مسارات "الانقسام المتدحرج" في المشهد العربي

الأكيد، ظاهرياً على الأقل، أن النظام العربي الرسمي نشأ كرد فعل على نشوء قضية فلسطين، وبالتالي زرع الدولة العبرية في المنطقة العربية. وما لبثت قضية فلسطين أن تحولت إلى شماعة تعلق عليها كل أنواع الأمراض السياسية والفكرية التي عانى منها الجسد العربي.
26 March 2009

عبد الوهاب بدرخان


اختبارات صعبة للنظام العربي 
عوامل الانقسام الراهن 
خلاصة


سنوات كثيرة مضت، وكلام العرب وغير العرب لا يتوقف عن وصف أحوال العرب والإشارة إلى صعوبات تكتنف أوضاعهم: تشرذم وانقسامات، ضعف وعجز وتراجع، إحباطات وتمزقات وغضب، تخلف الأنظمة والحكومات واستحالة إصلاحها، خسارات أمام تحديات الحداثة ومراوحة أمام فرص التنمية...


أي باختصار، هذه كتلة دول وشعوب متواصلة جغرافياً، متقاربة اجتماعياً وثقافياً، لكن غير متعاونة ولا متكاملة اقتصادياً، وعلى رغم ترابطها الموضوعي سياسياً، خصوصاً في معاناتها من تدخلات القوى الخارجية، إلا أنها في دفاعها عن قضاياها تتحول إلى كتل ووحدات متشظية، تفرقها مصالحها بدل أن تقرب بينها. ومع أن التجارب بينت أن التفرد أو الانفراد لم يكن مجدياً في تحصيل مصالح دائمة وأن التخلص من الارتباط العربي الإقليمي متعذر، إلا أن البديل الجمعي والثنائي لم يعد عملياً أيضاً. 


هذا الوضع من التسيب والانحلال جعل بعض الدوائر الدبلوماسية وكذلك البحاثة والمحللين يعتبرون أن التعامل مع العالم العربي متعذر، ويعللون ذلك بعدم وجود دول ذات سياسات واضحة وثابتة، وعلى رغم أنها تنطق بالعربية إلا أن كل عاصمة منها تتحدث بلغة مختلفة لا تتوافق ترجماتها على سياسة محددة، وكلما بدا الخطاب موحداً كلما كانت المواقف متباينة.


ولذلك، فإن القوى الخارجية المعنية بالقضايا العربية تختار من تلك اللغات ما يناسبها، وتحاول تعميمها، لكن هذه محاولة لا تنجح دائماً، أي أنها لا تتوصل إلى بناء حلول صلبة قابلة للاستمرار، وفي حال بروز حالات اعتراض أو ممانعة، فإن القوى الخارجية لا تجد ما تخشاه فعلاً، طالما أنها مستندة إلى قاعدة قوية تتمثل في الانقسام العربي.





مع إنشاء جامعة الدول العربية ارتسمت ملامح "نظام عربي رسمي" مما أتاح توقعات وطموحات بأن عناصر التنابذ ستذوب مع الوقت وأن منظومة عمل مشتركة ستتبلور وتتمأسس. كان ذلك طموحاً طبيعياً ومشروعاً، لكنه لم يتحقق
كانت العلاقات العربية ولا تزال تاريخاً من الخلافات، والهدنات التي تتخلل الخلافات، وحالات التقارب والتضامن الآنية والمتقطعة. ومع إنشاء جامعة الدول العربية ارتسمت ملامح "نظام عربي رسمي" مما أتاح توقعات وطموحات بأن عناصر التنابذ ستذوب مع الوقت وأن منظومة عمل مشتركة ستتبلور وتتمأسس. كان ذلك طموحاً طبيعياً ومشروعاً، لكنه لم يتحقق. كان يتطلب تطويراً طبيعياً لأنظمة الحكم لكنه لم يتحقق، وكان يستلزم تطويراً للعقلية التي تدير الشأن العربي، كأن تفصل مثلاً بين التعامل مع مسائل السياسة والأمن والدفاع وهو صعب بل يشارف المستحيل أحياناً، وبين التعامل مع شئون الاقتصاد والثقافة والحياة اليومية للشعوب والمجتمعات وهو ممكن بل يتجاوز الصعوبات في معظم الأحيان. لكن هذا لم يتحقق على النحو المبتغى، أو أمكن إنجاز بعض التقدم فيه من دون أن تكون الدول صاحبة الفضل فيه، وإنما ضغوط الضرورة

الأكيد، ظاهرياً على الأقل، أن ذلك النظام العربي الرسمي نشأ كرد فعل على نشوء قضية فلسطين، وبالتالي زرع الدولة العبرية في المنطقة العربية.


قضية فلسطين هزت العالم العربي وأحبطته وهو في لحظة ولادة الدول المستقلة، وما لبثت أن تحكمت بمسارات الفكر السياسي العربي وتطبيقاته. وكان من نتائجها السلبية العميقة أن العرب تيقنوا بأن إسرائيل شكلت بديلاً مقيماً في عقر دارهم يقوم مقام الاستعمار الراحل لتوه عن أراضيهم. لذلك ولدت الاستقلالات مشوهة ومفخخة ومقيدة أو مصابة بعاهات لا تزال آثارها فاعلة حتى الآن. وما لبثت قضية فلسطين أن تحولت إلى شماعة تعلق عليها كل أنواع الأمراض السياسية والفكرية التي عانى منها الجسد العربي.


وكما انقسم العالم في النصف الثاني من القرن العشرين بين شرق وغرب كذلك انقسم العالم العربي ليس في خياراته السياسية فحسب وإنما أيضاً في خياراته الاقتصادية والاجتماعية، إلا انه خذل نفسه في كل الأحوال، فلا أنصار الغرب (الأميركي) جنحوا إلى الديمقراطية وتكريس الحريات، ولا أنصار الشرق (السوفياتي) توصلوا إلى اقتصاديات إنتاجية تنموية مستقرة الفاعلية.


كانت "الوحدة العربية" ولا تزال محققة، وبجدارة، عبر الأنظمة المتسلطة التي نجح معظم الحكام في إقامتها وتتطابق في أهدافها وممارساتها حتى عندما تكون هناك خلافات مستحكمة بين الحكام أنفسهم.


على رغم أن الحروب العربية ـ الإسرائيلية والهزائم التي انتهت إليها كانت كفيلة بتفكيك ذلك النظام العربي الرسمي، إلا أنه صمد أمامها، بل اتخذ حالة تضامن استطاعت أحياناً كثيرة أن تبرهن عن شيء من الفاعلية، كما غداة هزيمة 1967 (قمة الخرطوم) بالتضامن على "اللاءات"، أو غداة حرب 1973 باستخدام "سلاح النفط".


لا شك أن قضية فلسطين كانت توثق الروابط بين مختلف أطراف العالم العربي وكانت اللحمة التي توصل بين مختلف الأنظمة مهما تباينت علاقاتها الثنائية. لذلك فإن الضربة الأولى لهذا النظام جاءت عام 1977 عبر زيارة الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات للقدس المحتلة، واستطراداً عبر الصلح المصري- الإسرائيلي عام 1979 وما تبع ذلك من تعليق لعضوية مصر في الجامعة العربية ونقل مقر الجامعة إلى تونس.



اختبارات صعبة للنظام العربي


شكل التفرد المصري ضربة قاسية للنظام العربي الرسمي، كشفته وأضعفته وأفقدته خيار الحرب ضد إسرائيل إلى غير رجعة، حتى أن الفترة التي تلت هذا التطور لم تشهد سوى محاولات غير موفقة لإدارة الضعف العربي. وفي هذا السياق بدا العرب بلا إستراتيجية بديلة، ومنذ ذلك الوقت دخلوا في شبه ضياع لا تزال آثاره بادية حتى الآن رغم التغييرات الكثيرة التي طرأت.





بعد زياة الرئيس السادات للقدس وبعد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية فقد العرب خيار الحرب ضد إسرائيل وبدوا بلا إستراتيجية بديلة، ومنذ ذلك الوقت دخلوا في شبه ضياع لا تزال آثاره بادية حتى الآن رغم التغييرات الكثيرة التي طرأت
ففي أعقاب حرب 1973، راحت الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في 1975 تعطي مؤشرات خطيرة إلى صراعات عربية على الثورة الفلسطينية وداخلها، وتمثل ذلك في إقبال دول عربية على دعم أطراف الحرب اللبنانية، حتى أن التمويل لهذا الطرف ولخصمه كان يأتي أحياناً من مصدر عربي واحد في آن.

يشار هنا إلى أن أبرز المآخذ التي أعلن الرئيس السادات أنها دفعته إلى الانفراد في الذهاب إلى صلح مع إسرائيل، كان ضعف الالتزام العربي في دعم المجهود الحربي المصري. لكن "عدم الالتزام" ترسخ كسمة ملازمة لما يسمى "العمل العربي المشترك". ومع الوقت صارت قرارات مؤسسات الجامعة، خصوصاً القمة العربية تعاني من مصداقية مفقودة، وبات الرأي العام أو الشارع العربي يعاملها بلا مبالاة كأنها لا تعنيه إطلاقاً.


في العام 1990 جاءت الضربة الثانية للنظام العربي الرسمي عندما دخل الجيش العراقي واحتل الكويت. حصل فرز مؤلم في الجسم العربي، لكن الدول الرئيسية في المشرق - مصر والسعودية وسوريا-، كذلك المغرب، حسمت الموقف. لم يكن ممكناً قبول احتلال دولة عربية لدولة عربية أخرى مهما كانت الأسباب. لكن الاحتلال نفسه ثم التحرير أديا إلى تغيير بنيوي في طبيعة النظام العربي، على رغم الجهود التي بذلت للحفاظ على تماسكه.


وما إن انتهت تلك الأزمة حتى عرفت المنطقة أنها موعودة بل محكومة بأزمة حرب ثانية، فالوجود الأميركي الذي انزرع فيها كان يتطلع إلى ترتيبات أمنية وسياسية دائمة تخدم مصالحه البعيدة المدى وتحميها.


وعلى رغم أن النظام العراقي السابق برئاسة صدام حسين حاول ربط غزوه الكويت واحتلالها بقضية فلسطين وتحرير الأرض السليبة، إلا أن القوى العربية والغربية التي اتحدت لإخراج قواته من الكويت رفضت هذا الربط، مع ذلك فإن المهمة الأولى التي استخلصتها الولايات المتحدة بعد تحرير الكويت وعلمت مقدار إلحاحها على العالم العربي كانت ضرورة إنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي، ما شكل بداية ما عرف فيما بعد بـ "عملية السلام".


وقبل ذلك كان النظام العربي الرسمي تعرض أيضاً لامتحان صعب خلال الحرب العراقية- الإيرانية (1980 – 1988). هذه الحرب أطاحت فرصة إستراتيجية مهمة، تمثلت في سقوط نظام الشاه في إيران وقيام الثورة الإسلامية. وقد اعتبر هذا التطور من التغييرات الإستثنائية التي كان يفترض أن ينتهزها العرب لإيجاد خطوط مصالح معها، خصوصاً أن طهران الجديدة كانت منفتحة على عدد من الجهات العربية وبالأخص على قيادة الثورة الفلسطينية.





المشكلة التي واجهها النظام العربي في السنوات الأخيرة كانت مشكلة جدية وعميقة، كانت مشكلة خيارات إستراتيجية تتعلق بـ "عملية السلام" التي أنجز جزء منها وتركت طويلاً غير مكتملة، فكان أن قسمت العرب تلقائياً بين مصالحين ومنتظرين غير مصالحين
إلا أن النظام العربي لم يكن حينئذ في وضع يسمح له بأخذ هذا المعطى في اعتباره، فمصر السادات اختارها الشاه المخلوع كدولة لمنفاه، والسعودية التي لم تكن جيدة التعايش مع الشاه لم تجد ما يشجعها على مد اليد للحكام الجدد تحديداً بسبب الهواجس المذهبية، في حين أن سوريا حافظ الأسد اهتمت وحدها بالتقارب مع إيران لأنها كانت تبحث عن أي عنصر مستجد يمكن أن يعوضها خسارة مصر في جبهة المواجهة مع إسرائيل.

وبديهي أن الحرب العراقية-الإيرانية تسببت بحالة شرخ أخرى في الجسم العربي فمع التأييد الذي أظهره عدد من الدول العربية للعراق في حربه كان هناك عدد آخر تفهم موقف سوريا واعتبر أن هذه الحرب لم تكن ضرورية وأنها على العكس كانت تلبي مصالح غربية أكثر مما تحقق مصالح عربية. وقد شغل هذا الخلاف القمة العربية (عمان 1987) مُظهراً اتساع الشقة بين دمشق وبغداد ومحاولة دول مجلس التعاون الخليجي التقريب بينهما لكن من دون جدوى.


وبعد انتهاء الحرب العراقية-الإيرانية في أغسطس/ آب 1988 ما لبث لبنان أن تحول مجدداً ساحة لصراع سوري- عراقي حين قدمت بغداد دعماً عسكرياً كبيراً للجنرال ميشال عون، الذي كان تسلم الرئاسة اللبنانية، وخاض قتالاً مستهدفاً إخراج القوات السورية من لبنان. وقد تفجر هذا الخلاف في القمة العربية في الدار البيضاء (1989) التي شكلت لجنة عربية ثلاثية استطاعت في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه جمع أعضاء المجلس النيابي في الطائف (السعودية) حيث توصلوا إلى اتفاق ينهي الحرب، ويعدل الدستور، ويسهل انتخاب رئيس جديد للجمهورية.


عوامل الانقسام الراهن


هذا المسح السريع للحقبة التاريخية التي سبقت المرحلة الراهنة يعطي خريطة للمحاور التي ستسود الحراك العربي طوال ما يقرب من عقدين (1990- 2009) وأبرزها: عملية السلام، الوضع العراقي، تغييرات أساسية في مكونات النظام العربي الرسمي.


1ـ عملية السلام:
أشرنا إلى أن خروج مصر من الصراع العربي- الإسرائيلي بدءاً من 1977 شكل إيذاناً بتراجع خيار الحرب عربياً، وبداية حقبة البحث عن سلام شامل . وبعد مرور 32 عاماً على ذلك التطور الإستراتيجي الخطير، لا تزال مقولة "لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سوريا " صحيحة.





خروج مصر من الصراع العربي- الإسرائيلي بدءاً من 1977 شكل إيذاناً بتراجع خيار الحرب عربياً، وبداية حقبة البحث عن سلام شامل. وبعد مرور 32 عاماً على ذلك التطور الإستراتيجي الخطير، لا تزال مقولة "لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سوريا " صحيحة.
إلا أن تغييراً جذرياً حصل في مفاهيم الحرب والسلم، وبرهنت حرب لبنان (2006) أن إسرائيل يمكن أن تخوض حرباً وتخسرها إذ لا تتمكن من تحقيق أهدافها، فيما أكدت التطورات فلسطينياً أن سلاماً لن يتحقق فعلاً إلا إذا تم التوصل إلى تسوية عادلة مع الفلسطينيين.

على أي حال، بعد الصلح المصري- الإسرائيلي، فرض الواقع منطقه فـ "جبهة الصمود والتصدي" التي شكلت رداً على الانفراد المصري، إذ لم تتمكن هذه الجبهة من بناء إستراتيجية حرب، لذا جرت محاولة أولى في قمة فاس 1 (1981) لتأمين إجماع عربي على ما عرف بـ "خطة فهد" -ولي العهد السعودي آنذاك-، إلا أن القمة أجهضت ولم تنعقد، أما المحاولة الثانية في قمة فاس 2 (1982) فنجحت وولدت الخطة بعد أيام من انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية في الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وبعد خروج قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المختلفة لتتوزع بين تونس وسوريا والعراق واليمن.


وأقرت "خطة فهد" الذي أصبح ملكاً بموافقة الرئيس العراقي والسوري اللذين كانا في أشد الحاجة إلى الدعم(الأول لإكمال حربه ضد إيران، والثاني لتعويض خسائره العسكرية الكبيرة في المواجهات السورية الإسرائيلية في لبنان) لكن هذه الخطة لم تلق تفعيلاً دولياً، لا من الولايات المتحدة، ولا من الاتحاد السوفياتي، فيما تلقتها إسرائيل على أنها تأكيد جديد لزوال خطر الحروب العربية التقليدية ضدها.


سيلعب هذا العنصر السلبي(غياب خيار الحرب عربياً)، دوراً سلبياً للغاية في مصير عملية السلام لاحقاً، بعد مرور نحو عقد، عندما طرح الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) في فبراير/ شباط 1991 مبادرة لعقد مؤتمر دولي للسلام، لم تتحمس إسرائيل لهذه المبادرة، وحاولت إحباطها، ثم رضخت وذهب رئيس حكومتها آنذاك إسحاق شامير إلى مؤتمر مدريد على مضض، وقد سبقته تصريحات مفادها أن المسألة بالنسبة لإسرائيل ستكون مجرد مفاوضات طويلة بلا نهاية.


كان يقصد المسار الفلسطيني، وتبين بعدئذ أنه قصد أيضاً المسار السوري ولو بدرجة أقل.


صحيح أن الصلح المصري- الإسرائيلي استمر، وأن اتفاقاً وقع بين الأردن وإسرائيل، إلا أن المغزى الجوهري لعملية السلام التي أيدها العرب جميعاً واعتبروها خياراً إستراتيجياً، كان ولا يزال الوصول بالمنطقة إلى حال من الاستقرار السياسي، والازدهار الاقتصادي لكن بعد 18 عاماً، في 2009، لا تزال مقولة شامير فاعلة.


وكما أن إسرائيل لم تستوعب دروس الانتفاضة الأولى وراهنت على القمع وحده، فإنها قللت من أهمية المعطى الذي طرأ مع تطور المقاومة اللبنانية وذلك على رغم اضطرارها عام 2000 للإنسحاب من جنوب لبنان بقرار أحادي الجانب ولاشك أنها بالغت في الاعتقاد بأن السلام مع الأنظمة وحدها يمكن أن يسمح لها بالتهرب من التزاماتها فيما يتعلق بالاتفاق مع الفلسطينيين، كما تجاهلت أن تلك الأنظمة تحتاج إلى سلام حقيقي مع الفلسطينيين من أجل استقرارها.


كانت المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين بدأت تتعثر وتترنح منذ 1996، ثم شكل الفشل في محادثات كامب ديفيد عام 2000 شرارة انطلاق الانتفاضة الثانية والمدخل الذي استخدمته إسرائيل للانقلاب على اتفاقات السلام وإضعاف السلطة الفلسطينية وتقويض مؤسساتها.


ثم إن محاصرة الرئيس ياسر عرفات في مقره، واستخدام السم لاغتياله، أنهيا عملياً "المشروع الوطني الفلسطيني" كما عرفه العرب طوال نحو أربعين عاماً وفي الوقت نفسه كانت "عملية السلام" نفسها وصلت إلى طريق مسدود ولم تعد تلك التي عرفها العرب منذ 1991 ووافقوا عليها.


2ـ الحرب على العراق:
دخلت المنطقة العربية إذاً مرحلة خطيرة تتطلب مراجعة شاملة لـ "عملية السلام". لكن الولايات المتحدة تركت إسرائيل تتابع سياسة القبضة الحديدية ضد الفلسطينيين، وتفرغت بشكل كامل لشن حربها على العراق.





لا تزال أزمة "عملية السلام" تلقي بثقلها، واستطراداً لا تزال إشكالية العلاقة مع إيران ماثلة أيضاً، ولا يمكن مقاربة الملفين بالضغوط والتواطآت والفتن الجانبية المصطنعة وإنما بإعادة النظر في الإستراتيجية العربية وإعادة تحديد الخيارات خصوصاً في ما يتعلق بالصراع العربي- الإسرائيلي الذي لم ينته
أرادت واشنطن هذه الحرب انتقاماً متعدد الأهداف: انتقام لـ " المهمة غير المكتملة "في حرب" "عاصفة الصحراء " مطلع 1991، وانتقام مستكمل لهجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن بعد انتقام أول في أفغانستان.

على رغم المواقف المتفاوتة التي قوبل بها غزو العراق واحتلاله من جانب الدول العربية، تعاوناً أو تفهماً أو تواطؤاً أو سكوتاً، فإن الولايات المتحدة لم تصادف أي إزعاج عربي في حملتها. ومع ذلك فإنها تسلمت شئون العراق مصممة على فصله تماماً عن العالم العربي، لكنها تصرفت عكس ذلك حيال إيران التي غدت معنية مباشرة بكل تفاصيل مخاض ولادة النظام العراقي الجديد على المستويين الأمني والسياسي. وذهبت بعض التحليلات العراقية والأميركية إلى القول بأن واشنطن التي لم تكن غافلة عن التغلغل الإيراني إنما أرادت هذا الدور لسببين على الأقل:


1ـ أن الأميركيين كانوا بحاجة إلى الشيعة لبناء النظام البديل.


2ـ أنهم أرادوا استخدام هذا العنصر الإيراني من قبيل الثأر من العرب السنة الذين تعتبرهم مسئولين عن هجمات 11 سبتمبر 2001.


واقع الأمر أن الأميركيين لم يكونوا قادرين على إحباط الدور الإيراني أو وضع حد له أو السيطرة عليه.


تسبب غزو العراق واحتلاله، وما نتج عنه من وجود أميركي مباشر في قلب العالم العربي، وما رافقه من تهديدات أميركية واضحة لجوار العراق، بمخاوف من توسيع نطاق الغزو والاستناد إلى إسقاط نظام الرئيس صدام حسين للمضي في سياسة تغيير الأنظمة.


لكن أحوال الأميركيين في العراق ما لبثت أن تغيرت بعد اندلاع المقاومة بمختلفة أشكالها وأساليبها، كذلك بعد نشوب الاقتتال المذهبي في مناطق عديدة في الوسط فضلاً عن بغداد الكبرى. وشيئاً فشيئاً غرق الأميركيون في المستنقع العراقي إلى الحد الذي فرض مسألة الانسحاب على أجندة إدارة بوش ثم على الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2008.


لم تكن إيران وسوريا غريبتين عما يحصل في العراق، أولاً لأنهما كانتا مستهدفتين، وثانياً لأنهما كانتا معنيتين. ولا شك أن هذه المهمة في العراق قد شحذت التحالف بينهما. وفي ذلك الوقت كان العرب الآخرون يراقبون ويترقبون من دون أي دور، لا ضد الاحتلال الأميركي، ولا مع النظام العراقي الذي لم تكن معالمه قد تبلورت بعد.


ومع تأكد وجود النفوذ الإيراني في العراق بدأ الصوت يعلو شيئاً فشيئاً بخصوص الملف النووي، الذي تحول تدريجياً إلى أزمة دولية وإقليمية. وبالتالي بدأت تلوح في الأفق بوادر حرب ظلت واردة حتى نهاية ولاية بوش وبدت أحياناً وشيكة. وفي غضون ذلك كانت سوريا قد اضطرت إلى الانسحاب من لبنان.


3ـ الانقسام:
بعد خسارتين إستراتيجيتين متتاليتين، في عملية السلام للشرق الأوسط وفي غزو العراق، بدا المعسكر العربي التقليدي ممثلاً بمصر والسعودية من دون سوريا بلا أي خيارات، بلا أي إستراتيجية أخرى غير الاعتماد على السياسة الأميركية على رغم التباس أهدافها وتكتيكاتها. لكن المعسكر السوري- الإيراني استطاع أن يبرهن أن لديه إستراتيجية مواجهة محكمة معتمداً خصوصاً على الإحباطات التي تسبب بها انهيار عملية السلام فضلاً عن غزو العراق. كما أن الانقسامات العربية ساهمت في دفع هذا المعسكر للذهاب إلى أقصى حالات التصعيد والتحدي.


فمن جهة، أدى اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في العام 2005 إلى نهاية الشراكة السورية السعودية في رعاية الشأن اللبناني، ومن جهة أخرى، أدى التحالف السوري الإيراني إلى تباعد تدريجي بين مصر وسوريا وكذلك بين السعودية وسوريا.





مع انفراط هذا المثلث العربي المحوري (مصر، السعودية، سوريا) توزعت الدول العربية الأخرى على مسافات متفاوتة من الطرفين، ما أنتج لاحقاً ما سمي "محور الاعتدال" في مقابل "محور الممانعة" لكن أكثرية  الدول العربية فضلت أن تبقى في منطقة وسطية إما لأنها استبعدت أو لأنها لم تجد مصلحة حقيقية في الميل إلى هذا المحور أو ذاك
ومع انفراط هذا المثلث العربي المحوري توزعت الدول العربية الأخرى على مسافات متفاوتة من الطرفين، ما أنتج لاحقاً ما سمي "محور الاعتدال" في مقابل "محور الممانعة" لكن أكثرية في داخل الدول العربية الـ 22 فضلت أن تبقى في منطقة وسطية إما لأنها استبعدت أو لأنها لم تجد مصلحة حقيقية في الميل إلى هذا المحور أو ذاك.

مطلع العام 2006 جاءت المفاجأة من فلسطين، حيث سجلت حركة "حماس" فوزاً كبيراً في الانتخابات التشريعية. لم يكن لهذا الحدث أن ينعكس بالضرورة على المناخ العربي، إلا أن رد الفعل الإسرائيلي والأميركي والأوروبي عليه أحدث إشكالاً بالغ الصعوبة. وفيما اتضح للعالم أن الاقتراع شكل نوعاً من المراجعة الفلسطينية لمسألتي التفاوض والتسوية السلمية، فإن المعسكر العربي التقليدي لم يدرك أن تغييراً قد حصل، بل لم يعترف به علناً، وبالتالي لم يهتد إلى الطريقة الفضلى للتعامل معه وظل متمسكاً بخيار السلام كعنوان إستراتيجي ولو من دون أي مضمون. أما "محور الممانعة" فاحتضن التغيير وحاول البناء عليه.


وعلى رغم أن المحور الإسرائيلي- الغربي حافظ على اعترافه بالسلطة الفلسطينية إلا أنه لم يتمكن من تعزيز موقفها لا في مفاوضات التسوية ولا بالمساعدات المالية، ولا حتى بإنهاض المؤسسات الأمنية منها.


لحظة اندلاع حرب يوليو/ تموز 2006 كانت حاسمة في مفاقمة الانقسام العربي. إذ بادر "محور الاعتدال" إلى اتخاذ موقف سلبي من "حزب الله" واتهمه بالمغامرة والتهور فيما كانت الطائرات الإسرائيلية تدك مناطق هي في معظمها مدنية وسكنية. في ما بعد جرت محاولات لتصحيح هذا الموقف، لكن الشرخ كان قد ارتسم.


اعتبرت تلك الحرب مواجهة أميركية- إيرانية، من خلال إسرائيل و"حزب الله" وسمحت نتيجة الحرب لـ "محور الممانعة" بإعلان نصر ليس على الولايات المتحدة وإسرائيل فحسب بل أيضاً على الدول العربية التي راهنت على نتيجة مختلفة للحرب.
 
كانت الحرب وضعت الحكومة اللبنانية في موقف بالغ الصعوبة والدقة، لكنها تعاملت مع جانبها الدبلوماسي بأقصى ما أمكنها من التنسيق مع "حزب الله".


وغداة وقف إطلاق النار بدأت مرحلة جديدة في لبنان عنوانها مطالب محلية وفحواها تصفية حسابات إقليمية. أي أنها تحولت إلى ورقة أخرى في ملف الانقسام العربي الذي راح يكبر ويتعمق. وكان واضحاً أن الحكومة نالت دعم "محور الاعتدال" العربي وامتداداته الدولية، فيما وقف "محور الممانعة" وراء المعارضة. ولم تفد الضغوط لحل هذه الأزمة قبيل قمة دمشق في آذار/ مارس 2008 التي انعقدت بمشاركة رمزية من جانب السعودية ومصر والأردن، وقاطعها لبنان. شكل ذلك ذروة الانقسام والخلاف العربيين وانسدّت الآفاق المحتملة لتجاوزها.


لكن التطورات التي تفجرت في بيروت بعد شهرين (مايو/ أيار) حتمت البحث عن حل، فكان مؤتمر الحوار في العاصمة القطرية وما توصل إليه من "اتفاق الدوحة" الذي شق الطريق لانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة تتمثل فيها مختلف الأطراف وتكون من أبرز مهماتها إجراء انتخابات في ربيع 2009.


لكن العام 2008 لم يمض قبل أن يحدث إنقسام آخر حول أسلوب التعامل مع الحرب الوحشية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، بل بدا هذا الانقسام أخطر في عواقبه وأشد تعقيداً، تحديداً لأنه تناول الموقف من القضية الفلسطينية التي لا تزال مركزية في جوهرها.
وكما في لبنان كذلك في فلسطين حصل الاصطفاف نفسه، وفيما تمسك "محور الاعتدال" بالسلطة الفلسطينية وما تمثله من رمز لاستمرار "عملية السلام" بذل "محور الممانعة" كل ما في وسعه لتأمين اعتراف ما بالمقاومة العائدة ممثلة بحركة "حماس".


وقد برز خصوصاً في هذا الصراع خلاف موضوعي حاد على "عملية السلام" ومسارها الحالي ومستقبلها، مما أدى إلى طرح صريح لضرورة سحب المبادرة العربية للسلام أو تجميدها. وتخلل ذلك تشكيك بـ "شرعية" السلطة، كما طرح احتمال تشكيل "منظمة تحرير فلسطينية" بديلة. لكن الدعوة الأعلى صوتاً التي حظيت بتوافق عربي واضح كانت تلك التي شددت على ضرورة تحقيق مصالحة فلسطينية- فلسطينية. وعلى رغم أن مصر عملت طويلاً في هذا السبيل إلا أن السعي إلى المصالحة لم ينجُ من التنافس والاشتراطات بين الأطراف العربية المعنية.


وبلغ الانقسام هذه المرة حد الصراع على عقد قمم "طارئة" لاتخاذ موقف مما يحدث لغزة وفيها. فأخذت قطر على عاتقها الدعوة إلى قمة طارئة فور بداية العدوان (27/12/2008)، لكن اجتماع وزراء الخارجية في القاهرة فضل اللجوء إلى مجلس الأمن للحصول على قرار بوقف لإطلاق النار، واستغرق الحصول على هذا القرار أكثر من أسبوع ولم تلتزم به إسرائيل، ما دفع الدوحة إلى معاودة الدعوة إلى القمة.


كان موقف دول "محور الاعتدال"، غير المعلن، يستند إلى الاعتقاد بأن "محور الممانعة" كان وراء الدعوة إلى تلك القمة، وبأن الدوحة نابت عن دمشق (التي تتولى الرئاسة الدورية للقمة) في توجيهها تجنباً للإشكالات مع الرياض والقاهرة. أكثر من ذلك، اعتبر "محور الاعتدال" أن الدوحة ودمشق تريدان أيضا دعوة إيران إلى القمة، وبالتالي فهذا سبب كاف لرفض انعقادها وحضورها.


وهكذا نشبت حرب اتصالات بالعواصم لتشجيعها من هذا الجانب على المشاركة أو لثنيها من ذاك الجانب عن الحضور. وفي النهاية اكتفى "محور الممانعة" بعقد قمة خاصة بغزة (16/1/2009) من دون رعاية جامعة الدول العربية، لكن بمشاركة خمس دول إسلامية كبرى بينها إيران، وفيما قاطعت السلطة الفلسطينية، فإن فصائل المقاومة وبالأخص "حماس" شاركت. أما "محور الاعتدال" فركز على طرح قضية غزة في قمة الكويت (19/1/2009) التي كانت أصلاً مخصصة للاقتصاد والتنمية. وكان أبرز ما شهدته هذه القمة مبادرة طرحها العاهل السعودي الملك عبدالله من أجل مصالحة عربية، وتبع ذلك لقاء ضمه وقادة مصر وسوريا والكويت وقطر والبحرين والأردن. لكن قرارات القمة نفسها لم تعكس هذا الانفراج الجزئي بسبب الخلافات، إلا أنها نصت على ضرورة تفعيل المصالحة.


خلاصة


إن الانطباع الطاغي هو أن النظام العربي الذي نعرفه لم يعد كما كان، أو لم يعد يستطيع أن يستمر كما كان أو أنه-أخيراً- يجب أن لا يبقى كما كان.





لا بد من إصلاح جذري لهذا النظام العربي الهرم والمترهل، ولا إصلاح له إلا من داخله، لكن تعثر الإصلاحات الداخلية في مختلف الدول مشرقاً ومغرباً كان في الأساس وراء التركيبة الهشة لنظام جمع مجموعة من التراكيب الداخلية الهشة التي تفتقد لأبسط معايير المشاركة والشورى والديمقراطية والاهتمام بالرأي العام أي بالشعوب
فالدول ذات الثقل لم تتمكن يوماً من إنشاء منظومة عمل تحول دون تكرار الخصومة الثنائية التي من شأنها في كثير من الأحيان أن تعطل العمل العربي وترهنه بمشيئة دولة أو دولتين أو بالعلاقة السيئة المستجدة فجأة بين رئيسي دولتين.

المشكلة التي واجهها النظام العربي في السنوات الأخيرة كانت مشكلة جدية وعميقة، كانت مشكلة خيارات إستراتيجية تتعلق بـ "عملية السلام" التي أنجز جزء منها وتركت طويلاً غير مكتملة، فكان أن قسمت العرب تلقائياً بين مصالحين ومنتظرين غير مصالحين، بين مطبّعين وممتنعين عن التطبيع مع إسرائيل. لكنها تركت الرأي العام العربي تحديداً في حالات من الإحباط والضياع والغضب والحيرة. وبديهي أن رابطة التضامن بين الأنظمة والحكومات اختلّت وتلاشت.


سواء تمت المصالحات أم لم تتم فإنها لن تعني شيئاً إذا لم تؤسس لآليات عمل وتشاور دائم وصريح لمواجهة أي مشكلة. فحيال الفراغ الذي تركه العرب، وحيال الحاجة إلى تأمين حدود دنيا من الضمانات الأمنية والخيارات السياسية، نشأت علاقة مع إيران استفادت منها سوريا، وما لبثت هذه العلاقة أن تفرعت نحو لبنان وفلسطين. ذاك أن الذين لم يتوصلوا بعد إلى اتفاقات سلام مع إسرائيل بحثوا عن أي غطاء يتيح لهم الدفاع عن أنفسهم في غياب أي التزام عربي تجاههم.


والآن لا تزال أزمة "عملية السلام" تلقي بثقلها، واستطراداً لا تزال إشكالية العلاقة مع إيران ماثلة أيضاً، ولا يمكن مقاربة الملفين بالضغوط والتواطآت والفتن الجانبية المصطنعة وإنما بإعادة النظر في الإستراتيجية العربية وإعادة تحديد الخيارات خصوصاً في ما يتعلق بالصراع العربي- الإسرائيلي الذي لم ينته بعد على رغم أن بعض العرب راح ولا يزال يتصرف كأن الصراع انتهى.


كذلك بات على الدول العربية ذات الثقل والتأثير أن تدرك مسئوليتها عن الانقسامات والأزمات التي يمر بها اللبنانيون والفلسطينيون وتسببت بمآس دموية في ما بينهم. وإذا لم تكن هذه الدول قادرة، أو ليست لديها الإرادة لوضع منظومة عمل ثابتة، فمن شأنها أن تتيح للدول الأخرى تعويض هذا النقص تجنباً لتعطيل العمل العربي. فالانقسامات التي شغلت المشرق العربي أضعفت الرابطة العربية لدى المغاربيين الذين أبدوا في كل الأحوال تمسكهم بعروبتهم لكن خيبات الأمل تركت لديهم مشاعر استياء بالغة.


لا بد من إصلاح جذري لهذا النظام العربي الهرم والمترهل، ولا إصلاح له إلا من داخله، لكن تعثر الإصلاحات الداخلية في مختلف الدول مشرقاً ومغرباً كان في الأساس وراء التركيبة الهشة لنظام جمع مجموعة من التراكيب الداخلية الهشة التي تفتقد لأبسط معايير المشاركة والشورى والديمقراطية والاهتمام بالرأي العام أي بالشعوب التي برزت في حربي لبنان (2006) وغزة (2008) وشقّت لنفسها طرقاً لا تبلور استقلاليتها فحسب وإنما تؤكد اتساع الهوّة بينها وبين الأنظمة والحكومات.    


_______________


صحافي ومحلل سياسي