الإعلام والرأي العام والأزمات: مقاربة تفاعلية-تكاملية

تُقدِّم هذه الورقة ملخصًا لدراسة موسعة نُشرت في مجلة لباب، الصادرة عن مركز الجزيرة للدراسات، وتبحث وضع مقاربة تعيد رسم العلاقة بين الإعلام والرأي العام والأزمات، في سياق أزمة مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده بمدينة إسطنبول.
9 April 2019
b223910bbc98472fb253fa2dab34e36f_18.jpg
وسائل الإعلام لم تعد محتكرة للفعل التواصلي الإعلامي فتتستر على الأزمة، وأفراد المجتمع ليس بمقدورهم تشكيل رأي عام في غياب التواصل الإعلامي (غيتي)

إن الحديث عن العلاقة التي تجمع بين الإعلام والرأي العام والأزمات يحيل إلى طبيعة التداخل البنيوي والوظيفي الذي يجعل الإعلام يسعى لتشكيل الرأي العام، أو يسهم في هذا التشكيل أثناء القيام بوظيفته، سواء تم ذلك في الأوضاع العادية أو أثناء الأزمات، وسواء حدثت هذه الأزمات بسبب الفعل الإعلامي (كفعل تضليلي أو تحريضي أو استقصائي) أو بمعزل عنه فوجد نفسه شاهدًا على الأزمة أو جزءًا منها. ولا شك أن الثابت في هذه العلاقة هو حضور اثنين من أطرافها على الأقل بصورة دائمة، وهذا الحضور لا ينفك يستدعي الطرف الثالث في المجتمعات الحديثة التي يصعب عليها الاستغناء عن خدمات الإعلام، كما يصعب عليها تجنب حدوث الأزمات، واتخاذ القرارات في غياب الرأي العام أو عدم أخذه في الاعتبار.

وإذا كانت وسائل الإعلام في السابق، هي التي تنفرد بتشكيل الرأي العام من خلال انفرادها بالتواصل الإعلامي الذي يستهدف أعدادًا كبيرة من الجماهير، ويستطيع أن يتجاوز الحدود بفضل التكنولوجيا ووسائل النقل، فإن ثورة تكنولوجيات المعلومات والاتصالات أوجدت نوعًا جديدًا من الإعلام المُتعولِم الذي لا تحدُّه الحدود الجغرافية ولا يتأثر ببعدي المكان والزمان؛ كما أنها أوجدت نوعًا جديدًا من التواصل الاجتماعي الذي يتيح لبلايين البشر إمكانية التواصل فيما بينهم وإنتاج الرسائل التواصلية ونشرها بأدوات لا تقل فعالية عن الأدوات التي احتكرتها وسائل الإعلام التقليدية لقرون خلت. وهكذا، فإن الفتح التواصلي الجديد انعكس على صناعة الرأي العام، وعلى تناول الأزمات التي تحدث في المجتمع وطريقة إدارتها.

يهدف هذا البحث لوضع مقاربة تعيد رسم العلاقة بين الإعلام والرأي العام والأزمات استنادًا إلى أسس تفاعلية اقتضتها مستحدثات التواصل في العصر الحالي، وأسس تكاملية تساعد على فهم علاقة الإعلام بالرأي العام في أوقات الأزمات والتأثير والتأثُّر الذي يحدث بين الأطراف الثلاثة، من خلال الاستئناس بإحدى أكبر الأزمات المعاصرة التي تبسط الدليل على طبيعة العلاقة بين الإعلام والرأي العام والأزمات، ألا وهي أزمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في مدينة إسطنبول التركية في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2018. فمن خلال هذه الأزمة، تتجلى أهمية العلاقة التي تربط بين الإعلام والرأي العام والأزمات، عندما يتفاعل الإعلام مع حادث محدود في المكان والزمان، ويحوِّله إلى أزمة تستأثر باهتمام الجماهير، ويستمر التفاعل حتى ينتج عنه رأي عام يؤثر في اتخاذ القرارات، ويتجاوز ذلك إلى رسم صورة ذهنية يصعب تعديلها وتحسينها. فقد قدمت أزمة مقتل خاشقجي أنموذجًا للتداخل البنيوي والوظيفي لوسائل الإعلام مع الرأي العام والأزمات؛ وأنموذجًا للتفاعل والتكامل الذي يحدث بين هذه الأطراف الثلاثة.

يثير هذا البحث إشكالية تَشَكُّل الرأي العام في ظل التحولات التي يعرفها التواصل الإعلامي في العصر الحالي؛ حيث أصبحت وسائل الإعلام أكثر قوة وفعالية من خلال توسُّلها بمستحدثات ثورة تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، وأصبح الجمهور ممتطيًا صهوة الفعل الإعلامي من خلال قدرته على الإلقاء والنشر والتفاعل بعد أن كان دوره مقتصرًا على التلقي والتغذية الراجعة المحدودة. وتتضمن هذه الإشكالية تجليات الرأي العام أثناء الأزمات التي تقتضي تواصلًا مخصوصًا يتغيَّا إدارتها وتجاوزها، سواء بالاستعانة بالإعلام أو بأشكال التواصل الإنساني الأخرى.

هكذا تبدو إشكالية البحث في مقاربة العلاقة التي تجمع بين الإعلام-التقليدي أو الجديد أو التقليدي-الجديد والرأي العام والأزمات؛ حيث ينظر البحث إلى هذه العلاقة باعتبارها تفاعلية؛ يتفاعل فيها الإعلام مع أفراد المجتمع حيث تكون الحصيلة تشكيلًا مشتركًا للرأي العام؛ ويتفاعل فيها الإعلام مع الأزمة، أو يتفاعل الإعلام مع الفاعلين في المجتمع الأمر الذي يؤدي إلى بروز أزمة (كما تفعل الصحافة الاستقصائية). وينظر البحث، من ناحية أخرى، إلى هذه العلاقة كعلاقة تكاملية يتكامل فيها دور الإعلام مع دور الجمهور في تشكيل الرأي العام فتكون النتيجة تجاوز الأزمة أو استفحالها، أو تتكامل الأزمة معهما فتعزز دور الإعلام في المجتمع وتقوِّي دور الرأي العام في السياسة واتخاذ القرارات المجتمعية. 

ولاختبار الأسس النظرية للتفاعل والتكامل الذي يحدث بين الإعلام والرأي العام والأزمات، يتناول البحث أزمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، التي تجاوزت -من حيث التناول الإعلامي- مجرد تغطية لمقتل صحافي من بين عشرات الصحافيين الذين يُقتلون كل عام، إلى أزمة عالمية تواجه الدولة السعودية وقيادتها، وتحظى بتغطية إعلامية عالمية مكثفة أسهمت في تشكيل الرأي العام العربي والعالمي. 

يعتمد هذا البحث منهاجًا نوعيًّا يقارب من خلاله العلاقة التفاعلية التكاملية التي تربط بين الإعلام والرأي العام والأزمات، ثم التوسل بأزمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وهي أزمة معاصرة، لتحليل الدور الذي قام به الإعلام في تشكيل الرأي العام حول هذه الأزمة، وتبيان المدى الذي وصلت إليه الأزمة في ظل التغطية الإعلامية المكثفة والمتناغمة. والاسترشاد ببعض الإحصائيات التي تقدم المثال الدال على مدى تفاعل بعض وسائل الإعلام العربية والعالمية مع هذه الأزمة، مع استصحاب دور هذه الوسائل في تشكيل الرأي العام وصناعة القرار على الصعيدين، المحلي والعالمي.

فالظواهر الثلاث التي يتناولها البحث (الإعلام والرأي العام والأزمات) تثير الكثير من الجدل من حيث طبيعتها وتمظهراتها ضمن البيئات والأوقات والسياقات المختلفة، والمعطيات الكمية وحدها لا تفسر كيفية اشتغالها والعلاقات التي تجمع بينها في مختلف المجتمعات الإنسانية. من هنا، تصبح المقاربة النوعية أقرب إلى بسط أرضية ملائمة للتعاطي مع هذه الظواهر في عصرنا الحالي، الذي يتسم بالتعقيد وضعف استقرار المفاهيم من جرَّاء تسارع ظهور المستحدثات التكنولوجية التي قد تُحدث قطيعة إبستمولوجية سريعة. 

وخلصت الدراسة إلى أن مقاربة العلاقة التفاعلية التكاملية التي تجمع بين الإعلام والرأي العام والأزمات تبيِّن أن هذه الأطراف -عندما تلتقي معًا- تشكِّل وجهًا ثلاثي الأبعاد لظاهرة تواصلية إنسانية في مكان وزمان مخصوصين؛ إذ لا يمكن الفصل بين الإعلام والرأي العام، أو الإعلام والأزمات، أو الرأي العام والأزمات، ولا يمكن لأي منهم أن يستغني عن الآخر. فوسائل الإعلام لم تعد محتكرة للفعل التواصلي الإعلامي فتتستر على الأزمة (وفقًا لأجندتها، أو من جرَّاء الضغوط التي تمارَس عليها)؛ وأفراد المجتمع ليس بمقدورهم تشكيل رأي عام في غياب التواصل الإعلامي الذي تقوم به وسائل الإعلام التقليدية أو الجديدة أو صحافة المواطن.

لقد أرسى الإعلام في القرون الماضية مجموعة من الأسس المهنية والفنية والأخلاقية التي تجعل من التواصل الإعلامي ضرورة لا غنى عنها في المجتمعات الحديثة. وقد أثبتت فورة التواصل الاجتماعي الرقمي التي اجتذبت إليها بلايين البشر أن الإعلام لا يزال يحتفظ بقدراته ومهاراته الكبيرة في مجال معالجة البيانات والمعلومات والأفكار التي تستخدم كمادة خام لتشكيل الرأي العام؛ وأن الأزمات تبرز أهمية الإعلام في المجتمعات الحديثة. 

أما الأزمة التي تناولتها الدراسة، فهي تبرهن على الضرر البالغ الذي يمكن أن ينتج من معاداة الجهات التي تتورط في الأزمات للإعلام والاستهانة بقدراته على الفعل، طالما أن فعله مجرد فعل تواصلي. وهذا قول فاسد، لأن التواصل هو أساس كل فعل في هذه الحياة، والتكنولوجيا الرقمية تزيد من تمكين وسائل الإعلام تواصليًّا وتُمِدّها بذاكرة لا تقهر.

لا تزال أزمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي تتفاعل، ولا تزال تداعياتها تترى، الأمر الذي يجعلها أنموذجًا لمزيد من الدراسات النوعية والكمية في مجالات الرأي العام والتأثير الإعلامي وإدارة الأزمات. ويأمل الباحث، من خلال هذه الدراسة، أن تسهم المقاربة التفاعلية-التكاملية التي تم اقتراحها في إجراء مزيد البحوث التي تكشف الديناميكيات التي تصاحب التناول الإعلامي للأزمات، وكيف يؤدي هذا التناول إلى تشكيل الرأي العام ورسم الصور الذهنية في عصر العولمة التواصلية. 

للاطلاع على النص الكامل للدراسة (اضغط هنا)، وللاطلاع على عدد المجلة كاملًا (اضغط هنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د. محمد الأمين موسى، أستاذ الصحافة الإلكترونية المساعد بجامعة قطر.