النظام الرسمي العربي.. طبيعة الأزمة

التعميم في الحكم على النظام السياسي العربي لا يصح في حالات كثيرة، لمجرّد أن النظام ليس واحداً أو متجانساً، إذ تتفاوت هوية النظام وطبيعته بين بلد وآخر، ويكاد كل قطر عربي يكون له نظامه الخاص به.
24 March 2009

سليم الحص


التعميم في الحكم على النظام السياسي العربي لا يصح في حالات كثيرة، لمجرّد أن النظام ليس واحداً أو متجانساً، إذ تتفاوت هوية النظام وطبيعته بين بلد وآخر، ويكاد كل قطر عربي يكون له نظامه الخاص به.


فهناك النظام الملكي أو الأميري، وهناك النظام الجمهوري، وهناك في بعض الأنظمة الجمهورية حالات لا يتغير فيها الرئيس بين ولاية وولاية فيبقى رأس الدولة هو هو طيلة حياته، أو إلى أن يطاح به في عملية انقلابية. وهناك بين الأنظمة ما يتعذر تصنيفه، كالنظام الليبي، فرأس الهرم فيه ليس ملكاً ولا أميراً ولا رئيساً للجمهورية.


هكذا فإن أزمة النظام السياسي في الوطن العربي يمكن اختصارها بعدم وجود نظام متجانس واضح المعالم. فأين هي أوجه الشبه بين الأنظمة المطبقة -مثلاً- في لبنان وسوريا والمملكة العربية السعودية ومصر وليبيا وتونس والسودان والمغرب واليمن وعُمان ودولة الإمارات المتحدة؟






أزمة النظام السياسي في الوطن العربي يمكن اختصارها بعدم وجود نظام متجانس واضح المعالم. وإذا كان لا بد لنا من الحكم على الواقع السياسي في الوطن العربي بتوصيفات معممة لتحدثنا عن غياب الديمقراطية الحقيقية في جميع الأقطار العربية من دون استثناء

إذا كان لا بد لنا من الحكم على الواقع السياسي في الوطن العربي بتوصيفات معممة لتحدثنا عن غياب الديمقراطية الحقيقية في جميع الأقطار العربية من دون استثناء، وعن افتقار بعضها إلى كثير من الحريات العامة، وعن انغلاق كثير منها إلى مدى بعيد عن آفاق التطور والتطوير حيث مفتاح الإصلاح هو في يد من ليس له مصلحة في التغيير.

يتجلى غياب الديمقراطية في الأقطار العربية بفقدانها جميعاً أبسط مقومات الممارسة الديمقراطية الصحيحة. فالديمقراطية تعريفاً هي حكم الشعب لنفسه بنفسه أو عبر ممثليه. والممارسة الديمقراطية الفاعلة تتلازم -من جهة-مع نظام فاعل للتمثيل السليم، ومن جهة ثانية مع مبدأ المساءلة والمحاسبة للقابضين على السلطة. فأين الممارسة السياسية في العالم العربي من هاتين الخصوصيتين؟


لبنان نموذجا
ففي لبنان على سبيل المثال هناك من يتغنى بديمقراطية الحياة السياسية فيه. ونحن نردد القول إن في لبنان كثيراً من الحرية وإنما قليل من الديمقراطية. الحريات في لبنان وفيرة حقاً، فالمواطن يستطيع أن يعبّر عن رأيه بحرّية تامة، ويستطيع التحرك كما يشاء، ويستطيع أن يوظف مدّخراته حيث يريد داخل البلد أو خارجه، وأن يقيم حيث يروم، ولا قيود على حرية المواطن إلا ما تمليه القوانين التي تنظم العلاقات والمعاملات والحياة العامة، وما تمليه بالطبع ضوابط القيم السائدة والأخلاق العامة.


ولكن لبنان لم يتمكن من ترجمة الحريات العامة الوفيرة فيه إلى ممارسة ديمقراطية حقيقية. فالديمقراطية تفترض تمثيلاً صادقاً للشعب في الحكم. أما في لبنان فهناك مجلس نواب، يُنتخب عبر صندوق الاقتراع، إلا أن التمثيل الشعبي مع ذلك غير مكتمل على وجه صحيح. مجلس النواب يتكوّن من 128 عضواً، الفاعلون أو أصحاب القرار الحقيقيون بينهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين. أما الباقون، أي نحو 118 عضواً منهم، فهم من المحاسيب والأتباع لهؤلاء.


ثم إن الذي يحسم نتائج الانتخابات النيابية في لبنان عادة عاملان بارزان، كلاهما غير ديمقراطي، هما المال السياسي والعصبية الفئوية. وهناك من يضيف عاملاً ثالثاً هو السيطرة على وسائل إعلامية فاعلة، إلا أننا نرى أن من يمتلك المال بإمكانه السيطرة على وسائل الإعلام وسياساتها.


يلعب المال دوراً حاسماً في الانتخابات النيابية في لبنان على غير صعيد: في مشترى الأصوات مباشرة يوم الاقتراع، وفي الحملات الدعائية خلال التحضيرات الانتخابية، وحتى عبر حملات من العلاقات العامة المتنوعة تتخذ شكل الأنشطة والتبرعات الخيرية أو الاجتماعية أو الوطنية.


والمحاسبة، التي هي من صلب الممارسة الديمقراطية، تبدو في لبنان في كثير من الحالات هزيلة أو شبه معدومة. فالناخب يحاسب النائب. إنه ينتقد ممثله في المجلس النيابي على امتداد أربع سنوات، ثم يعود فينتخبه مجدداً لمجرّد أنه يحظى بتأييد تيار سياسي أو طائفي معين. والنائب لا يحاسب الحكومة، فالحكومات في لبنان تنبثق من مجلس النواب، وكثيراً ما تكون صورة مصغرة عنه. فكيف يُرتجى أن يحاسب المجلس نفسه؟ ولم يحدث في تاريخ لبنان الحديث أن سقطت حكومة بحجب الثقة عنها في مجلس النواب، والحكومة لا تحاسب الإدارة التي كثيراً ما تكون مفاتيحها في أيدي أهل السياسة داخل الحكم وخارجه.


حتى القضاء اللبناني، فإن المحاسبة التي يجريها كثيراً ما لا تشفي غليلاً نظراً إلى البطء الشديد في بت القضايا ونظراً إلى تدخل السياسة في سير القضاء أحياناً كثيرة.


إن محور المشكلة، في نهاية التحليل، هو في عدم التزام مبدأ الفصل بين السلطات: الاشتراعية والتنفيذية والقضائية، إلتزاماً صارماً.


فإذا كان لبنان، المعروف بأنه الأقرب في العالم العربي إلى الأجواء الديمقراطية، هو فعلياً بعيد عنها على هذا النحو، فماذا عسانا نقول عن سائر الأقطار العربية؟
 
الكل في واحد
الصورة واضحة: حيث رأس الدولة ملك أو سلطان أو أمير، فإنه في ما يمارس من سلطات وصلاحيات لا يقارن بما يسمى في بلاد الغرب الديمقراطية ملكاً دستورياً. ففي بعض الحالات يكون الملك أو السلطان أو الأمير هو الحاكم الفعلي، الأمر يعود إليه فعلياً في إدارة شئون الدولة عموماً وفي حسم مسائل تتعلق بالسياسة العامة وقضايا المصير. قد يكون هناك ضوابط دستورية ومؤسسات مختصة تشارك في القرار، كما هي الحال في المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة المغربية ودولة الكويت، ولكن الملك أو الأمير يبقى هو صاحب الكلمة العليا والأخيرة في الشئون الهامة ويتمتع بنفوذ عريض يتمكن بفعله من التأثير حتى على مسار المؤسسات التي تتولى مهام معينة دستورياً.





لا يجوز هنا الحديث عن نظام سياسي عربي، فليس هناك نظام واحد، وهذا الواقع يتبدى في تبعثر موقع العرب دولياً، ليس هناك قرار عربي متجانس على الصعيد الدولي، ليس هناك حتى جبهة عربية واحدة على الساحة الدولية، ولا حتى في مواجهة عدو العرب إسرائيل
أما سائر الجمهوريات العربية فتكاد تكون فعلياً ممالك في لباس جمهوري، رأس الدولة لا يتغيّر ولا يتبدل ما دام حيّاً يرزق، ونهاية الولاية المفترضة قانونياً أو دستورياً هي عموماً موعد محتّم لتجديد الولاية، ويسمى ذلك استقراراً سياسياً. هذا الواقع ينطبق على مصر وسوريا والسودان وتونس والجزائر واليمن. ورئيس الجمهورية في هذه البلدان يتمتع بسلطات وصلاحيات تماثل ما يعود لملك في مملكته أو سلطان في سلطنته.

أما العراق فحالة استثنائية شاذة بقدر ما هي أليمة، إنها حالة تشرذم ونزاع وضياع فرضها واقع الاحتلال الأميركي الغاشم. وكان العراق قبل الاحتلال يعاني حالة استبدادية بامتياز في عهد صدام حسين. يبدو لنا وكأنما الواقع الانقسامي الذي يعيشه العراق اليوم هو ما كان يراد للعالم العربي أجمع. كأنما كان الهدف من وراء إشعال الفتن الفئوية في العراق تعميمها من ثم على الجوار العربي. وكان للبنان نصيب من هذه المكائد. وفي هذا ما فيه من خدمة للمشروع العدواني الصهيوني في المنطقة. والانتشار الإسرائيلي المكشوف داخل العراق منذ الاحتلال لم يكن مصادفة.


ويبقى من الوطن العربي فلسطين، فهي ما زالت ترزح تحت الاحتلال الصهيوني ولم تكتسب بعد صفة الدولة المكتملة العناصر.


وأما ليبيا فحالة قائمة في ذاتها. فلا هي مملكة ولا هي إمارة ولا هي جمهورية. إنها دولة في رجل. وقد حجبت حالتها الفريدة ثروة نفطية مرموقة.


هكذا يظهر للعيان جلياً أن أزمة النظام السياسي العربي إنما هي جملة أزمات، عددها قد يكون مساوياً لعدد الأقطار العربية.


بعبارة موجزة: لا يجوز هنا الحديث عن نظام سياسي عربي، فليس هناك نظام واحد، وهذا الواقع يتبدى في تبعثر موقع العرب دولياً، ليس هناك قرار عربي متجانس على الصعيد الدولي، ليس هناك حتى جبهة عربية واحدة على الساحة الدولية، ولا حتى في مواجهة عدو العرب إسرائيل. وقد ظهر ذلك جلياً خلال حرب إسرائيل على لبنان في عام 2006 وفي حربها على غزة في عام 2009 حينما غلبت السلبية أو الحيرة أو التردد على مواقف عدد من الدول العربية، ولا سيما منها تلك التي تسير في الركب الأميركي.


جامعة عاجزة
كان من المفترض أن تعالج هذا الخلل الخطير وتملأ الفراغ القائم على الساحة جامعة الدول العربية، وبخاصة على صعيد توحيد المواقف العربية على المستوى الدولي. ولقد لعبت الجامعة دوراً على هذا الصعيد سحابة من الزمن. إلا أنها منذ سنوات لم تعد قادرة على القيام بهذا الأمر.





أزمة النظام السياسي العربي تستوجب في نهاية التحليل حلاً. وإن كان لنا أن تختصر الحل بعنوان لقلنا إنه الديمقراطية. والتنمية الديمقراطية في الوطن العربي هي حالياً أسيرة حلقة مفرغة. فالإصلاح الديمقراطي عملية تغيير جذري. وقرار الإصلاح على هذا المستوى هو في أيدي من ليس لهم مصلحة في التغيير
وقد أضحى الموقف العربي مشتتاً على خطوط الفصل بين المحاور الدولية والإقليمية. فالدول العربية باتت للأسف الشديد تسير في السياق الذي يُوحيه أو يمليه هذا المحور الدولي أو ذاك. ويتنازع الساحة العربية حالياً محوران: محور أميركا – إسرائيل، ومحور إيران – سوريا.

ومن يسير في الخط الأميركي إنما يسير في واقع الحال، ولو من حيث لا يدري، في الخط الإسرائيلي، ذلك لأن التجارب أظهرت بما لا يقبل الجدل أن السياسة أو الإستراتيجية الأميركية إنما هي متطابقة والسياسة أو الإستراتيجية الإسرائيلية في كل ما يتعلق بالشرق الأوسط، حتى في التفاصيل. هذا مع العلم أن عدداً لا يستهان به من الدول العربية تسير فعلياً في الخط الأميركي طوعاً أو قسراً. 


الاتحاد والديمقراطية
لن يكون ثمة نظام عربي إلا بإقامة اتحاد عربي يقود في يوم من الأيام إلى وحدة عربية. إننا من دعاة إقامة اتحاد عربي، على غرار الاتحاد الأوروبي، يحل محل جامعة الدول العربية. على أن يكون الاتحاد منطلقاً لتحقيق الوحدة الناجزة مستقبلاً، مهما طال الزمن.


أزمة النظام العربي اليوم هي في تشرذمه، والحل لا يكون إلا بتوحيده، وتوحيد النظام العربي سيكون ثمرة طبيعية لجمع الأقطار العربية في اتحاد، على غرار الاتحاد الأوروبي، أملاً بأن يقود مع الزمن إلى الوحدة المنشودة.
والعقبة الكأداء في وجه إقامة اتحاد عربي في الوقت الحاضر تتجسد في الأنظمة العربية القائمة، التي لها مصلحة في إبقاء الحال على حاله. والواقع أن ليس بين الحكام العرب من هو على استعداد، على ما يبدو، للتخلي عن عرشه أو كرسيه أو موقعه، أو للتنازل عن شيء من سلطانه، من أجل تحقيق اتحاد بين العرب.


مع ذلك نحن من المؤمنين أن الاتحاد مطلب سوف يلقى المزيد من الدعم الشعبي على الصعيد العربي العام مع الزمن، وهذا التوجه مرشح لأن يجد رافداً له عبر التطور المذهل الذي يسجل في نطاق وسائل الاتصال والإعلام والمعلومات، وما يتولد عن ذلك من نمو في الوعي القومي، وبالتالي من الضغط على الفئات الحاكمة في الوطن العربي. الاتحاد بين العرب قدر لا مفر منه. فهو إلى كونه مطلباً قومياً، يشكل حاجة أمنية وتنموية ملحة في العصر الراهن.


إن أزمة النظام السياسي العربي تستوجب في نهاية التحليل حلاً. وإن كان لنا أن تختصر الحل بعنوان لقلنا إنه الديمقراطية. والتنمية الديمقراطية في الوطن العربي هي حالياً أسيرة حلقة مفرغة. فالإصلاح الديمقراطي عملية تغيير جذري. وقرار الإصلاح على هذا المستوى هو في أيدي من ليس لهم مصلحة في التغيير.


لعلّ أسوأ ما في أزمة النظام العربي أن أهل النظام الذين يقبضون على زمام القرار، لا يشعرون أو لا يدركون أن هناك أزمة تستدعي المعالجة. 


___________________


رئيس وزراء لبنان الأسبق