليفزيون الأداة الإعلامية الأكثر تأثيرًا في الرأي العام؛ لاسيما عندما تتضاعف مهمَّته لتتجاوز التأثير في أنماط التفكير السائد في زمن التغيير الذي نشدته الثورة في سوريا؛ حيث كان هناك شبه إجماع على صعوبة أو حتى استحالة قيامها. من هنا كان العبء على الإعلام التليفزيوني للثورة السورية مضاعفًا؛ يمتدُّ طيفه من الدفاع عن قضية عادلة لشعب نَشَدَ قيمة سامية هي الحرية، إلى فضحٍ للممارسات الديكتاتورية لنظام جَثَمَ على صدور السوريين لعقود، وصولًا إلى إقناع أصحاب المواقف الضبابية بضرورة التغيير السياسي وتقديم النموذج الراقي لإعلام جديد/بديل لإعلام رسمي وحيد الرؤية مُرْتَهَن لسياسة شمولية.  

كانت المهمة الملقاة على عاتق الفضائيات التي اعتُبِرت تليفزيونات الثورة السورية -أورينت، 18 آذار، سوريا الشعب وغيرها... وهي الوليد الضعيف محدود الخبرة والإمكانيات- تفوق قدرة التحمُّل لمواكبة الأحداث وترجمتها إلى مواد إعلامية تعكس الأبعاد الإنسانية لحشد وكَسْب التعاطف مع قضية عادلة. ويُسَجَّل لتلك الفضائيات -خاصة أورينت التي انطلقت قبل الثورة ولا تزال فاعلة وتواكب مساراتها- أنها عزَّزت بدايةً دور المواطن الصحفي، وكَسَرَت احتكار الإعلام الرسمي في نقل الخبر السوري. وكادت تلك القنوات أن تُشَكِّل بديلًا لِلْأَدْلَجَةِ وتزييف الحقيقة والواقع، وتنسف التعتيم والإنكار الذي مارسه إعلام النظام لما يحدث على الساحة السورية. كما أن تفردها في نقل الحدث السوري تليفزيونيًّا عبر مراسلين ميدانيين من موقع الحدث كان أحد أهم مميزاتها في مقابل الإعلام الرسمي الذي غطَّى على الحدث ولم يغطِّه إعلاميًّا. 

كان هذا التفرُّد في نقل الحدث مُغْرِيًا؛ فطغى على الفكرة التي أرادت لهذا الإعلام أن يكون بديلًا؛ لكنه جَمَدَ عند نقل الحدث دون أن يتحوَّل فعليًّا إلى إعلام تليفزيوني يشبع احتياجات المتلقي السوري السياسية والاجتماعية والاقتصادية والترفيهية، أي ما تحتاجه محطة تليفزيونية لتكون مقصدًا للمجتمع أو المجتمعات السورية المتعطشة إلى البديل المتوازن المؤثِّر، إضافة إلى التقصير في وضع استراتيجيات إعلامية شاملة تواكب الحياة السورية، وقد واجهت الإعلام التليفزيوني للثورة تحديات متعددة: مهنية ومالية.  

نظرًا لاحتجاز النظام معظم الإعلاميين خوفًا وترهيبًا، واعتقال أو تهجير أو قتل من خرج على إرادته؛ اعتمد إعلام الثورة التليفزيوني في مهمته على ناشطين محدودي المهنية والاحتراف. وهنا، اختلط عمل الناشط الثوري بعمل الإعلامي، واختلط الرأي بالخبر والتحليل. إضافة إلى ذلك لم يكن هناك جَسْرٌ لهذه الفجوة المهنية أو الاحترافية عبر التأهيل أو التدريب، ولم يُعطَ ذلك البُعد الاهتمام الكافي من القائمين على تلك القنوات التليفزيونية. ولذلك أسباب تتعلق بعنصر التفرد بنقل الحدث الذي جَمَدَت عنده، وبالضعف المادي الذي طالما عانت منه. ويؤخذ على هذه القنوات عدم توفر الرؤية الكافية والاستراتيجية الواضحة في التحرير، مما أفقدها الكثير من المصداقية، وأبعدها عن المهنية. فعندما يكون هدف القنوات واحدًا افتراضيًّا، ونجد روايات مختلفة للحدث ذاته، فلابد أن يكون ذلك نتيجة الخلل في السياسات التحريرية والرؤى. 

ومن المعلوم أن الإعلام التليفزيوني يحتاج إلى أموال ضخمة؛ لأن كل دقيقة بث تكلِّف ما لا يمكن أن يتصوره متلقي الرسالة الإعلامية. والثورة الوليدة فقيرة ماديًّا..وعندما يكون الارتهان لتوجيهات الداعم أو المموِّل ومتطلباته في الإعلام التليفزيوني، تصبح المصداقية موضع تساؤل؛ لأن إدارة العملية الإعلامية بمنطق المالك لا تصنع إعلامًا لثورة حرية شعب وكرامته. 

ب‌. تضارب الأجندات

إن أخطر ما واجهه إعلام الثورة هو الرسائل الإعلامية التي عكست رغبات وأجندات متضاربة، وحملت الكثير من الحزبية الضيقة التي أصابت ليس فقط الرسالة التليفزيونية بل مختلف الأصناف الإعلامية للثورة، وكان ذلك نتيجة لما يشبه المحاصصات داخل الثورة. وقد غلَّب هذا النهج الخطاب الفئوي على الخطاب الوطني الجامع، وأسهم بشكل غير مباشر في تكريس الافتراءات على الثورة باعتبارها "نزاعًا طائفيًّا مذهبيًّا لا ثورة شعبية"؛ وشرع ذلك الباب أمام إعلام النظام لتشويه الثورة وسياقها التاريخي. وهنا بدا أداء بعض الفضائيات وكأنه نسخ عن إعلام النظام. 

وقد أَسَّس الخطاب الشعبوي لدخول قوى التطرف لينسف الأحلام الشعبية في الحرية والمدنية والديمقراطية؛ وهذا بدوره دفع الإعلام الدولي إلى تكريس هذه الحالة من خلال تركيزه على الإثارة وتعزيز أجندات ممولِّيه التي أرعبها ربما تحرك الشعب السوري.  وهذا ما دفع الإعلام الغربي الفاعل إلى الاستخدام المفرط لعبارة "حرب أهلية" في توصيف ما يحدث في سوريا. 

من جانب آخر، كانت الرسالة الإعلامية للمعارضة السياسية التقليدية -بعد انضمامها إلى الثورة- في جلِّها محاولة لإثبات الوجود، وتسجيل المواقف، والحفاظ قدر الإمكان على أفكارها الأساسية. وكان لذلك مضاعفاته اللاحقة في البعثرة والتشتت والفرقة والتناقض التي شابت المنظومات السياسية القائمة في الثورة. 

ج‌. الخطاب الديني والثورة السورية

أسهم الخطاب الديني في مختلف وسائل الإعلام التي غطَّت الثورة السورية في التمهيد لما أُطلق عليه لاحقًا "أَسْلَمَة الثورة"، مُسْتَجِيبًا لما حرص النظام على تكريسه كبُعد طائفي لما يحدث في سوريا، ومن أهم تجليات هذا الخطاب:

  • العرعورية: كان للقاءات عدنان بن محمد العرعور على فضائيات، مثل: قناة "وصال" و"شذا الحرية" و"صفا"، أثر على تلقائية ومدنية الحراك الثوري السوري؛ الأمر الذي جعل مؤيدي النظام يقابلون عبارة "شبِّيح" بعبارة "عرعوري" كشتيمة. ولم يكن خطاب العرعور إسلاميًّا بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما خطاب شعبوي تحريضي له مسحة كوميدية؛ وكان لاستخدامه العبارات الطائفية الواضحة أحيانًا والمبطَّنة أحيانًا أخرى أثر سلبي استقطابي أسهم في تغيير مسار الثورة باتجاه ما اشتهاه النظام وعمل عليه؛ فضلًا عن تأثير هذا الخطاب على المحايدين أو الرماديين الذين نفَّرهم من الثورة وكرَّس بعدهم عنها. ورغم توقف العرعور عن الظهور منذ ما يزيد على العامين، فإن آثار خطابه ولغته لا تزال ماثلة تنشر أذاها إلى اليوم.
  • الجهادية: بعد أكثر من عام على انطلاقة الثورة السورية، نشأ خطاب أُطلِقَ عليه تسمية "سلفي جهادي" غذَّاه حضور فصائل سلفية وجهادية مستندًا لـ"الحاكمية" ومبدأ "الولاء والبراء"، وحدَّد أهدافه من العمل المسلح في "تطبيق الشريعة" و"إقامة دولة إسلامية". ومع ازدياد قوته، بدأت تظهر المفاعيل اللغوية لخطابه؛ فمفردة "الثوار" لا وجود لها في قاموسه بل "المجاهدون"، وأصبح "الجهاد" بديلًا لـ"التحرر"، وحلَّت عبارة "تطبيق الشريعة" بدل "الحرية والكرامة والعدالة". وقد أُصيب هذا الخطاب بانتكاسة؛ لأن نموذجه المنفِّر الوحشي كان تنظيم الدولة "الإسلامية".
  • العقلانية: هناك بالطبع خطاب ديني مُعَقْلَن معتدل إرشادي نتلمَّس من خلاله بعض معاني الحرية والسلمية والديمقراطية والالتزام بالمبادئ الوطنية الجامعة التي نشدتها الثورة السورية. وقد مثَّل هذا الخطاب الشيخ علي الصابوني وعصام العطار، لكنه لم يصمد أمام المد العرعوري الشعبوي وذاك السلفي الجهادي؛ وخاصة أن النظام تلقَّفهما كخدمة جليلة مجانية، وأضرم بهما المزيد من نار التحريض والطائفية بترحيب ودعم خفي خارجي. 

استنتاجات وتوصيات 

منح إعلام الثورة السورية للغة حياة جديدة تترجم إرادة السوري، وتعكس مكنونات إرثه الثقافي والاجتماعي وتحمل توقه إلى الحرية والانعتاق؛ ورغم ذلك يبقى حال إعلام الثورة عمومًا كحال الثورة ذاتها؛ فهو يتيم وينحت في الصخر، وتغيب عنه رؤية إعلامية حقيقية، لذلك يحتاج تطويره:

  • رسم سياسة تحرير تستند إلى رؤية واستراتيجية واضحة تبتعد عن المحاصصات السياسية والأجندات المتضاربة والطروحات المذهبية أو الطائفية، وتنأى بنفسها عن الخطاب الشعبوي أو المتطرف.
  • الحرص على خطاب جامع لأي تبعثر أو تشتت أو طائفية، وتعزيز أبعاده الإنسانية والثقافية والاجتماعية بالعودة إلى روح الثورة.
  • الخروج من حالة الجمود والتوقف عند نقل الحدث -باعتباره حالة التفرُّد والعلامة المميِّزة- والانتقال إلى إعلام يشبع احتياجات المتلقي السوري، خاصة في الداخل، عبر تغطية مختلف مناحي الحياة السورية، وعدم الإغراق في الجزئيات التي تصرف انتباهه عن القضايا الأساسية.
  • القطيعة مع الإعلام "الجهادي" والرايات السوداء التي آذت الثورة وإعلامها بقدر النظام؛ والتي كانت وراء هجر الإعلام الغربي للقضية السورية ووصمها بالإرهاب كما شاء النظام. وهذا يستلزم الاستعانة بخبراء لرسم خطاب مقنع بأن جذور الإرهاب هو استبداد النظام وقمعه واستقدامه للميليشيات الطائفية التي أثارت نزعات مقابلة.
  • التركيز على إيصال الخطاب باللغة الإنجليزية في مختلف وسائل اتصال الثورة؛ وإعادة فتح الباب أمام الإعلام العربي والأجنبي لمتابعة الوضع السوري وحماية مراسليه.
  • السعي إلى إقناع أصحاب رؤوس أموال سوريين جدد للاستثمار في إعلام الثورة حتى يتحرَّر من الارتهان ماليًّا لمن لا تعنيه القضية السورية معنويًّا وأخلاقيًّا، والبحث عن التمويل الذاتي، خاصة للحوامل الفنية للثورة السورية.
  • إعطاء أولوية للتدريب والتأهيل لخلق مهنية واحترافية تخدم العملية الإعلامية وتعزِّز مصداقيتها، إضافة إلى الاحتكاك بالخبرات وتشجيع التجارب الناجحة والاستفادة منها.
  • إنشاء وكالة أنباء تنقل الحقيقة بمصداقية عالية وفق مقاييس عالمية.
  • إيجاد ميثاق إعلامي وطني مهني تقني ناظم لمضامين الرسائل الإعلامية في المصداقية والشفافية في الأداء.
  • بناء "مجلس إعلام أعلى" لا يخضع لإملاءات أو شروط المموِّلين ليكون مؤسسة تُعنى بحقوق الإعلاميين وتحميها، وتشرف على الالتزام بميثاق الشرف الإعلامي.

_________________________________

د. يحيى العريضي، باحث مختص في علوم الإعلام والاتصال

References

1. نسبة إلى بول جوزيف غوبلز، وزير الدعاية السياسية في عهد أدولف هتلر وألمانيا النازية، وأحد أبرز أفراد حكومة هتلر، لقدراته الخطابية، وهو صاحب آلة الدعاية النازية والذي صور أدولف هتلر للألمانيين باعتباره المنقذ لهم ولألمانيا.

* عبارات (انتفاضة، ثورة، حراك)  تحمل المدلول ذاته في هذه الدراسة. 

 2. Brown, G. George Yule, Discourse Analysis, (Cambridge University Press, Cambridge, 1989), p 27-68.

-Hinds, John, “Paragraph structure and pronominalization”, Papers in Linguistics, 1977, 10 (1-2), p. 77-99.

 - Hymes, D. Language in Culture and Society: a Reader in Linguistics and Anthropology, 1964.

Schiffrin, D. Approaches to Discourse, (Willy-Blackwell, Cambridge, 1994).

- اعتمدت الدراسة إطارًا نظريًّا ما جاء في تحليل الخطاب لـ"براون ويول"، وتحديدًا تحليل التراكيب بنيويًّا ووظيفيًّا، ودور السياق في تحليل محتوى الخطاب ودلالاته، إضافة إلى دراسات لـ"ديل هايمز" في اللغة والثقافة والمجتمع، و"دوبرا شيفرن" في مقاربات في تحليل الخطاب.

 3. Elisabetta, J. The Lexicon, (Oxford University Press, 2013), p 136-178.

تقوم دراسة المفردات في هذا البحث على المبادئ النَّاظمة للمفردات وتوظيفها في سياقها التداولي معتمدة على الأسس الواردة في كتاب إليزابيتا المشار إليه أعلاه.

 4. Gumperz, J. Discourse Strategies, (Cambridge University Press, 1982), p. 78-112.

طوَّر كلٌّ من جون غامبرز وديل هايمز دراسة التباينات السياقية للاستراتيجيات التخاطبية وتأثير هذا التباين على معنى أو دلالة المقولات والمفارقات الناتجة عن ذلك وتأثيرها الاجتماعي. وظهر ذلك جليًّا في هذه الدراسة عبر المفارقات في استخدام الرسائل الإعلامية المتباينة بين إعلام الثورة وإعلام النظام.

5.  سيتم التفصيل في هذا المحور لاحقًا عبر رصد "الذاكرة الفنية للثورة السورية".

     www.creativememory.org/?lang=ar

6. شكَّلَت دراسات "روبيرت إينتمان" للتحيُّز في لغة الإعلام النابعة من مفاهيم مسبقة مُبَرمَجة لاستدرار القوة في بَرمَجة دماغ وأفكار المتلقي أحد الأسس والأطر النظرية المحددة لدراسة لغة واستراتيجيات الأداء الإعلامي للثورة والنظام.

Entman, R. Framing Bias: Media in the Distribution of Power, Journal of Communication 57, (2007), p. 163–173.

Entman, R. "Framing Media Power," in P. D'Angelo and J. Kuypers, (eds), Doing News Framing Analysis, Empirical and Theoretical Perspectives, (Routledge, New York, 2010), p. 65-87.

  - Entman, R. Projections of power: Framing news, public opinion, and U.S. foreign policy, (University of Chicago Press, Chicago, 2004), p. 64-79.

7. بثينة شعبان، مستشارة في قصر الرئاسة، مؤتمر صحفي، إبريل/نيسان 2011.

8. مقابلة للباحث مع أحد العاملين الذين خرجوا من منظومة الإعلام الرسمية بعد أشهر على انطلاق الثورة السورية. 

9.  Wedeen, L. Ideology and Humor in Dark Times: Notes from Syria, Critical Inquiry 39, 2013, p. 841-872.

Wedeen, L. Ambiguities of Domination: Politics, Rhetoric, and Symbols in Contemporary Syria, (University of Chicago Press, 1999), p. 7, 179-223.

Wedeen, L. “As If”: Symbolic Politics and Social Control in Syria’, Comparative Studies in Society and History, Volume 40, Issue 3, 1998, p. 503-523.

10. لا ترد عبارة "طائفية" في خطاب النظام بتاتًا؛ لا في نشرات الأخبار ولا في البرامج السياسية وغيرها.

11. Gumperz, John, “The Speech Community,” in International Encyclopedia of the Social Sciences, p. 381-6.

12. Bauer, L. Lexical word-formation, (Rodney Huddleston, 2001), p. 121-154.

13. Charles, Fillmore, Daniel Kempler, William S-Y, words, idioms, formulaic expressions- clichés, bromides, proverbs, greetings, 2014, p 78-101

14. Joachim, Grzega, Bezeichnungswandel: Wie, Warum, Wozu? Ein Beitrag zur englischen und allgemeinen Onomasiologie, Heidelberg: Winter, 2004, p. 19-28.

 -Joachim, Grzega “On using (and misusing) prototypes for explanations of lexical changes”, 15 May 2015, p. 21-36.

15. "الذاكرة الإبداعية للثورة السورية".

www.creativememory.org/?lang=ar

16.  المرجع السابق.