تُعَدُّ الدراسة جزءًا من المشروع البحثي المشترك بين مركز الجزيرة للدراسات وجامعة كامبريدج، والذي يتناول "الإعلام في مراحل الانتقال السياسي: الحالة المغربية نموذجًا". وتستقصي الدراسة تمثُّلات المرأة وصورتها في البرامج الحوارية التلفزيونية بالمغرب.
مقدمة
تبحث الدراسة مسألة تَمْثِيل المرأة وصورتها في البرامج الحوارية في التلفزة المغربية. ويرتبط استخدام عبارة "التَّمْثِيل" بالمفهوم الوارد في أعمال الباحث في الدراسات الثقافية، ستيوارت هال (Stuart Hall)، الذي يرى أن مفهوم الهوية مفهوم سيَّال متغير، يتشكَّل تبعًا لواقع المجتمع. ووفق تعريف هال، فإن التمثيل يشير إلى اللغة والصور التي تتشكَّل بأساليب مختلفة (من بينها الإعلام) بغرض تقديم خرائط مفاهيمية للعالم، ولبناء الثقافات.
ظلت مسألة تمثيل المرأة في وسائل الإعلام المغربية حاضرة في جدول أعمال حركة حقوق المرأة في المغرب على مدار عقود. فقد شهدت فترة الثمانينيات حراكًا قويًّا للمطالبة بحقوق المرأة، كما أن ثلثي الجمعيات التي نادت بحقوق المرأة في المغرب قد تأسَّست في الفترة ما بين العام 1980 و1995 (1).
تعالج هذه الدراسة مسألة تَمْثِيل المرأة وصورتها في البرامج الحوارية في التلفزة المغربية. وهنا، نشير إلى أن التلفزة في المغرب تُعَدُّ وسيطًا اجتماعيًّا بالغ الأهمية لاسيما في ظل حالة الانقسام الرقمي التي تشهدها البلاد؛ فحتى الأشخاص القادرون على القراءة والكتابة لا يُحسنون التعامل مع الوسائط الرقمية، ومن ثم فإن التلفزة تُمثِّل الوسيلة الإعلامية الأكثر أهمية في المغرب. ونظرًا لوجود شرائح كبيرة وغير متجانسة من الجمهور تستهلك المحتوى السمعي-البصري، فإن قطاعي الإذاعة والتلفزة يحظيان بتنظيم أكبر يفوق قطاع الإنترنت(2).
وفي ضوء الأهمية والشعبية التي تحظى بها التلفزة كوسيط اجتماعي، فإن تحليل البرامج الحوارية يوفر مساحة مثيرة للبحث والاستقصاء بغرض الكشف عن الصلة بين وسائل الإعلام والهوية. وما تعالجه الدراسة في هذا السياق تحديدًا هو طريقة بناء هوية المرأة من خلال الصور التي تظهر لها في البرامج التي تُبث على قناتين تليفزيونيتين مختلفتين وظيفيًّا: وهما "ميدي1 تي في" (Medi1 TV)، وهي قناة خاصة شبه حكومية تراعي المساهمين وأدوارهم في القطاع العام، والقناة الثانية (2M)، وهي محطة تليفزيونية عمومية.
تعتمد الدراسة التحليل النصي منهجًا لسبر أغوار معاني النصوص وإيحاءاتها. واستنادًا إلى جيسون بينبريدج (JasonBainbridge) (3) يتم التحليل النصي عبر تفكيك التأطيرات النصية (وفي هذه الحالة، فإننا نعني تفكيك البرامج الحوارية كل على حدة) من خلال البحث في مبدأين هما: (1) "هيكلة الغيابات" وهي "العناصر التي يوجد لها معنى ومغزى في النص بالرغم من استبعادها أو بسبب استبعادها"؛ (2) "الاستغراب المهيمن"، وهي "عملية تصبح بموجبها الأفكار السائدة شــديدة الوضوح بحيث لا تجذب الانتباه لذاتها وإنما تبدو وكأنها من المسـلمات"، علمًا بأننا سـنقوم -في المحاور الآتية- بمناقشة الإطار النظري لموضوع تَمْثِيل المرأة، وسرد معلومات أساسية مهمة حول الموضوع ذاته في السياق المغربي بوجه خاص، قبل أن نتناول بالوصف والتحليل كل برنامج حواري والشريحة التي يستهدفها.
الجندر ووسائل الإعلام
أوضحت دراسات الجندر أن الثنائيات "الجندرية" القائمة على الفهم البيولوجي الجوهري للهوية قد رصدت فروقًا بين الرجل والمرأة، وتُستخدم هذه الفروق عادة في تبرير المعاملة غير المتكافئة، والتمييز بين الجنسين، وسيطرة أحدهما على الآخر(4). وقد ساهم ذلك في إيجاد أنماط طبيعية لطريقة تَمْثِيل المرأة وتصويرها في وسائل الإعلام على المستوى العالمي، مع الأخذ في الاعتبار أنّ نسبة وأسلوب تمثيل المرأة في الإعلام يختلفان من بلد لآخر. وقد حددت ميدا ييغينو غلو (Meyda Ye?eno?lu)(5) الاستدلالات الرئيسة لتمثيل المرأة الشرقية من الجنوب العالمي، حيث تضمنت صورة المرأة المحجبة التواقة إلى الخلاص، والراقصة الشرقية المثيرة.
وفيما يخص الإعلام العربي، يعيد نعمان صقر إلى الواجهة قضية السماح بظهور المرأة على شاشات التلفزة بغية تحقيق إيرادات إعلانية، مشيرًا إلى أن زيادة أعداد السيدات في الحقل الإعلامي لا يمكن بالضرورة أن يُفسَّر باعتباره تغييرًا في المحتوى المقدم، كما لا يعني بالضرورة إحراز تقدم في الأجندة المتعلقة بالمرأة(6). ويلفت الباحث الانتباه إلى أن بعض الإجراءات المتخذة حيال المرأة – كظهورها على شاشات التلفزة وتوظيفها في المؤسسات الإعلامية- ما هي إلا إيحاءات مُضَلِّلَة تُوظَّف للتغطية على عدم إشراكها في صناعة الأخبار.
وبالنظر إلى الحالة المغربية، تشير الباحثة نادية لمهيدي إلى وجود فجوة بين النساء والرجال العاملين في مؤسسات إعلامية كالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، ووكالة المغرب العربي للأنباء؛ إذ إن أعداد السيدات اللائي يشغلن مناصب قيادية وإدارية في هاتين المؤسستين منخفضة للغاية بالرغم من ارتفاع نسبة السيدات العاملات بهما (تُمثِّل السيدات نسبة 42% من موظفي الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة)(7). وعلاوة على ذلك، فقد وثَّق بعض الباحثين عددًا من الحالات لظهور السيدات في وسائل الإعلام المغربية سواء كمقدمات برامج أو ضيفات، كمؤشر على حاجتهن للتعبير عن ذواتهن، ليس بين أوساط النساء فحسب بل وأيضًا بين الأشخاص الذين لهم ميول متشددة(8).
لا يزال موضوع تمثيل المرأة في وسائل الإعلام المغربية من المجالات التي لم تنل حظًّا وافرًا من البحث والدراسة، كما أن المنح الدراسية المقدمة باللغة الإنجليزية تحديدًا لا تزال قاصرة في هذا المجال، والموضوعات التي تتناولها الدراسات والتقارير الحالية تشير إلى وجود ميل قوي إلى التعاطي مع صور التمثيل النمطية فقط (تقرير الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب والمنشور في العام 2000؛ وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن)(9).
وبحسب التقرير الذي أعدته نادية لمهيدي لوزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن في العام 2007، فإن المسلسلات التلفزيونية تُقدِّم صورًا سلبية عن المرأة من خلال مقارنتها بالحيوانات، وتصويرها باعتبارها كائنًا خرافيًّا، فضلًا عن عرض حالات الإذلال والإهانة والسب والضرب التي تتعرض لها المرأة من قبل الرجال، وهذه الصورة المجازية الأخيرة تضفي صبغة طبيعية على العنف القائم على الجندر. ومن جهة أخرى، فإن وسائل إعلامية -كالصحافة النسائية (10) ومجلات المرأة(11) والسينما المغربية المعاصرة- تشير إلى آمال محتملة لتعزيز تمثيل المرأة وتحسين صورتها.
قامت بعض الناشطات في مجال حقوق المرأة -ممن أسَّسْن اتحاد العمل النسائي- بإصدار أول صحيفة للمناداة بحقوق المرأة بشكل صريح ووضع أجندة خاصة بقضية المرأة في المغرب، وكانت هذه الصحيفة هي "8 مارس" الناطقة باللغة العربية؛ والتي تأسست في العام 1983 بجهود تطوعية، وواصلت عملها منذ ذلك الحين وحتى العام 1995(12). وعند صدورها، أعلنت الصحيفة بكل جرأة أن الهدف من تأسيسها هو "المشاركة في خلق الظروف المواتية لبروز حركة نسوية جماهيرية"، كما جاء على لسان مديرتها عائشة لخماس(13)، وبالتالي فإن الموضوع الرئيسي في أجندتها هو زيادة الوعي العام بهدف حشد الجماهير للمطالبة بحقوق المرأة. وقامت هذه الصحيفة(14) بدور رائد من خلال التغطية الإخبارية للدعوات التي طالبت بتغيير المدونة (قانون الأحوال الشخصية) في المغرب في أوائل التسعينيات؛ إذ قامت -على سبيل المثال لا الحصر- بإعداد تقارير حول عريضة حملة المليون توقيع، والموائد المستديرة، والنقاشات التي دارت حول هذا الموضوع.
قامت الباحثتان فيكتوريا كورزينيوفسكا (Victoria Korzeniowska) ولبنى الصقلي(15) بالبحث في محتوى المجلتين المعنيتين بقضية المرأة في المغرب؛ وهما فام دي ماروك (Femmes du Maroc) وسيتادين (Citadine) الناطقتين باللغة الفرنسية. تأسست هاتان المجلتان في العام 1995 ولعبتا دورًا كبيرًا في الترويج للتقدم الذي تحقق في مجال المساواة بين الجنسين خلال فترة تعديل المدونة. ومن خلال تحليلها لأداء المجلتين خلال العامين 2003 و2004، توصلت كورزينيوفسكا إلى أن المجلتين تبنَّتا لهجة تقدمية وتحررية في التعاطي مع قضية المرأة، وأنهما تتطلعان إلى خلق "مساحة جديدة للهوية" تقف عند حد وسط بين التقاليد والحداثة(16). وبالرغم من كونهما مجلتين استهلاكيتين تُعنيان بتعزيز معايير الجمال العالمية وإضفاء الطابع المثالي على قضايا المرأة من خلال إنشاء قاعدة قراء خياليين من السيدات الخارقات، إلا أنهما ساهمتا في تقديم صورة إيجابية عن المرأة، فضلًا عن كسر المحظورات ومناقشة موضوعات غير مطروقة مثل "هجر الأمهات من قبل الأبناء"، بحسب الباحثة الصقلي التي أشارت -أيضًا- إلى أن محتوى المجلتين -رغم ذلك- لم يسلم من مقص الرقابة الداخلية(17).
وفيما يتعلق بالسينما المغربية، تشير دراسات حديثة إلى وجود آمال محتملة لتمثيل المرأة في الأفلام المعاصرة، في ظل تصوير المرأة على أنها ضحية للظروف الصعبة التي تمر بها، وأنها قادرة على تجاوز الظلم الذي تتعرض له وإيجاد مخرج من هذه الظروف(18). وعلى نفس المنوال، تشير دراسة لزاهية إسماعيل الصالحي حول السينما المغربية إلى أن الأفلام قادرة على كسر حاجز الصمت لدى المرأة وتحويل صوتها الغائب إلى صوت حاضر ومسموع(19).
وعلى النقيض من السينما، كان تَمْثِيل المرأة في التلفزة المغربية تمثيلًا سلبيًّا -كما ورد في تقرير نادية لمهيدي السالف ذكره حول المسلسلات التليفزيونية- أو تمثيلًا غامضًا على نحو ما ورد في دراسة محمد الدباغ حول القنوات التليفزيونية المغربية، والتي قام خلالها بتحليل أداء قناتين رئيسيتين بالمغرب -القناة الأولى والثانية- وخلص إلى نتيجة عامة مفادها أن تغطية القناتين تحتوي على عناصر لتمكين المرأة، وأخرى لتقويضها وهضم حقوقها(20).
فالبرامج الإخبارية التي تُقدَّم باللغة العربية على القناتين الأولى والثانية تتعرض لقضية المرأة بعبارات إيجابية من قبيل وصفها بالقوية والناجحة والقائدة، وكانت تلك التغطية أوضح ما تكون خلال اليوم العالمي للمرأة، والذي استفاد أيضًا من التغطية المتزايدة. "...وبتحليل المواد الإخبارية الصادرة عن القناتين تبيَّن أن المرأة نادر ما يُشار إليها كمتحدثة أو ناطقة بالحقائق أو معبرة عن آرائها، كما أنها لا تظهر كمتحدث رسمي بنفس القدر الذي يظهر به الرجل حتى في تلك الفعاليات التي تتصل اتصالًا مباشراً بالمرأة"(21).
لكن من ناحية أخرى -والكلام على لسان الدباغ- فإن معدل التمثيل لمصادر المرأة كان دون المستوى بنسبة وصلت إلى 29.47%، في مقابل 70.52% لمعدل تمثيل مصادر الرجال. ويشير الدباغ إلى أن من يُسمح بدعوتهن للتحدث كضيوف في البرامج الإخبارية هن عادة من المطالبات بحقوق المرأة، وهذا أمر مثير للاهتمام(22).
أما الباحث زايد بوزيان(23) فقد ذهب هو الآخر مذهب من بحث في نسبة تمثيل المرأة مقابل الرجل في القناة الأولى والثانية، ليخلص إلى أن نسبة تمثيل المرأة في التلفزة تصل إلى أقل من الثلث من إجمالي الضيوف ومقدمي البرامجالذين يظهرون على شاشة القناتين. ومن جانبها، أجرت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري -وهي الجهة المعنية بتنظيم قطاع البث- دراسة خلال العامين 2010-2011 أشارت خلالها إلى انخفاض أعداد السيدات اللائي يتم استضافتهن في البرامج الحوارية بالقنوات التليفزيونية الثلاث: القناة الأولى، والقناة الثانية، وقناة ميدي1 تي في، حيث وصلت النسبة الإجمالية للسيدات اللائي شاركن في تلك البرامج إلى 10.52% فقط!
البرامج الحوارية
تتيح البرامج الحوارية مساحة تثير الرغبة في الاستقصاء البحثي لما تنطوي عليه من مهمة توجيهية في المجتمع، وتسهم في إضفاء الصبغة الاجتماعية على وسائل الإعلام من خلال بث الأفكار والقيم والأعراف في عقول المشاهدين. ومن ثم، يتيح هذا النوع من البرامج مساحة مهمة لمناقشة المشكلات الاجتماعية، بل "... وتعتبر لونًا سياسيًّا خاصًّا من ألوان الإعلام نظرًا لهيكلها الديمقراطي الظاهري"(24). فعلى المستوى النظري، تتيح البرامج الحوارية فرصة لعرض اتجاهات رأي مختلفة، والأهم من ذلك أنها تفسح المجال للأصوات المهمَّشة كي تُسمع.
يبدو أن كل دولة بالمنطقة تفضل لونًا مختلفًا عن غيرها من ألوان البرامج الحوارية؛ ففي تركيا مثلًا طالعَنا تحليل صولن سانلي (Solen Sanli)(25) لبرامج أسمتها "صوت المرأة" لأنها ترمي إلى عرض مساحة للتعبير عن "رأي المرأة التركية العادية". في المقابل، وبتحليل البرامج الحوارية التونسية المتلفزة، تفيد زوي بيتكاناس (Zoe Petkanas) بأن تلك البرامج مصممة وفق نسق يفضل أجواء الصراع والمناظرة والتوتر؛ فقد اشتملت الحلقات التونسية التي شملها التحليل على حالات من الصياح والشتائم ومقاطعة المتحدثين، وهو ما أشارت إليه الباحثة بلفظ "العنف الحواري"(26).
وأما في المغرب فإن البرامج الحوارية التي تُمثِّل المرأة وتناقش موضوعاتها ومشكلاتها فيمكن تصنيفها إلى فئتين: (1) برامج تستهدف جمهورًا عامًّا، وتنطوي على مناقشات لحقوق المرأة ومشكلاتها متى قام داعٍ لذلك، كما في المناسبات الوطنية والدولية ليوم المرأة وخلافه؛ و(2) برامج تستهدف جمهورًا نسويًّا خاصًّا وتقدمها سيدات. وفي هذا السياق، ثمة برامج تستهدف جمهورًا عامًّا وتنطوي على مناقشات موسمية عن حقوق المرأة؛ ومنها برامج شهيرة مثل "قضايا وآراء"، و"مباشرة معكم"، "60 دقيقة لكي نفهم/لو دوبريف"، و"ملف للنقاش". ومن أشهر البرامج الحوارية التليفزيونية "قضايا وآراء"، وهو برنامج يُعْرَض على القناة الأولى الرسمية؛ يُعِدُّه عبد الرحمن العدوي ويُخْرِجُه محمد بداري. يُقدَّم البرنامج المذكور باللغة العربية، ويُعرض يوم الثلاثاء كل أسبوعين، ويستضيف سياسيين وقادة وأعضاء من النقابات ومنظمات المجتمع المدني على مائدة واحدة لمناقشة موضوعات راهنة؛ مثل خطابات الملك، ونتائج الانتخابات، والرحلات الملكية في الدول الأجنبية، وتهديد الإرهاب، واليوم العالمي لعيد العمال، ويوم المرأة العالمي. كما يمتاز البرنامج بجانب محافظ كونه يميل إلى دعوة رجال لمناقشة القضايا السياسية. ويتيح هذا البرنامج فرصة للمشاهدين -من مختلف المدن والقرى المغربية- لطرح الأسئلة على الضيوف من خلال مراسلة البرنامج عبر البريد الإلكتروني.
أما برنامج "مباشرة معكم" فيُقدَّم بالعربية على قناة التلفزة العمومية "2M"، ويستأثر الرجال فيه بالإخراج (عبد العالي بويطة) والتقديم (جامع كلحسن). ويتاح للمشاهدين المشاركة في البرنامج بإرسال رسائل نصية قصيرة للتعبير عن آرائهم. وبالرغم من حصول البرنامج على جائزة من "المنتدى العربي الدولي للمرأة" في القاهرة ضمن فئة أفضل برنامج مخصص للمرأة العربية في 2015، لاسيما عن حلقته التي أذيعت بتاريخ 4 مارس/آذار 2015 تحت عنوان "المرأة بعد الربيع العربي"، إلا أن الضيوف في دراسة أجرتها الهيئة العليا للاتصال السمعي-البصري وجهوا سهام النقد إلى البرنامج؛ لأنه عرض صورة نمطية في السابق عن المرأة، ولم يوجه الدعوة لسيدات ضمن ضيوف حلقاته لمناقشة الشأن السياسي المغربي (HACA 2012).
استهل برنامج لو دوبريف (Le Debrief) حلقاته ببداية تكاد تتطابق مع بداية "مباشرة معكم"، وذلك إبان حمله الاسم الأصلي "60 دقيقة لكي نفهم"، فكانت البداية بمقدم رجل للبرنامج ولاستهداف جمهور عام، مع مناقشة حقوق المرأة بصفة موسمية. ثم جاءت حنان الحراث لتقدم البرنامج، وقد دعت المشاهدين للمشاركة بالتعليق عبر "فيسبوك" أو "تويتر" نظرًا لعدم وجود جمهور في الأستوديو. كما يظهر شريط أسفل الشاشة لعرض أسئلة المشاهدين وتعقيباتهم. ومنذ أن تولت حنان الحراث مهمة تقديم البرنامج، لم تبث حلقة واحدة تتعامل مع قضايا "جنسانية". ولذلك، لم تحرز مقدمة البرنامج حتى الآن أي تأثير بوصفها امرأة من حيث اختيار الموضوعات -وهذه وضعية مماثلة لما يحصل في برنامج "ملف للنقاش"؛ فهو برنامج حواري يُبث عبر شاشة "ميدي 1 تي في" وتُقَدِّمه امرأة، لكنه برنامج هزيل من حيث المحتوى "الجنساني". وهنا تجدر الإشارة إلى أن برنامج "لو دوبريف" يبث بالفرنسية، وبذلك لا يستهدف سوى الجمهور المثقف (لأن الفرنسية هي اللغة الثانية في المغرب ولابد للعامة من الانتظام المدرسي لتعلمها). ومن ثم، تستهدف برامج "قضايا وآراء" و"مباشرة معكم" و"لو دوبريف" -في مجموعها- نخبة مثقفة كونها ترمي إلى استجلاء أحدث الأخبار لتمكين المشاهد من الإحاطة بفهم أوفى لقضايا الساعة.
في المقابل، تُقدِّم مذيعات برامج "الخيط الأبيض" و"قصة الناس" و"صباحيات 2M" و"بدون حرج" و"مع الناس"، وهي برامج موجهة للأسرة والمرأة تحديدًا. وهناك ثلاثة برامج جديدة تركز على الأسرة أيضًا، هي "كيف الحال" و"بصراحة"، وهو ما يعني إتاحة أفق ممكن لمزيد من الشهرة والذيوع. أما برنامج "متألقات"، الذي يُبث على القناة الأولى، مساء السبت باللغة العربية، فيُقدِّم تصورًا إيجابيًّا ملفتًا عن مفاهيم الأنوثة؛ وفيه تستضيف المذيعة أسماء بن الفاسي امرأة ناجحة، وتعرض موجزًا عن إنجازاتها.
يوجد -أيضًا- برنامجان يستهدفان الأسرة تحديدًا بغية الوصول إلى المرأة العاملة بكثافة باعتبارها مكونًا اجتماعيًّا مهمًّا؛ لكنهما ألغيا على التوالي بفاصل أشهر معدودات في 2016، وذلك بعد بث استمر لسنوات. والبرنامجان هما: "الخيط الأبيض" و"قصة الناس". الأول كانت تُقدِّمه نسيمة الحر، فقدَّمت للجمهور برنامجًا ثقافيًّا محبوبًا يدعو المواطنين -من الرجال والنساء القرويين الأميين في الغالب- إلى البوح بمشكلاتهم الشخصية. وعلى شاكلة برنامج جيري سبرينغر (Jerry Springer) الأميركي، احتفى البرنامج بالمواطن الذي يجهر بخبيئة نفسه على الملأ لمجابهة مشكلاته، ليشكل بذلك صدمة للجمهور. ومن ثم، تقمصت نسيمة الحر في برنامج "الخيط الأبيض" دور الوسيط لتحقيق مصالحة من شأنها الجمع بين أطراف متخاصمة (مثل: زوجين متخاصمين). غير أن البرنامج ألغي لتراجع نسب المشاهدة على ما يبدو، وهو ما يعزى إلى تكرار الموضوعات و"بث المشكلات المخجلة من أوساط المغاربة الفقراء [أي من الطبقة العاملة]"، فضلًا عن تكرار الكلام نفسه في معظم الحلقات دونما تغيير أو ابتكار(27). ورغم ذلك، حاز برنامج "الخيط الأبيض" شهرة واسعة، علمًا بأن نسيمة الحر دأبت على العمل لنحو 25 عامًا لدى القناة الثانية. شهد العام 2014 إقدام خطيب مسجد في طنجة على مهاجمة نسيمة الحر متهمًا إياها بـ"اتباع سلوك غير أخلاقي". عندئذٍ ردت القناة الثانية بالتعبير عن المساندة غير المشروطة للمذيعة، ووصفت كلام الخطيب على أنه "هجوم خطير على شخص المذيعة" بل و"هجوم علينا جميعًا"(28). وليس من الواضح ما إذا كان للواقعة تأثير في إذكاء الأجواء الدينية التي أعقبت انتخاب حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، أو ما إذا كان البرنامج نفسه قد أخفق في اجتذاب جمهور جديد وأصغر عمرًا؛ وهي الشريحة التي ربما زهدت في هذه النوعية من البرامج باستبدالها بالإنترنت والترفيه المتاح عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وأما برنامج "قصة الناس" فقد اعتاد -أيضًا- بث اعترافات عوام المغاربة عبر قناة "ميدي 1 تي في"، علمًا بأن مهام التقديم والإنتاج في البرنامج كانت بيد سيدتين هما: نهاد بنعكيدة ونجاة كوبي. كان الضيوف الذين يدلون باعترافاتهم من عوام المغاربة القرويين والأميين في الغالب من النساء والرجال، وقد أذيعت الحلقة الأخيرة في 29 من يناير/كانون الثاني 2016؛ علمًا بأن البحث في الأخبار العربية والفرنسية على شبكة الإنترنت لم يكشف عن سبب (أسباب) الإلغاء، غير أنه من الوارد أن يكون السبب مماثلًا للأسباب التي تأثر بها برنامج "الخيط الأبيض".
حقق برنامج "صباحيات 2M" الصباحي نجاحًا قويًّا، فهو موجه للنساء تحديدًا عبر أثير القناة الثانية، وتُقدِّمه المذيعة سميرة البلوي لمدة ساعة يوميًّا. تمتاز المذيعة بصغر السن، وهي حاسرة الرأس، وتدير البرنامج على هيئة حوار وفق معايير المجلات؛ وذلك بتضمين فقرات عن الصحة والجمال والطهي والديكور المنزلي والأزياء. ويستضيف البرنامج كذلك خبراء في مجالات القانون والطب وعلم النفس للردّ على تساؤلات المشاهدين. غير أن البرنامج تعرض في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 لانتقادات حادة على شبكات التواصل الاجتماعي، وقنوات التلفزة العربية، وفي مقالات إخبارية عربية إلكترونية لاشتماله على فقرة في يوم المرأة العالمي عن العنف ضد المرأة وأساليب إخفاء آثار العنف المنزلي باستخدام أدوات التجميل. واشتملت تلك الفقرة على جلسة استضيفت فيها ممثلة على وجهها كدمات زائفة لتقديم بيان عملي عن كيفية الاستعانة بأساليب التجميل لإخفاء آثار العنف البدني. وفي أعقاب الهبَّة المعلنة ضد البرنامج، تقدَّمت المذيعة باعتذار على الهواء مباشرة أقرَّت فيه بأن الفقرة محلَّ النقد انطوت على سوء تقدير، ووعدت باستمرار البرنامج ليكون "صوت" المرأة المغربية(29). وكما يتجلى من التركيز على موضوعات تخص جسد المرأة ومظهرها، فإن البرنامج يُقدِّم -على وجه العموم- عرضًا تقليديًّا لمفاهيم الأنوثة في مسعى لتعزيز الأدوار الجنسانية التقليدية. ويضاف لما سبق برنامجا "بدون حرج" و"مع الناس"، وكلاهما موجه للمرأة ويحظى بتقديم نسائي، وسيأتي تناولهما بمزيد من التفصيل في القسم الخاص بالتحليل.
وأما البرامج الحوارية الأخرى فمنها برنامج ديني، "في ظلال الإسلام"، وتقدمه مذيعة محجبة، إكرام بناني، على "القناة الأولى"، وهناك أيضًا برنامج "الوسيط" الذي تُقدِّمه المذيعة المحجبة، زهور حميش، وفيه تميل إلى الرد على تعقيبات الجمهور عن خدمات التلفزة وتختار موضوعات اجتماعية لكل حلقة استنادًا إلى تعقيب المشاهدين؛ علمًا بأن موضوعات البرنامج اشتملت على خطاب ديني في صلب برامج التلفزة العامة، والتغطية المتلفزة لمؤتمر التغير المناخي 2016 التابع للأمم المتحدة (COP22) الذي انعقد في مدينة مراكش المغربية. ويُبث برنامج "الوسيط" مرة واحد فقط كل شهر على القناة الأولى.
المرأة في المغرب
إن الصور الذهنية وألوان الخطاب الإعلامي أشياء لا تقوم في الفراغ؛ ومن شأن فهم السياق الاجتماعي والسياسي لها إبراز مكانة المرأة في السياسة المغربية والمجتمع المغربي؛ فضلًا عن مكانتها في وسائل الإعلام. ومن ثم، سيبحث هذا القسم في أهم التغييرات القانونية والتاريخية والاجتماعية والسياسية التي عزَّزت مكانة المرأة في المجتمع المغربي؛ كما سيبحث في القوانين الحالية الناظمة للشأن الإعلامي وأثرها في مشاركة المرأة.
على الصعيد القانوني نجد أن من أهم التغييرات التي أحرزتها حركة حقوق المرأة في المغرب هو إقرار قانون الأحوال الشخصية المعروف محليًّا باسم "مدونة الأحوال الشخصية"، أي جملة القوانين التي تنظم حقوق الأسرة والمرأة. شهدت المدونة تغييرًا في العام 2004 لتتضمن حقوقًا جديدة مهمة من بينها: (أ) مبدأ المساواة بين الجنسين؛ و(ب) النص على سنٍّ قانونية للزواج لا يقل عن 18 عامًا لكلا الجنسين (ومع ذلك أجاز القانون للمحكمة المختصة إقرار استثناءات من ذلك)، مع تعسير تعدد الزوجات عما كانت عليه الحال في السابق؛ و(ج) تنظيم الطلاق ليصبح حقًّا مشتركًا بين الطرفين؛ و(د) إلغاء وصاية الرجل على المرأة –إذ بات بمقدور المرأة الزواج دون إذن وليها؛ و(هـ) تنظيم مآل المنقولات والممتلكات التي يشتريها الزوجان أثناء فترة الزواج؛ و(و) مدُّ الحق في تركة الجد لأطفال بناته مثل أطفال أبنائه سواء بسواء(30).وهنا يُشار إلى خوض حركة حقوق المرأة نضالًا طويلًا لِسَنِّ مثل تلك القوانين، وسرُّها ناتج ذلك النضال على وجه العموم، بالرغم من التقدم المأمول في تسوية القضايا العالقة مثل انتشار زواج القاصرات بسبب مرونة التشريع الحالي، وتأمين حقوق الأطفال المولودين خارج إطار مؤسسة الزواج، ومساواة المرأة بالرجل في الميراث (ولعل هذا الجانب هو الأكثر جدلية وصعوبة كما هو مبيَّن من التحليل أدناه لحلقة محددة من حلقات "بدون حرج").
لطالما كان إعلاء شأن المرأة في صلب السياسة المغربية؛ فقد أقرَّ المغرب في مايو/أيار 2006 "الاستراتيجية الوطنية للإنصاف والمساواة بين الجنسين"(31). ويهدف هذا النهج المؤسسي إلى تعزيز التعامل المنصف تجاه المرأة وتقوية دورها بوصفها مساهمًا رئيسًا في المجتمع المغربي، لاسيما في جوانب "التنمية المستدامة". كذلك اشتملت الاستراتيجية على تنفيذ نظام محاصصة لزيادة مشاركة المرأة السياسية في البرلمان، واعتماد مبدأ المساواة في الدستور المغربي (2011)، وإقرار الملك محمد السادس في العام 2003 يومًا وطنيًّا للمرأة، في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، وهي مناسبة مخصصة لتقييم وضع المرأة المغربية، والتذكير بالإنجازات البارزة التي حققها المغرب في مجال حقوق المرأة، لاسيما فيما يتعلق بإقرار مدونة الأحوال الشخصية في العام 2004.
يشهد المجتمع المغربي عددًا من التغييرات المؤثرة في حياة المرأة الشابة -فقد أفادت المندوبية السامية للتخطيط في 2013 بانخفاض معدل الإنجاب (2.15 في 2012) وزيادة في متوسط سنِّ الزواج (26.6 عامًا للمرأة)؛ كما تبدو معدلات الإنجاب آخذة في التراجع بسبب ارتفاع سنِّ الزواج، وزيادة أعداد النساء اللاتي يعشن وحيدات (بسبب الطلاق أو عدم الزواج) والاستعانة بوسائل تنظيم النسل. ولا تزال المرأة في المغرب تعاني من ضعف معدل إجادة القراءة والكتابة (58.8% في 2015 وفق بيانات Index Mundi)؛ ومن أسباب ذلك إخراج الفتيات في الريف من المدارس ليذهبن للعمل في المدن في الخدمة المنزلية لأسر الطبقتين المتوسطة والعليا. علاوة على ذلك، تعرض نحو 62% من النساء لنوع من أنواع العنف، من بينهن 15.2% تعرضن للعنف البدني و8.7% للعنف الجنسي في 2009 حسب تقرير للمندوبية السامية للتخطيط (HCP 2013).
بالرغم من عدم توافر إحصاءات حديثة عن العنف نظرًا لاقتصار المندوبية -على ما يبدو- على إجراء دراسة واحدة على مستوى الدولة بشأن العنف ضد المرأة في 2009، إلا أنّ الموضوع نفسه محل تغطية في وسائل الإعلام، مع العلم بأن بعض البرامج تشير إلى اعتياد العنف في المجتمع المغربي، وإلى عدم وجود تشريع مناسب لحماية ضحايا العنف أو الناجيات منه (مثال: نوقش هذا الموضوع في عدد من حلقات برنامج "قضايا وآراء" بشأن حقوق المرأة).
وعلى الصعيد السياسي، دخلت المرأة ميدان السياسة شيئًا فشيئًا بصفة المشارك. فقبل العام 1993، لم تتمكن امرأة واحدة من الفوز في الانتخابات بالرغم من خوض بعضهن معترك الترشح والتنافس في انتخابات محلية وتشريعية. ثم جاء العام 1993 إيذانًا بفوز امرأتين بمقعدين في مجلس النواب، وهما: بديعة الصقلي (من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) ولطيفة سميرس (من حزب الاستقلال)(32). وفي العام 2002، أقرّت الأحزاب السياسية نظام الحصة الانتخابية الذي زاد من مشاركة المرأة في البرلمان وفي السياسة على وجه العموم. كما شهد العام ذاته تخصيص مقاعد للمرأة، وهو ما مكَّن 35 امرأة من دخول البرلمان. علاوة على ما سبق "تعزَّز وصول المرأة للمناصب العامة المهمة في العام 2007 بفعل تعيين سبع سيدات في مناصب وزارية مهمة (...) وفي العام نفسه شهد المغرب تعيين أول مستشارة للملك، وتعيين كثيرات أخريات في السلك الدبلوماسي بشتى أنحاء العالم"(33).
بيد أن العام 2011 شهد انتكاسة لتلك الجهود؛ إذ لم تُعَيَّن سوى امرأة واحدة، هي بسيمة الحقاوي، في منصب وزاري ضمن حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي، فأدت تلك الانتكاسة إلى إدانة شعبية على شبكات التواصل الاجتماعي. ثم جاء التغيير الوزاري في 2013 لتنفذ المرأة منه إلى عدد أكبر من الحقائب الوزارية بلغ مجموعها 4 وزارات، لتتحسن بذلك الأحوال مقارنة بالعام 2011، لكنّ ذلك المجموع ظل دون سابقه المسجل في العام 2007. أما عدد المقاعد البرلمانية التي فازت بها المرأة فزادت حاليًّا بالنظر إلى تخصيص 60 مقعدًا (من أصل 375 مقعدًا) للمرأة في انتخابات العام 2011.
نص الدستور المغربي الذي أُقِرَّ في العام 2011 عقب احتجاجات حركة 20 فبراير/شباط -في سياق أحداث الربيع العربي- على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة؛ وفيه تمنح المادة رقم 19 للرجل والمرأة الحقوق نفسها وتؤكد الالتزام بتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة. يضاف إلى ما سبق تصديق المغرب على اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) في 1993، مع سحب تحفظاته على المادة 9 (انتقال الجنسية للأبناء) والمادة 16 (المساواة في الزواج والطلاق).
بالرغم من كل تلك المكاسب، حلَّ المغرب في المرتبة 133 من أصل 142 دولة في العام 2014 على مؤشر الفجوة الجنسانية حسب تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE 2014)؛ إذ تعاني المرأة في المغرب من عقبات في الترقي والقيادة، بل وغالبًا ما تفتقر لمكان في عمليات صنع القرار. وفي هذا السياق، يشير المجلس إلى وجود فجوات مهمة في مستويات الأجور، فضلًا عن انخفاض أجر المرأة في القطاع العام عن الرجل بنسبة 24% وفق بيانات 2006، وبنسبة 25% في القطاع الخاص وفق بيانات 2011 (CESE 2014).
تقنين الفضاء الإعلامي
ثمة قوانين سارية لتنظيم الفضاء الإعلامي، وهي بمثابة آليات لفرض الحماية الدستورية؛ غير أن المادة الوحيدة التي تحظر التمييز على أساس الجنس (أو النوع أو الجنسية، إلخ) هي الفقرة (3أ) من المادة 2 من قانون الاتصال السمعي البصري في المغرب، علمًا بأن أثر المادة -المذكورة آنفًا- تقتصر على الوسط الإعلاني. وعلى وجه العموم، لا يشتمل القانون رقم 77 لسنة 2003 بشأن الاتصال السمعي البصري سوى على احترام الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان ضمن مبادئه ومواده. ثم جاءت مبادرة "الميثاق الوطني لتحسين صورة المرأة في الإعلام" الذي أقرَّته كتابة الدولة المكلفة بالأسرة والطفولة والأشخاص المعاقين في 2004 بمشاركة وزارة الاتصال، ووزارة الثقافة، والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري وغيرها من ممثلي القطاعات المختلفة(34). وتمثَّلت الغاية من هذا الميثاق في تحسين صورة المرأة المغربية وتشجيعها على المشاركة في الإنتاج الإعلامي وفي صنع القرار، والأخذ بنهج مراعٍ للأبعاد الجنسانية "مقاربة النوع" في الإنتاج الإعلامي. ومع ذلك، قوبل الميثاق برد فعل ضعيف ولم يكن له تأثير يُذكر(35)؛ إذ نقمت أهم الأحزاب -ومعها المنظمات النسوية غير الحكومية، والاتحاد المغربي لناشري الصحف، ومراكز التدريب الإعلامي والأحزاب السياسية المالكة لصحف حزبية- على مصدري الميثاق لعدم مشاركتهم فيه أثناء صياغته. علاوة على ما سبق، ليس هناك أي إلزام للكيانات الإعلامية المغربية للامتثال لتوصيات الميثاق؛ لأنّه ليس قانونًا ملزمًا، كما أنّ الكثيرين في الحقل الإعلامي لم يسمعوا أصلًا بوجود الميثاق وإقراره(36).
أدرجت الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية في وثيقتها للموارد البشرية قسمًا بعنوان "حالة موظفي الشركة"، وذلك ضمن المادة رقم 59 من نظامها الذي يشدد على أولوية التوظيف لعدد من الجنس الأدنى تمثيلًا متى تساوت القدرات والمهارات المطلوبة للعمل بين مرشحيْن للوظيفة. وفي يناير/كانون الثاني 2017، اعتمدت الشركة ميثاقًا للمساواة بغية تعزيز مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، وبث ثقافة المساواة الجنسانية على المستوى الإداري في الإنتاج الإعلامي وفي برامج البث الإذاعي والتلفزيوني. وسبقت القناة الثانية غيرها إلى إقرار ميثاق داخلي لتثمين دور المرأة، فجاهرت باعتراضها على الصورة السلبية للمرأة في وسائل الإعلام (ومن أمارات ذلك ضعف التمثيل، وقلة أعداد ضيوف البرامج من النساء، وقلة عدد البرامج ذات الإنتاج النسائي)، مؤكدة أنه بالرغم من استئثار المرأة بأكثر من 40% من نسبة الصحفيين في القناة إلا أنّ وجود الخبرات النسائية في البرامج الحوارية والنشرات الإخبارية متدنٍ للغاية (لا يتجاوز 10% حسب الموقع الإلكتروني للقناة). وفي الميثاق ذاته شددت القناة على مفهوم "حالة القناة الثانية" بوصفها قناة تلفزة المواطن التي تنهض بدور الرائد العام في تعزيز قيمة المساواة والالتزام بتحسين صورة المرأة في محتواها الإعلامي. ورغم ذلك، فإن التأثيرات التحررية لكل تلك المواثيق لا تزال في انتظار البرهان الملموس على وجودها.
بعد هذه النظرة العامة في الفضاء الإعلامي المغربي، يتناول القسم التالي كيفية تمثيل المرأة، وذلك بالنظر التفصيلي في أداء برنامجين تليفزيونين، هما: "بدون حرج" و"مع الناس".
بدون حرج
"بدون حرج" برنامج تلفزيوني حواري جديد ومكلل بالنجاح، يُبث على قناة "ميدي 1 تي في" التي بدأت عملها في 2011، ويحين موعده في تمام 9:10 من مساء الاثنين، ويستمر لمدة ساعة واحدة باللغة العربية. تُقَدِّم البرنامج، إيمان أغوتان، وهي إعلامية، حاسرة الرأس، تتناول موضوعات مجتمعية تناولًا فصيحًا ودون حرج كما يقتضي اسم البرنامج. صحيح أنّ البرنامج لا يستهدف المرأة على وجه الحصر، غير أنّ اللمسة النسائية لدى المذيعة ظاهرة جلية في اختيارات موضوعات البرنامج؛ لأنها جميعها تؤثر في شأن المرأة؛ ومنها -على سبيل المثال- التحرش الجنسي، وزواج القاصرات، والاغتصاب الزوجي، ومدونة الأحوال الشخصية، وحضانة الطفل، والطلاق. وبمتابعة كل حلقات البرنامج منذ 17 مايو/أيار 2011 وحتى 8 أغسطس/آب 2016 سنجد أن 11% من الموضوعات ترتبط بالمرأة ارتباطًا مباشراً؛ فإذا اتسع معيار البحث ليشمل الموضوعات المتعلقة بالأسرة (وفيها الرجل) والحلقات المتعلقة بالطفل والشباب فستزيد هذه النسبة حتمًا.
أما أسلوب البرنامج فهو استضافة خبراء لتبصير الجمهور بالموضوعات المختارة، والاستعانة بمقاطع بث مباشرة ضمن توقيت البرنامج؛ ومن ذلك المعتقدات الشائعة والرأي العام المستقى من مقابلات ميدانية، والمقابلات الشخصية المسجلة مع الخبراء. تنتهي كل حلقة من حلقات البرنامج بعرض مشاهد (رسوم) لرجل يضرب امرأة، وهو ما يكشف عن نظرة غير تقليدية لبرنامج حواري، وفيه أيضًا إلماح إلى التزام البرنامج بالتعاطي مع الموضوعات الصعبة والحساسة، من منظور جنساني خاص.
وأما الحلقة المختارة لهذا التحليل فقُدمت بعنوان "المناصفة"، وبُثت بتاريخ 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2015. وقد وقع عليها الاختيار للأسباب التالية: (1) لأنها تخص مجموع الحلقات الموجه للمرأة مباشرة؛ و(2) لأنها حديثة؛ و(3) لأنها واردة ضمن اختيارات الموقع الإلكتروني الرسمي لأهم الحلقات وأكثرها تأثيرًا، وذلك تحت عنوان "أقوى اللحظات". تكشف الحلقة المذكورة عن موقف شجاع من البرنامج حيال مناقشة موضوعات حساسة بل و"مسكوت عنها"، ذلك أنها تناولت توصية جدلية للغاية في أحدث تقرير صادر عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان بخصوص إعادة النظر في قانون الميراث في المغرب؛ علمًا بأن الحلقة أعقبت إصدار تقرير المجلس بشأن حالة المساواة والعدالة في المغرب في أكتوبر/تشرين الأول 2015، ليثير بذلك جدلًا ملحوظًا، كونه أوصى بمراجعة قانون الميراث بغية التعامل مع المرأة بإنصاف ووفق أسس المساواة.
استُهلت الحلقة بعزف موسيقي خفيض الصوت، دون غناء، مصحوبًا بصوت قرع الطبول. وخلفية البث حمراء اللون؛ وهو لون يبيِّن طبيعة الحلقة من حيث موضوعها الحساس؛ وتتوسط الشاشة عبارة ثابتة هي "بدون حرج". يظهر الضيوف جالسين على كراسي حمراء لامعة، وخلفية الأستوديو منسدل عليها ستائر حمراء. تقف المذيعة أمام الضيوف يعلوها معطف أسود رسمي الطابع، وقميص أزرق مشدود برباط، شعرها منسدل، وعينها محمَّلة بزينة زرقاء اللون. جدير بالذكر أن المذيعة إيمان أغاتون قالت في مقابلة معها إنها تستمتع باختيار ملابسها للظهور في البرنامج.
تمتاز إيمان بفصاحتها ولغتها العربية المتقنة؛ وإذا بها تعرض موضوع المناصفة والمساواة بطرح سلسلة من الأسئلة كما يلي: إلى أي حد يدرك عموم المغاربة مفهوم المناصفة؟ كيف يتمثَّلونه وهل يقفون منه موقفًا إيجابيًّا؟ أين وصل التنزيل بعد أربع سنوات على الدَّسْتَرَة؟ وما أبرز التوصيات التي حملها آخر تقارير المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول المساواة والمناصفة؟ كيف نفسر استئثار توصية اقتسام الإرث بالسجال بين مؤيد لرفع ما يراه شكلًا من أشكال الميز، ومندد بالدعوة للمس بنص قرآني قطعي؟ ثم ما مداخل رفع كافة أشكال الميز عن النساء بمنطق الكيف أساسًا لا وفق مقاربة كمية قد تكون قاصرة عن تحقيق قيمتي العدل والمساواة؟.
تميزت لغة المذيعة في هذه الحلقة بجمل معقدة طويلة، وتجمع بين مصطلحات سياسية وحقوقية موجهة بجلاء إلى نخبة مثقفة وعليمة.
أما ضيوف الحلقة فهم: محمد الصبار، الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، وسميرة بيكردن، رئيسة الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب، فرع الرباط، وعزيزة البقالي القاسمي، رئيسة منتدى الزهراء للمرأة المغربية، وعبد الرحيم العطري الباحث في علوم الاجتماع، وضيف دائم في البرنامج. وبذلك يكون الضيوف أنفسهم تمثيلًا لجهد البرنامج لإرساء مفهوم المناصفة والتنوع؛ ذلك أن سميرة بيكردن ناشطة في مجال حقوق الإنسان وحاسرة الرأس، فيما ترتدي عزيزة البقالي حجابًا، وتمثِّل مجموعة نسوية أكثر محافظةً. وعقب مقدمة إيمان الوجيزة، عرض البرنامج آراء مواطنين عاديين من خلال آلية استطلاع الرأي الميداني، وهو أسلوب كثير الاستخدام في العرض الإخباري التلفزيوني والبرامج الحوارية والأفلام الوثائقية، وذلك من خلال مقابلات عابرة مع مواطنين مختارين عشوائيًّا في الشارع لجس نبض الرأي العام إزاء موضوع بعينه. ومن ثم، استُطلعت آراء خمس نسوة ورجلين لهذه الحلقة، والملفت أن المستطلعين لم يتحدثوا عن مفهوم المناصفة، بل عن المساواة؛ وهو ما يكشف لبسًا وخلطًا بين المفهومين. أعربت ثلاث نسوة عن تأييدهن للمساواة بين المرأة الرجل، فيما أعرب رجل واحد من الرجلين المستطلَعين عن تأييده للمساواة.
بعد عرض مقطع المستطلَعين، أشارت المذيعة إلى اللَّبس الحاصل بين مفهومي المناصفة والمساواة؛ وتلى ذلك حديث الضيوف لتوضيح الفارق بينهما. فمثلًا، أفاد أستاذ علم الاجتماع، عبد الرحيم العطري، بأن "الهدف من المناصفة هو إرساء قيمتي الإنصاف والعدالة"، فيما أوضح الأمين العام لمجلس حقوق الإنسان، محمد الصبار، أن "المناصفة آلية لتحقيق المساواة". ثم عاود البيان ليقول: إن المناصفة مطلب دستوري. وعلى ذلك، حملت حلقة البرنامج عن المناصفة أداء توجيهيًّا على غرار ما تفعل البرامج الحوارية في المعتاد، وذلك بتعريف المشاهدين بمبدأ المناصفة وتمييزه عن مفهوم المساواة، فَدَرَأَ البرنامج بذلك استمرار غياب الوعي بتلك المفاهيم.
أعربت إيمان أغاتون في فقرة لاحقة من البرنامج عن موقفها المتعاطف مع المساواة بين الجنسين، بأن سألت عن استغلال المحاصصة في زيادة مشاركة المرأة سياسيًّا. وهنا كشف الحوار بين الضيفتين (إحداهما محافظة والأخرى ناشطة) عن تعارض في الأفكار:
- عزيزة البقالي القاسمي: المناصفة أداة ومجموعة من الإجراءات التي تؤدي إلى المساواة. لذلك لا أراها كمية وميكانيكية؛ لأنّ الأدوات الكمية والميكانيكية لا تؤدي إلى العدالة في المعتاد. هي كل الإجراءات التي تكفل تكافؤ الفرص والميز الإيجابي...
- سميرة بيكردن (بعد أن طلبت منها إيمان أغاتون الرد): المناصفة أداة كمية لا غنى عنها لتحقيق غاية المساواة.
ردت المحافظة عزيزة البقالي في هذه الفقرة الحوارية ردًّا غامضًا ضمَّنته الإشارة إلى ضرورة الابتعاد عن المنطق الكمي البحت؛ فيما جادلت بيكردن (وهي ممثلة لجمعية حقوقية نسوية) بأن الأرقام مهمة للغاية من أجل تحقيق المناصفة؛ واصفة مفهوم "المناصفة" بأنه أداة كمية، ومن الصعب إنهاء تاريخ وقرون من الميز دون إرساء المناصفة وبإنفاذ الميز الإيجابي.
بعد انقضاء عشرين دقيقة من زمن البرنامج، عُرضت مقاطع سابقة التصوير للتركيز على التوصية بشأن الميراث حسب ما جاء في تقرير المجلس الوطني. أدت التوصية إلى جدل محتدم بين مؤيدي تغيير قانون الميراث لتحقيق المساواة والداعين إلى التفسير الحرفي للقرآن الكريم والاستمرار في توزيع الإرث توزيعًا غير متساوٍ بين الرجل والمرأة. وقد تأسَّست مقاطع البحث المباشر في الحلقة على ثلاث مقابلات شخصية قصيرة مع رئيس حركة التوحيد والإصلاح التي تُعَدُّ العماد الفكري لحزب العدالة والتنمية الحاكم؛ وناشط جنساني؛ وممثلة للجمعية الديمقراطية للمرأة المغربية. لم يأتِ رفض التغييرات المقترحة في قانون الميراث إلا من حركة التوحيد والإصلاح. ومن ثم، وُضعت المقاطع المصورة مسألة المناصفة ضمن إطار مفاده تفضيل الموقف المنادي بالتغيير لاسيما من حيث استغلال المناصفة كأداة لتحقيق المساواة من خلال اختيار المعلقين (الذين يفضل جُلهم إحداث التغيير)، والتركيز على تقرير المجلس الوطني باعتباره المرجعية والإطار لهذه القضية، واستخدام مفردات لغوية تفيد الإصرار على الضرورة الحتمية لبلوغ المساواة.
نجحت الحلقة في تناول موضوع الميراث المسكوت عنه؛ وفيها أكد محمد الصبار أن تقرير المجلس الوطني نجح في تسليط الضوء على مناقشة موضوع كان يعتبر من المقدسات التي لا مساس بها. واقترح الصبار ضرورة تعديل القوانين بما يكافئ التغييرات العميقة التي يشهدها المجتمع المغربي، مدينًا المعايير المزدوجة التي يتعامل بها المجتمع مع المرأة. وأشار الضيف إلى التقدم الحاصل حتى تاريخه في إنفاذ تغييرات إيجابية من قبيل مراجعة مدونة الأحوال الشخصية، متسائلًا عن السبب المانع من إدراك النجاح في قضايا أخرى (يعني بذلك تحقيق المناصفة ومراجعة قانون الميراث).
وفي معرض بيان نظرة الجمهور النسوي المحافظ الذي تُمَثِّله عزيزة البقالي، انتقدت الأخيرة توصية المجلس الوطني بخصوص تعزيز الإطار الحقوقي كونه يفتقر لمراعاة الخصوصية المغربية. ثم واصلت عرض حجتها المقابِلة بالإشارة إلى المادة 161 من الدستور ونصها على قيام المجلس الوطني بتعزيز حقوق الإنسان في سياق القوانين والأسس الملكية؛ مضيفة أن المغرب -بوصفه بلدًا مسلمًا- بحاجة لقوانين تراعي خصوصياته. وهنا تجدر الإشارة إلى الإصرار على إبراز حجة الخصوصية الثقافية لا أقول في المغرب فحسب، بل وفي بلدان أخرى بهدف النيل من عالمية حقوق الإنسان، والحجة المتكررة هي وجود مواد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو في مبادئ حقوق الإنسان غير قابلة للتطبيق المحلي؛ لأنها تناقض التقاليد والأعراف (استمرارية محو العادات -من خلال الاستغراب المهيمن- لأوجه عدم المساواة الكامنة فيها). على النقيض من طرح عزيزة البقالي، أفادت الناشطة في مجال حقوق المرأة، سميرة بيكردن، بما يحدث على أرض الواقع، واصفة الحالات "المفجعة" التي تصل إلى جمعيتها عن نساء يكتشفن حرمانهن من الميراث بعد وفاة قريب لهن، بالرغم من إسهامهن الدائم في النفقات، وتسيير شؤون الأسرة من خلال أعمالهن المنزلية، ومساهماتهن المالية. ثم قدَّمت إحصاءات تبيِّن أن الواقع مختلف عن التصوير النمطي للعلاقات بين الرجال والنساء، وهو التصوير الذي يشكِّل أساس تسويغ الواقع القاضي بأن يرث الرجل أكثر من المرأة. ولما كان أساس ذلك التصوير المنطقي هو أنّ الرجل هو المنفق وحده، فقد ردَّت سميرة بيكردن بأن خُمس البيوت المغربية تعولها نساء (وهذا بيان جريء في غياب الإحصاءات النظامية). وقريبًا من نهاية الحلقة، دافع محمد الصبار عن الحق في المساواة في الإرث بالإشارة إلى كلام ذي صبغة دينية، متسائلًا: "هل العلي القدير منصف أم غير منصف؟ حيثما كانت المصلحة فثمّ شرع الله". وبذلك يقرر الصبار أن الله سبحانه عدل منصف ولا يجيز معاملة المرأة بغير ذلك.
أبرزت تلك الحلقة التدابير العالقة الموجهة لتحسين وضع المرأة في المجتمع؛ كما بيَّنت وجه التأخير الحاصل في إقرار تلك التدابير؛ فقد نص الدستور الجديد على إقرار قانون يجرِّم العنف وتأسيس مجلس لاستشارات المناصفة، وكلاهما من التدابير المرجأة؛ لكنهما رُبطا في الحلقة بفكرة انعدام الإرادة السياسية لذلك. وفي هذا الصدد تصر سميرة بيكردن على ضرورة توافر الإرادة السياسية من قِبَل الحكومة لتعزيز حقوق المرأة، ولذلك تنحو باللائمة على حكومة العدالة والتنمية ذات المرجعية الإسلامية لما تلمسه من تباطؤ في إنفاذ القوانين وإحداث التغيير.
ثم اختتمت إيمان أغاتون الحلقة بالترويج القوي لإطار التغيير على حساب التقاليد. وبالرغم من عدم اتفاق جميع الضيوف، إلا أن الجميع حاز الفرصة للتعبير عن رأيه. وقد أجادت المذيعة المحافظة على ودية الحوار وإيجابيته. ورغم أنها لم تصغ بيانًا في نهاية الحلقة لإيجاز مضمون الحوار، إلا أنها كررت كلمات وردت على لسان الضيوف، وركزت على أفكار أساسية هي: المناصفة "قضية محورية"، و"الإرادة السياسية هي الكلمة الأساسية" (بمعنى غياب الإرادة السياسية لحل المظالم الجنسانية في المجتمع)؛ مُلوّحة إلى "ضرورة مناقشة قضية المناصفة بأسلوب عقلاني".
مع الناس
برنامج "مع الناس" هو برنامج حواري جديد، يبث في تمام الساعة 9:35 من مساء الاثنين على القناة الثانية، ونسقه مماثل لنسق برنامج "الخيط الأبيض" الذي سبقت الإشارة إليه، وذلك قبل انتهاء بثه. يتناول البرنامج أخبار العوام، لاسيما النساء، ويُبث بالتزامن مع برنامج "بدون حرج"، لكنه لا يتوجه بالمحتوى إلى الجمهور نفسه؛ ذلك أن برنامج "بدون حرج" يستهدف المثقفين، أما "مع الناس" فهو أكثر اتجاهًا لعامة الناس. أُذيعت الحلقة الأولى من البرنامج في 22 أبريل/نيسان 2016، علمًا بأنه يستهدف إبراز الموضوعات المسكوت عنها من خلال استعراض أحداث واقعية. تُقدِّم البرنامج مذيعة محجبة اسمها عزيزة لعيوني، غير أن حجابها عبارة عن وشاح غير مُحكم الربط، ومنحسر عن بعض شعرها، وتظهر بزينة كاملة دون بهرجة. وتشارك المذيعة في إعداد البرنامج مع المخرج عبد الرحيم السلفوني.
تُركز كل حلقة من البرنامج على قصة وموضوع، وتستمر لمدة ساعة، وتبدأ افتتاحية البرنامج بأغنية مغربية معاصرة شهيرة غالبًا ما تبث عبر أثير محطات الإذاعة الوطنية، وهي لمطرب (لا لمطربة). تبدأ الأغنية بكلمتي "مع الناس"، وهذا هو اسم البرنامج نفسه، وبذلك تحمل الأغنية الفكرة نفسها. كما نجد أن الأغنية والمذيعة تكرران البيان نفسه: "مع الناس، عشنا حكايات" (الأغنية) و"مع الناس، نعيش حكايات" (المذيعة). يُقدِّم البرنامج نهجًا مميزًا مبتكرًا وغير اعتيادي إزاء الحكايات "المعاشة"؛ إذ يُعيد تصوير "الحكايات" من خلال مشاهد تمثيلية، تُبث على أجزاء وعلى امتداد المقابلات المباشرة التي ينظمها البرنامج.
بلغ عدد حلقات البرنامج المذاعة حتى لحظة تجميع بيانات هذا البحث (نوفمبر/تشرين الثاني 2016) ست حلقات تناولت -على الترتيب- موضوعات غير اعتيادية عن العنف ضد الرجل، وإباحية الأطفال (2)؛ والزنا في أوساط المتزوجين؛ والعنف ضد المرأة؛ وليلة الزفاف (مسألة العذرية). حظيت حلقتا ليلة الزفاف والعنف ضد المرأة بمتابعة كثيفة على موقع يوتيوب؛ إذ زاد عدد مرات المشاهدة خلال المراحل الأخيرة من كتابة البحث لتصل إلى 1,146,369 مشاهدة لحلقة ليلة الزفاف، وإلى 300,250 مشاهدة لحلقة العنف ضد المرأة التي أذيعت بتاريخ 1 مارس/آذار 2016. ورغم ذلك، كانت حلقة العنف ضد المرأة الوحيدة المعروضة على الموقع الإلكتروني الرسمي للقناة ضمن تبويب "الأكثر مشاهدة". ويركز التحليل على الحلقة التي اهتمت بالعنف ضد المرأة.
تحكي الحلقة قصة "أمل" التي دأب زوجها على ضربها لمدة تسع سنين إلى أن قررت هجره والطلاق منه؛ وتتراوح الحلقة بين مشاهد من المقابلة الشخصية تسأل خلالها المذيعة الضحية التي جلست في ظلمة تعفيها من تعرُّف الجمهور على وجهها ولتحكي حكايتها، وبين المشاهد التمثيلية التي يعيد فيها الممثلون تصوير العلاقة بين طرفي الحكاية. يستضيف البرنامج أيضًا خبراء للتعليق على الموضوعات، ومن الملفت أن البرنامج يعتمد اعتمادًا كبيرًا على الرجال؛ إذ استضافت الحلقة المختارة ثلاثة خبراء رجال وسيدة واحدة.
تُرسِّخ الحلقة فهمًا تقليديًّا للعلاقات الرومانسية؛ إذ تقدم المرأة على أنها مسؤولة عن تنشئة الأطفال فقط، ولم تأتِ على ذكر أنه ينبغي للأب المشاركة في تنشئة الأبناء. كما جرى تصوير المرأة المضروبة على أنها ضحية؛ ووصفتها المذيعة بوصف "المسكينة"، لكن الحلقة قدمتها في النهاية على أنها ناجية مثابرة. اشتملت الحلقة -في الفواصل بين المقابلات- على مشاهد تمثيلية متكررة للعنف المنزلي الذي يمارسه رجل على امرأة. ومن خلال اللقطات القريبة (أي التي تقترب فيها الكاميرا من وجه الممثلة لعرض الكدمات بوضوح) يُرجح تعاطف المشاهدين مع الضحية، ويمرون بحالة من الاستجلاء المُشاهَد(37). وثمة جانب مهم كشفته الحلقة عن عدم وجود قانون يعاقب على العنف الجنساني، ويصحب ذلك الكشف توعية المشاهدين بأنواع مختلفة من العنف (البدني، والجنسي، والنفسي)، وبذلك ينهض البرنامج بمهمة توجيهية. أما من المنظور الثقافي فإن الحلقة تثير سؤالًا مهمًّا للغاية عن مفهوم "الصبر" في الحياة الزوجية بالمجتمع المغربي، وذلك من خلال صوت "أم أمل" (التي كان لها مقطع مصور في البرنامج)، وكيفية إسهام ذلك المفهوم في تطبيع (اعتياد) العنف وفي الإهابة بالمرأة لتبقى في علاقات مسيئة لها.
بدأت الحلقة بمقابلة المذيعة عزيزة لعيوني مع أمل، فتخبر المشاهدين بأن أمل مطلقة، وأم لصبي صغير. جلست المذيعة مع الضيفة فقط دون حضور الجمهور؛ علمًا بأن الممثلة التي أدت دور أمل في البرنامج ممثلة جذابة وذات وجه ملائكي يستدر التعاطف، ولها بشرة فاتحة تكشف عن معيار الجمال المغربي خلال فترة ما بعد الاستعمار، وهو معيار ما يزال يرى "بياض البشرة" أحد معايير الجمال.
قدَّمت الحلقةُ أمل باعتبارها ضحية لظروف غير مواتية في العموم؛ وذلك بالاستعانة بممثلة قامت بدور أمها، فيعلم الجمهور من التمثيل أن أمل فقدت أباها وهي صغيرة. تصور الحلقة البداية الرومانسية السعيدة بين أمل وزوجها من خلال مشاهد تمثيلية عن بداية حياة الزوجين. وفي أحد المشاهد الأولى عقب الزفاف، يقول الزوج "أنا رجل يؤمن بالمساواة"، فيُعِدُّ الفطور لزوجته. ثمّ يتضح أنّ زوج أمل أنشأ شركة ببيع ذهب زوجته واقتراض أموال من حماته. وبعد بداية سعيدة في ظاهرها، بدأ الزوج في العودة لبيته متأخرًا مخمورًا، ثم اتبع العنف سبيلًا فصار يضرب زوجته، لاسيما عندما تنتقد تأخره وكيفية إنفاق الأموال. هنا، تتخذ الإساءة صورًا مختلفة؛ إذ يجبر أمل على الاستيقاظ في وقت متأخر من الليل لتطهو العشاء، ويهمل الصبي الصغير تمامًا، ويقرِّع أذنيها بالعنف اللفظي، ويهددها بأمور من بينها ما معناه: "سأقطع لسانك من جذوره". هنا يظهر الأخصائي النفسي في البرنامج ضمن مقطع مصور لتقديم التعقيب العلمي على تلك المشاهد؛ مقررًا بعبارات واضحة أن المرأة المضروبة غير مضطرة للرضا بالعنف نحوها، بل ينبغي لها أن تُعلم زوجها برفض ذلك. ويرى الأخصائي النفسي أن الزوجين قادرين على إيجاد حل واللجوء للعلاج قبل بلوغ العنف مرحلة "مفرطة". لذلك تُعَدُّ وجهة نظر الأخصائي النفسي صادمة؛ لأنها توحي بوجود قدر من العنف البسيط المحتمل، أو بامتلاك الزوجة قدرة كافية في العلاقة الزوجية بما يجعلها تقنع زوجها بطلب المشورة الطبية.
وأما والدة أمل فهي مثال على المرأة المتشبعة بالتفكير الذكوري؛ إذ تنصح ابنتها بانتهاج "الصبر" عندما تأتي الابنة على ذكر الطلاق. ويتجلى هذا الجانب من شخصيتها في إجابات أمل على أسئلة المذيعة وفي المشاهد التمثيلية كونها تنم –جميعًا- عن مفهوم الاعتياد حتى أضحت الإساءة شائعة لدرجة اعتبارها من طبائع الحياة. غير أن مفهوم "الصبر" جدير بالنظر في الثقافة المغربية؛ لأن المجتمع غالبًا ما ينصح المرأة بالاستعانة بالصبر عند مواجهة الإساءة أو الميز أو التعاسة. ومن ثم، فإن المرأة الطيبة -وفق هذا المفهوم- هي المرأة الصابرة التي تستطيع احتمال ما لا يُحتمل للمحافظة على وحدة أسرتها، مضحيةً في سبيل ذلك بنفسها حفاظًا على أطفالها. لذا نجد من المتوقع ابتدار الأم نصح ابنتها بالتفكير في ابنها.
تسلط الحلقة في مرحلة لاحقة الضوء على إقامة أمل مع زوجها تسع سنين، وهو ما استدعى تدخلًا من جارتها قائلة (من خلال المشاهد التمثيلية): "تسع سنين؟! والله، لن أبقى حتى سنة واحدة!" ومن ثم، فإن تعقيب الجارة يبيِّن أن بعض النساء -حتى وإن كنَّ تقيات- يدركن معنى الإساءة ولا يتهاون بشأنها. بعد ذلك ردت أم أمل (في المشهد التمثيلي نفسه): "الحمد لله أنها ما ماتت". وفي هذا التعليق من الأم لفتة مهمة للغاية (وهي لحظة توجيهية في البرنامج) أنّ المرأة تموت بسبب النزعة الجنسانية المسيئة، وهذه إشارة خفية إلى التبعات العنيفة للنزعة الذكورية: أي القتل/قتل المرأة. ووفقًا لحكاية أمل، فقد مكثت تسع سنين حتى انفصلت: أي أنها مارست "الصبر" لفترة طويلة للغاية.
قالت أمل في تلك الحلقة: إن "الكلام البذيء" والسباب والتعنيف كان أمرًا معتادًا في حياتها اليومية؛ كما أفادت بأن زوجها صرخ فيها ذات مرة وحبسها في غرفتها وأبعد عنها التلفاز. هنا، تتدخل المذيعة بلحظة توجيهية عندما تعرف تلك الإساءة على أنها "عنف نفسي"، لتنهض بذلك أمام المشاهدين بدور مهم هو رفع غطاء الاعتياد عن العنف المنزلي وتصنيفه إلى فئات محددة واضحة.
إن تقديم أمل في صورة المرأة القدوة يعوِّل تعويلًا كبيرًا على تديُّنها؛ إذ تظهر في أحد المشاهد التمثيلية لحكايتها وهي تتعرض للبصق والركل من زوجها وهي تصلي. ولا شك أنّ عدم احترام زوجها لشعيرة الصلاة وعدم خوفه من الله في لحظات الصلاة التي تستوجب الخشوع إنما هو إعلان عن الفارق بين أمل وزوجها أمام المشاهدين، كما يفرض حالة من الاستنكار بينهم للزوج لما يرون في تصرفاته من أفعال مخرجة من الملة. وفي مشهد آخر يشهد ابن أمل عنفًا موجهًا لأمه فيسدُّ أذنيه؛ وهذا التصوير التمثيلي شديد الوقع على المشاهد، شأنه في ذلك شأن اللقطات القريبة لإظهار كدمات أمل وإصاباتها.
ثمة جانب توجيهي آخر في البرنامج، ألا وهو إبراز انعدام المساعدة من الشرطة في تلك الحالات؛ فقد روت أمل ذهابها إلى مخفر الشرطة لتحرير شكوى لكنها طولبت بشهود، ولم يكن من شاهد سواها. ومن ثم، فإن استحالة وجود شهود على مجريات الأمور بين جدران المنزل الخاص إنما يكشف عن انعدام الطابع العملي في اشتراطات قانونية من شأنها أن تعفي المعنِّفين من العقاب وحرمان الضحايا من الانتصاف لأنفسهم في الوقت ذاته. عند هذه المرحلة من الحلقة قالت أمل: إنها فكرت في الانتحار ثلاث مرات، كاشفةً بذلك عن إحباطها ويأسها. ظهر عندئذٍ في الحلقة محامٍ من الدار البيضاء، يدعى رضوان رامي، في مقطع مصور مسبقًا ليكشف -من جانب- عن درجة من ازدراء المرأة بتعقيبه بأن المرأة تعرضت للعنف بالرغم من توفيرها حياة مريحة لزوجها، وبعدم وجود توازٍ بين احتياجات المرأة واحتياجات الرجل؛ مع عرض مثال حقيقي لمفهوم "هيكلة الغيابات" بشقه النظري. ومن الجانب الآخر، قدَّم رامي معلومات مبصِّرة بشأن الفراغ القائم في التشريعات المغربية، مفيدًا بوجود خطط لسنِّ قانون، لكنها لم تنضج لإخراج شيء بعد. ويقرر المحامي نفسه أنه نظرًا لعدم وجود خيار أفضل فإن المحامين يستشهدون بالمادتين 400 و401 من قانون العقوبات للتعامل مع حالات الإصابة والضرب، وذلك لعدم وجود تشريع مختص بمشكلات العنف ضد المرأة.
ثم حان دور الخبير الثاني، وهو جمال الشهدي؛ منسق المرصد الوطني للعنف ضد النساء، حيث فرَّق بين ثلاثة أنواع من العنف: العنف البدني، والعنف النفسي، والعنف الجنسي؛ لكنه أغفل الجوانب الاقتصادية والهيكلية والمعرفية(38). وبعدها حان دور الضيف الأخير بالحلقة (بعد 52 دقيقة من بداية الحلقة؛ علمًا بأنّها استمرت 59:14 دقيقة فقط) وهي فاطمة الزهراء بابا أحمد، مستشار وزيرة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية. ظهرت المستشارة بعد تركيز المذيعة مجددًا على عدم وجود التشريعات المطلوبة، متسائلة: "هل يوجد قانون يحمي الضحايا النساء من العنف؟" فأجابت المستشارة بالتأكيد على عدم وجود قانون يتعامل تحديدًا مع العنف ضد المرأة.
تنكشف حالة "النجاة" التي رُسمت لأمل في الحلقة عندما تكشف عن هجرها زوجها في نهاية المطاف. ومع اقتراب نهاية الحلقة، تقرر المذيعة أن "أمل حصلت على الطلاق، وعادت إلى منزل والديها، وتعيش بسعادة وأمان. وهي تثق في أن الله سيجازيه [أي زوجها السابق] بما يستحق". بعد ذلك تحاط أمل ببعض الحلول والأمل؛ إذ تقول لها أمها: إن فرصة الزواج مجددًا قائمة. ثم يظهر الخبراء مرة أخرى مع اقتراب نهاية الحلقة لتقديم الحلول؛ لكن مقترحاتهم غامضة، كما أن تدابير تحقيقها ونتائجها يكتنفها الإجمال.
خلاصة القول: طرحت الحلقة مشكلات مهمة، ونهضت بدور توجيهي توعوي، فعرضت أنواع العنف المختلفة، وسلطت الضوء على الافتقار إلى تشريعات مطلوبة. غير أن المعلومات المقدمة غالبًا ما كانت غامضة، كما أنها لم تكد تأتي سوى من ضيوف رجال. إلى ذلك، نجح البرنامج في تحويل حكاية أمل إلى حكاية لا تُنسى؛ لأنه اتبع النمط الأصلي لسرد الحكايات؛ إذ أُعيدت تجربة أمل للحياة من خلال مشاهد تمثيلية، وهو أدعى لاسترعاء التفاهم والتعاطف. وبذلك ينجح البرنامج في أداء مهمته بوصفه برنامجًا متلفزًا يخاطب الجوانب الثقافية الشعبية.
خاتمة
ترتبط الملاحظة الأولى التي خلصت إليها الدراسة بهيمنة البرامج التي تستهدف جمهورًا عامًّا، والمناقشة غير المنتظمة لموضوعات المرأة وقضاياها وحقوقها. كما أن هيمنة الضيوف والخبراء الرجال على تلك البرامج باعث للصدمة أيضًا؛ ذلك أن ضعف تمثيل المرأة على الشاشة يماثل حالها من حيث كونها مصدرًا في وسائل الإعلام الخبرية. هنا، تُبيِّن لبنى الصقلي(39) أن أقل من 1% من النساء يُسْتَشَرْن لأغراض مرجعية الخبرة أو الاقتباس أو الاستضافة في الأخبار (84 خبرًا من أصل 1738 خبرًا تناولتها الباحثة بالتحليل).
تناولت الدراسة تمثيل المرأة في البرامج الحوارية المغربية، وقدَّمت تحليلًا نصيًّا مستندًا إلى مبادئ الاعتياد وهيكلة الغيابات، وذلك بناء على توصية جيسون بينبريدج. وفيما يخص تأطير النص، أدى برنامجا "بدون حرج" و"مع الناس" (وهما برنامجان تقدمهما مذيعتان ويركزان على موضوعات المرأة والأسرة) مهمة توجيهية؛ إذ ناقشا قضايا العنف ضد المرأة وقتل النساء، والميراث، و"مشكلة القوانين"، وزواج القاصرات، وانتظام الفتيات القرويات بالمدارس، وصحة المرأة. والأهم من ذلك أن البرنامجين طرحا أسئلة محورية، وسلَّطا الضوء على التقدم المأمول من حيث تحقيق المساواة والمناصفة. ولذلك، مثَّل البرنامجان المرأة بصورة إيجابية، وأعادا طرح العادات والتصورات الذهنية غير المجدية، بل وملآ شغور الغيابات الهيكلية بمعلومات جديدة. عرض برنامج "مع النساء" حالة "النجاة" التي بلغتها ضحية من ضحايا العنف؛ وذلك بعرض حكايتها ضمن إطار الإساءة غير المقبولة، فيما تبنى برنامج "بدون حرج" موقفًا متعاطفًا بصفة عامة مع قضية المناصفة من خلال إدارة المذيعة للحوار والتأطير العام للحلقة. وقد اجتمع البرنامجان عند تسليط الضوء على عدم وجود قانون يعاقب على العنف الجنساني؛ علمًا بأن برنامج "مع الناس" أضاف إلى ذلك تقصير الشرطة في مدِّ يد العون للضحايا، وبيَّن أنواع العنف المختلفة التي قد تتعرض لها المرأة، وهي: العنف البدني، والنفسي، والجنسي.
تكشف اللغة الرصينة لبرنامج "بدون حرج" عن محتوى يخاطب الفئة المثقفة من النساء والرجال؛ ولذلك يتبنى نهجًا مختلفًا عن برنامج "مع الناس" الذي يتخذ طابعًا أكثر عمومية والتصاقًا بالوقائع، وهذا يعني أن النساء الأميات اللائي يحتجن استيضاح مسألة المناصفة أكثر من غيرهن لن يجدن أي شيء مفيد في هذه المناقشات الرسمية الرصينة. ولكن هذه الشريحة من الشعب المغربي أحوج ما تكون للوصول إليها، لاسيما وأن نسبة من يجدن القراءة والكتابة في أوساط المغربيات هي 58.8% وفق إحصاء 2015 (Index Mundi). أما البرامج الحوارية الأخرى فيمكنها أداء المهمة التوجيهية بأسلوب مختلف.
بنظرة إحصائية نجد أن المهمة التوجيهية وُفِّيت حقها من خلال النسق الأصلي للمشاهد التمثيلية في برنامج "مع الناس"؛ فالمشاهد التي يؤديها ممثلون باعثة على الاهتمام، وهذا النسق الأصيل أضحى وسيلة لمنافسة البرامج الأخرى. كما أن استخدام اللهجة المحلية (الدارجة المغربية) والمشاهد التمثيلية في برنامج "مع الناس" أوجدا مساحة إعلامية للجمهور على نحو يعلق بالذاكرة، وهو الجمهور المستهدف بذلك أساسًا.
ثمة غيابات مهيكلة عرضها برنامج "مع الناس"، منها غياب توجيه متساوٍ قائم على المعلومة من قبل الخبراء الذين تتم استضافتهم، وعدم كفاية عدد النساء الخبيرات. وقد كان بإمكان برنامجي "مع الناس" و"بدون حرج" التوسع في النهج الجنساني من خلال مناقشة أساليب تأثر الرجال بالنظم الذكورية الفكرية، وبالتنظيم الاجتماعي للمجتمع، وطبيعة معاناتهم هم الآخرين من الأدوار الجنسانية، ومن أوجه عدم المساواة والانعزال عن أسرهم، فضلًا عن ذكوريتهم المفرطة وهم يؤدون واجباتهم الأبوية.
ومع ذلك، اتسم خطاب البرامج الحوارية بالانفتاح الفكري المقارَن، وهو ما يعني أن المشاهدات أصبحن ممكَّنات عن ذي قبل، وأن الرجال أصبحوا أكثر وعيًا ببعض المشكلات الرئيسة المؤثرة في المجتمع المغربي اليوم. إلا أن أنماط ذلك الخطاب لن تكون مقبولة كليًّا في الواقع على الأرجح؛ ولعل البرهنة على ذلك مستقبلًا تتمثل في اتجاه نحو إجراء تحليل لطبيعة استقبال ذلك الخطاب بغية قياس مختلف أنواع الاستقبال ودرجاته في المجتمع وتقييم مستويات تأثير الأفكار المطروحة في أوساط النخبة والعوام. ومن ثم، فمن المهم الإشارة إلى أن بث برامج تتناول تلك القضايا الرئيسة إنما يُبقي عليها في المجال العام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*د.كنزة أومليل، أستاذة الإعلام والاتصال في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة الأخوين، المغرب.
شكر وعرفان
تتقدم الباحثة بخالص الشكر والعرفان إلى شبكة الجزيرة الإعلامية وجامعة كامبريدج على مساندتهما في إخراج هذا البحث إلى النور. كما تعرب عن خالص امتنانها لروكسان فارمان فارمايان على تعقيباتها المفيدة طوال هذا البحث. والشكر موصول أيضًا إلى علي سوناي وسامية الرزوقي على تعقيباتهما ومساعدتهما.
ملاحظة: أُعد النص في الأصل باللغة الإنجليزية، ترجمه د. كريم الماجري إلى اللغة العربية.
(1)- Daoud, Zakya, “The Action Plan for the Integration of Women in Development a Revealing Case, a Virtual Debate”, Annuaire de l’Afrique du Nord 38, 1999, p. 245–257.
- Amiti, Khadija, “Women’s Press and the Institutionalization of a New Discourse on Women”, in Initiatives Feminine, edited by Aicha Belarbi, (Casablanca: Editions le Fennec, 1999), p. 51–69.
- Naciri, Rabea, “The Women’s Movement in Morocco”, Nouvelles Questions Feministes 33, 2014, p. 43–64.
- Benadada, Assia, and El Bouhsini, Latifa, The Human Rights Movement of Women in Morocco: Historical and Archival Approach, (Rabat: Kawtar Print, 2014).
(2) Zaid, Bouziane, “Morocco’s Media System in a Democratic Transition” In Media and Democratization: The African Experience, edited by Anthony Olorunnisola and Aziz Douai, (Hershey, PA: IGI Global, 2013).
(3) Bainbridge, Jason, “Textual Analysis and Media Research”, In Media and Journalism: New Approaches to Theory and Practice, edited by Jason Bainbridge, Nicola Goc, and Liz Tynan, (Australia: Oxford University Press, 2010), p. 224-237.
(4) للمزيد حول الموضوع، راجع:
- Cirksena, Kathryn, and Lisa, Cuklanz, “Male Is to Female As __ is to __: A Guided Tour of Five Feminist Frameworks for Communication Studies”, In Women Make Meaning, New Feminist Directions in Communications, edited by Lana F. Rakow, (New York: Routledge, 1992), p. 18–44.
- Lind, Rebecca Ann, and Colleen, Salo, “The Framing of Feminists and Feminism in News and Public Affairs Programs in US Electronic Media”, Journal of Communication 52, 2002, p. 211–228.
- Bordo, Susan, “Hunger as Ideology”, In Unbearable Weight: Feminism, Western Culture, and the Body, (Berkeley: University of California Press, 2003), p. 99–134.
- Shade, Leslie Regan. 2007. “Feminizing the Mobile: Gender Scripting of Mobiles in North America.” Continuum: Journal of Media and Cultural Studies 21 (2): 179–189.
(5) Ye?eno?lu, Meyda, Colonial Fantasies: Towards a Feminist Reading of Orientalism,(Cambridge: Cambridge University Press, 1998).
(6) Sakr, Naomi, Arab Television Today, (London I. B: Tauris, 2007).
(7) Lamhaidi, Nadia, “The Image of Women in Moroccan Media: Reality and Perspectives”, Ministry of Social Development, Family and solidarity, 2007, p. 91.
(8) انظر:
- Zaid, Bouziane, Public Service Television Policy and National Development in Morocco: Contents, Production, and Audiences, (Saarbrücken: VDM Verlag, 2010).
- Debbagh, Mohammed, “Discourse Analysis of the Representations of Women in Moroccan Broadcast News”, The Journal of North African Studies 17 (4), 2012, p. 653–670.
- Oumlil, Kenza, “Alternative Media, Self-Representation and Arab-American Women”, Journal of Alternative and Community Media 1, 2016, p. 41–55.
لمزيد من التفاصيل، راجع: (9)
-Debbagh, “Discourse Analysis of the Representations of Women in Moroccan Broadcast News”,op, cit.
- Skalli, Loubna H. “Constructing Arab Female Leadership Lessons from the Moroccan Media”, Gender & Society 25 (4), 2011, p. 473–495.
- High Authority of Audiovisual Communication (HACA), Report on the Image of the Woman in Audio-Visual Media, 2012.
(10) Amiti, Khadija, “Women’s Press and the Institutionalization of a New Discourse on Women”, op, cit.
(11) Korzeniowska, Victoria B. “Gender, space and identification in Femmes du Maroc and Citadine”, International Journal of Francophone Studies 8 (1), 2005, p. 3-22.
- Skalli, Loubna H. Through a Local Prism: Gender, Globalization, and Identity in Moroccan Women’s Magazines, (Lanham, Maryland: Lexington Books, 2006).
(12) Benadada, and El Bouhsini, The Human Rights Movement of Women in Morocco: Historical and Archival Approach, op, cit.
(13) Akharbach, Latifa, and Rerhaye, Narjis, Women and Media, (Casablanca: Editions le fennec, 1999).
(14) Amiti, Khadija, “Women’s Press and the Institutionalization of a New Discourse on Women”, op, cit.
(15) راجع:
- Korzeniowska, “Gender, space and identification in Femmes du Maroc and Citadine”, op, cit.
- Skalli, Loubna H. Through a Local Prism: Gender, Globalization, and Identity in Moroccan Women’s Magazines, (Lanham, Maryland: Lexington Books, 2006).
(16) Korzeniowska, “Gender, space and identification in Femmes du Maroc and Citadine”, op, cit, p. 19.
(17) Skalli, Through a Local Prism: Gender, Globalization, and Identity in Moroccan Women’s Magazines, op, cit.
(18) Dinia, Saadia, and Oumlil, Kenza, “Women in Contemporary Moroccan Cinema”, Journal of Middle East Media 12, 2016, p. 40–59.
(19) Salhi, Zahia Smail, “Maghrebi Women Film-makers and the Challenges of Modernity: Breaking Women’s Silence”, In Women and Media in the Middle East: Power through Self-Expression, edited by Naomi Sakr, (London; New York: I.B. Tauris, 2004), p. 53–71.
(20) Debbagh, Mohammed, “Discourse Analysis of the Representations of Woman in Moroccan Broadcast News”, The Journal of North African Studies 17 (4), 2012, p. 653-670.
(21) Ibid, p. 663.
(22) يعرف الدباغ "المطالبين بحقوق المرأة" على أنهم "أشخاص يُسمح لهم بالحديث إما بصفتهم سيدات أو نيابة عن السيدات (...). ولكي يتم قبول المقترحات المقدمة في الأخبار كمقترحات معتبرة، يتم إجراء مقابلات مع ناشطات في مجال حقوق المرأة أو سيدات يتبوأن مناصب رسمية أو منظمات معنية واقتباس تصريحاتهم". المرجع السابق، ص 664.
(23) Zaid, Public Service Television Policy and National Development in Morocco: Contents, Production, and Audiences, op, cit.
(24) Petkanas, Zoe, “Negotiating Identity: Gender and Tunisian Talk Shows”, The Journal of North African Studies 19 (5), 2014, p. 695.
(25) Sanli, Solen, Women and Cultural Citizenship in Turkey: Mass Media and ‘Woman’s Voice’ Television, (London: I.B. Tauris, 2015).
(26) تحيل زوي بيتكاناس إلى عمل لوجينبوهل عن "العنف الحواري" باعتباره نمطًا من أنماط الحوار المتقد عاطفيًّا، وهو نمط يحدث عندما يقول المتحدث شيئاً "... يتسبب -سواء أكان حدوثه معتمدًا أم لا- في فرض قيود حوارية قوية على المتحدث الآخر في حديثه بسبب نوعية الحوار ودور المتحدث فيه".
Petkanas, “Negotiating Identity: Gender and Tunisian Talk Shows”, op, cit.
(27) Nasseh, Sakina, “Al Khayet Al Abyad Missing from the Programmes for the Next Television Season”, Noonpresse, 20 January 2016.
http://www.Nasseh.com/./للم-البرامج-خريطة-عن-يغيب-الأبيض-الخيط
(28) Ismaili, Ghita, “Morocco: Nassima El Horr Insulted by a Preacher, 2M Supports Her”, Yabiladi, 3 December 2014.
https://www.yabiladi.com/articles/details/24048/maroc-nassima-horr-insultee-predicateur.html
(29) “The Host of ‘Sabahiyat 2M’ Confuses Herself in Apologies”, LeSiteInfo, 28 November 2016.
http://www.lesiteinfo.com/videos/la-presentatrice-de-sabahiyat-2m-se-co….
(30)Guessous, Nouzha, “The 2004 Moroccan Family Code: History and Prospects”, Public Lecture, Al Akhawayn University in Ifrane, Morocco, 1 December 2014.
(31) Lamhaidi, “The Image of Women in Moroccan Media: Reality and Perspectives”, op, cit.
(32) Skalli, “Constructing Arab Female Leadership Lessons from the Moroccan Media”, op, cit, p. 394.
(33) Ibid, p. 479.
(34) من هؤلاء الممثلين المركز المغربي للإعلام والتوثيق والدراسات حول المرأة (CMIDEF)، والمعهد العالي للإعلام والاتصال (L’ISIC)، واتحاد وكالات الاتصال (UACC)، ومجموعة المعلنين المغاربة (GAM)، و"ريجي 3 للإعلان" (Regie 3 Advertisement)، شركة سيلف-سرفيس للإعلان (SAP)، والمركز السينمائي المغربي (CCM)، والمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي (ISADAC)، والنقابة الوطنية للصحافة المغربية.
Lamhaidi, “The Image of Women in Moroccan Media: Reality and Perspectives”, op, cit.
(35) Ibid.
(36) Ibid.
(37) Kress, Gunther R., and Theo Van Leeuwen, Reading Images: The Grammar of Visual Design, (London: Routledge, 1996).
(38) Ayotte, Kevin J., and Mary E Husain, “Securing Afghan Women: Neocolonialism, Epistemic Violence, and the Rhetoric of the Veil”, NWSA Journal 17 (3), 2005, p. 112–133.
(39) Skalli, “Constructing Arab Female Leadership Lessons from the Moroccan Media”, op, cit.