الجيش والحياة السياسية التركية.. تفكيك القبضة الحديدة

تقليص سيطرة العسكر على الحياة السياسية التركية منذ تولي حزب العدالة والتنمية أحد أهم وأبرز التغيرات التي طرأت على بنية الدولة في تركيا منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، وكانت لها انعكاسات مهمة على التطور الديمقراطي الذي يشهده هذا البلد.
25 November 2009







التعديلات القانونية قلصت من تدخل الجيش التركي في السياسة (رويترز-أرشيف)

طارق عبد الجليل


يمكن القول إن تقليص سيطرة العسكر على الحياة السياسية التركية منذ تولي حزب العدالة والتنمية أحد أهم وأبرز التغيرات التي طرأت على بنية الدولة في تركيا منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، وكانت لها انعكاسات مهمة على التطور الديمقراطي الذي يشهده هذا البلد.


تغييرات قانونية
نتائج تقلص الصلاحيات


تغييرات قانونية


فمع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة استصدرت حكومة رجب طيب أردوغان في بدايات عام 2003 حزما قانونية جديدة متوافقة مع معايير كوبنهاجن بهدف إعادة هيكلة المؤسسات. ومثلت سبعة حزم قانونية صادق عليها البرلمان في 30/7/2003 نقطة التحول الأقوى في العلاقة بين العسكريين والمدنيين داخل مجلس الأمن القومي وأمانته العامة وهما الذراعان اللذان ظلا دوما يلعبان دورا مهما في عسكرة الحياة السياسية في تركيا.







بفضل الصلاحيات التي كانت ممنوحة للأمانة العامة لمجلس الأمن القومي أصبح  مرتبطا بعلاقات مباشرة بمؤسسات الدولة مثل مؤسسة الإذاعة والتليفزيون والمجلس الأعلى للتعليم، وجهاز تخطيط الدولة، والمحافظات والوزارات ويقوم بتوجيهها

ولقد تناولت التعديلات الخاصة بمجلس الأمن القومي وأمانته العامة محورين يفضي كلاهما إلى تقليص وضعية المؤسسة العسكرية داخل الحياة السياسية التركية؛ وهما إلغاء هيمنة المؤسسة العسكرية على بنية مجلس الأمن القومي، وتقليص سلطات المجلس التنفيذية.

ولفهم أهمية هذه التعديلات تجدر الإشارة إلى أن سيطرة العسكر على الحياة الدولة والمجتمع التركي تركزت في النقاط التالية:



  1. تعيين المؤسسة العسكرية جنرالات داخل عدد كبير من مجالس إدارات مؤسسات الدولة مثل المجلس الأعلى للتعليم، واتحاد الإذاعة والتليفزيون؛ ليكونوا رقباء لها على هذه المؤسسات. 
  2. توسيع مجال إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية بما يحقق للمؤسسة العسكرية هيمنة كاملة على الحياة السياسية، وإيجاد المبرر الدائم لأي تدخل عسكري بدعوى تحقيق الأمن والحيلولة دون قيام حركات العنف والإرهاب.
  3. تعديل سلطات مجلس الأمن القومي، وهو مجلس كان قد تشكل في دستور 1961، ويتألف من عسكريين ومدنيين. حيث نصت المادة (118) من دستور 1982 على زيادة عدد الأعضاء العسكريين في المجلس بإضافة قادة قوات أفرع القوات المسلحة بغية زيادة الثقل العسكري على المدني داخل المجلس. كما تم تغيير صفة قرارات المجلس من كونها توصيات يدفع بها إلى مجلس الوزراء إلى قرارات يُعلن بها مجلس الوزراء.
  4. ونص دستور 1982 على تشكيل الأمانة العامة لمجلس الأمن الوطني. وقد أوضح القانون المنظم لهذا النص الدستوري وجوب أن يتولى أمانتها فريق أول ترشحه رئاسة الأركان العامة كما تم تحديد مهام الأمانة لتشمل شئون تركيا جميعها؛ العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية فضلاً عن مسئوليتها عن حماية المبادئ الكمالية.

    كما أنها مخولة لمراقبة الجهاز التنفيذي وتوجيه فعالياته والتدخل في إدارته. وللأمانة العامة الحق الصريح في الحصول على المعلومات والوثائق السرية على كل درجاتها وبشكل مستمر عند طلبها من الوزارات والمؤسسات العامة والهيئات والأشخاص.

وبهذه الصلاحيات أصبحت الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي تشكل ذاكرة الدولة ومركز عملياتها. وأصبح مجلس الأمن القومي مرتبطا بعلاقات مباشرة بمؤسسات الدولة مثل مؤسسة الإذاعة والتليفزيون التركية، والمجلس الأعلى للتعليم، وجهاز تخطيط الدولة، والمحافظات والوزارات ويقوم بتوجيهها.


ومن أجل تنفيذ هذه المهام ضمت الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي عددًا كبيرًا من الوحدات التخصصية المعنية بكل من الشئون الاجتماعية، والاقتصادية، والتعليمية والثقافية، والعلمية والتكنولوجية، والإعلامية، ومنظمات المجتمع المدني، ومتابعة شبكة المعلومات الدولية، ودراسة الحالة النفسية للمجتمع.


ويشير ذلك التنوع الجليّ والتخصصية الدقيقة إلى مدى النفوذ والسلطات التي حازتها المؤسسة العسكرية بعد انقلاب 1980، ما جعلها أشبه بجهاز مخابراتي يُعنى بكافة شئون المجتمع التركي وتوجهاته.


من هنا نفهم أهمية التعديلات الدستورية والقانونية التي استطاع حزب العدالة والتنمية إدخالها على بنية الدولة السياسية والتي من خلالها استطاع تقليص تدخل العسكر. وقد تسنى له فعل ذلك من خلال:
تعديل المادة (15) من قانون مجلس الأمن القومي وأمانته العامة؛ فتم إلغاء البند الخاص بوجوب تعيين الأمين العام لمجلس الأمن القومي من بين أعضاء القوات المسلحة برتبة فريق أول/ فريق أول بحري. لتنص بعد تعديلها على إمكانية تولي شخصية مدنية لمنصب الأمين العام للمجلس.


وبالفعل، بانتهاء فترة ولاية الأمين العام للمجلس تم تعيين "محمد البوجان" في 17 أغسطس/آب 2004، ليكون بذلك أول شخصية مدنية تتولى منصب الأمين العام لمجلس الأمن القومي.


وبتعديل المادة الخامسة أيضًا أصبح انعقاد المجلس الدوري مرة كل شهرين بدلاً من مرة كل شهر. كما أن التعديل الذي جرى على المادتين (4) و (13)، وكذلك إلغاء المواد أرقام 9، 14، 19 من القانون ذاته قد قلص بشكل واضح من سلطات المجلس وأمينه العام.


فقد تم تعديل المادة الرابعة التي كانت تُكلف مهام المجلس وأمانته العامة بالمتابعة والتقييم الدائم لعناصر القوى الوطنية، وكذلك متابعة أوضاع الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتقنية انطلاقًا من أن المجلس هو الحامي للنظام الدستوري، والقائم على توجيه القيم الوطنية نحو المبادئ الأتاتوركية. فاقتصرت المادة الرابعة بعد تعديلها على تحديد مهمة المجلس واقتصارها على رسم وتطبيق سياسة الأمن الوطني، والقيام بإخبار مجلس الوزراء بآرائه ثم ينتظر ما يسند إليه من مهام ليقوم بتنفيذها ومتابعتها.
وبهذه الكيفية يكون مجلس الأمن القومي وأمانته العامة قد تحول إلى جهاز استشاري وفقد إلى حد كبير وضعيته التنفيذية.





التعديلات التي جرت على وضعية الجيش ومن ثم دوره في الحياة السياسية، وبفضل النجاحات التي أحرزتها حكومة العدالة والتنمية على مختلف الجبهات الداخلية والخارجية توارى الجيش في ثكناته واستسلم لوضعيته الجديدة، واكتفى بدوره العسكري

كما أن المادة رقم (13) التي تحدد مهام الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي قد تم تعديلها؛ على نحو جعلها تفقد دورها الرقابي ومبادرتها في إعداد قرارات مجلس الأمن القومي ووضع الخطط والمشروعات للوزارات والهيئات والمؤسسات؛ لتصبح مهمة الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي قاصرة فقط على "تنفيذ ما يكلفها به المجلس من مهام".


أما إلغاء المواد أرقام 9 ، 14، 19 فقد سحب من الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي حقها في الحصول على المعلومات والوثائق السرية بكل درجاتها عند طلبها من الوزارات والمؤسسات العامة والهيئات ورجال القانون.


كما تم إجراء تعديل على المادة رقم (30) من قانون الجهاز المحاسبي التي كانت تعفي الكوادر العسكرية من الخضوع للرقابة المالية؛ لتصبح المؤسسة العسكرية وكوادرها خاضعين لإشراف ومراقبة الجهاز المركزي للمحاسبات.


كما تم إجراء تعديل دستوري بتاريخ 7 مايو/أيار 2004 على المادة 131 الخاصة بالمجلس الأعلى للتعليم حيث تم إلغاء عضوية الجنرال العسكري دخل مجلس إدارة المجلس الأعلى للتعليم. وبتعديل دستوري آخر في أغسطس/آب 2004 تم إلغاء الفقرة الخاصة بعضوية الجنرال العسكري داخل اتحاد الإذاعة والتليفزيون. وبهذا أصبح، ولأول مرة المجلس الأعلى للتعليم، واتحاد الإذاعة والتليفزيون مؤسستين مدنيتين بالمعنى التام، دون وجود أي رقيب عسكري.


وشملت التعديلات الدستورية والقانونية أيضًا السماح برفع الدعاوى القضائية لاستجواب ومقاضاة الجنرالات القدامى بشأن قضايا الفساد، وإلزام العسكريين بالإدلاء بالتصريحات الإعلامية فقط في المجالات التي تتناول الشأن العسكري والأمني، وتحت إشراف السلطة المدنية أيضًا، وكذلك تم إلغاء إمكانية محاكمة المدنيين داخل المحاكم العسكرية. المادة رقم (19).


نتائج تقلص الصلاحيات 


وإزاء كل هذه التعديلات التي جرت على وضعية الجيش ومن ثم دوره في الحياة السياسية، وبفضل النجاحات التي أحرزتها حكومة حزب العدالة والتنمية على مختلف الجبهات الداخلية والخارجية توارى الجيش في ثكناته واستسلم لوضعيته الجديدة، واكتفى بدوره العسكري، ولاسيما وأنه قد أحرز خلال تلك الفترة نجاحات عسكرية في مواجهة حزب العمال الكردستاني، ما حقق له استعادة هيبته ومكانته لدى الشعب التركي.


غير أن ذلك كله لا يدفع إلى القول بأن عهد تدخل الجيش في السياسة قد ولَّى؛ وما يمكن الجزم به فقط، هو أن عهد الانقلابات العسكرية في تركيا بات في ذمة التاريخ أما حق تدخل الجيش في الحياة السياسية فلا يزال مكفولاً له في دستور 1982 الحالي لحماية مبادئ الجمهورية. ولذلك فإن جهود حزب العدالة والتنمية الحالية لسن دستور مدني جديد ترنو -فيما ترنو إليه- إلى وضع المؤسسة العسكرية في مكانها الدستوري الصحيح وفق معايير النظم الديمقراطية الحقيقية.
_______________
عضو هيئة التدريس بجامعة عين شمس ومتخصص في تاريخ تركيا الحديث والمعاصر. النص ملخص لدراسة موسعة يمكن الاطلاع عليها بالضغط هنا


عودة للصفحة الرئيسية للملف