على صعيد الموقف الخليجي الرسمي من الحرب على غزة، بدا المشهد صورة مصغرة للواقع العربي العام، إلا أن خلفيات الانقسام في المواقف الخليجية لم تكن جميعها نتاجاً لبيئة المحيط العربي، بل تأثرت أيضا باعتبارات مرتبطة بالواقع الخليجي ذاته. وعلى الرغم من كل ما حدث، فإن دول الخليج لازال بمقدورها استدراك ما فات، إن هي اعتمدت مقاربة متماسكة وفاعلة لإعادة إعمار ما دمره العدوان.
وعلى مستوى الرأي العام الخليجي فقد تفاعل مع وقائع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كما لو أن الحرب تدور في شوارعه وأزقته. وبدت الصحافة الخليجية، هي الأخرى، على مواكبة تفصيلية لمجريات العدوان، ودارت حوله غالبية مقالات الرأي فيها، على مدى أكثر من ثلاثة أسابيع. بيد أن هذه الصحافة بدت متباينة على مستوى المعالجة المهنية للحدث، وطبيعة الموقف السياسي والأيديولوجي منه.
وعلى الصعيد الخليجي الرسمي، بدا المشهد صورة مصغرة للواقع العربي العام، إلا أن خلفيات الانقسام في المواقف الخليجية لم تكن جميعها نتاجاً لبيئة المحيط العربي، بل تأثرت أيضا باعتبارات مرتبطة بالواقع الخليجي ذاته. وعلى الرغم من كل ما حدث، فإن دول الخليج لازال بمقدورها استدراك ما فات، إن هي اعتمدت مقاربة متماسكة وفاعلة لإعادة إعمار ما دمره العدوان.
أولاً: المواقف الرسمية
إذا كان العرب مختلفين حول من الذي يجب أن يقود إعادة الإعمار، فإن الخليجيين معنيين بعدم الوقوع ضحية التجاذبات القائمة، وعليهم المبادرة بتشكيل هيئة خليجية مشتركة، تتولى بصورة مباشرة إدارة عمليات التمويل الخاصة ببرامج إعادة البناء في القطاع |
وعلى الرغم من ذلك، فقد شهدت المواقف الرسمية الخليجية تبايناً في جملة من القضايا المرتبطة بالعدوان، وطرق التعامل معه، وسبل معالجة آثاره.
فقد ظهر تباين حيال فكرة القمة العربية الطارئة، وتباين آخر حول الجهة الفلسطينية التي يجب مخاطبتها، وما إذا كانت تضم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أم لا، وتباين ثالث تجاه المقاربة المصرية الخاصة بمعبر رفح الحدودي، وتباين رابع حول مبادرة السلام العربية، التي تم إقرارها في قمة بيروت في العام 2002.
إن العدوان الإسرائيلي على غزة قد وضع السياسة الخليجية أمام امتحان لم تعهده منذ أن كان بالمقدور الحديث عما يمكن اعتباره سياسة خليجية.إن تداعياته قد فاقت بدرجات ما أحدثه عدوان صيف العام 2006 على لبنان، والاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية عام 1982، بل وحتى الحرب العراقية الإيرانية بكل فصولها المهولة.
وقد يبدو الانقسام الخليجي صدى لانقسام عربي أكثر وضوحاً، لكن هذا بُعدٌ واحدٌ وحسب من الصورة، فالواقع الخليجي يحمل من الثغرات البنيوية ما يجعله قابلا للتصدّع. وليس أمام الخليجيين سوى الاعتراف بهذه الحقيقة، والدخول في إعادة بناء لأسس العمل الخليجي وتصويب بعض آلياته، فنحن في بيئة تغير الكثير مما فيها ومما حولها، وليس من الخطأ في شي إعادة النظر في آليات تم إقرارها في العام 1981، أي قبل أكثر من ربع قرن من الزمن.وليس هناك من يدعو للانقلاب على هذه الآليات، لكن تفحصها الدائم والمستمر يبقى ضرورة لا غنى عنها، إذا كان الهدف هو الوصول إلى عمل خليجي متماسك، قادر على مواجهة الأعاصير.
وفي حقيقة الأمر، فإن مثل هذه المراجعة كان ينبغي إجراؤها بعد حرب الخليج الثانية مباشرة. وهي بدت ضرورية مرة أخرى في ضوء المفاعيل السياسية لسقوط بغداد في العام 2003، وبدت ضرورية ثالثة على خلفية تفاقم معضلات الأمن الإقليمي. وقد يكون من المبكر الحديث عن بلورة سياسة خارجية مشتركة، لكن الخليجيين يجب أن يضعوا هذا الأمر نصب أعينهم، حتى لا يجدوا أنفسهم مرة أخرى في عين العاصفة.
وما يمكن قوله خلاصة، هو أن السياسة الخليجية قد تعرضت لامتحان كان بالمقدور تجاوزه بأقل الخسائر، لو كانت آليات العمل الخليجي المشترك على غير ما هي عليه اليوم. وعلى الرغم من ذلك، لا بد من السعي لتدارك ما يمكن تداركه.
لفت انتباه
وقد يكون من القضايا الملحة والعاجلة والتي يمكن لدول الخليج تدارك ما فاتها إذا أحسنت التعامل معها قضية إعادة الإعمار في قطاع غزة.
إن المطلوب هو أن لا يضيع الجوهر لمصلحة الشكل. وإذا كان الحرص على الوصول إلى توافق عربي مشترك حول آليات إعادة الإعمار يُعد أمراً مشروعاً ومحبذاً، بل ومرغوباَ فيه، فإن الأمر الحيوي كذلك هو وصول المساعدات إلى مستحقيها الحقيقيين، دون أن يُعطلها الروتين، أو أن تخضع لأي شكل من المزايدات أو التجاذبات.
وإذا كان العرب مختلفين حول من الذي يجب أن يقود إعادة الإعمار، فإن الخليجيين معنيين بعدم الوقوع ضحية التجاذبات القائمة، وعليهم المبادرة بتشكيل هيئة خليجية مشتركة، تتولى بصورة مباشرة إدارة عمليات التمويل الخاصة ببرامج إعادة البناء في القطاع، خاصة وإن دول الخليج قد تضخ مجتمعة ما يقارب المليار ونصف المليار دولار لهذا الغرض. وهذا المبلغ يمكنه مبدئياً إنجاز الكثير من مشاريع البناء المقدّرة حالياً.كما أن لدى الخليجيين مؤسسات وصناديق تمويل تمتلك كافة آليات التخطيط والتنفيذ، وبمقدورها أن تباشر العمل في غزة خلال أيام معدودة من صدور قرار سياسي بهذا الشأن. وإذا تحرّك الخليجيون بهذا الاتجاه، فسوف يتداركون ما فاتهم، ويظهرون بمظهر الفريق الواحد، كما يفترض أن يكونوا دائماً.
كذلك، فإن خياراً كهذا من شأنه أن يُبعد عن الفلسطينيين فصلاً جديداً من التجاذبات الضارة بوحدتهم الوطنية، ويُسهل ضمناً مشروع المصالحة الفلسطينية، ويُعزز فرص دول الخليج في النهوض بدور محوري فيها.
ثانيا: الموقف الأهلي
إضافة إلى الخلفيات الدينية والقومية العامة، يمكن الوقوف على ثلاثة عوامل دفعت باتجاه صياغة الموقف الأهلي الخليجي من العدوان الإسرائيلي على غزة، وهذه العوامل هي:
أ- خصوصية القضية الفلسطينية، أو لنقل: خصوصية مكانتها في الوجدان الشعبي الخليجي، كما العربي والإسلامي عامة.
وقد كان الالتصاق بالقضية الفلسطينية ظاهرة تاريخية ممتدة في المجتمع الخليجي، إلا أن هذه الظاهرة تعمقت في السنوات الأخيرة، بعد أن حطمت ثورة المعلوماتية حاجز الجغرافيا بين الفلسطينيين والخليجيين، وبات طلاب المدارس والجامعات في الخليج يتحدثون، عبر الشبكة العنكبوتية، بشكل يومي، مع أقرانهم في القدس والصفة وغزة، وسواها من مدن وقرى فلسطين.وباتت تربطهم صداقات شخصية، عمقت المعرفة المتبادلة، وضاعفت الإحساس بوحدة الانتماء، فلم يعد الناس في الخليج بحاجة إلى خطباء يعرفونهم بفلسطين وقضيتها، كما كان الحال في يوم مضى. ويدخل في هذا السياق كذلك ما أحدثته الفضائيات من ارتباط فوري بالحدث، ونقل مباشر لوقائعه.
قد يبدو الانقسام الخليجي صدى لانقسام عربي أكثر وضوحاً، لكن هذا بُعدٌ واحدٌ وحسب من الصورة، فالواقع الخليجي يحمل من الثغرات البنيوية ما يجعله قابلا للتصدّع. وليس أمام الخليجيين سوى الاعتراف بهذه الحقيقة، والدخول في إعادة بناء لأسس العمل الخليجي وتصويب بعض آلياته |
ج – رأى الخليجيون أن القدرات الجيوسياسية للخليج ( النفط والأصول المالية و متانة الروابط الدولية) لم يتم استنفادها باتجاه وقف العدوان، الأمر الذي زاد من الإحساس لديهم بضرورة الحديث بصوت مرتفع. وهنا، كانت التظاهرات ومهرجانات التضامن ظاهرة يومية، بل على مدار الساعة، لنحو ثلاثة أسابيع.وهذا المشهد قلما عاشه الخليج، بل لا يخبرنا التاريخ عن مثل هذا الزخم من الاستنفار الأهلي، حتى إبان عدوان يونيو/ حزيران 1967 وحرب أكتوبر/ تشرين 1973.
وعند الحديث عن ملامح التحرّك الأهلي الخليجي ضد العدوان، فإن أول ما ميّز هذا التحرّك هو وقوف علماء الدين، وخطباء المساجد، خلف الغالبية العظمى من فعالياته وأنشطته، بما في ذلك التظاهرات، والمهرجانات الخطابية والشعرية، وحملات التبرع العينية والمالية، والتبرع بالدم.
ويُحسب لمنظمي مهرجانات التضامن الخليجي مع غزة نجاحهم في إذابة التباينات المناطقية والمذهبية بين الناس، في لحظة تاريخية حساسة، وتوجيه مختلف الطاقات نحو هدف واحد، هو نصرة الشعب الفلسطيني.
وتجدر الإشارة أخيراً، إلى أن حملات التضامن الأهلي مع غزة لا تزال مستمرة في مناطق الخليج المختلفة رغم وقف إطلاق النار، وهي تنصب بصورة أساسية على برامج الدعم العيني والمالي للمتضررين من العدوان. ولعل المشكلة التي تواجه الكثير من الأفراد والمؤسسات في هذه المنطقة هي كيفية إيصال المساعدات، وإلى من يجب تسليمها؟. ولا ريب بأن تلك المرأة الخليجية، التي تبرعت بكل ذهبها، حريصة على أن يصل هذا الذهب إلى مستحقيه الحقيقيين. وللعلم، ففي الخليج الكثير من النساء اللائي تبرعن بكل ما يملكن من ذهب وحلي من أجل غزة.
ثالثا: مواقف الصحافة الخليجية
على نحو قريب مما حدث إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان، في صيف العام 2006، أبرزت الحرب في غزة خطين متقابلين في الصحافة الخليجية: خطا طالب بدعم المقاومة الفلسطينية في تصديها للعدوان، وآخر انشغل بالهجوم على هذه المقاومة وتشويه سمعتها، معتبراً إياها سبباً للأزمة |
لقد تمثل التباين الأول في حجم التغطية والاهتمام، ففي حين كرست بعض الصحف الخليجية صفحاتها الأولى، وكثير من محتواها الداخلي، لتغطية مجريات العدوان، طوال أيامه، ظلت صحف أخرى على سيرتها الكلاسيكية المعتادة، ولم تحظ غزة سوى بالقليل من اهتماماتها. وهذا بالطبع ليس خياراً مهنياً بل سياسياً بامتياز.
التباين الثاني كان على مستوى الأداء والاحتراف. وقد جاء نتاجاً للفروق في القدرات والمهارات، وهذا أمر طبيعي على أية حال.
على الرغم من ذلك، فإن ما يمكن قوله بوجه عام هو أنه وبالرغم من بعض الحالات المضيئة، فأن الطابع العام لمحتوى التغطية الصحفية قد جاء إخبارياً عاماً، مستنداً في الغالب إلى وكالات الأنباء الدولية.وهو الأمر الذي أفقد هذه التغطية خصوصيتها، وأثر على دقتها في حالات معينة. وهذا خلل يجب تداركه، إذ ما الذي يمنع أية جريدة خليجية من اعتماد مراسلين ثابتين لها في فلسطين، واستكتاب أقلام فلسطينية تعيش الحدث.
والتباين الثالث في مقاربة الصحف الخليجية للعدوان الإسرائيلي على غزة، جاء على مستوى الموقف من هذا العدوان. وربما كان هذا هو التباين الوحيد الذي عنى به الجمهور الخليجي، فقد أظهرت أحداث غزة إلى السطح فرزاً سياسياً وأيديولوجياً في الساحة الخليجية، هو في الأصل لم يكن خافياً.
وعلى نحو قريب مما حدث إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان، في صيف العام 2006، أبرزت الحرب في غزة خطين متقابلين في الصحافة الخليجية: خطا طالب بدعم المقاومة الفلسطينية في تصديها للعدوان، وآخر انشغل بالهجوم على هذه المقاومة وتشويه سمعتها، معتبراً إياها سبباً للأزمة. وبطبيعة الحال، فإن الخط الأول كان هو السائد غالباً. إلا أن الخط الثاني بدا هذه المرة أكثر جرأة من أي وقت مضى. ولعل هذا هو الجديد في الأمر، أو لنقل المثير فيه.
لقد ضم الخط المطالب بدعم المقاومة الفلسطينية خليطاً شديد التنّوع، عبر عن أطياف المجتمع الخليجي، على النحو الذي عرفه الناس.وكان هذا مصدر قوته.
في المقابل، فإن الذين تبنوا الهجوم على المقاومة الفلسطينية، هم بعض من يجري تصنيفهم -على نحو ملتبس- هنا في الخليج "بالليبراليين". وهو تصنيف لا يستند إلى أصل علمي، لكنه شائع لدينا على أية حال.
والغريب أن بعض هؤلاء "الليبراليين" كانوا حتى الأمس القريب من دعاة التحرر القومي، ووحدة المصير العربي بين المحيط والخليج.
وأسوأ ما في الأمر اليوم هو أن بعض الأقلام "الليبرالية" هنا في الخليج بدت وكأنها تبرر لإسرائيل عدوانها الغاشم على الشعب الفلسطيني، وهذا أمر غير مألوف لأبناء هذه المنطقة، الذين اختلطت دماؤهم بدماء شهداء العرب، في الجزائر والسويس والقدس وبيروت.
وما يمكن قوله أخيراً في هذا المضمار، هو أن الصحافة الخليجية أمام امتحان تاريخي، وعليها أن تكون صريحة وحاسمة في الانحياز إلى قضايا الأمة وحقوقها الثابتة، ولا يجوز لأحد التدثر بعباءة "الحرية" أو"الحداثة" ليضرب بها أمته. وإذا كان ثمة هامش للحرية فليترك للحديث عما يخدم الناس ويحقق مصالحهم.
_______________
باحث بحريني