ندوة حول جدلية العلاقة بين السياسة والعمل الإنساني في مناطق النزاعات كإحدى ثمرات اتفاق التعاون بين شبكة الجزيرة الإعلامية ومنظمة أطباء بلا حدود(الجزيرة) |
انعقدت في 4 أبريل/ نيسان 2012 بالدوحة ندوة حول جدلية العلاقة بين السياسة والعمل الإنساني في مناطق النزاعات كإحدى ثمرات اتفاق التعاون بين شبكة الجزيرة الإعلامية ومنظمة أطباء بلا حدود، وتزامنا مع ذكرى مرور أربعين عاماً على تأسيس منظمة أطباء بلا حدود وتدشينا للترجمة العربية لكتاب "المفاوضات في العمل الإنساني" الذي يترجم تجربة منظمة أطباء بلا حدود وما يعترض عملها من عراقيل لعل من أبرزها التحدي الناتج عن موقف السياسيين من العمل الإنساني.
شبكة الجزيرة وأطباء بلا حدود.. العمل على تعزيز ثقافة المبادئ
من الملاحظ أن هنالك تزايدا مطردا لحالات المعاناة الإنسانية في مناطق الحروب والنزاعات ما دعا شبكة الجزيرة ومنظمة أطباء بلا حدود إلى الاتفاق على العمل سويا من أجل تسليط الضوء على القضايا الإنسانية الملحة لا سيما حقوق الفئات المتضررة والسعي إلى حصولها على العون والرعاية والحماية. ويقتضي ذلك حشد الجهود وتعبئة الطاقات من أجل العمل سويا في نشر وتعزيز ثقافة المبادئ الإنسانية وضمان حماية حقوق المدافعين عنها في ظل الأوضاع الصعبة في مناطق النزاعات كما ذكر مدير مركز الجزيرة للدراسات د صلاح الدين الزين في كلمته الافتتاحية.
حاولت الندوة خلال يوم أن تطرح الإشكال المعقد المتعلق بالعمل الإنساني في تماسه من السياسة فهل هذا العمل الإنساني هو كما ترى المنظمات الإنسانية والوطنية ينحصر في تقديم العون وتخفيف معاناة المتضررين واعتماد مبدأ الحيادية وعدم التحيز والاستقلالية والشمول لكل المحتاجين؟ أم أن العمل الإنساني ليس إلا نشاطا سياسيا تحركه الاعتبارات السياسية كما يتساءل د. الزين؟
إحدى جلسات الندوة (الجزيرة) |
وقد ناقشت جلسات الندوة الثلاث حالة العمل الإنساني الراهنة هل هو متراجع ولا يمثل استجابة لحاجات إنسانية ملحة لتخفيف معاناة المتضررين أم أنه أصبح جزءا من استراتيجيات التدخلات العسكرية والأجندات السياسية. ومن شواهد ذلك كون الإدارة الأمريكية خصصت 1.7 بليون دولار لتغطية الحاجات الإنسانية التي رافقت غزوها للعراق عام 2000، ولتغطية هذه النفقات قامت بتخفيض مساهماتها في برنامج الغذاء العالمي بنحو بليون دولار؛ وهو ما انعكس سلبا على التزامات البرنامج إزاء نحو 40 مليون شخص في 22 دولة إفريقية، كما بين ذلك الدكتور صلاح الدين الزين مدير مركز الجزيرة للدراسات.
كما أن إطلاق النقاش حول مختلف التساؤلات التي يطرحها التداخل الشائك بين العمل الإنساني والإكراهات السياسية اللصيقة به أمر مشروع كما ذكرت السيدة غادة حاتم المديرة الإقليمية لأطباء بلا حدود في منطقة الشرق الأوسط. وقد أضافت السيدة غادة أن منظمة أطباء بلا حدود تسعى دائما إلى المرونة وإجراء المفاوضات الإنسانية في الأوضاع البالغة التعقيد والصعوبة ضمانا لوصول المساعدة للمتضررين. ومهما ضاق الحيز الذي تعمل فيه منظمة أطباء بلا حدود بفعل وطأة القوى السياسية المتزايد إلى إعاقة أنشطتها واستغلالها مما يكبل العمل في المجال الإنساني فإن العمل الإنساني سيبقى دائما إلى جانب المتضرر وهو أمر يمكن لشبكة الجزيرة بوصفها وسيلة إعلام كبرى أن تقوم بدور أساسي فيه.
تصحيح المفاهيم.. خطوة أساسية في سبيل فهم العمل الإنساني
من أبرز الأفكار التي ركزت عليها الجلسة الأولى تصحيح بعض المفاهيم المتعلقة بالعمل الإنساني في علاقته بالسياسة.
تتفق جميع منظمات العمل الإنساني على أن نشاطها قائم على مبدأ الإنسانية ويحركه الدافع الإنساني، كما تتفق على مبدأ عدم التمييز بين المحتاجين للتدخل الإنساني؛ حيث لا ينظر إلى جنسهم ولا لونهم ولا دينهم... غير أن هناك مفهومين يحتاجان إلى توضيح وهما مفهوم الحيادية ومفهوم الاستقلالية كما ذكر أكثر من متدخل في الجلسة الأولى.
ومن الملاحظ أن هناك تآكلا مستمرا ما فتئ يضيق مساحة ما بات يعرف بمجال العمل الإنساني ويحد من حيزه، بالإضافة إلى نزعة متزايدة نحو قفل المجال أمام الفاعلين في ميدان العمل الإنساني ومن هنا نشأ مفهوم التفاوض.
ومع اعتماد التفاوض مع الأطراف المتصارعة مبدأ فإن الاستغلال السياسي للعمل الإنساني يصلح احتمالا واردا؛ حيث نجد في كثير من الحالات أن تقديم المساعدات الإنسانية كثيرا ما يتقاطع مع مصالح القوى المؤثرة. فليس على العامل في المجال الإنساني أن يحكم على من هو المخطئ في الصراع ومن هو الضحية فالمهم توصيل المساعدة لمن يحتاجها.
ويظل دور منظمات العمل الإنساني بما فيها أطباء بلا حدود منحصرا في توفير خدمات للمصابين وإنقاذ حياة من هم في مناطق الصراع دون أن يكون لها أي دور في الصراع. أما الاستغلال السياسي للمساعدات الإنسانية فلا يعتبر سوء استخدام لوظيفتها بل هو –في هذه الحالة- مسألة لا مفر منها حتى تتمكن هذه المنظمات من مزاولة نشاطها.
منظمات العمل الإنساني بين التنديد بالخروقات والسكوت عليها
تجد منظمات العمل الإنساني ومن بينها منظمة أطباء بلا حدود نفسها في خضم إشكالية معقدة وهي التزام الحياد في الصراعات إلا أن عليها أخلاقيا ألا تسكت على المآسي وأن تفضح الخروقات التي تمس حقوق الإنسان.
ويجد فاعلو العمل الإنساني أنفسهم في أغلب الصراعات مجبرين على الصمت، وهو "صمت ضروري" لكي لا تمنع من أداء دورها الإنساني من طرف الجهات السياسية المتنفذة في الصراع عملا بالمقولة: "التزموا الصمت.. وعالجوا". فالعمل الإنساني في هذه البيئة المعقدة يتطلب -لكي يقبل به- الكثير من الحذر والحياد. وكثيرا ما تعرضت فرق أطباء بلا حدود لحالات من انتهاك حقوق الإنسان في أكثر من بلد وعندما يتم الإبلاغ عنها تحرم من ممارسة نشاطها الإنساني.
جانب من الحضور (الجزيرة) |
ومن أمثلة تلك الحالات تعليق الحكومة اليمنية أعمال منظمة أطباء بلا حدود على خلفية نشر قناة الجزيرة ووسائل إعلام أخرى معلومات مصدرها منظمة أطباء بلا حدود تندد فيها بأعمال العنف التي يقوم بها الجيش اليمني ضد الحوثيين في صعدة. وقد جاءت تلك المعلومات في التقرير الذي تصدره المنظمة سنويا بعنوان "أهم عشر أزمات إنسانية" و قد جاء اليمن ضمن القائمة. وقد اعتبرت الحكومة اليمنية المنظمة غير محايدة لأنها نددت بأعمال العنف التي قام بها الجيش دون أن تندد كذلك بتلك التي قام بها الحوثيون.
اشترطت الحكومة على المنظمة –إذا أرادت السماح لها بمواصلة العمل في اليمن-أن تنفي أن الحكومة تعيق الوصول إلى بعض الأماكن وأن تنفي أيضا أن هناك نقصا في الخدمات الصحية، إضافة إلى التأكيد على أن استخدام الإعلام لما جاء في تقرير "أهم عشر أزمات في العالم" كان يعكس وجهة نظر الجهات الإعلامية نفسها.
وقد قبلت أطباء بلا حدود هذه المقايضة، ونشرت بيانا يحمل عنوانا معبرا يقول "أطباء بلا حدود تعتذر رسميا عن تقريرها حول الوضع الطبي في صعدة".
وقد أظهرت هذه الحادثة قابلية منظمات العمل الإنساني للرضوخ للضغوط السياسية، ولذلك يبقى الإشكال المطروح على الناشطين في العمل الإنساني هو كيفية التوفيق بين طرفي المعادلة التالية: التزام الصمت حيال انتهاكات حقوق الإنسان التي يشاهدونها حرصا على إفساح المجال لهم ليقدموا خدماتهم، أو فضح تلك الممارسات والانتهاكات وبالتالي حرمانهم من قبل السلطات السياسية والعسكرية النافذة في الصراع من تأدية عملهم الإنساني؟
ومما لا شك فيه أن العمل الإنساني يصبح في بعض الأحيان ضحية من ضحايا الصراع. فالوصول إلى الجرحى والمرضى والمحتاجين للرعاية الصحية وتقديم العون لهم في مناطق النزاعات وإنقاذ حياتهم مقابل الصمت عن جرائم الأنظمة والجماعات المسلحة والسلطات الاستبدادية التي ترتكب جرائم بحق المدنيين يجعلنا نتساءل: هل الصمت عن الجرائم مشاركة فيها؟ أم أن الأجدى فضح الممارسات القمعية حتى لو ترتب على ذلك التضحية بأرواح كان إنقاذها وانتشالها من هاوية الموت؟
ومن خلال النقاشات والعروض التي قدمها المشاركون في الندوة غلب الرأي القائل بأن الحدود بين العمل الإنساني والمواقف السياسية ينبغي أن تظل واضحة لا لبس فيها. فالدور الإنساني الذي على الفاعلين في العمل الإنساني ومن بينهم منظمة أطباء بلا حدود أن تضطلع به هو في الأساس مساعدة المحتاجين ومعالجة المصابين، وينبغي أن يصل إلى كل المتضررين في مناطق الصراع. وفي المقابل ليس على هذه المنظمات أن تقوم بأدوار سياسية أو حقوقية فذلك دور الإعلام والمنظمات الحقوقية باعتبارها الجهات المعنية بالكشف عن الجرائم وفضح ممارسيها والإبلاغ عنهم ومتابعتهم قضائيا.
منظمة أطباء بلا حدود تحكي تجربتها
خصصت الجلسة الثانية من الندوة لنقاش كتاب: المفاوضات في العمل الإنساني الذي يحكي تجربة منظمة أطباء بلا حدود. فالعمل الإنساني للمنظمة في بيئات الحروب والنزاعات، عبارة عن تجربة من المضايقات والضغوطات التي لا حصر لها. ولذلك جاء الكتاب الذي اشترك في تأليفه ثلاثة باحثين ليكشف أخطار التفاوض من أجل الوصول إلى مناطق الأزمات بأسلوب فكري عميق يشرح كيف تصبح "التنازلات" أمرا مشروعا عندما تكون باسم العمل الإنساني.
مدير مركز الجزيرة للدراسات د. صلاح الدين الزين (يمين) أثناء ترأسه إحدى جلسات الندوة (الجزيرة) |
والكتاب بصفحاته البالغة 321 يأخذ قارئه في طرق العمل الإنساني الوعرة فيجد أن المفاوضات المعقدة والتنازلات المقلقة المطلوبة للتفاوض هي التي تمكن من الوصول إلى الضحايا المغلوبين على أمرهم في خضم النزاعات المسلحة والأزمات الصحية.
ويأخذ مفهوم الاستقلالية حيزا هاما في مادة الكتاب ونقاشاته وتأتي فكرة تعزيز الاستقلالية ونقد الذات لعمليات صنع القرار في المنظمة حاضرة بقوة. كما يناقش الكتاب تجربة المنظمة في اثني عشر بلداً: أفغانستان، وإثيوبيا، وفرنسا، وقطاع غزة، والهند، وميانمار، ونيجيريا، وباكستان، والصومال، وجنوب إفريقيا، وسريلانكا، واليمن. وهي عبارة عن دراسات الحالات، تتبعها مقالات مرتبة حسب الموضوع، تفحص التوازن الدقيق والهش بين التشبث بالمبادئ المؤسسة لمنظمة أطباء بلا حدود القائمة على الاستقلالية والحيادية وعدم التحيز والتحدث علانية، وبين الوقائع الفعلية والحقائق العملية المتعلقة بتقديم المساعدات الإنسانية في بيئات سياسية معقدة وخطرة.
في سبيل تعاون بين الإعلام والعمل الإنساني
إن التفكير في آفاق العمل الإنساني وعلاقته بالسياسية والتعامل مع المشكلات الأمنية والعسكرية يقتضي وجود فلسفة إنسانية مجتمعية تعبر عن العمل الإنساني ومناخه، وتسعى للفصل بين العمل الإنساني والسياسة.
ولا شك أن للإعلام، وعلى رأسه شبكة الجزيرة، دورا أساسيا في التمكين لهذه الفلسفة وفي التنسيق مع الفاعلين في ميدان العمل الإنساني من أجل أن لا تبقى منظمات العمل الإنساني متهمة بأنها تنفذ أجندات سياسية وغربية بالأساس، وحتى لا تنعكس تلك الاتهامات تنعكس سلباً على قدرتها في المساهمة ومساعدة المحتاجين. ومما لا نقاش فيه أن دور الإعلام في التعريف بالقضايا الإنسانية والتنويه بها سيكون خير معين لمنظمات العمل الإنساني.
وسيكون لشبكات التواصل الاجتماعي المتعددة واستغلالها دور في دعم جهود العمل الإنساني وطرح ونقاش الإشكالات التي يثيرها التداخل بين السياسي والإنساني. كما أن النقاش المستمر حول الإشكاليات الأخلاقية والمهنية التي يطرحها التداخل بين العمل الإنساني والسياسة هو السبيل لتقديم إجابات تناسب الأوضاع الإنسانية والسياسة التي تعيشها المنطقة العربية والعالم بأسره.
_________________________
سيدي أحمد ولد أحمد سالم - مركز الجزيرة للدراسات