الدور الفلسطيني في أزمة غزة والحلول الممكنة

إذا أردنا أن نعرف كيف ستؤثر حرب غزة على الوضع الداخلي الفلسطيني، لا بد وأن نتعرف أولا على المشهد السياسي الفلسطيني، الذي كان قائما عشية العدوان الإسرائيلي، وثانيا كيفية تفاعل الأطراف الفلسطينية المختلفة مع العدوان وخلاله، وثالثا دراسة الاحتمالات المتوقعة
18 January 2009

هاني المصري


إذا أردنا أن نعرف كيف ستؤثر حرب غزة على الوضع الداخلي الفلسطيني، لا بد وأن نحاول أن نتعرف أولا على المشهد السياسي الفلسطيني، الذي كان قائما عشية العدوان الإسرائيلي، وثانيا على كيفية تفاعل الأطراف الفلسطينية المختلفة مع العدوان وخلاله، وثالثا دراسة الاحتمالات المتوقعة لنتائج العدوان والتي ستؤثر بقوة على الدور الفلسطيني والاحتمالات والحلول الممكنة للانقسام الفلسطيني.


نبدأ بالمشهد الفلسطيني، الذي كان سائدا قبل العدوان على غزة. فقد كانت حالة الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني قائمة ومرشحة للتفاقم على خلفية عدم عقد الحوار الوطني الشامل، وفشل المبادرة المصرية. وكانت الأمور تنذر بتطورات دراماتيكية مع حلول التاسع من يناير/ كانون الثاني 2009، حيث تعتبر حماس - مستندة إلى القانون الأساسي- أن مدة الرئيس انتهت، وبالتالي يفقد الرئيس بعدها كافة صلاحياته، ولم يعد رئيسا شرعيا، بينما تعتبر فتح و منظمة التحرير الفلسطينية أن قانون الانتخابات الفلسطيني ينص على تزامن الانتخابات التشريعية والرئاسية، ما يمنح الرئيس عاما آخر، حتى تعقد الانتخابات في شهر يناير/ كانون ثاني عام 2010.


وتستند وجهة النظر هذه الى أن الحالات التي حددها القانون لشغور منصب الرئيس وهي الموت أو الاستقالة أو فقدان الأهلية، لا تنطبق على الحالة التي لدينا، الأمر الذي يسمح للرئيس  بالاستمرار في الحكم لحين إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية انتظارا لاختيار رئيس يسلمه ابو مازن الرئاسة.


في هذا السياق، انطبق المثل القائل "رب ضارة نافعة". فقد أدى العدوان الى تجميد الانقسام الفلسطيني، لدرجة ان يوم التاسع من كانون ثاني عام 2009 مر بدون سجالات إعلامية ولم تقدم حماس على إعلان أنه لم يعد شرعيا، ولم تعين رئيسا بدلا عنه.


إن الحقيقة تشير الى أن الانقسام استمر، رغم العدوان ولم يكف شلال الدم النازف بغزارة في غزة لتحمل جميع الفصائل مسؤولياتها وتحقيق الوحدة فورا، بل أقصى ما تحقق تجميد الانقسام قليلا، ثم أطل الانقسام برأسه مجددا بحدة مع بروز التباين في تعاطي السلطة والمنظمة من جهة، وحماس وحلفائها من الفصائل الفلسطينية من جهة أخرى، مع العدوان العسكري لجهة مقاومته واستمرار إطلاق الصواريخ والقذائف من حماس وحلفائها، واكتفاء السلطة بالتضامن مع غزة خشية من انزلاق الوضع في الضفة نحو الفوضى، وما يمكن أن تؤدي إليه من حالة فقدان سيطرة السلطة، التي إن حدثت، يمكن أن تطيح بالسلطة أيضا. من جهة أخرى ظهر التباين إزاء الجهود الديبلوماسية لوقف العدوان، فقد وافقت السلطة على المبادرة المصرية وقرار مجلس الأمن، بينما تحفظت حماس على المبادرة المصرية، وتعتبر أنها غير معنية بقرار مجلس الأمن، لأنه لا أحد قد تشاور معها بصدده.


فالحرب بالنسبة لحماس، حرب على المقاومة وعلى وجود حماس ودورها كلاعب مهم، بحيث لا تستطيع أن توافق على حل لا يحمي المقاومة ولا يحافظ على وجودها ودورها كلاعب رئيس أثبت أنه يملك من القوة والتنظيم ما يفترض أن يقنع الجميع باستحالة تجاوزه.


إن المنظمة (والسلطة) لم تتخذ موقفا في مستوى أهداف العدوان، وما يتطلبه ذلك من قيادة كافة التحركات السياسية على كافة المستويات المحلية والعربية والإقليمية والدولية، وعدم الاكتفاء بالموافقة على المبادرات التي يقدمها غيرها. كما يقتضي اتخاذ موقف في مستوى المجزرة اليومية، وقف المفاوضات مع اسرائيل، ووقف التنسيق الأمني، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وطرح مبادرة للحوار والوحدة الوطنية أكثر مرونة من الطروحات السابقة، بحيث ترتكز الى برنامج وطني قادر على إنهاء الاحتلال ورفض شروط اسرائيل الاستسلامية سواء المتعلقة بالوحدة الوطنية، أو بالحل السياسي للقضية الوطنية. كان بمقدور (ولا يزال) القيادة الفلسطينية الدعوة لعقد لقاءات على أعلى مستوى، بين جميع الفصائل لتوحيد الموقف الفلسطيني إزاء العدوان، وشق الطريق لإنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة. كما كان على حركة حماس هي الأخرى أن تطرح مبادرة للشروع فورا في الحوار الوطني الشامل، لاستعادة الوحدة والابتعاد عن المواقف الانفرادية، والمغالاة في مواقفها وشروطها، والكف عن المراهنة على أن الوقت يعمل في صالحها، فالوقت يعمل في ظل الانقسام ضد الجميع، ويساعد على تصفية القضية الفلسطينية.


إن عدم قدرة الفلسطينيين على التوحد في إطار نظام سياسي واحد، كشف ظهرهم للاحتلال، وأتاح لإسرائيل، التي فشلت من خلال الحصار الخانق والاختراقات الدائمة للتهدئة، في إخضاع حماس والفصائل الفلسطينية للقبول بالشروط الإسرائيلية بعقد تهدئة مقابل تهدئة، وبدون ربطها بإنهاء الحصار وفتح الحدود والمعابر، ومع احتفاظ اسرائيل بحقها بالعدوان العسكري كلما رأت ذلك مناسبا.


لذا لم يعد هناك أمام اسرائيل مفر من اللجوء الى القوة لفرض قواعد جديدة، قوامها تهدئة بالشروط الإسرائيلية، مما يزيح عقبة أمام إسرائيل لفرض تسوية على الفلسطينيين تحقق الأهداف والمصالح والشروط الإسرائيلية.


الحرب بنتائجها
في كل الأحوال، تبقى نتائج الحرب هي التي سترسم الخارطة السياسية الفلسطينية الجديدة.


فإذا استطاعت إسرائيل أن تحقق أهدافها، وتقضي على المقاومة الفلسطينية من خلال توجيه ضربة قاصمة لحركة حماس وبقية قوى المقاومة، وفرض صيغة حل إقليمي دولي يضمن الاتفاق على وقف إطلاق نار دائم أو لفترة طويلة (15 عاما كما هو مطروح) وعدم إطلاق القذائف والصواريخ على اسرائيل، ويحول دون تقوية المقاومة من خلال عدم تمكينها من الحصول على السلاح، فإن هذا يعني أن حماس ستهزم وستكون إما أقلية مدجنة في النظام السياسي الفلسطيني تخضع لقوانينه وبرامجه، أو ترتد عليه وهذا هو - الأرجح في هذه الحالة -  وتصبح تنظيما متطرفا معاديا للمفاوضات وعملية السلام، وسيكون قادرا على عرقلتها ولكنه لن يكون قادرا على وقفها.


ويمكن أن تلجأ حماس في هذه الحالة الى تشكيل م.ت.ف بديلة أو حكومة بالمنفى مستندة الى التأييد الجارف لخيار المقاومة الذي دلت عليه الانتفاضة الشعبية العارمة التي شهدها العالم كله، ضد العدوان وانتصارا للمقاومة وللحقوق الفلسطينية.


إن الخبرة المستفادة من الحروب العربية – الإسرائيلية تفيد بخطأ الركون الى تصديق ادعاءات إسرائيل بإنها لا تريد اسقاط حكم حماس، ولا إعادة احتلال قطاع غزة مجددا، لأنها تريد أن يستمر الانقسام الفلسطيني، والانفصال بين الضفة وغزة. ورغم أن هذا صحيح، ولكن ليس بشكل مطلق وفي كل الأحوال، فإذا وجدت إسرائيل أنها تستطيع إسقاط حكم حماس وتوجيه ضربة قاصمة لها ولفصائل المقاومة الأخرى بدون خسائر كبيرة، فلن تتردد ولو لحظة واحدة. فنجاحها في ذلك يعني أنها خلقت وضعا فلسطينيا يمكنها من التقدم بسرعة أكبر وتكاليف أقل على طريق فرض الحل الإسرائيلي على الفلسطينيين، الذين سيكونون في هذه الحالة جميعا ضعفاء. إن علينا أن نتذكر الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 حيث كان قرار الحكومة الإسرائيلية بزعامة مناحم بيغين باحتلال 45 كيلو مترا، ولكن أرئيل شارون وزير الدفاع حينذاك تجاوز ذلك وقام باحتلال بيروت ومعظم لبنان وطرد قيادة منظمة التحرير وقواتها من لبنان.


هل تصبح حرب غزة معركة الكرامة بالنسبة لحماس؟
وإذا استطاعت غزة، بقيادة حماس، أن تصمد وتفشل كل أو جزء مهم من الأهداف الإسرائيلية فهذا يعني أن حماس دخلت مرحلة جديدة، ستتبوأ فيها بسرعة قيادة الشعب الفلسطيني. فبعد أن فازت في الانتخابات التشريعية، وبعد أن سيطرت انفراديا على غزة وهزمت السلطة والأجهزة الأمنية وحركة فتح، تأتي الذروة في الانتصار على اسرائيل في معركة غير متكافئة، وفي شروط غير مواتية بالمرة. وفي هذه الحالة ستدخل حرب غزة في التاريخ الفلسطيني لتشكل معركة الكرامة بالنسبة لحماس، مع اختلاف الشروط والظروف، وهي المعركة التي دشنت بداية قيادة فتح للثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية.


وهنا يمكن أن يأخذ انتصار حماس شكل تبوئها موقعا قياديا في السلطة وإعادة تشكيل أو إعادة بناء المنظمة (كما تفضل حماس أن تستخدم) على أساس جديد. ويمكن أن يأخذ شكل تثبيت سيطرتها في غزة، من خلال سيطرتها الانفرادية أو مشاركتها بالإشراف على معبر رفح مع السلطة والمراقبين الأوروبيين. ولكن ضمن صيغة حل تتضمن تهدئة متبادلة مؤقتة وليست كما تطالب إسرائيل دائمة أو طويلة الأمد.


لا غالب ولا مغلوب
وإذا جاءت نتيجة الحرب – كما هو مرجح من وجهة نظري – بين بين أي بصيغة "لا غالب ولا مغلوب"، وبصورة تسمح لكل طرف بالادعاء بأنه خرج منتصرا من هذه الحرب، فهذا يعني أن اسرائيل تستطيع في هذه الحالة أن تقول أنها وجهت ضربة قوية جدا لحماس والفصائل الأخرى، يمكن أن تدفعها للتفكير مرارا وتكرارا قبل إطلاق الصواريخ مجددا على اسرائيل، وتكون قد فرضت تهدئة لمدة طويلة ولكنها ليست دائمة.


كما إن حماس تستطيع أن تفخر بأنها صمدت صمودا عظيما، وقاومت مقاومة باسلة، في ظل الاختلال الفادح جدا بموازين القوى والشروط المحيطة عربيا وإقليميا ودوليا، وتستطيع أن تقبل تهدئة مؤقتة طويلة نسبيا تجعلها تحتفظ بخيار المقاومة وتلجأ إليه عندما تجد الظروف المناسبة. فالحصول على السلاح الذي فقدته يبقى ممكنا، خصوصا إذا لم تنجح اسرائيل بإقناع مصر بالموافقة على قدوم قوات دولية لحماية الحدود الفلسطينية - المصرية. نقطة الضعف التي يعاني منها هذا السيناريو، وسيتضح مدى كبرها لاحقا، هي معرفة حجم الخسائر البشرية الإسرائيلية في صفوف قوات الاحتلال. فإذا كانت الأرقام الإسرائيلية للقتلى والجرحى صحيحة أو قريبة من الصحة، فإنها تكون خسائر قليلة تفسر لماذا مضت اسرائيل في هذه الحرب طوال هذه المدة، ولماذا تحاول حتى الآن تحقيق ما عجزت عن تحقيقه. ولكن إذا كانت الخسائر الإسرائيلية كبيرة، فيصبح هذا السيناريو ليس قائما، لصالح سيناريو انتصار حماس والمقاومة.


وإذا جاءت نتيجة الحرب بصيغة "لا غالب ولا مغلوب" فإن هذا سينعكس على الخارطة السياسية الفلسطينية وإن ببطء وليس بشكل دراماتيكي.


فحماس حينها تكون قد أصبحت أقوى سياسيا وجماهيريا بدون شك رغم الخسائر التي تكبدتها، وفكرة المقاومة أصبحت أكثر انتشارا، وعملية ما يسمى بالسلام وفقا للشروط الإسرائيلية أصبحت أصعب بكثير. أما عملية سلام عادلة أو متوازنة فهي تصبح في هذه الحالة ممكنة لأن الانتفاضة الشعبية العالمية العارمة ضد العدوان أعادت القضية الفلسطينية الى صدارة الاهتمامات الدولية. فكيف يمكن صنع السلام مع من ارتكب كل أنواع جرائم الحرب، ومختلف أنواع الجرائم ضد الإنسانية تحت مرأى ومسمع من العالم كله، هذه المجازر المروعة التي طالت النساء والأطفال وكبار السن والصحافيين والطواقم الطبية والأجانب واستهدفت المنازل والمساجد والجامعات والوزارات في حرب إبادة وتطهير عرقي، ومحاولة لكسر إرادة الفلسطينيين، ودفع أهل غزة الى مصر.


ولكن إحدى نتائج الحرب وفقا لهذا السيناريو، أن قدرة المقاومة عسكريا تصبح أقل بكثير عما كانت عليه، وممارسة المقاومة ممنوعة ومعطلة لفترة طويلة قادمة بسبب الثمن الغالي لها، والترتيبات الإقليمية والدولية، وأن غزة لا تحتمل مجزرة جديدة في القريب العاجل، خصوصا أن إسرائيل مستعدة للانسحاب من غزة إذا ضمنت أنها لن تقاومها. فإسرائيل لا تمانع من قيام الدولة الفلسطينية في غزة، أو رمي غزة في حضن مصر. وفي كلتا الحالتين تتخلص إسرائيل من عبء غزة، وتعمق الانقسام الفلسطيني. ولكن حجم الكراهية والحقد لإسرائيل في العالم، سيكون أكبر بكثير من أية مكاسب حققتها اسرائيل أو يمكن ان تحققها.


مواقف فلسطينية متباينة.. والمنظمة مرتبكة
وحتى نتعرف أكثر على تطور المواقف الفلسطينية أبان الحرب، علينا أن نلاحظ أن القيادة الفلسطينية اتخذت في الأيام الأولى للحرب موقفا مزدوجا وأميل الى تحميل حماس-لأنها ورقة إقليمية وبسبب أعمالها الطائشة كما صرح نمر حماد مستشار الرئيس- جزء من المسؤولية عن العدوان، فهي شريكة في العدوان كما قال، وكما صرح الرئيس أبو مازن في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع أحمد أبو الغيط، وزير الخارجية المصري، بأن حماس كان بمقدورها أن تتفادى الحرب، وكان عليها أن تمدد التهدئة. صحيح أن أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه، قد صرح منذ البداية مؤكدا على أهمية الوحدة، وإن "الدم ما بصير مية"، ولكن هذا لا يلغي أن المنظمة ارتبكت بعد الحرب ولم تعرف كيف تتصرف، واتخذت مواقف متناقضة، كما ظهر هناك عدم انسجام واضح ما بين الأقوال والأفعال.


بعد ذلك اتخذت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قرارات هامة، تقضي بتحميل إسرائيل المسؤولية عن العدوان، وتؤكد أن المنظمة بحكم موقعها التمثيلي ومسؤولياتها مسؤولة عن حماية الشعب الفلسطيني وستسعى لوقف العدوان بكل الوسائل، واعتبرت أنه لا يمكن إجراء مفاوضات في ظل العدوان، ودعت حركة حماس وكافة الفصائل الأخرى للحوار في رام الله من أجل تنظيم الجهود الفلسطينية في مواجهة العدوان على أساس أن الأولوية الآن لوقف العدوان. أما مسألة الحوار الوطني الشامل من اجل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، فإنها يمكن ويجب أن تتأجل الى ما بعد وقف العدوان، وهذا موقف خاطئ، لأن الحوار الوطني الشامل لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة كان يجب أن يبدأ فورا وعلى أعلى المستويات غداة العدوان بوصفه كان يمكن أن يوفر المدخل المناسب لوقف العدوان ودحر أهدافه.


ثم أصدر الرئيس مرسوما يقضي بوقف الحملات الإعلامية، وأشار الى أن المفاوضات تسير في طريق أبوابه موصدة، وأن لدى الفلسطينيين خيارات أخرى يمكن أن يسيروا فيها إذا وجدوا أن طريق المفاوضات تمس مصالحهم الوطنية بدون اتخاذ موقف لوقف المفاوضات والسير في الخيارات البديلة. بعد ذلك سارع الرئيس لقبول المبادرة المصرية، وقرار مجلس الأمن 1860، ودعا حماس لقبولهما بدون تردد، معتبرا أن السلطة هي التي ستستلم معبر رفح وفقا لاتفاقية المعابر، وبعد أن تكون المصالحة قد تحققت بدون أن يوضح كيف ستتحقق المصالحة، في ظل هذا التباين الشاسع في المواقف.


وهنا برز تناقض صارخ بين أن من يقاوم لا يفاوض، وأن من يفاوض لا يقاوم وليس مفوضا من المقاومين بالتفاوض. وهذا لا يحل سوى بتوحيد الموقف الفلسطيني كمدخل للحوار الشامل الكفيل بإنهاء الانقسام الفلسطيني.


وعندما جرت مبادرات فلسطينية وتركية وغيرها، لتنظيم حوار بين فتح وحماس، أو لعقد لقاء بين الرئيس وخالد مشعل، رفضت جميعا بحجة عدم المساس بالمبادرة والوساطة المصرية، وهذا يعني أن الحوار الوطني الثنائي أو الشامل معطل الى إشعار آخر لأن العلاقات المصرية – الحمساوية متدهورة بما لا يسمح باستئناف المساعي المصرية لإنهاء الانقسام على الأقل قبل وقف العدوان.


وهذا يعكس موقفا انتظاريا فلسطينيا اتخذه الرئيس والقيادة الفلسطينية محكوما بردود الأفعال ويؤثر به بشكل حاسم تطور الأحداث ونتيجة الحرب، ولا يسعى للمبادرة للتأثير عليها وجعلها تسير بالاتجاه المرغوب فلسطينيا. فالرئيس أبو مازن والمنظمة من خلال تمسكهم بالمبادرة المصرية يضمنون أن تكون نتائج المصالحة لمصلحتهم. فالمبادرة المصرية كما اعتبرتها حماس، غير متوازنة وطالبت بتعديلها بشكل جوهري.


وجوهر الخلاف بين المواقف الفلسطينية المتعددة بالنسبة للمصالحة، أن هناك فريقا يريد أن يكون البرنامج المعتمد للمصالحة برنامج م.ت.ف وبما يحفظ الالتزام بالاتفاقات التي عقدتها مع إسرائيل وبما ينسجم مع الشروط الإسرائيلية الدولية الثلاثة والمعروفة. كما يريد أن تستعيد السلطة غزة والذهاب الى انتخابات تشريعية ورئاسية، بدون إصلاح وإعادة تشكيل المنظمة وحصر إصلاح الأجهزة الأمنية في غزة وعدم إصلاحها في الضفة، وهناك فريق آخر يريد عقد صفقة شاملة متكاملة تشمل كل شيء، تطبق بنودها بشكل متوازن ومتزامن تشمل السلطة والأجهزة الأمنية في الضفة وغزة والحكومة والمقاومة والانتخابات والمنظمة واستعادة الوحدة بين الضفة وغزة.


إذا توقفنا أمام موقف حماس، فإننا نجد أنها صعدت في حملتها الإعلامية ضد الرئيس والسلطة في الأيام الأولى لدرجة أنها رفضت الدعوة للحوار، ثم رحبت بها شرط أن تتم أولا بين وفدين من حركتي فتح وحماس، أو بين الرئيس وخالد مشعل، وكان هناك مبادرة تركية في هذا الاتجاه رفضها ابو مازن، والتزمت حماس بوقف الحملات الإعلامية، ودعت الى فتح مسار سياسي جديد لا ينف المبادرة والوساطة المصرية، ولكنه لا يوافق على الاقتصار عليها فقط.


إن حماس راهنت على أن إسرائيل لن تشن عدوانا على غزة، بسبب الخلافات الإسرائيلية وخشية من الخسائر، ولأنها تفضل استمرار الانقسام الفلسطيني وفصل الضفة عن غزة، وإذا شنت إسرائيل عدوانا لن يكون بالحجم الذي شاهدناه، وتراهن حماس حاليا على الانتصار معتمدة على أن إسرائيل مترددة جدا في الدخول الى المرحلة الثالثة من الحرب والتوغل الى عمق المناطق الآهلة بالسكان، لأن هذا يجعلها تغطس في مستنقع غزة، وهي إذا فعلت ذلك لا تعرف كيف ستخرج منه، وهي لا تريد إعادة احتلال غزة، التي لم تصدق أنها خرجت منها. وإسرائيل لا يمكن أن تسمح بهزيمة جيشها الهزيمة الثانية خلال عامين، وهي تفضل عدم الإجهاز التام على حماس، خصوصا أن هذا سيكون مكلفا إسرائيليا، كما أن بقاء حماس في غزة يحصر الدولة الفلسطينية في غزة أو يضمن استمرار الانقسام ويساعد إسرائيل على تنفيذ مخططها في رمي غزة في حضن مصر، لاحظوا كيف تركز إسرائيل على توريط مصر في محاربة الأنفاق ومنع تهريب السلاح، وتعارض إنهاء الحصار وفتح الحدود والمعابر التي تضمن نوعا من التواصل بين الضفة وغزة، وتجعل إسرائيل تتحمل جزء من المسؤولية عن قطاع غزة. 


إن الفلسطينيين يجب أن يركزوا على ضرورة أن يتضمن أي اتفاق لوقف العدوان فتح معبر آمن ودائم بين الضفة وغزة، لأن هذا وحده يمكن أن يقطع الطريق على استمرار الانقسام وتعميقه.


إن الاتفاق الموضوعي بين فتح وحماس على تأجيل الحوار الوطني لما بعد وقف العدوان، بدلا من الإسراع به، ليكون المدخل المناسب لوقف العدوان، إنما يعكس رغبة صريحة أو ضمنية من الطرفين بتوظيف نتائج العدوان كل طرف لصالحه.


البعد الإقليمي للصراع
إن المجتمع الدولي، ومحور الاعتدال العربي، يريد إيجاد صيغة سياسية يتم فيها وقف إطلاق الصواريخ، ومنع تهريب السلاح، والتوصل إلى تهدئة طويلة، وتحجيم استيعاب حماس في النظام السياسي الفلسطيني، على أساس برنامج سياسي ينسجم ويحقق الشروط الثلاثة الإسرائيلية الدولية، بما يوجه ضربة لإيران وسوريا ومحور الممانعة من خلال حرمانه من استخدام ورقة غزة (والورقة الفلسطينية) في الصراع الدائر في المنطقة والعالم.


إن هذا يكون من خلال إقامة حكومة من المفضل ان تكون حكومة وحدة وطنية، وإذا تعذر ذلك تكون حكومة وفاق وطني انتقالية، شرط ان تكون في كل الأحوال منسجمة مع الشرعية الدولية وتحقق الشروط الدولية.


إن حماس، ومن ورائها محور الممانعة، تريد إيجاد صيغة سياسية يتم فيها عقد تهدئة متبادلة مشرفة مؤقتة، واستعادة الوحدة الفلسطينية على أساس برنامج يستند الى إعلان القاهرة ووثيقة الوفاق الوطني وبرنامج حكومة الوحدة الوطنية، ولا يصل أبدا الى الالتزام بالشروط الدولية.


السيناريوهات المحتملة
إن الهوة شاسعة بين الموقفين، وإذا لم تحسم الحرب بشكل حاسم لصالح طرف من الأطراف، فهذا يعني أن السيناريوهات المحتملة فلسطينيا هي ما يلي:


أولا: بقاء الوضع على ما هو عليه، أي استمرار الانقسام وربما تعميقه انتظارا لظروف أخرى، ولكن هذا يمكن أن يشمل مشاركة حماس بالإشراف على معبر رفح وفق الصيغة التي طرحتها منذ عام وأعادت طرحها إبان الحرب. وهذا يكرس الانقسام، ولكن يجمده لفترة من الوقت انتظارا للتطورات القادمة، وحتى يتحقق هذا الاحتمال لا بد من تفاهم صامت بين حماس وفتح على القسمة بحيث تبقى الضفة تحت سيطرة فتح، وتبقى غزة تحت سيطرة حماس.


ثانيا: الاتفاق على الحفاظ على الأمر الواقع الحالي، وتغطيته من خلال تشكيل حكومة وفاق وطني تكرس الأمر الواقع بحيث يبقى عمليا هناك سلطة في غزة تسيطر عليها حماس، وسلطة في الضفة تسيطر عليها فتح، أي نوع من الفدرالية أو الكونفدرالية.


ثالثا: استمرار وتعميق الانقسام وتحوله الى انفصال دائم، بحيث تعود حماس لتنفيذ تهديداتها بسحب الاعتراف بشرعية الرئيس وتعيين رئيس آخر، ويمكن ان نشهد انتخابات في الضفة لا تشارك فيها حماس أو تمنع من المشاركة من خلال وضع قوانين وشروط تحصر المشاركة فيها على المؤيدين للمفاوضات وعملية السلام، وللاتفاقات التي عقدتها المنظمة مع اسرائيل. وربما تنظم حماس انتخابات في غزة لا تشارك فيها فتح أو تمنع من المشاركة فيها، يكون هدفها ترسيخ سلطتها ومنحها شرعية شعبية.


إذا كانت حماس أمام خيارين هما: إما المشاركة في سلطة على أساس برنامج م.ت.ف وتلتزم بالشروط الدولية، وفي ظل وقف دائم لإطلاق النار أو طويل الأمد أو الاحتفاظ بسلطتها في غزة ولكن على أساس إمكانية إنهاء الحصار وفتح الحدود والمعابر خصوصا معبر رفح ووقف المقاومة لفترة من الزمن، فإنها ستختار على الأغلب الخيار الثاني. فالخيار الأول يعني أنها ستتخلى عن سلطتها في غزة وعن المقاومة حتى إشعار آخر، وعن حصاد ما حققته من صمود وتأييد فلسطيني وعلى امتداد العالم، بدون أن تضمن المشاركة في السلطة في رام الله، ولا إعادة تشكيل م.ت.ف بحيث تضم حماس والجهاد الإسلامي.


لذلك حماس تريد أن تعرف هل المراحل الثلاثة التي تضمنتها المبادرة المصرية، وهي وقف إطلاق النار المؤقت، والمباحثات الفلسطينية – الإسرائيلية – المصرية لوضع الترتيبات، وتحقيق المصالحة الفلسطينية، ستكون منفصلة عن بعضها البعض أم جزء من رزمة شاملة يتم تطبيقها بشكل متوازي ومتزامن؟


وإذا رفضت حماس أن تلحق بالسلطة بدون أن تضمن المشاركة في المنظمة قبل حرب غزة، فمن الصعب، إذا لم نقل من المستحيل أن تقبل بذلك بعد الصمود العظيم والمقاومة الباسلة والتضحيات الغالية، خصوصا أن مشاركتها في السلطة في الضفة المحتلة تحتاج الى موافقة إسرائيلية، وإسرائيل لا يمكن أن تسمح بذلك، لأن الضفة محل أطماع إسرائيلية واسعة، ولأن على حماس أن توافق على شروط اسرائيل حتى تكون من السلطة بالضفة.


إن أزمة حماس ومن يسير معها أنها قد تضطر للاتفاق على صيغة تتضمن وقف أو تعليق المقاومة لفترة طويلة وهذا يمس بمصداقيتها وبرنامجها ويضرب خيار المقاومة، الذي تقول إنه خيارها الأساسي بالصميم، ويجعل التضحيات الغالية التي قدمت مقابل معبر رفح وتثبيت سلطة حماس، فحماس أقوى سياسيا وأضعف عسكريا.


كما أن أزمة فتح والسلطة والمنظمة لا تنحصر فقط في أن المفاوضات لم تحقق شيئا، بل استخدمتها إسرائيل لفرض الحقائق على الأرض التي تجعل البدائل المفضلة الإسرائيلية للحل، هي البدائل الوحيدة المطروحة للتطبيق، وإن الموقف من العدوان ستدفع نتائجه حركة فتح من جماهيريتها ودورها.


طريق الخلاص الوطني
إن المخرج الوحيد، يتمثل في إقامة وحدة على أساس برنامج وطني لا يخضع للشروط الإسرائيلية، ويقوم على أساس الشراكة الوطنية بديلا عن المحاصصة الفصائلية، وذلك من خلال مراجعة التجربة الفلسطينية بمختلف مراحلها وأشكالها، واستخلاص الدروس والعبر، من المفاوضات وما يسمى عملية السلام، والمقاومة، وبلورة رؤية استراتيجية، تستند الى قراءة دقيقة لطبيعة وخصائص الصراع، والمعطيات المحلية والعربية والإسرائيلية والإقليمية والدولية، ولميزان القوى، تقوم على عدة أسس:


أولها: وضع السلطة في مكانها الصحيح كأداة من أدوات المنظمة بحيث تصبح وسيلة تخضع لخدمة البرنامج الوطني وليست غاية بحد ذاتها، وأصبحت عبئا على البرنامج الوطني.


ثانيا: إصلاح وتطوير وإعادة تشكيل م.ت.ف على أسس وطنية وديمقراطية وواقعية، تجعلها قادرة قولا وفعلا على تمثيل الشعب الفلسطيني وعلى تحقيق أهدافه بالحرية والعودة والاستقلال.


ثالثا: ضرورة اعتماد مفاوضات مثمرة قادرة على إنهاء الاحتلال تستند الى مقاومة مثمرة بعد مجزرة غزة، لا يمكن أن يستمر الحديث عن المفاوضات وعملية السلام مثلما كان قبلها. فالضفة مستهدفة والمقاومة يجب أن تتركز بالضفة، ويجب أن تكون مقاومة ذات جدوى قادرة على تحقيق الانتصار.


فلو أرادت اسرائيل سلاما لما شنت مثل هذا العدوان، ولما ارتكبت كل هذه المجازر.


وإذا كان هناك بقية من حياة لاتفاق أوسلو، فقد قضت عليها الدماء النازفة بغزارة في غزة، والضحايا من الأطفال والنساء والعجائز والصحافيين والأجانب، والمنازل المهدمة، والمدارس المقصوفة، والمساجد المدمرة، والجامعات والوزارات التي مسحت عن وجه الأرض.


إسرائيل تريد فرض التسوية التي تناسبها، وذلك بفرض أحد البدائل المفضلة لديها: إما استمرار الوضع الراهن واستمرار خلق الحقائق الإسرائيلية على الأرض، أو العودة إلى الخطوات الإسرائيلية أحادية الجانب، أو إقامة دولة فلسطينية زائفة تكون محمية إسرائيلية ولا تمتلك من مقومات الدولة إلا الاسم، أو رمي غزة في حضن مصر، والضفة بعد اقتطاع القدس وما تحتاجه من أراضي وثروات ومصادر ومواقع أمنية واستراتيجية في حضن الأردن. أو إقامة ثلاث دول، دولتان فلسطينيتان إلى جانب إسرائيل، كما طالب السفير الأمريكي السابق في الأمم المتحدة جون بولتون.


______________


كاتب فلسطيني