توازن قوى أم توازن تهديدات في شرق أوسط مضطرب؟

27 June 2018
a70c43d584b549c59ffec8b8f9d61d68_18.jpg
من اليمين إلى اليسار: روس هاريسون، قدير أوستون، خالد جابر، سوزان مالوناي (الجزيرة)

نظَّم مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع كلية الدراسات الدولية المتقدِّمة في جامعة جونز هوبكنز، في 12 يونيو/حزيران 2018، ندوة بعنوان "تشكيل توازن قوى جديد في الشرق الأوسط: اللاعبون الإقليميون، القوى الدولية واستراتيجية الشرق الأوسط". شملت الندوة عدة جلسات حوارية تناولت ديناميات الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، والفاعلين غير الحكوميين وسياسات الظل، واستدامة توازن القوى وتحول أدوار القوى القادمة من خارج الإقليم. وشارك في النقاش ثلَّة من الباحثين الأكاديميين والمحللين والدبلوماسيين من الولايات المتحدة والخليج وتركيا والشرق الأوسط والمغرب العربي.

وتمهيدًا لتحليل الوضع الجيوسياسي الحالي، ركزت الندوة على عدة نقاط: كيف ولماذا تعاني منطقة الخليج والشرق الأوسط نوبة صراعات انخرطت فيها، بشكل عملي، كل دول المنطقة بالإضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا وعدد من الفاعلين غير الحكوميين من مختلف المشارب؟ وما الديناميات التي أدت إلى هذه الفوضى؟ وما الذي يمكن عمله لاحتواء الأضرار أو العودة إلى الوضع السابق؟ وكيف يمكن إقامة توازن قوى جديد؟

افتتح الدكتور عز الدين عبد المولى، مدير البحوث في مركز الجزيرة للدراسات، الندوة بمداخلة مفصلة قدَّم في قسمها الأول تعريفًا بالمؤسسة التي يشرف فيها على إدارة البحوث، وأورد في القسم الثاني ملاحظاته حول ديناميات الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، وبيَّن أهمية مفهوم "توازن القوى" في المقاربة الواقعية لنظرية العلاقات الدولية.  

 أُسعدتم صباحًا جميعًا وشكرًا لكم على تشريفكم لنا بالحضور والمشاركة في هذه الندوة. الشكر موصول أيضًا لكم دكتور سَرْوار على كلمة التقديم. اسمحوا لي بدوري أن أقدِّم لكم المؤسسة التي أنتمي إليها في كلمات مختصرة.

مركز الجزيرة للدراسات هو مركز بحوث ودراسات علمية متخصصة، وهو يمثِّل الجناح البحثي لشبكة الجزيرة الإعلامية عقب تأسيسه قبل ما يزيد عن عقد من الزمان. وتمكَّنَ من فرض نفسه ضمن أفضل عشر مؤسسات بحثية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقد صنَّف مؤشر بنسلفانيا، لتصنيف مراكز البحوث ومنظمات المجتمع المدني، مركز الجزيرة للدراسات في المرتبة الخامسة، للسنة الرابعة على التوالي، من بين أكثر من 500 مركز بحوث في المنطقة خلال 2017. بالإضافة إلى ذلك، جاء مركزنا في المرتبة الأولى متقدمًا على كل المراكز الناشطة في منطقة الخليج العربي، والتي تضم أكثر من 60 مركزًا بحثيًّا. نفخر أيضًا كوننا المركز البحثي العربي الوحيد الذي صُنِّف ضمن قائمة أفضل معايير ضمان الجودة ونزاهة السياسات والإجراءات، وفقًا لمؤشر بنسلفانيا ذاته.  

أصدر مركز الجزيرة للدراسات ما يزيد عن 100 كتاب تناولت قضايا متنوعة تتعلق بجيو-سياسة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هذا إلى جنب نشر آلاف التحليلات والأوراق البحثية التي يمكن الاطلاع عليها مجانًا على موقع المركز على الشبكة العنكبوتية باللغتين العربية والإنجليزية. منتدى الجزيرة هو الحدث الأبرز الذي ينظمه المركز سنويًّا، ويجمع فيه مئات الأكاديميين والسياسيين وصناع السياسات من مختلف دول العالم لمناقشة وتطارح الأفكار حول قضايا سياسية إقليمية ودولية متنوعة.    

تتنوع شراكاتنا وبرامجنا للتعاون في المركز لتشمل قائمة طويلة من المؤسسات المرموقة والمؤثرة.ومن بين شركائنا جامعة كامبريدج في المملكة المتحدة؛وقد انتهينا لتوِّنا من إنجاز مشروع بحثي، استغرق منَّا أربع سنوات، تناول بالبحث والتحليل أداء وسائل الإعلام خلال التحولات السياسية. وتغطي الدراسة الموسعة ثلاثة بلدان، هي: تونس والمغرب وتركيا.كما نظَّم مركزنا ندوات مشتركة مع المعهد الأوروبي للبحر المتوسط (IEMED) في إسبانيا، ومنتدى صوفيا في دولة بلغاريا، وندوة مع معهد دراسات السلام في الخرطوم بالسودان...وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

وها نحن ننظم اليوم هذا الملتقى المهم هنا في واشنطن، وتحديدًا في جامعة جونز هوبكنز بالشراكة مع أصدقائنا في كلية الدراسات الدولية المتقدِّمة، وهي مؤسسة مرموقة تشهد لها بذلك نجاحاتها الأكاديمية وأنشطتها البحثية في مجال الدراسات والعلاقات الدولية. وأتمنى صادقًا أن يتعمَّق هذا التعاون بين مركز الجزيرة للدراسات وكلية الدراسات الدولية المتقدمة باعتباره صيغة واعدة لالتزام المؤسسات البحثية الإيجابي بمد جسور بين الجنوب والشمال، أو بين الشرق والغرب.

نحن اليوم نعيش في عالم ما بعد العولمة حيث لا تتأثر قرارات صانعي سياساتنا فحسب، بل وحياتنا الشخصية أيضًا بالأحداث اليومية والقرارات المتخَذة حيالها في عواصم تبعد عنَّا آلاف الأميال. وباعتبارنا باحثين ومحللين وصانعي رأي عام، نجد أنفسنا في مواجهة تحديات متشابهة. كما نتشاطر نفس الرغبة في تقديم مساهمة أفضل من أجل صياغة سياسات عامة مستنيرة وأكثر وعيًا بالواقع في الغرب والشرق على حدٍّ سواء. لا شك في أن الرهانات كبرى ويُنتظر من الأكاديميين ومراكز البحوث، الآن أكثر من أي وقت مضى، المساعدة في استعادة الرشد وإفساح المجال أمام السياسات الأخلاقية.

من اليمين إلى اليسار: فاطمة أبو الأسرار، دانيال سِرْوار، رندا سليم، كريسبن سميث، أنور بو خارص (الجزيرة)

 اسمحوا لي الآن، في الشق الثاني من كلمتي، بإضافة بعض الكلمات حول محاور ندوتنا هذه.

 ديناميات الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط
لماذا نحن بصدد مناقشة ظهور توازن جديد للقوى؟ ببساطة، لأن منظومة القوى الإقليمية القديمة، التي عرفناها خلال القرن المنصرم، لم تعد قابلة للتماسك بعد الآن. فقد شارفت على بلوغ حدِّها الأقصى من مراوحة المكان والاختلال الوظيفي. فخلال السنوات الأخيرة لم تتوقف هذه المنظومة عن إنتاج الفوضى وعدم الاستقرار والإرهاب والصراعات العنيفة في كامل منطقة الشرق الأوسط. في الواقع، إن الحقائق الجيوسياسية والديناميات الجديدة تستحق منَّا اهتمامًا دقيقًا ونحن نحاول فهم هذا التحول من نظام اعتدنا عليه إلى نظام آخر، أو نظم أخرى، لا تزال في طور التشكيل.

لقد تجاوزنا زمن احتكار الدول "الكبرى" تقليديًّا للقوة والتأثير في ذلك الجزء من العالم. بالفعل، إن القوة والتأثير لم يعودا بعد اليوم حكرًا على الدول مع الانتشار الهائل للفاعلين غير الحكوميين وتنامي أدوارهم. لقد تراجعت، بشكل ملحوظ، تلك الأدوار التقليدية التي كانت تلعبها دول مثل مصر والعراق وسوريا والسعودية العربية والجزائر، وهي الدول التي كانت تمثِّل قوى رائدة في منطقتي المشرق والمغرب العربيين.

لا يزال العراق يعاني أشكالًا مختلفة من العنف والطائفية السياسية والإرهاب واستشراء الفساد، خاصة منذ غزوه عام 2003.     

أما مصر، فقد فشلت في تحويل ثورة عام 2011 إلى نظام ديمقراطي ونمو على المستوى الاقتصادي، كما فشلت أيضًا في استحقاق الاستثمار في القوة الحقيقية سواء أكانت صلبة أم ناعمة. وبعد ذلك الفشل، حوَّل النظام المصري بوصلته إلى الداخل فحارب الإرهاب داخل حدود الدولة وقمع المعارضة السياسية ومنظمات المجتمع المدني، فكانت النتيجة خسارة مصر لموقعها وتأثيرها لصالح دول أصغر منها بكثير في المنطقة. أما سوريا فتحولت، على امتداد السنوات السبع الماضية، إلى ساحة معركة يشارك فيها العديد من الفاعلين غير الحكوميين والقوى الإقليمية والعالمية على حد سواء.ويظل النظام السوري يصارع من أجل الحفاظ على سيادته واستعادة سيطرته على الأراضي الشاسعة التي خسرها أمام تلك القوى المتنافسة.أما الجزائر فهي في حالة انتظار.

من جهتها، تخوض السعودية معارك داخلية وخارجية على حد سواء. ومع ذلك، فإن النتائج تبدو، في أقل التقديرات، غير مؤكدة على كلتا الجبهتين.أما مجلس التعاون الخليجي، الذي كان يمثِّل فيما مضى مؤسسة مهمة لتمرير النفوذ السعودي، فقد بات منذ بداية أزمة الخليج وحصار قطر، قبل أكثر من عام، في حالة موت سريري.من ناحية أخرى، تقوم الدول الصغيرة الناشئة، مثل الإمارات وقطر، بأدوار أكثر أهمية داخل المنطقة وخارجها، حيث يمتد تأثيرهما إلى أبعد من حدودهما الجغرافية.

في شمال إفريقيا، نجد تونس، البلد الذي أنتمي إليه، وهو بلد آخر صغير لكنه قام بدور حاسم في التطورات التي يمر بها العالم العربي حاليًّا. فقد كانت تونس مهد ولادة الربيع العربي وكل الآمال التي حملها معه. ربما يبدو من المبكر بعض الشيء تصور الأثر الحقيقي، وسط هذه الفوضى العارمة، للنموذج السياسي الديمقراطي الذي تكافح تونس من أجل إقامته.

إقليميًّا، لا تفتأ قوة إيران وتركيا في ازدياد، وقد بات حضورهما وتأثيرهما في جل الصراعات القائمة في الشرق الأوسط باديًا للعيان. لقد أصبح التداخل والتنافس بين أدوار ومصالح هاتين القوتين الإقليميتين، بالإضافة إلى القوى الكبرى (أميركا وروسيا)، في ازدياد مستمر، وهو ما يضفي مزيدًا من التعقيد على الحقائق القائمة حاليًّا على الأرض.

على عكس النظام الإقليمي القديم الذي رسمته، في الأساس، قوى أجنبية (وأشير هنا إلى فرنسا وبريطانيا، وبشكل خاص إلى معاهدة سايكس-بيكو) -وهو نظام تم وضعه في غياب القوى الإقليمية المؤثرة- فإن أي نظام جديد سيولد في منطقة الشرق الأوسط سيكون عليه الأخذ بعين الاعتبار كل تلك الديناميات الإقليمية والحقائق الجيوسياسية المستجدَّة.

لكن، وعلى خلفية هذه الديناميات والحقائق، نتساءل: إلى أي مدى لا تزال التطورات والتحولات القائمة حاليًّا في الشرق الأوسط -بين القوى العالمية واللاعبين الإقليميين من جهة، وبين الدول والفاعلين غير الحكوميين من جهة أخرى- تتفق مع فرضيات نظرية "توازن القوى" في العلاقات الدولية؟

يقودني هذا إلى آخر نقطة في مداخلتي:

نظرية توازن القوى
كما تعلمون، فإن مفهوم "توازن القوى" أساسي في المقاربة الواقعية لنظرية العلاقات الدولية، فهو ينطوي على هدف منطقي في السياسة الخارجية بين فاعلين متعددين في منطقة ما، غالبًا ما توصف بالحيوية للمصالح الاستراتيجية للقوى العالمية.وكما يشرح ديفيد هيوم، في ورقته البحثية الشهيرة تحت عنوان "ميزان القوى"، فإن قِدم هذا المفهوم يعود إلى قدم التاريخ البشري نفسه؛ إذ غالبًا ما كانت تتم الإشارة إليه سواء من قبل المنظِّرين السياسيين أو من طرف القائمين على تسيير شؤون الدولة.لكن ومع ذلك، فينبغي ألا يأخذ مفهوم توازن القوى قيمة اسمية أكبر.ففي هذا السياق، يجادل كوينسي رايت، على سبيل المثال، بأن "هيمنة ميزان القوى في ممارسة القائمين على شؤون الدولة على امتداد ثلاثة قرون لا ينبغي أن يحجب عنَّا حقيقة أنه عبر تاريخ العالم لم تكن الفترات التي هيمنت فيها سياسات توازن القوى تمثِّل القاعدة".

إذا أخذنا في الحسبان الاتجاه الحالي للأحداث والزخم المتسارع للأزمات والصراعات في الشرق الأوسط، نلاحظ أن العلاقات الأميركية-العربية آخذة في الانحراف باتجاه مناطق غير مألوفة، والتي يهيمن عليها الاستقطاب والتشظي ونزعات الهيمنة لدى بعض الجهات الإقليمية الفاعلة.يبدو أن هذا الواقع يجسد مخاوف كينيث والتز، أحد الكتَّاب الرئيسيين في النظرية الواقعية للعلاقات الدولية؛فقد كتب -في ورقته البحثية المنشورة عام 2000 تحت عنوان "العولمة والقوة الأميركية"- قائلًا: "إن الوضع الحالي للسياسة الدولية غير طبيعي...من الواضح أن شيئًا ما قد تغير".

تواجه الواقعية السياسية سواء أكانت تقليدية أم هيكلية، دفاعية أم هجومية، تحديات جديدة؛ فتنامي أدوار الفاعلين غير الحكوميين، الذين تكاثروا بشكل ملحوظ في منطقة الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين، زاد من إرباك النظام الدولي القائم وحيَّر منظِّري العلاقات الدولة. يُصارع منظور مكافحة الإرهاب عددًا من الجماعات التي نشرت أيديولوجياتها عبر المنطقة من الجزائر حتى أفغانستان، وهذا ما يجعل القضية أكثر إثارة للاهتمام: فهل نحن في مواجهة توازن قوى أم إننا في مواجهة توازن تهديدات بدلًا من ذلك؟ وكما أشار ستيفان رايت، وكان محقًّا في ذلك، فإن "نظرية توازن القوى ليست خاطئة؛ إنها فقط غير مكتملة. القوة هي أحد العوامل التي تؤثر في الرجحان نحو التوازن، غير أنها ليست العامل الوحيد ولا هي تمثِّل دائمًا العامل الأهم".

في ديسمبر/كانون الثاني 2017، استهل رايت ورقته البحثية "من يخشى من توازن القوى؟" بمقدمة على غاية من الأهمية أقتبسُ منها ما يلي: "إذا حضرتَ محاضرة بعنوان "مدخل إلى العلاقات الدولية" في إحدى الجامعات ولم يذكر المحاضر خلالها، ولو مرة واحدة، مصطلح "توازن القوة"، فعليك أن تتصل مباشرة بإدارة الجامعة واستعد الرسوم التي دفعتها". 

"وبدلًا من التساؤل عن السبب خلف تعاون روسيا والصين، أو التفكير مليًّا في الدافع الذي كان وراء قدوم إيران وحلفائها شرق الأوسطيين على اختلافهم، فإنهم يفترضون أن ذلك إنما هو نتيجة لتقاسمهم جميعًا نفس الرؤية الاستبدادية ورد الفعل المعادي لأميركا، أو أية صيغة أخرى من صيغ التضامن الأيديولوجي. تشجع ممارسة فقدان الذاكرة الجماعية هذه زعماء أميركا على التحرك بطرق تجعل الأعداء، عن غير قصد، يقتربون أكثر من بعضهم البعض، وتضيِّع الفرص السانحة لطردهم بعيدًا".

في الوقت الذي نجحت استراتيجية روسيا في إكسابها أهمية أكبر في سوريا وغيرها من المناطق في الإقليم، فإن دعوة الرئيس ترامب إلى اتباع سياسة انتقائية في التدخل الأميركي بالتوازي مع دعوته إلى نأي أميركا بنفسها عن أزمات العالم، تثير أسئلة حول استراتيجية أميركا الحقيقية في مواجهة عودة ظهور نظام الثنائية القطبية في مجال العلاقات الدولية. وقد جادل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأنه "بدلًا من إقامة توازن قوى جديد، اتخذت الولايات المتحدة خطوات من شأنها الزج بالنظام الدولي في منطقة حادة وسحيقة من عدم التوازن".

يقودنا هذا إلى طرح الأسئلة الأساسية التي تروم ندوتنا مناقشتها في ثلاث جلسات: الديناميات الحالية للجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، وتأثير الفاعلين غير الحكوميين وسياسات الظل، واستدامة توازن القوى على الصعيدين النظري والعملي. 

شكرًا لكم.

د.عز الدين عبد المولى، مدير البحوث في مركز الجزيرة للدراسات (الجزيرة)

_________________________________

د.عز الدين عبد المولى، مدير البحوث في مركز الجزيرة للدراسات