تقرير ندوة "الإسلاميون والثورات العربية"

2012101121342720621_20.jpg
ناقشت الندوة مجموعة من القضايا المهمة والحساسة على مدار يومين (الجزيرة)

ناقشت ندوة "الإسلاميون والثورات العربية.. تحديات الانتقال الديمقراطي وإعادة بناء الدولة" على مدى يومين مجموعة من القضايا المهمة والحساسة المتعلقة بالثورات الشعبية التي عرفتها المنطقة العربية، وأصبحت تعرف "بالربيع العربي"، وتطرق لها المشاركون سواء من خلال الأوراق أو التعقيبات والمداخلات العديدة. وسوف نقدم في هذه الورقة خلاصة أعمال الندوة بالتركيز على عدد من الموضوعات الأساسية التي تناولتها الأوراق ودارت حولها المناقشات.

الثورات العربية ودور الإسلاميين فيها

عاشت البلدان العربية عهودا طويلة من الحكم الاستبدادي والتسلطي سواء كان ذلك من قبل حكام مستبدين من أهل البلد، أو من خلال ليل الاستعمار الطويل الذي أعقبته فترة الاستقلال منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي تميزت بالانقلابات العسكرية وبحكم الحزب الواحد أو الشخص الواحد، واستمرت الحال على ذلك رغم محاولات عديدة للتغيير والإصلاح غالبا ما أجهضت في بداياتها.

كانت تلك هي الخلفية التي عاشت فيها البلدان العربية قبل اندلاع ثورات "الربيع العربي" في مجموعة منها عام 2010، وكانت البداية من تونس في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010. وقد نالت فكرة الثورة ومسبباتها جزءً معتبرا من مداخلات المشاركين، وحصل الإجماع على أن هذه ثورات شعبية بامتياز فاجأت الأنظمة الحاكمة والقوى السياسية التقليدية في الداخل، بما فيها الإسلاميين، كما فاجأت الدول الغربية حليفة تلك الأنظمة المستبدة وراعيتها لمدة طويلة.

وذهب البعض إلى اعتبارها لحظة ولادة ثانية للشعوب العربية بعد لحظة الاستقلال من الاستعمار. كما أجمع المشاركون على اعتبار الثورات الشعبية العربية تعبيرا واضحا عن فشل تجربة بناء الدولة القومية ومشروع التنمية الوطنية التي حملتها النخب الحاكمة بعد الاستقلال. ورأى كثيرون أن الثورات فتحت عهدا جديدا يقطع مع نظم الاستبداد، وتؤسس لحكم يقوم على مؤسسات ممثلة لرغبة و خيارات الأغلبية.

لكن هناك تساؤلات عديدة حول هذه الخيارات ومدى احترامها من قبل النخب الإسلامية الصاعدة إلى سدة الحكم؟ وهل ستقطع بالفعل مع ممارسات العهد البائد، أم أنها ستحييها وإن بشكل آخر؟

المرحلة الانتقالية وتحدياتها: إعادة بناء الدولة

تعتبر المرحلة الانتقالية، مرحلة إعادة هيكلة وبناء نظام جديد على أسس مغايرة تقطع مع الممارسات والأساليب القديمة، وهذه مهمات أصعب بكثير من مهمات هدم النظام القديم. وهناك عدد من التحديات الكبرى التي تواجه القوى السياسية في هذه المرحلة، وبالذات التنظيمات الإسلامية التي حصلت على تفويض من غالبية الشعب بقيادة هذه المرحلة.

  • أول تلك التحديات هو نقص الخبرة في تصريف الشأن العام بكفاءة وحيادية، والقدرة على إدارة الحراك السياسي بشكل توافقي بعيدا عن الصراع والمواجهة بسبب عقلية الاستحواذ والتفرد بالسلطة. فالحراك إذا لم يتم ضبطه من قبل النخب يمكن أن يؤدي إلى انفلات ويتحول المواطنون والتنظيمات السياسية إلى أعداء بدلا من كونهم متنافسين. 
  • ثانيا، تشظي القوى السياسية على الساحة الوطنية: فلا الإسلاميون ولا العلمانيون - القوى السياسية الرئيسية – يمثلون كتلا متجانسة، بل هي فصائل وتنظيمات متعددة القناعات والتوجهات. ذلك ما يزيد احتمالات الانزلاق نحو الطائفية والتعصب، بدلا من التوافق والإجماع. فكثير هي الثورات التي فشلت أو انحرفت عن مسارها أو أفرغت من مضمونها وتحولت إلى مواجهات وصراعات مدمرة. وتقع المسؤولية على النخب لضبط الحراك السياسي والاجتماعي لمرحلة ما بعد الثورة وبناء دولة الحق والقانون. وتبقى الكلمة المفتاح هي الرهان على الحوار وليس الحسم الأمني. لكن، يتساءل المشاركون، هل بمقدور القوى المتنافسة على السلطة أن تضع خلافاتها العقيدية جانبا، وتتجاوز مصالحها الفئوية الضيقة لبناء دولة المواطنة والديمقراطية حيث يتساوى الجميع أمام القانون في الحقوق والواجبات؟ سؤال لا يمكن سوى أن ننتظر إجابته من الممارسة السياسية في الأيام القادمة. 
  • وثالثا، هشاشة مؤسسات الدولة وضعف أجهزتها ما يقلل من مصداقيتها وحيادتها وكفاءة تدخلها لفض النزاعات والخلافات، فضلا عما يتيح ذلك من فرص المناورة والتدخل للقوى المعادية داخليا وخراجيا لإجهاض الثورة وتحويلها عن مسارها. وهناك تحديات أخرى عديدة ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية مثل البطالة، وضعف الموارد، والتبعية للقوى الدولية.

ومع ذلك، أجمع المشاركون على وجود قواسم مشتركة كثيرة بين القوى السياسية المتنافسة لأن هذه ثورات وطنية بالدرجة الأولى اشترك الجميع فيها، ويرون أن الأفضل لها الاهتداء بمرجعية مؤسسة في الثقافة الإسلامية دون إقصاء ولا تهميش لأي مجموعة. ذلك أن مستقبل هذه البلدان يتأسس على عدة مرتكزات أساسية لا مناص منها هي: 

  1. أولا، أن الديمقراطية والإسلام يشكلان الحاضن والأرضية الأساسية للتوافق والإجماع.
  2. ثانيا، ضرورة أن تجد فيهما كل القوى السياسية قواسم مشتركة تعزز منظومتها القيمية وتضمن احترامها.
  3. ثالثا، "تأسيس الوفاق على شرعية الانتماء للأرض بدلا من العقيدة. وثالثا، احترام الأقليات والمساواة بين الجميع على أساس المواطنة، لا فرق بين إسلامي وعلماني أو ذكر وأنثى" (1).

 المواطنة وحقوق الإنسان: موقف الإسلاميين من قضايا الحقوق والحريات العامة

أبرزت المناقشات وجود حالة إجماع بين المشاركين على كون الإسلاميين يشكلون قوة سياسية حقيقية على الساحة، لكنها قوة جرى تهميشها وإقصاؤها لفترة طويلة، ومنعت من المشاركة في إدارة الشأن العام. بل أكثر من ذلك، عانت المتابعة والقمع والتنكيل بقياداتها. لكن ينبغي التأكيد أن هذا لم يكن قدر الإسلاميين وحدهم، بل كان مصير كل معارضة سياسية حقيقية بصرف النظر عن توجهاتها الأيديولوجية. فالأنظمة الاستبدادية في البلاد العربية كانت بارعة في توظيف القوى السياسية في لعبة التوازنات التي حققت بقاءها وأمنت سيطرتها على الدولة والمجتمع معا. فالحركات والتنظيمات السياسية على اختلاف توجهاتها العقدية وُظفت ببراعة في تحالفات ظرفية قصيرة المدى وضُربت بعضها ببعض، ما أضعفها جميعها وتركها تحت رحمة تلك النظم الاستبدادية لفترة طويلة.

وبينما اتفق المشاركون على أن وصول الإسلاميين إلى السلطة بشكل سلمي وعن طريق صندوق الاقتراع بعد قيام ثورات "الربيع العربي" حدث على غاية الأهمية، فإن بعض المتدخلين تساءل عن مدى استعدادهم للالتزام بقواعد اللعبة السياسية التي تضمن التداول على السلطة بشكل سلمي. إذ هناك من يوجه التهمة للإسلاميين بأنهم يضمرون غير ما يعلنون، وأنهم ليسوا أوفياء لهذه القواعد، وليس هناك ما يضمن عدم انقلابهم عليها بإحداث تغييرات في قواعد اللعبة نفسها بحيث تضمن بقاؤهم وتبعد خصومهم. ولعل من أهم تلك التهم إلزام الجميع بديمقراطية تحت سقف الإجماع على الشريعة الإسلامية، وهو ما يقصي خصومهم بشكل آلي من التداول على السلطة. لذلك طرحت في الندوة تساؤلات من قبيل؛ هل يمكن الحديث عن تناوب سلمي على السلطة في البلاد العربية بعد الثورة ووصول الإسلاميين إلى الحكم؟ وبهذا الصدد أشار بعض المتدخلين إلى أن التناوب على الحكم، (حتى في الغرب الديمقراطي)، لا يتم بين تيارات سياسية متناقضة، بل بين قوى بينها قواسم مشتركة عديدة تحقق حالة من التوافق والإجماع(2). لكن الوضع في البلدان العربية التي عرفت حركات ثورية سمحت بصعود الإسلاميين للسلطة مختلف، إذ تعج الساحة السياسية بقوى سياسية ذات برامج متعارضة ومتناقضة تسعى للسلطة، وهو ما يعيق إقامة نظام للتداول. لذلك شدد أحد المشاركين على ضرورة "الاعتراف من قبل العلمانيين بأحقية الإسلاميين بالسلطة، وضرورة اعتراف الإسلاميين بفكرة المواطنة، وسلطة الشعب، وعدم الوصاية عليه."(3) وبذلك يمكننا القول أن الاعتراف بالآخر، وبقيم الديمقراطية والحداثة هي السبيل الوحيد لتجاوز حالة الانسداد بين القوى السياسية المتنافسة.

كما أثيرت بقوة قضية حقوق الإنسان ومدى احترام الإسلاميين بعد وصولهم للسلطة للحريات العامة، ومدى التزامهم بالمواثيق والعهود الدولية. ويبدو أن هناك إجماعا بين المشاركين بمن فيهم من قيادات سياسية ومفكرين إسلاميين على أن لا خيار أمام التنظيمات الإسلامية سوى احترام حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية، بل واعتبار ها من صميم روح الإسلام فكرا وممارسةً. وأن الإخلال بها يمثل خطرا حقيقيا يتهدد الثورات العربية، ويعيق بناء الدولة الحديثة، دولة المواطنة التي تضمن الحقوق الأساسية لكل مواطنيها بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية. وإن أكد البعض أن كلمة المواطنة التي تفترض في مفهومها المساواة والالتزامات والحرية والمسؤولية الاجتماعية جديدة على ثقافتنا العربية الإسلامية(4)، رغم الاستشهاد بما ورد في القرآن من نصوص تؤكد كرامة كل البشر.

وتتعدد المداخل لمعالجة هذا الموضوع منها: المشاركة السياسية والمرجعيات الثقافية سواء كانت نصوصا شرعية، أو اجتهادات فقهية، أو خبرات تاريخية. ولا تكمن القضية الأساسية في التسميات، بل في وجود فجوة كبيرة بين القول والفعل، ما يعني ضرورة تفعيل وتطبيق الأفكار التي تزخر بها المرجعيات الدينية والثقافية بطرق تتلاءم مع مقتضيات العصر وتحدياته. لكن هناك من له رأي مخالف، فيحذر مما يفعله الإسلاميون الذين ينطلقون من مقولة مركزية بأن "الإسلام دين ودولة، ومصحف وسيف"(5)، ويسعون إلى إخضاع مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والقانونية والفنية إلى الأحكام الدينية. يترتب عن ذلك عدة نتائج أهمها: أن النظام الذى يسعى الإسلاميون إلى إقامته لا يكتفى بمجرد السيطرة على السلطة السياسية، بل يستخدم السلطة لإعادة صياغة حياة الناس في أبعادها المتعددة، وبذلك فإن النظام الإسلامي يروم السيطرة على الضمير الشخصي. والأخطر هو أن فكرة شمولية الإسلام تؤدي إلى تراجع حضاري للمسلمين بدعوى خصوصية مزعومة، ترفض أخذ الحكمة من مختلف مصادرها. ويترتب عن ذلك "أسلمة" جميع مجالات الحياة، بطريقة تتجاهل تنوع الظروف التاريخية وتغيرها، وتنكر خصوصية الوقائع الاجتماعية. بل أكثر من ذلك أنها تصبغ على الاختيارات البشرية هالة من القدسية، ما يجعل المشاريع السياسية والحزبية للبشر غير قابلة للنقد والمساءلة، وتتحول معارضتها إلى معصية لله ومروق عن الدين(6). وهو ما أكده متحدث آخر في ورقته حول تطبيق الشريعة، بالتركيز على ضرورة تمييز الخُلقي عن القانوني لأن "الإكراه تخريبٌ للضمير الخُلقي"(7).

وتجدر الإشارة إلى أن هناك موضوعات على غاية الأهمية والراهنية مثل موضوعي المجتمع المدني ومكانة المرأة في المجتمعات العربية ما بعد الثورة، لم تنل حقها في الندوة، وطغت على معالجتها مسحة من ردود الفعل النمطية والنقاشات المتشنجة. فهل يعبر ذلك على انشغال النخب السياسية والمفكرين الإسلاميين بموضوع السلطة، أكثر من اهتمامهم بموضوع المشاركة المدنية الطوعية في إدارة الشأن العام؟ وهل يعني ذلك أن مكانة المرأة ودورها في الحياة السياسية سيبقى مرتهنا بتقاليد بالية من جهة، والخطاب السياسي الدعائي من جهة أخرى؟

علاقة الإسلاميين بالدولة: طبيعة الدولة والتداول على السلطة

طرح المشاركون في هذه الندوة أيضا عددا من الأسئلة الحساسة من قبيل ماهي العلاقة بين الإسلام والدولة؟ وماذا يعني صعود القوى الإسلامية للحكم؟ وما ذا تعني علاقة الإسلام بالحكم؟ وحاولوا الإجابة عليها. ويبدو أن هناك وجهات نظر خلافية ومتباينة بين فريقين: يرى الأول أن الإسلام دين ودولة، بمعنى أنه لا يتضمن عناصر تتعلق بالعبادات فقط، بل يتضمن أيضا قواعد وأسس تضبط المعاملات بين الناس، وبينهم وبين حكامهم، ويتم الاستشهاد بدولة المدينة، وحكم الخلفاء الراشدين. بينما يرى الفريق الثاني أن الإسلام ركز على العبادات وبناء الجانب الروحي والخلقي، وأن أكثر من 90% من الشريعة يهتم بالبعد الخلقي، فيما تقدم 10% الباقية الأحكام الخاصة بتصريف شؤون الحياة(8)، كما أن روح الإسلام الصحيح تعتبر "الناس أدرى بشؤون دنياهم".

وجدير بالذكر أن المصطلحات الحديثة في النظرية السياسية مثل الدولة، والمواطنة، والديمقراطية لا وجود لها في المعجم السياسي الإسلامي. كما لا وجود لمصطلح الدولة المدنية في المعجم السياسي العربي والغربي على حد سواء. فالدولة الحديثة كمفهوم وكممارسة اكتسبت ملامحها منذ القرن السابع عشر في النظريات السياسية الغربية المتعددة، وارتبطت أساسا بتكوين وتطور نمط الإنتاج الرأسمالي منذ ذلك الزمن.

أما بالنسبة لدلالة فوز الإسلاميين بالانتخابات في عدد من البلدان العربية وتسلمهم السلطة، فيعتبره كثيرون بمثابة "حلقة من سلسلة حلقات هدفها استعادة الهوية المجتمعية،"(9) وإعادة الاعتبار للمكون الديني في بناء الدولة ونهضة الأمة. فيما يرى آخرون أن وصول الإسلاميين للسلطة كان نتيجة سولك انتخابي احتجاجي على فشل الدولة الوطنية ونخبها السياسية في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، وجنوحها نحو الفساد والاستبداد، غير أن ذلك لا يقلل من قيمة نجاح التنظيمات الإسلامية شيئا. لكن هل يخدم هذا الفوز فكرة التعددية والتوافق ويسمح بالتداول السلمي على السلطة؟ وإذا كانت التعددية والتوافق، "يعنيان الوصول إلى منطقة تلاقي بين الفرقاء دون نفي أو استلاب للآخر، فإن الإسلاميين رغم دعوتهم للتوافق إلا أن ممارساتهم السياسية فيها كثير مما يتعارض ويتناقض مع هذه الدعوة"(10). ويحتاج الإسلاميون برأينا لتجاوز هذا التناقض إلى عدد من الإجراءات الجريئة منها: أولا، فصل النشاط السياسي عن الدعوي، لأن الالتباس بين المجالين مصدر توترات خطيرة ويذكي الصراع. ثانيا، حل إشكالية المرجعية والممارسة في مجال حقوق الإنسان بتأكيد عالميتها. ثالثا، توضيح مفهوم الأغلبية والأقلية، بحيث يوضع نجاح الحركات الإسلامية في إطاره النسبي، ولا يعطى أكثر مما يمثل فعلا. ورابعا، إنهاء النزاع بين الفصائل الإسلامية الكبرى (مثل تيار الإخوان والسلفيين والجهاديين ..) من جهة، وبين هذه الأخيرة والقوى العلمانية من جهة ثانية، لتحقيق توافق يمنع ما يحدث اليوم من صراعات ومواجهات تهدد مكاسب الثورة، وتضعف شرعية الدولة، وتنذر بحالة من الفوضى. لذلك فإن القدرة على هضم مكاسب الحداثة أمر مهم جداً، إذ بدون أرضية تحقق الوفاق الوطني حول مفهوم دولة القانون والديمقراطية والمواطنة والعلاقة الحميمة بينها جميعا لن تستطيع النخب السياسية إعادة بناء الدولة وتشكيل النظام وتحقيق الانتقال من مرحلة الاستبداد إلى المشاركة الديمقراطية التي تضمن حقوق الجميع بمن فيهم الأقليات. رغم أن الديمقراطية كما أشار بعض المشاركين نظام يحابي الأغلبية، وبالتالي قد لا تنال فيها الأقليات تمثيلا صحيحا(11).

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك عددا من المغالطات التي تحتاج إلى تصحيح، وبعض المعضلات التي تستدعي التفكير والمعالجة، من ذلك نكران وجود التعددية في الأنظمة السابقة، رغم أنها كانت موجودة فعلا في حالات عديدة قبل الثورة ووصول الإسلاميين إلى الحكم. لكن ربما كانت شكلية أحيانا كثيرة، فضلا عن توظيفها من قبل الأنظمة السابقة لاستجداء الشرعية داخليا، وتلميع صورتها لدى الخارج. ومع ذلك، فإن معضلة التعددية اليوم هي قابليتها للاستخدام كسلاح شرعي ضد الإسلاميين، كما تلوح بذلك دساتير البلدان العربية ذاتها بتأكيدها على أن الشريعة مصدر أساسي للتشريع.

الإسلاميون والمؤسسة العسكرية: التحالف والصراع

تعتبر العلاقة بين العسكر والدولة في المجتمعات العربية من بين الموضوعات الأكثر إثارة للجدل، كما تشكل بذات الوقت أحد الموضوعات التي لم تنل حقها من التفكير والمعالجة من قبل الباحثين، ومن قبل القوى السياسية المتعددة المتواجدة على الساحة، بالإضافة لكونها مصدرا لمشكلات، وتسببت في مآسي عديدة في الوطن العربي، وقد انقسمت الآراء وتضاربت حول مكانة الجيش ودوره في الأنظمة العربية. وينبغي أن نذكر هنا أن تلك المواقف لم تكن تحكمها قناعات واستراتيجيات بعيدة المدى، بقدر ما كانت تعبيرا عن تكتيكات مرحلية ناتجة عن تحالفات ظرفية، وعن مصالح فئوية ضيقة غلبت على نظرة وممارسة القوى السياسية المتنافسة على إرضاء النظام وأداته القوية ممثلة في المؤسسة العسكرية . ومع ذلك، يمكن القول أن تجربة الأمم الأخرى تقدم لنا عبرة واضحة في هذا المجال؛ هي ضرورة ابتعاد العسكر عن السلطة وترك الساحة السياسية وإدارة الشأن العام للقوى الاجتماعية والحركات السياسية الممثلة لها.

لم تشذ علاقة الإسلاميين مع العسكر عن القاعدة العامة المشار إليها آنفا، فقد عرفت هذه العلاقة في جميع البلدان العربية وعلى مر الزمن مدا وجزرا، وتراوحت ما بين التحالفات الضمنية أو الصريحة أحيانا، و الصراع والمواجهة العنيفة أحيانا أخرى، سواء كان ذلك في شكل انقلابات عسكرية، أو "تصحيحات ثورية" أو ثورات شعبية، ولعل تجارب بلدان مثل السودان، مصر، اليمن، الجزائر وموريتانيا...الخ تقدم صورا بليغة عن ذلك. كما لم تشذ الثورات العربية الأخيرة عن القاعدة العامة، مع تأكيد حقيقة أنه لا العسكر ولا الإسلاميين كانوا من بين القوى السباقة أو الأساسية المشاركة في الثورة، لكن ذلك لا ينفي مساهمتهما بشكل أو بآخر في إنجاح بعض الثورات، سواء في تونس أو مصر أو اليمين. وجدير بالملاحظة تماهي العسكر في عدد من البلدان العربية مع النظام لفترة طويلة، بحيث قبلت المؤسسة العسكرية وفق اتفاق غير مكتوب مع السلطة، الابتعاد عن المشاركة في صياغة السياسة الخارجية مقابل تحقيق مكاسب مادية كثيرة، وامتيازات اقتصادية عديدة. وقد حاول الجيش أن يحمي الأنظمة ويتحايل على الوضع ويجهض الثورات، بل وتصادم معها بالفعل كما حدث في مصر واليمن وسوريا على سبيل المثال.

أشار المتدخلون إلى أن جل البلدان العربية عرفت حركات سياسية إسلامية ذات طبيعة إصلاحية من أشهرها تنظيم الإخوان المسلمين، ورغم أن الإخوان لم يكونوا حركة ثورية، فقد أسهموا في النضال السياسي لإسقاط النظم الاستبدادية. لكن الحصار الطويل الذي فرض عليهم، وإقصائهم لفترة طويلة جعل منهم قوة متمرسة في معارضة ومقارعة النظام، لكنها ضعيفة الأداء والكفاءة في إدارة الشأن العام. ولا يخفى على المتخصصين أن علاقة الحركات الإسلامية، وفي مقدمتها تنظيم الإخوان، مع الجيش تراوحت خلال مراحل عديدة من وجودها ونضالها السياسي بين المهادنة حينا والصدام حينا آخر. كما سعى الجيش من جهته إلى التحالف معها ضد التيارات الليبرالية واليسارية تارة، والانقلاب عليها تارة أخرى. و تقدم الثورات العربية الأخيرة أفضل مثال على هذه العلاقة المتقلبة والمتوترة بين الإسلاميين والجيش. لقد حاول العسكر على سبيل المثال سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين في اليمن باستخدام القوة، وفي مصر بالإعلان الدستوري المكمل، قبل أن يقيل الرئيس الإسلامي المنتخب قيادات العسكر في خطوة تمثل علامة فارقة في العلاقة بين الإسلاميين والجيش.

أما اليوم، فيسعى الإسلاميون الذين وصلوا إلى الحكم في البلاد العربية، سواء تلك التي عرفت ثورات شعبية أو التي اختارت طريق الإصلاحات السياسية، إلى إقامة علاقات من نوع جديد بين الحكم المدني والعسكر، هدفها تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر. لكن يبقى أمام الإسلاميين وهم في الحكم ملفات شائكة يمكن أن تكون مصدر التوتر في تلك العلاقة، أهمها: موقع المؤسسة العسكرية من السلطة، وميزانية الجيش، والحصانة القضائية للنخبة العسكرية(12).

المشروع الاقتصادي الإسلامي: الواقع والتحديات

أجمعت مداخلات المشاركين في الندوة على كون الاقتصاد يمثل التحدي الأكبر أمام الإسلاميين الذين تسلموا السلطة في بلدان "الربيع العربي"، كما يبدو أن هناك اتفاقا على أنهم تعاملوا مع المسألة الاقتصادية دون النفاذ لحقائق الواقع، وهم مطالبون اليوم بالانتقال من التنظير إلى التجسيد. يحدث ذلك في ظل تنامي المطالب الاجتماعية بعد الثورة، وتراجع خطير للنمو الاقتصادي يهدد بنتائجه السلبية وضع البلاد عموما. لا يتوانى الإسلاميون في تأكيد نيتهم على إدارة الاقتصاد وفق تعاليم الإسلام، لكن ما هي حظوظهم في تحقيق هذا الهدف؟ وهل ينجحون فعلا في تطبيق نظام اقتصادي يتوافق مع الشريعة، ويلبي بذات الوقت تطلعات الشعوب، ويستجيب لتحديات المحيط الخارجي وضغوطه؟ تلكم هي أسئلة جوهرية وحاسمة مطروحة أمام الإسلاميين بعد تسلمهم السلطة، كما أشار العديد من المشاركين.

ويكاد يجمع المتدخلون العارفون بالشأن الاقتصادي على أن ما تقدمه تجربة الإسلاميين اليوم ليس اقتصادا متكاملا، بقدر ما هو جملة من التطبيقات الجزئية، وهو ما يعني أن التحدي ما زال قائما أمام الإسلاميين لتطبيق نموذج الاقتصاد الإسلامي الموجود في نظرياتهم السياسية. لكن دون ذلك تركة ثقيلة، وتحديات كبرى وجسيمة داخلية وخارجية منها: أن اقتصادات دول "الربيع العربي" تعتمد على الخارج سواء كمعونات أو تبادل تجاري، ثم ارتفاع معدلات البطالة البالغة حوالي 25% في تلك البلدان، والتضخم الكبير في النفقات العامة، والنقص الحاد في الإيرادات، فضلا عن تبعية الاقتصادات العربية وارتهانها للمؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدول(13)، وبالتالي صعوبة، بل استحالة تطبيق نظام اقتصادي منفرد كالاقتصاد الإسلامي. يضاف إلى ذلك اتهام التيارات السياسية الأخرى للإسلاميين بالسعي للتفرد بالسلطة واختزال الدولة في الحزب الحاكم. لكن رغم ما قد يتضمن هذا القول من مبالغة، فإنه يجد مسوغا له في التصرفات غير الرشيدة للحكومات الجديدة، وتفردها ببعض القرارات التي تمس المصلحة العامة، وكذلك قصر فترة الحكم الديمقراطي، و ضعف نظام المشاركة والتناوب على السلطة، وقلة خبرة التيارات الإسلامية في إدارة الشأن العام عموما، والاقتصاد خصوصا.

الإسلاميون في حلبـة العلاقات الدولية: الفرص والقيود

أكد المتدخلون أن خطاب الإسلاميين صريح في رسم طبيعة العلاقة مع الآخر أو الغرب بحيث تنطلق من محددات واضحة مؤسسة على المرجعية الإسلامية ممثلة في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، وقول الرسول: (الحكمة ضالة المؤمن، فأنى وجدها فهو أحق بها). وعلى الرغم من أن طبيعة العلاقة بين الإسلاميين وهم في الحكم والغرب ستكون محكومة بقواعد القانون الدولي والأعراف المرعية في العلاقات بين الشعوب والأمم التي سبق للإسلام أن وضع كثيرا من قواعدها حرباً وسلما(14). فإن موقف الإسلاميين من الغرب وموقف الغرب منهم ما يزال محكوماً برواسب دينية تاريخية، ورهينة رؤى وتصورات نمطية من كلا الطرفين، وبالتالي بحاجة للتصحيح من خلال الحوار. وبالرغم من تأكيد الإسلام على حفظ العهود والمواثيق لتقوية الأواصر بين الأمم، وتحقيق التقارب بينها، وأن العهود تكتسب أهميتها مما تتضمنه من غايات وأهداف، وأن قوتها تكمن في الالتزام بها وقيامها على العدل والإنصاف، إلا أن الإسلاميين يقرون أيضا بأن المعاهدات تعكس موازين القوى السائدة، وتبقى مؤقتة، لغاية امتلاك أحد الأطراف فرصة إعادة النظر فيها. ولعل ذلك بالضبط، كما يقول الملاحظون، ما لم يسمح للإسلاميين بإقامة علاقات إقليمية ودولية قوية نتيجة الهيمنة الأميركية ومساندتها لإسرائيل، باستثناء علاقات محدودة ومضطربة مع إيران وتركيا.(15)

ومع ذلك يجمع المتدخلون في الندوة على أن "الربيع العربي" فتح صفحة جديدة أمام الإسلاميين لإقامة علاقات متوازنة، والبحث عن وحدة وتنسيق على المستويين الإقليمي والدولي، كما حصل بين تونس والمغرب، ومشاركة مصر في مؤتمر دول عدم الانحياز بطهران، وتفعيل العلاقات بين البلدين بعد جمود طويل. ومع ذلك تبقى أمام الإسلاميين معضلات عديدة مثل التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي الذي يرى فيه الإسلاميون مسألة مبدأ يقضي بعدم الاعتراف بالدولة الصهيونية انطلاقاً من مرجعية الثقافة الإسلامية من جهة، وضرورة الإذعان لمقتضيات المعاهدات والمواثيق الدولية من جهة أخرى. ويبدو أن ثورات "الربيع العربي" وضعت جميع الأطراف بمن فيهم الإسلاميين (بخاصة حركة حماس في غزة، وحركة الإخوان المسلمين)، وإسرائيل وكذلك الدول التي تحمي المشروع الصهيوني في مأزق. وسيبقى الجدل قائما حول الثابت والمتغير في موقف الإسلاميين بشأن هذه القضية والبدائل المتاحة لهم، لأن فلسطين تمثل المسألة الكبرى في راهن هذه المنطقة ومستقبلها.

وجدير بالإشارة إلى حدثين مهمين رافقا هذه الندوة، يتمثل الأول في إطلاق كتاب "الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام" من تأليف زعيم حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي، وقد جرى حفل توقيع نسخ من الكتاب من طرف المؤلف في منتصف اليوم الأول. أما الحدث الثاني الذي جرى أيضا في نهاية اليوم الأول من الندوة، فتمثل في حلقة نقاشية مفتوحة بعنوان "حوار مفتوح حول سورية" شارك فيها كل من د. برهان غليون، وعلي صدر البيانوني، وعبد الوهاب بدرخان، وأدار النقاش د. بشير نافع.
____________________________________
أ‌. د/ العياشي عنصر- أستاذ علم الاجتماع

الهوامش
1- مأخوذة بتصرف عن راشد الغنوشي، "المرحلة الانتقالية.. إشكالات وتحديات"
2- مأخوذة عن مداخلة راشد الغنوشي، مرجع سابق
3- الغنوشي، نفس المرجع
4- فهمي هويدي، "قضايا المواطنة"
5- الحاج علي الوراق "الحقوق السياسية في سياق صعود الإسلاميين"
6- الحاج على الوراق، نفس المرجع
7- محمد المختار الشنقيطي، "تطبيق الشريعة في مجتمع حر"
8- محمد المختار الشنقيطي، نفس المرجع
9- عن ورقة محمد الملكي "إدارة التعددية والتوافق السياسي"
10- محمد الملكي، نفس المرجع
11- شير نافع في كلمة الجلسة الختامية للندوة "حوار مفتوح وخلاصات"
12- صفوت الزيات، علاقة الإسلاميين بالمؤسسة العسكرية
13- السنوسي البسيكري، "أي دور للاقتصاد الإسلامي في مشروع الإسلاميين"
14- علي صدر الدين البيانوني في مداخلته؛ "علاقة الإسلاميين مع الغرب والقوى الصاعدة"
15- عزام التميمي في ورقته؛ "الصراع العربي الإسرائيلي"

للعودة لتقرير أعمال الندوة إضغط هنا