ست سنوات على الربيع العربي: نجاح نسبي في تونس وتعثر وانكسار في باقي التجارب

23 January 2017
fc85c525094d433a9e3545b10edf76a9_18.jpg
ست سنوات على الربيع العربي : نجاح نسبي في تونس وتعثر وانكسار في باقي التجارب (الجزيرة)

مقدمة

قبل ما يزيد عن ست سنوات أطلقت تونس شرارة التغيير في العالم العربي أو ما سمَّاه البعض الربيع العربي، فقد لحقت بها بعد أيام مصر ومن ثم اليمن وليبيا وسوريا. القاسم المشترك بين شعوب كل هذه الدول كان رغبتها في الحرية والعيش بكرامة وإسقاط الاستبداد؛ وهذا ما أوحى بأننا إزاء ربيع عربي واحد ستتشابه مساراته ومآلاته نحو إقامة أنظمة ديمقراطية تحترم الحريات وتحترم إرادة شعوبها. إلا أن خصوصية كل بلد من هذه البلدان الداخلية والإقليمية أعادت رسم مسارات هذه الموجة الثورية في اتجاهات متباينة، وهو ما تجلَّى في المآلات التي وصلت إليها في كل دولة على حدة. فقد انكسرت الثورة في مواجهة الثورة المضادة في بعض هذه الدول مثل مصر، وتحول بعضها إلى حرب مسلحة في البعض الآخر كما حدث في سوريا وليبيا، وهذا ما أعاد صياغة الاصطفافات الداخلية وحتى الثورية لكل بلد وعلاقاته الخارجية بشكل مغاير عن البلد الآخر.

 

وفي ظل كل هذه المتغيرات والتحولات التي شهدتها مسيرة التغيير، تبدو التجربة التونسية، رغم كل العثرات والعقبات وحتى الخيبات، التجربة الأكثر إلهامًا وربما إنجازًا، من بين كل تجارب التغيير العربية. فقد نجح التونسيون ليس فقط في إسقاط الاستبداد ممثَّلًا في نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ولكنهم تمكنوا عبر مسار شاق، من الحفاظ على مسار التحول الديمقراطي السلمي، ما مكنهم من إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية نزيهة، وصياغة دستور توافقي يحافظ على مكتسبات الثورة ويرسِّخ لمسيرة هذا التحول نحو المستقبل. لكن التجربة رغم هذا النجاح النسبي لا تزال تواجه عقبات ومطبات صعبة تهدد بإجهاض ما تحقق من مكتسبات، وعلى رأس هذه المهدِّدات الوضع الاقتصادي بالغ الصعوبة والذي تمثل في تراجع معدلات النمو وارتفاع نسبة البطالة بين الشباب التونسي، فضلًا عن التحديات الأمنية وتنامي الخطر الذي تمثِّله الجماعات المتشددة، لاسيما في ظل بيئة إقليمية متوترة وغير مستقرة بالنظر لما يجري في ليبيا المجاورة.

 

فكيف تبدو تجربة تونس بعد ست سنوات على ثورتها؟ وإلى أي حدٍّ نجح التونسيون في إنجاز بعض مما نادت به الثورة؟ ولماذا تحقق هذا النجاح النسبي في تونس ولم يتحقق في ثورات مشابهة مثل مصر على سبيل المثال؟ وهل يمكن الآن الحكم على نجاح أو فشل هذه الثورات أم أن الوقت لا يزال مبكرًا على ذلك؟ وكيف تبدو آفاق ومآلات التغيير في العالم العربي؟ وما الدروس المستفادة من كل ما جرى في السنوات الست الماضية؟ هذه التساؤلات كانت محورًا للنقاش بين المشاركين في الندوة النقاشية التي نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر بمشاركة كلٍّ من الدكتور رفيق عبد السلام، الباحث والمفكر السياسي ووزير الخارجية التونسي السابق، والدكتور طارق الزمر، رئيس حزب البناء والتنمية من مصر، والدكتور العربي صديقي، الباحث السياسي والأكاديمي التونسي، والدكتور زياد ماجد، الباحث والأكاديمي اللبناني.

 

 

الحكم على ثورات الربيع العربي

رغم مرور ست سنوات على اندلاع شرارة التغيير في البلدان العربية إلا أن المشاركين في الندوة اعتبروا أن الوقت لا يزال مبكرًا للحكم على نجاح أو فشل ثورات الربيع العربي، فلا يمكن الحكم على الثورة التونسية بأنها نجحت تمامًا، ولا الحكم على باقي الثورات بأنها فشلت، ومن ثم فإن المشهد يبدو بعد هذه السنوات أمام نجاح نسبي هنا وانكسار وتعثر هناك. وفي هذا الإطار، أكد الدكتور رفيق عبد السلام أن تقييم ما جرى والحكم عليه نجاحًا أو فشلًا يبدو غير ممكن في فترة زمنية قصيرة، فالثورات تعيش دائمًا مسار تحول كبيرًا وطويلًا وعاصفًا يستغرق فترات طويلة. ويرى عبد السلام أنه لا يمكن الفصل بين مآلات ثورات الربيع العربي عن بعضها البعض، رغم خصوصية كل تجربة واختلاف ظروفها وسياقاتها الداخلية عن الأخرى، فالجغرافيا السياسية شديدة الترابط للمنطقة العربية، والطموحات والتطلعات المتشابهة للشعوب العربية وعدم الرضا عن الأوضاع القائمة، كل ذلك يجعل جذوة التغيير مستمرة ومتواصلة في المنطقة لحين تحقيق الأهداف التي خرجت الجماهير من أجلها.

 

الرأي نفسه شدَّد عليه الدكتور طارق الزمر وهو يقدِّم مقارنة بين ما حدث في التجربتين التونسية والمصرية؛ إذ اعتبر أن من السابق لأوانه القول بأن الثورة نجحت في تونس بقدر ما أنه من المبكر الحكم على أن الثورة المصرية قد فشلت، فما يحدث في مصر من فشل، كما يقول الزمر، من قِبل النظام الحاكم حاليًّا في تحقيق الأمن والاستقرار وحتى المطالب الاقتصادية والاجتماعية هو دليل على أن الثورة المصرية كشفت حجم العجز والفساد الذي كانت تعيشه الدولة المصرية في ظل حكم المؤسسة العسكرية على مدى السنوات الماضية.

 

 

الثورة التونسية: نجاحات وتحديات

من بين كل ثورات الربيع العربي تبدو التجربة التونسية هي الأكثر إنجازًا وإلهامًا حتى الآن وذلك يعود لجملة من العوامل التي مكَّنت التونسيين من تحقيق مكتسبات سياسية مهمة رغم كل العقبات والعثرات التي مرَّت بها هذه الثورة ورغم ما يراه البعض من عودة لرموز ووجوه النظام القديم لسدة السلطة. وفي هذا الإطار، يعتبر الدكتور رفيق عبد السلام أن أهم إنجاز حققه التونسيون في ثورتهم كان على الصعيد السياسي، وتَمَثَّل في سَنِّ دستور توافقي حظي بإجماع غير مسبوق من قبل التونسيين، وضَمِن الحريات العامة والخاصة، بالإضافة إلى عدد من المؤسسات الرقابية التي تم تأسيسها بعد الثورة، مثل: المجلس الأعلى للقضاء، والهيئة المستقلة للانتخابات، والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، وكلها مؤسسات مستقلة ومنتخبة. وتتجسد أهمية هذه المكتسبات في أنها تضمن عدم عودة الاستبداد أو احتكار السلطة من قبل طرف بعينه وهو المكسب الأهم الذي حققه التونسيون.

 

لكن عبد السلام أقرَّ بأن مسار الثورة التونسية يواجه تحديات وعقبات كبيرة، فمقارنة بالإنجاز الذي تحقق على المستوى السياسي، لم يحدث تغيير يُذكَر على صعيد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للتونسيين. فالأوضاع الاقتصادية صعبة والبطالة في تزايد وهناك تراجع في معدلات النمو والاستثمارات، وكل ذلك يجعل عموم التونسيين لا يشعرون بثمار الثورة أو بأن شيئًا تغيَّر في أوضاعهم المعيشية والاقتصادية. كما يشير الدكتور عبد السلام إلى التحدي الأمني الذي تواجهه تونس حاليًّا، لاسيما في ظل وضع إقليمي غير مستقر ويتمثل في الوضع الراهن في ليبيا والانتشار الواسع للسلاح، والخطر الذي تُشكِّله الجماعات المتشددة على استقرار البلاد.

 

وفي هذا الإطار، قدَّم الدكتور العربي صديقي قراءة مختلفة فيما حققته الثورة التونسية من مكتسبات بعد ست سنوات، فأوضح أن تونس نجحت بعد الثورة في إنجاز الديمقراطية الإجرائية وهو ما تمثَّل في الانتخابات النزيهة والتعددية السياسية، لكن ذلك لا يعني أنها نجحت في ترسيخ قيم وثقافة الديمقراطية في المجتمع والنظام، التي تتمثل في التسامح والتواضع وقبول الآخر والقدرة على محاسبة الذات وإدارة الخلافات. فهذه القيم، في رأي صديقي، هي المعيار الأهم للحكم على نجاح الثورة من عدمه وليس وجود نخبة سياسية جديدة أو بقاء النخب والوجوه القديمة في المشهد السياسي. وبهذا المعنى يرى صديقي أن الثورة في تونس كانت ثورة سياسية أكثر من كونها ثورة معرفية أو ثورة قيم ديمقراطية.

 

 

ما بين التجربتين المصرية والتونسية

في مقارنته بين التجربتين التونسية والمصرية، أوضح الدكتور طارق الزمر أن هناك فروقًا أساسية أدت إلى النجاح النسبي الذي حققته الثورة في تونس مقارنة بما جرى في مصر، وفي مقدمة هذه الفروق، كما يرى الزمر:

  • موقف المؤسسة العسكرية في البلدين؛ ففي حين لم تنخرط المؤسسة العسكرية التونسية في السياسة ولم تتورط في إجهاض الثورة، حدث العكس في مصر.

  • الاختلاف بين موقف الطبقة السياسية العلمانية في البلدين من الاستبداد؛ ففي حين كانت الطبقة العلمانية التونسية أكثر انحيازًا لإسقاط الاستبداد والانتصار للديمقراطية، تحالفت النخبة العلمانية في مصر مع المؤسسة العسكرية لإعادة الاستبداد.
  • درجة ومستوى التعليم في تونس كانت أعلى من مصر وهو ما أسهم في نشر الوعي بالثورة بينما استغلت الثورة المضادة ارتفاع درجة الأمية والفقر في مصر لإجهاض الثورة.
  • فشل التيار الإسلامي في مصر في تحقيق توافق سياسي مع القوى السياسية والأخرى كما فعلت حركة النهضة في تونس والتي قدمت تنازلات لإنجاح مسار الثورة.
  • رأس الذئب الطائر الذي تمثَّل في الانقلاب العسكري في مصر كان رسالة قوية شكَّلت أحد العوامل الأساسية التي دفعت التونسيين للتوافق لإنقاذ الثورة ومنع تكرار السيناريو المصري في تونس.

وقد اتفق الدكتور رفيق عبد السلام مع الدكتور الزمر لاسيما فيما يتعلق بدور الجيش في البلدين؛ حيث أوضح أن تونس ليس لديها تقاليد عسكرية عميقة كما هي الحال في مصر، بل إن الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، قام بتحييد الجيش عن أي دور سياسي، وكان أكثر اعتمادًا على القوى الأمنية الأخرى، وبالتالي لم يقم الجيش بدور سياسي. كما أن النخبة السياسية المدنية هي التي قادت حركة النضال للتحرر من الاستعمار الفرنسي على عكس ما حدث في مصر حين قاد الجيش ما بعد 1952 مفاوضات الجلاء البريطاني عن مصر. يضاف إلى ذلك أيضًا أن التوافق بين القوى والنخب السياسية في تونس غاب النخب المصرية.

وإلى جانب هذه الفوارق الجوهرية بين التجربتين التونسية والمصرية، عدَّد الدكتور الزمر الأخطاء التي وقعت فيها الثورة المصرية، وأهمها: القبول بتولي المجلس العسكري إدارة المرحلة الانتقالية التي أعقبت رحيل الرئيس الأسبق، حسني مبارك، وعدم استثمار الزخم والخروج الجماهيري الهائل للمصريين في إنجاز التغيير، والخطأ الثالث هو عدم استغلال الإنجاز الذي تحقق في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2012، والتي شارك فيها 33 مليون ناخب في حدث غير مسبوق، لإقرار العديد من التشريعات والقوانين التي كان يمكن أن تقطع الطريق أمام الثورة المضادة، والخطأ الرابع كان عدم استثمار نجاح الدكتور محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية وما مثَّله من شرعية ثورية لتحقيق أهداف الثورة.

 

ورغم كل هذه الأخطاء التي أدت لانكسار حركة التغيير في مصر وعودة النظام القديم، يرى الزمر أنه إذا كان من الممكن القول: إن الثورة التونسية قد نجحت، فإن الثورة في مصر لم تفشل بعد، فقد حققت أهدافًا كبرى، أهمها: كسر حاجز الخوف، وإسقاط رأس النظام القديم، وتوحيد المصريين حول هذا الهدف، كما كشفت عن حجم الجرم والفساد الذي كانت تجلس فوقه الدولة المصرية في ظل الحكم السابق. وأوضح الزمر أن هناك عددًا من الشروط الضرورية لكي تنجح الثورة المصرية في الوصول إلى أهدافها، وأهمها: معالجة الانقسامات والوصول إلى حالة من التوافق السياسي بين القوى المصرية، ومعالجة الانقسام والمصالحة المجتمعية، ووجود مشروع سياسي توافقي جامع لاستكمال أهداف الثورة حول العدالة الانتقالية وشكل الدولة المصرية في المستقبل.



الثورة السورية

الثورة السورية كانت حاضرة بقوة في النقاش بين المشاركين في الندوة، وكان السؤال الأساسي في هذا الإطار عن الأسباب التي دفعت الثورة في سوريا لأن تتحول من حراك شعبي سلمي مشابه لما جرى في تونس ومصر، إلى ثورة مسلحة وحرب دامية. وقد حاول الدكتور، زياد ماجد، الإجابة على هذا السؤال من خلال تقديم مقارنة بين ما جرى في كل من تونس ومصر وما حدث في سوريا، موضِّحًا أن هناك العديد من العوامل التي أسهمت في أن تـأخذ الثورة السورية هذا المسار الدامي، وعلى رأسها درجة القمع الذي قوبلت به احتجاجات السوريين من قبل النظام، وموقف الجيش السوري مقارنة بموقف الجيش في تونس وحتى في مصر بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني، فلم يتصرف الجيش السوري في مواجهة الشعب كجيش للدولة السورية بل كجيش للعائلة الحاكمة، وهو ما جعله يستخدم كل هذا العنف والقتل للسوريين.

 

ويضيف الدكتور، زياد ماجد، أن ثمة عوامل أخرى أدت لهذا المسار الدامي للثورة السورية تتعلق بتركيبة المجتمع السورية الطائفية والعِرقية وهو أمر يختلف عن طبيعة التركيبة المجتمعية في تونس وهو ما أسهم في تعقيد الأزمة السورية، فضلًا عن ذلك، فإن حجم التدخل الإقليمي والدولي في سوريا والذي تمثَّل في الدورين الإيراني والروسي، وحجم الخراب والدمار الذي لحق بالمدن والمناطق السورية، أدَّى إلى إطالة أمد الثورة وجعلها تتحول لحرب مسلحة بين النظام ومعارضيه.

وتطرق الدكتور، زياد ماجد، إلى الموقف الغربي من حركة التغيير في العالم العربي ولاسيما الثورة السورية، فأوضح أن هناك أكثر من موقف في الغرب، فهناك من أيَّد ودعم التحول الديمقراطي في الدول العربية، وهناك تيارات سياسية غربية تعتبر أن الديمقراطية في العالم العربي غير ممكنة سواء بسبب ما تعتبره قيمًا دينية إسلامية لا تتوافق مع الديمقراطية أو بسبب الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وبالتالي تفضِّل بقاء النظم الاستبدادية وهي في ذلك تتبنى نظرة عنصرية تجاه العالم العربي.

وأشار ماجد إلى أن التعقيدات السياسية والجيوسياسية التي تحيط بالثورة السورية سواء بالنظر للحدود مع إسرائيل والعراق والحدود التركية-الكردية وصعود تنظيم داعش، كلها عوامل جعلت النظرة للثورة والتعامل معها من منظور أمني وليس سياسيًّا وهو ما انعكس على حجم التأييد والدعم الغربي للتحول السياسي في سوريا وهو ما انتهى إلى الصمت على حجم الجرائم التي تُرتكَب ضد الشعب السوري وحتى القبول ببقاء نظام بشار الأسد. بل إن التأييد الغربي، يضيف ماجد، لباقي الثورات العربية تراجع بشكل واضح فرغم الدعم المعلن من قبل الدول الغربية لتونس إلا أن ذلك لم ينعكس في خطوات عملية في صورة مساعدات أو قروض أو إسقاط للديون التونسية كخطوات لازمة لدعم تجربة التحول في تونس.

 

 

خلاصة

رغم القراءات المختلفة التي قدمها المشاركون في الندوة حول ما حققه الربيع العربي وما شهدته السنوات الست الماضية من نجاحات وإخفاقات في مسار التغيير في البلدان العربية، إلا أن القاسم المشترك بين الجميع كان التأكيد على أن حركة التغيير في العالم العربي لم تصل بعد إلى طريق مسدود وأن الوقت لا يزال مبكرًا جدًّا للحكم على ما جرى نجاحًا أو فشلًا، وأنه طالما بقيت الأسباب التي دفعت الجماهير للخروج إلى الشوارع مطالبة بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم، فإن حركة الثورة ستبقى مستمرة وممتدة حتى تتحقق هذه الأهداف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مركز الجزيرة للدراسات