أولا: دبلوماسية القمة.. دلالات المصطلح ومساره
ثانيا: السياسة من أعلى.. خبرة القمم العربية
ثالثا: أسباب فشل معظم القمم العربية
عرض السياق وتحليل المواقف
رابعا: شروط تفعيل "دبلوماسية القمة"
وإنجاح "العمل العربي المشترك"
توطئة
رغم صعوبة الحديث عن دور عربي مؤثر على صعيد العلاقات الدولية، في ظل سعي القوى الكبرى الدائب والدائم لتهميش العرب واحتوائهم (1)، فإن العالم العربي ظل، على مدار تاريخه المديد، مسرحا لتشكيل التوازنات القائمة بين مختلف المراكز السياسية الدولية، المتنافسة والمتصارعة، سواء خلال فترة القطبية الثنائية أو تحت عباءة نظام متعدد الأقطاب(2). وحتى حين انفردت الولايات المتحدة بتسيد العالم عسكريا واقتصاديا، فإن "النظام الإقليمي العربي" (3) لم يتخل عن وظيفته تلك.
فالمنطقة العربية بدت ذات أهمية بالغة للأطراف المتحالفة في الحرب العالمية الثانية، والتي كانت في سباق محموم بغية تحديد أدوارها في النظام الدولي الذي كان في طور التكوين آنذاك.(4) بات من الضروري إصلاح حال النظام الإقليمي العربي، سواء عبر تفعيل دبلوماسية القمة وقبلها تنشيط مجالات وأدوات ومؤسسات ممارسة السياسة العربية المشتركة على المستوى الأدنى، وذلك من خلال بناء رؤية متماسكة أو مبادئ جلية قابلة للتطبيق
والحرب التي دارت رحاها على أرض مصر عام 1956، حيث العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، كانت نقطة تحول في النظام الدولي من خلال إتيانها على الأحلام الإمبراطورية التي كانت لا تزال تراود بريطانيا وفرنسا في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إذ برزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قطبين رئيسيين معترف بهما من قبل المجتمع الدولي، بعد أن أجبرا الأطراف الثلاثة على وقف العدوان.
وكان هذا التدخل من قبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بمثابة تحذير لبريطانيا وفرنسا أن وضعهما على الساحة الدولية قد تغير تماما. (5) ثم تأكدت هذه الخصوصية في عدة أحداث ووقائع، حتى جاءت حرب أكتوبر عام 1973 لتغذي عملية التحول من الحرب الباردة إلى الوفاق بين القطبين الكبيرين. (6)
ومع اندلاع حرب الخليج الثانية في 15 يناير/ كانون الثاني 1991، والتي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، تم الإعلان النهائي عن ميلاد نظام دولي جديد، يقوم على انفراد قطب واحد بقوة تمكنه من أن يسّير دفة أمور كثيرة في العالم المعاصر.
وإثر وقوع حادث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 وجدت الدول العربية نفسها في قلب التداعيات التي ترتبت عليه، بدءا باتهام "تنظيم القاعدة" الذي يشكل "الأفغان العرب" الجزء الأكبر من أعضائه وقدراته المالية والتخطيطية، وانتهاء بوضع تنظيمات ودول عربية في فوهة المدفع الأميركي في إطار الحملة التي تقودها واشنطن على "الإرهاب الدولي"، مرورا بحزمة من السياسات والتدابير الأمنية التي أخذت شكل "مطالب" تقدمت الإدارة الأميركية بها إلى دول عربية عديدة من أجل تنفيذها، ووصلت إلى حد الضغوط والتهديدات، في كثير من الحالات، وانتهى الأمر باحتلال العراق عام 2003.
لتعود الأرض العربية منذ ذاك الحدث لتؤدي وظيفتها التقليدية، لكنها هذه المرة كـ"فاعل" وليس مجرد "قابل"، حيث لم تحقق الولايات المتحدة على أرض الرافدين النجاح الذي بشَّرت به وتوقعته، وساهم احتلالها العراق في توعكها اقتصاديا، فبات مفكروها الإستراتيجيون يتحدثون بإسهاب عن "حدود القوة" وقرر رئيسها الجديد باراك أوباما "الانسحاب المسئول" من العراق.
وطيلة الزمن الحديث والمعاصر لم يتمكن أحد في العالم من أن يقلل من الأهمية "التقليدية" للعالم العربي والتي يستمدها من التاريخ والجغرافيا، أو "الموقع الإستراتيجي والجاذبية الجيو اقتصادية"، (7) لكن العرب أنفسهم يعيشون في إحباط مزمن حيال نظامهم الإقليمي، ويعزون ذلك إلى السلطات الحاكمة التي اعتلت العروش والجيوش بعد رحيل الاستعمار، ويبرهنون على صدق مشاعرهم المحبطة بالحصاد الهزيل للقمم العربية المتتابعة لاسيما في العقود الثلاث الأخيرة.
أولا: دبلوماسية القمة.. دلالات المصطلح ومساره
رغم أن مصطلح "دبلوماسية القمة" (8) أو "الدبلوماسية المباشرة" يبدو من ابتكارات القرن العشرين بعد أن صكه ونستون تشرشل في خطاب شهير له عام 1950 فإن ممارسة هذا العمل السياسي ذو المستوى الشخصي الرفيع تعود إلى زمن أبعد بكثير، إذ يحفل تاريخ الإنسانية بوقائع لا تحصى عن استخدام هذا الأسلوب، لاسيما أيام الحكم المطلق للملوك والسلاطين، حين كانت شخصية الدولة تتماهى في شخصية الحاكم تماما إلى درجة دعت ملك فرنسا لويس السادس عشر إلى أن يقول ذات يوم: "أنا الدولة".
وتوارت "دبلوماسية القمة" مؤقتا مع ظهور أنظمة الحكم الديمقراطية في أوروبا، حتى أعادها الرئيس الأميركي ودرو ويلسون إلى الحياة عام 1919 أثناء مؤتمر السلام الذي أعقب الحرب العالمية الأولى واستضافته باريس.من شروط تفعيل العمل العربي المشترك الأخذ بمبدأ من الوحدة إلى التنسيق البناء، وهذا لا يعني إسقاط فكرة الوحدة باعتبارها غاية لجماهير عربية غفيرة، لكن التعامل معها على أنها معادلة صفرية، إما أن تكون أو لا شيء آخر من أشكال التعاون، هو الخطأ بعينه، الذي وقع فيه كثير من العرب عقودا طويلة
وكان لجوء ويلسون إلى هذا الأسلوب مرده الارتياب في الدبلوماسية السرية التي يمارسها رجال يحترفون إدارة السياسة الدولية من خلف الستار أو حتى أمامه، وكذلك طبيعة ويلسون النفسية ذاتها حيث كان لديه ميل جارف إلى العمل المنفرد وفرض إرادته على الآخرين، ورفض أي سلطة فوق سلطته.(9)
ومنذ ذلك التاريخ باتت اجتماعات القمة، على مستوى قادة الدول، أمرا معتادا في الساحة الدبلوماسية الدولية. فلمّا جاءت الحرب الباردة صار هناك اقتناع راسخ لدى العالم أجمع في أن اجتماعات القمة ضرورة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين.
وتراكم ممارسة دبلوماسية القمة والتفكير حولها تهدينا حزمة من المعطيات التي تفيد كثيرا في تحليل هذه الظاهرة، على المستوى العربي، والتي لا تخرج في الغالب الأعم عما يلي:
أ - تكمن القيمة الأساسية لدبلوماسية القمة فيما تنطوي عليه من أبعاد وإيحاءات نفسية ومعاني رمزية، أكثر من انطوائها على نتائج سياسية حاسمة وناجزة.
ب - يدور هذا النوع من الدبلوماسية حول أشخاص قلائل، هم قادة الدول، ومن ثم يظل دوما أسير خبرات هؤلاء ومعارفهم، وسماتهم النفسية، وقدراتهم الفردية، وكذلك أسير الظروف المؤدية إلى تعاظم دور قائد الدولة في صنع السياسة الخارجية، (10) ومنها حجم اهتمامه بالسياسة الخارجية، وأسلوب وصوله إلى سدة الحكم، ومدى تمتعه بخصائص كارزمية من عدمه، ومقدار عمق تجربته السياسية، إلى جانب الدوافع الذاتية والصفات الشخصية، التي تختلف من قائد يمتلك عقلا منفتحا وآخر موصوم بعقل منغلق، وبين قائد يسعى بشكل محموم إلى تحقيق ذاته، وآخر يفتقد إلى الطموح.
ج - يتوقف نجاح دبلوماسية القمة من عدمه على ما بُذل من جهد دبلوماسي على مستوى أدنى في سبيل إنضاج لحظة سياسية وتاريخية أمام اتفاق نهائي يضع القادة البصمات الأخيرة عليه. أما حين يلتقي القادة لمناقشة التفاصيل، أو البدء من نقطة الصفر، فإن فرص نجاحهم تكون غاية في الضعف والتهالك، بل قد يؤدي مثل هذا اللقاء إلى انهيار الموقف برمته، وانحداره إلى درجة أسوأ مما كان عليه.
ثانيا: السياسة من أعلى.. خبرة القمم العربية
عرف العرب المعاصرون دبلوماسية القمة، في طورها الأخير، منذ نحو ثلاثة وستين عاما، حين التأم قادة الدول العربية في مايو 1946 بمدينة أنشاص المصرية لمناصرة القضية الفلسطينية، أعقبوها بعد عقد كامل من الزمن بقمة بيروت لدعم مصر في مواجهة "العدوان الثلاثي" 1956.
لكن القمم العربية لم تتم في سياق "مؤسسة سياسية"، أي تعقد تحت مظلة جامعة الدول العربية بصفة رسمية، سوى عام 1964 الذي شهد قمتين متتاليتين سعيتا إلى تعزيز التضامن العربي، وتزكية التوجه القومي، والتصدي للتحديات الدولية التي تجابه العرب، والترحيب بمنظمة التحرير الفلسطينية. كما لم تصبح القمة دورية سوى عام 2000 الذي استضافت فيه القاهرة قمة طارئة لبحث سبل دعم انتفاضة الأقصى.
تطور تاريخي للقمم العربية
م/ تنازلي | القمـــة | تاريخها | نوعها | الدولة المضيفة |
31 | مؤتمر قمة دمشق | 28/3/2008 | عادى | سورية |
30 | مؤتمر قمة الرياض | 21/3/2007 | عادى | السعودية |
29 | مؤتمر قمة الخرطوم | 23/3/2006 | عادى | السودان |
28 | مؤتمر قمة الجزائر | 22/3/2005 | عادى | الجزائر |
27 | مؤتمر قمة تونس | 22/5/2004 | عادى | تونس |
26 | مؤتمر قمة شرم الشيخ | 1/3/2003 | عادى | مصر |
25 | مؤتمر قمة بيروت | 28/3/2002 | عادى | لبنان |
24 | مؤتمر قمة عمان | 28/3/2001 | عادى | الأردن |
23 | مؤتمر القمة العربي غير العادي | 23/10/2000 | طارئ | مصر |
22 | مؤتمر القمة العربي غير العادي | 21/6/1996 | طارئ | مصر |
21 | مؤتمر القمة العربي غير العادي | 9/8/1990 | طارئ | مصر |
20 | مؤتمر القمة العربي غير العادي | 28/5/1990 | طارئ | العراق |
19 | مؤتمر القمة العربي غير العادي | 23/5/1989 | طارئ | المغرب |
18 | مؤتمر القمة العربي غير العادي | 7/6/1988 | طارئ | الجزائر |
17 | مؤتمر القمة العربي غير العادي | 8/11/1987 | طارئ | الأردن |
16 | مؤتمر القمة العربي غير العادي | 7/8/1985 | طارئ | المغرب |
15 | مؤتمر القمة العربي الثاني عشر | 25/11/1981 | عادى | المغرب |
14 | مؤتمر القمة العربي العاشر | 20/11/1979 | عادى | تونس |
13 | مؤتمر القمة العربي التاسع | 2/11/1978 | عادى | العراق |
12 | مؤتمر القمة العربي الثامن | 25/10/1976 | عادى | مصر |
11 | مؤتمر القمة السداسي | 16/10/1976 | طارئ | السعودية |
10 | مؤتمر القمة العربي السابع | 26/11/1974 | عادى | المغرب |
9 | مؤتمر القمة العربي السادس | 26/11/1973 | عادى | الجزائر |
8 | مؤتمر القمة غير العادي | 27/9/ 1970 | طارئ | مصر |
7 | مؤتمر القمة العربي الخامس | 23/12/1969 | عادى | المغرب |
6 | مؤتمر القمة العربي الرابع | 29/8/1967 | عادى | السودان |
5 | مؤتمر القمة العربي الثالث | 13/9/1965 | عادى | المغرب |
4 | مؤتمر القمة العربي الثاني | 5/9/1964 | عادى | مصر |
3 | مؤتمر القمة العربي الأول | 13/1/1964 | عادى | مصر |
2 | قمة بيروت | 13/11/1956 | عادي | مصر |
1 | قمة أنشاص | 28/5/1946 | طارئ | مصر |
* المصدر: موقع جامعة الدول العربية (بتصرف)
http://www.arableagueonline.org/las/arabic/conference.jsp
وعلى مدار ما يربو على ستة عقود، التقى القادة العرب في واحد وثلاثين قمة، عشرون منها كانت اعتيادية والإحدى عشر الباقية كانت طارئة أو غير اعتيادية. ومن يمعن النظر في هذه القمم، متقاربة أو متباعدة، دورية أو استثنائية، يجدها تتصف بعدة سمات، يمكن ذكرها على النحو التالي:
1- مثل الصراع العربي - الصهيوني القاسم المشترك بين أعمال القمم كافة، سواء بشكل تام حين انعقدت قمم معينة لبحث مباشر لمشكلات ترتبت على عدوان إسرائيلي، أو بشكل جزئي حيث كان هذا الصراع يمثل إحدى القضايا الأساسية التي تنظرها تلك القمم، سواء مباشرة أو بصيغة غير مباشرة.
2- جاءت معظم هذه القمم، إن لم يكن جميعها، في إطار "رد الفعل" لمبادرات أو أزمات أثارتها قوى إقليمية أو دولية، وخلت من سياسة "الفعل" التي تعتمد على الهجوم الدبلوماسي واتخاذ الإجراءات الاحترازية لمواجهة تهديد في طور التكوين، إما لقتله في مهده، أو على الأقل لصده حين يُترجم في عمل مضاد للمصالح العربية.
لدفع العمل العربي إلى الأمام لابد من التحول من مجرد التساند بالخطاب إلى التآزر بالمصالح، فقد درجت الأنظمة الرسمية في أوقات عصيبة مرت بها إحدى الدول العربية أو بعضها على الاكتفاء بالمؤازرة الكلامية، دون أي فعل ملموس، يساند من ألمت به كارثة أو وقع في أزمة سياسية أو تعرض لعدوان |
3- لم يتوفر عزم كاف يقود إلى معالجة جذرية وشاملة للأزمات التي تواجه هذه القمم، بقدر ما كانت النية- المسكوت عنها غالبا- ترمي إلى تخفيف حدة الضغوط المتولدة عن تلك الأزمات والتي تضغط على أعصاب النظام الإقليمي العربي. فالعرب تمكنوا باقتدار من أن يتبعوا المنطق الذي يقول: "سكِّن تسلم" فيقومون داخل القاعات الفخمة التي تقام بين أروقتها مؤتمرات القمة بتمرير الأمور على نحو سريع، وفي كلمات عاجلة متتابعة، يقدم أغلبها في ثوب بياني بلاغي لافت، وعلى أساس القواسم المشتركة، والأمور الثابتة المتفق عليها، اللهم إلا إن حدثت بعض المناوشات التي بات الصحفيون المتابعون للقمة ينتظرونها ليصنعوا العناوين (المانشيتات) المغلفة ببعض ما هو غريب ولافت وطريف أحيانا، بعيدا عن الرتابة المعتادة.
4- لم تلب معظم هذه القمم طموحات الجماهير العربية، ولم تحقق آمالها، ولم تتجنب مخاوفها من تحول لقاءات القادة العرب إلى منتدى لممارسة الجدل السوفسطائي، واستعراض المهارات اللفظية الإنشائية، وعجز عن تطوير الواقع المعيش بما يكافئ طبيعة اللحظات التاريخية الصعبة التي تنعقد القمم في أتونها.
5- مع توالي الزمن، تحولت القمم العربية إلى لقاءات رمزية، لا تتخطى حدود "محاولة سد الذرائع"، وتلبي بعض احتياج الطرف العربي المتأزم، الذي يطلب عقد القمة تصريحا، أو يدفع في هذا الاتجاه تلميحا، إلى المساندة المعنوية والتعاطف، إلى جانب المشاركة في الغرم عن بعد، مثل تقديم الدعم المادي لما خربه العدوان الإسرائيلي في لبنان وفلسطين.
6- يتجه الخط البياني لفاعلية القمم العربية إلى انحدار واضح مع مرور الزمن، باستثناء قمم محددة اتجه فيها هذا الخط إلى أعلى، مثل التي انعقدت في الخرطوم عقب هزيمة يونيو 1967 والتي أطلقت لاءات ثلاثة شهيرة في وجه الكيان الصهيوني: (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف) وتلك التي انعقدت في الجزائر عقب انتصار أكتوبر/ تشرين 1973 وأكدت استحالة فرض حل على العرب، وقمة الرباط 1974 التي وضعت أسس العمل العربي المشترك، وفرضت الالتزام باستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، واعتماد منظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا له، وقمة الدار البيضاء غير العادية 1989 التي أعادت مصر إلى عضوية جامعة الدول العربية، وبحثت قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وتشكيل لجنة لمساعدة لبنان على الخروج من نفق الحرب الأهلية المظلم.
ثالثا: أسباب فشل معظم القمم العربية
عرض السياق وتحليل المواقف
حين يواجه أي طرف رشيد مشكلة ما فإنه يقوم أولا بتوضيح أهدافه أو قيمه أو مراميه، ثم يرتبها في ذهنه، وبعدها يضع قائمة بكل الطرق المهمة الممكنة، أو السياسات التي بوسعه أن يصنعها، لتحقيق هذه الأهداف، ويبحث النتائج المهمة التي سوف تترتب على كل واحدة من السياسات البديلة، ليقارن تلك النتائج المترتبة على كل سياسة بديلة مع الغايات التي يصبو إليها، ومن هنا يكون بوسعه أن يختار السياسة ذات النتائج الأقرب إلى أهدافه. (12)
سيطرت في السنوات الماضية حالة من الانتهازية في السياسات الخارجية للعديد من الأقطار العربية ولذا فدون تلمس روح الفريق في السياسات الخارجية لكل قطر عربي على حدة، ستستمر هذه الحالة من التشرذم، التي تعود، في خاتمة المطاف، بالخسارة على النظام الإقليمي العربي برمته
ومن دون اتباع استراتيجية "الرشد الكامل" تلك أو قدر كاف منها، يفشل هذا الطرف في صناعة قرار رشيد ومؤثر. وقد خالف "العمل العربي المشترك" تلك الخطوات في أغلب الأحيان. فالنشاطات التكاملية العربية تتعثر في مسيرتها، ومعظمها لا يتجسد ماديا على أرض الواقع، بفعل سلوك متعمد من قبل كل قطر عربي على حدة، وبحكم العوامل والعناصر التي تغذي التنافر العربي ومنها حمولات الميراث التاريخي، والبنية الاجتماعية المركبة، وتباين الخبرات الاستعمارية، وتفاوت الحجم والقدرة بين الكيانات السياسية العربية، وترسيخ تنشئة سياسية قمعية في المعارف والقيم والتوجهات، وضعف درجة الاتصال وكثافته بين الشعوب.
علاوة على عوامل خارجية منها: آثار الصراع الدامي ضد إسرائيل، وديمومة التنافس والتناحر الدولي في المنطقة العربية، وحرص القوى الكبرى على عدم تحول العالم العربي إلى كيان واحد قوي، واستسلام الدول العربية للتوزع على إستراتيجيات هذه الدول التي تتصارع بطبعها،(13) ما يقود بالتبعية إلى نشوب صراعات عربية ـ عربية، مثل تلك القائمة الآن بين ما يسمى "محور الممانعة" و"محور الاعتدال".
هذا الوضع ليس سوى استمرار لحال قديم متجدد، إذ لم يخل النظام العربي في أية مرحلة من مراحل تطوره من ظاهرة النزاع بين أعضائه، (14) في ظاهرة "بندولية" صارت عيبا عربيا ظاهرا ومتأصلا.
فالتفاعلات العربية ـ العربية تنتقل من تعاون إلى صراع، بشكل منتظم، وفي زمن متفاوت، يبلغ حده الأدنى أقل من سنتين، حين انتقل النظام العربي من الصراع إلى التضامن ما بين مطلع عام 1966 وحلول أغسطس/ آب 1967 الذي شهد قمة الخرطوم الفارقة. أما حده الأقصى فيبلغ عشر سنوات، حيث انتقل العرب من التباعد عام 1977 إلى التقارب عام 1987.(15)
وإذا عدنا إلى فترة أعمق زمنيا نجد أن تضامن العرب عام 1948 في ظل سعيهم إلى منع قيام "دولة إسرائيل" لم يستمر سوى سنتين، إذ اختلفوا عام 1950 حول ضم الملك عبد الله الأول الضفة الغربية الفلسطينية إلى المملكة الأردنية، ثم هدأ الخلاف أو تم تسكينه إلى أن تجدد عام 1955، وبشكل حاد، حول الارتباط بسياسة الأحلاف الغربية في المنطقة. لكن العرب عادوا إلى التضامن مع مصر إبان العدوان الثلاثي عليها عام 1956، ليختلفوا من جديد حول قضايا عدة في مطلعها عودة الارتباط بسياسات غربية في ظل مشروع الرئيس الأمريكي إيزنهاور عام 1957. (16)
وتعمق الخلاف عام 1959 بين الجمهورية العربية المتحدة والعراق، ثم بين الرئيس جمال عبد الناصر وحزب البعث في أوائل الستينيات، حتى حدث صدام مسلح بين القوى الثورية العربية والقوى المحافظة حول الثورة اليمنية التي اندلعت عام 1962، لندخل إلى ما تسمى "الحرب العربية الباردة". ونشب صراع آخر بين الجزائر والمغرب عام 1963.
لكن هذه الصراعات هدأت استجابة لدعوة عبد الناصر إلى العرب ليتضامنوا في وجه التهديد الإسرائيلي لمياه نهر الأردن، فعادت العلاقات العربية إلى انفراج لم يستمر سوى سنتين، ليعود الصراع في شبه الجزيرة العربية والمغرب العربي.
فلما وقعت هزيمة يونيو 1967 التأم العرب في تضامن طويل نسبيا استمر إلى عام 1977، الذي شهد خلافا مشهودا حول سياسة التسوية مع إسرائيل، انتهى بقطيعة عربية لمصر، ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس. وتوازى هذا مع نزاع سوري ـ عراقي بسبب الحرب بين بغداد وطهران، لتأتي قمة عمان 1987 وتشهد محاولة لتلطيف الأجواء واستعادة التضامن العربي، كُللت بعودة مصر إلى العرب عام 1989، وإنشاء كيان إقليمي عرف باسم "مجلس التعاون العربي" ضم مصر والعراق واليمن والأردن.
لكن كل هذا تبخر بغزو العراق للكويت في 2 أغسطس/ آب 1990 ليشهد النظام الإقليمي العربي واحدة من أشد انقساماته وطأة، لاسيما بعد أن انجرفت الأمور إلى الاستعانة بقوات أجنبية لتحرير الكويت، (17) فيما بدا مقدمة طبيعية لاحتلال العراق بعد اثني عشر عاما من إخراج قواته من أرض الكويت، لتستمر الانقسامات العربية حول المسألتين اللبنانية والفلسطينية، بين توزع العرب على محورين مختلفين استجابة لرؤية إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، وذلك في استقطاب جديد.
ومع تتابع هذه الصراعات، التي لم تحل أبدا حلا ناجزا، توالت القمم العربية، وكان من الطبيعي أن تلقي هذه الصراعات بظلالها على تلك القمم، خاصة مع سلبية العناصر التي تؤثر في إصدار القرارات العربية على المستوى القُطري، حيث هيمنة شخص واحد على القرار، وتراخي الرأي العام في الضغط على الحكام في أغلب الأوقات، وسيطرة الهاجس الأمني على عقل الأنظمة الحاكمة على ما عداه من اعتبارات، إلى جانب الضعف الاقتصادي والتشرذم الاجتماعي، وتغييب الحياة السياسية الصحية، التي تعتمد على تعددية حقيقية، وتداول للسلطة. (18)
وإذا ما أمعنا النظر في تاريخ القمم العربية يمكن أن نخرج بنتيجة واضحة المعالم مفادها أن القمة العربية تنجح في حال توافرت ثلاثة عناصر أساسية هي:اكتفاء النظام العربي الرسمي بقرارات متفرقة لا يجمعها ناظم، ولا تنبع من تصور أو مرجعية أساسية، من أجل علاج مشاكل طارئة والتعامل مع مواقف متتابعة زمنيا، قد فكك أوصال السياسات العربية، وأصابها بالتضارب في كثير من الأحوال. ولتفادي هذا الخطأ لا بد أن يكون هناك تصور إستراتيجي، ينبني على مواقف مبدئية، ويرمي إلى غايات عامة، تشارك كافة وحدات النظام العربي في رسم ملامحها الجوهرية
1- تعرض النظام الإقليمي العربي لأزمة حادة تهدده بطريقة كبيرة، ما يفرض ضرورة وجود قدر مناسب من الصد والرد يحفظ لهذا النظام وجوده واستمراره، على غرار ما جرى في يونيو 1967.
ويُشترط هنا أن يقتنع القادة العرب أن بوسعهم التصدي لهذا التهديد، أما إذا كان التهديد فوق طاقتهم، كما جرى إبان الغزو الأميركي للعراق، فإنهم يقفون عاجزين عن فعل ملائم ومؤثر.
2- تعرض الأنظمة الحاكمة لضغوط خارجية تهدد بقاءها في الحكم، فعندها يتضافر القادة العرب من أجل الدفاع عن عروشهم وكراسيهم. (19)
فرغم أن أغلب الدول العربية تبدي تبعية ظاهرة للولايات المتحدة والغرب عموما، فإن القادة العرب كشروا عن أنيابهم في قمة تونس 2004 ليرفضوا أي محاولة لفرض إصلاح سياسي من الخارج.
3- وجود قيادة سياسية "كارزمية" أو "دولة قائدة" على المستوى العربي، فقد كان بوسع جمال عبد الناصر أن يسهم بشكل إيجابي في دفع العمل المشترك في اتجاه إيجابي حين يريد، وكان بوسع الملك فيصل أن يقنع دول الخليج بوقف إمدادات النفط عن الدول التي تساعد إسرائيل في حرب 1973. وساعد وجود "دولة قائدة" وهي مصر على نجاح بعض القمم العربية. لكن غياب القيادات الكارزمية، وعدم وجود "دولة قائد" بعد أن كفت مصر عن لعب هذا الدور، بتوقيعها اتفاقية السلام مع إسرائيل، (20) ساهم في عدم فاعلية القمم العربية.
رابعا: شروط تفعيل "دبلوماسية القمة"
وإنجاح "العمل العربي المشترك"
بات من الضروري إصلاح حال النظام الإقليمي العربي، سواء عبر تفعيل دبلوماسية القمة وقبلها تنشيط مجالات وأدوات ومؤسسات ممارسة السياسة العربية المشتركة على المستوى الأدنى، وذلك من خلال بناء رؤية متماسكة أو مبادئ جلية قابلة للتطبيق.(21) وفي نقاط عشر محددة يمكن طرح هذه الرؤى على النحو الآتي:
1- من الوحدة إلى التنسيق البناء: ولا يعني هذا إسقاط فكرة الوحدة تماما، باعتبارها غاية لجماهير عربية غفيرة، لكن التعامل معها على أنها معادلة صفرية، إما أن تكون أو لا شيء آخر من أشكال التعاون، هو الخطأ بعينه، الذي وقع فيه كثير من العرب عقودا طويلة. فهناك خطوات تمهيدية يجب قطعها في الطريق إلى هذه الغاية، يشكل تراكمها نجاحا متواصلا حتى وإن لم ينته بالتوحد، أو الانصهار الكامل، فهذا أمر يبقى دوما في طور "المثال"، ولا يجب رهن كل أشكال التفاعل العربية بتحقيقه من عدمه، أو الوقوع في فخ التعامل معه على أنه "حتمية تاريخية".
2- من التساند بالخطاب إلى التآزر بالمصالح: فقد درجت الأنظمة الرسمية في أوقات عصيبة مرت بها إحدى الدول العربية أو بعضها على الاكتفاء بالمؤازرة الكلامية، دون أي فعل ملموس على الأرض، يساند من ألمت به كارثة أو وقع في أزمة سياسية أو تعرض لعدوان.
وللخروج من هذه الحالة من الضروري أن تكون هناك مصالح حقيقية بين الدول العربية، تبدأ بالاقتصادي، لتنتهي عند الإستراتيجي، مرورا بالسياسي والأمني. فمثل هذه المصالح تجعل الغرم والغنم موزعا على الجميع، أو يمس الكافة، فيكون هناك تحرك جماعي لدفع الضرر وجلب المنفعة.
3- من الفردية المفرطة إلى روح المجموع: فالسنوات التي خلت سيطرت فيها أنانية مفرطة، إن لم تكن انتهازية جلية، في السياسات الخارجية للعديد من الأقطار العربية، بل وصل الأمر إلى أن بعض هذه السياسات تعارض مع بعضها الآخر، بما جسد صراعا عربيا - عربيا غير مباشر، ناهيك عن الصراعات المباشرة. ودون تلمس روح الفريق في السياسات الخارجية لكل قطر عربي على حدة، ستستمر هذه الحالة من التشرذم، التي تعود، في خاتمة المطاف، بالخسارة على النظام الإقليمي العربي برمته.
4- من تنافر القمم إلى تجانس القاعدة: فالوصول إلى الروح الجماعية هذه تتطلب فتح الأبواب على مصاريعها أمام القاعدة "الجماهير"، لتشارك في صنع السياسات العربية البينية، أو السياسات العربية تجاه الآخر، بعد احتكار القمم "الأنظمة الرسمية" اتخاذ القرارات، وهو ما قاد إلى البؤس السياسي الراهن. وبالطبع فإن هذا لن يتحقق سوى بإصلاح ديمقراطي حقيقي، يعطي الشعوب العربية، التي كان أداؤها في السنوات الأخيرة أكثر انسجاما من أداء الحكومات، فرصا كبيرة لبناء حركة جماعية حيال القضايا الداخلية والخارجية.
5- من مصلحة الأنظمة إلى صالح الشعوب: والحفاظ على درجة الانسجام بين توجهات الشعب العربي، مهما كان انتماؤه القطري، تتطلب أن ينتقل الفعل السياسي من توخي مصلحة الأنظمة، التي تأتي الاستمرارية في مقدمة أولوياتها، إلى ابتغاء صالح الجماهير الغفيرة، وهي المسألة التي أدى تغييبها المتعمد إلى حالة التكلس السياسي التي يعيشها النظام العربي في الوقت الراهن.
6- من القلب والأطراف إلى المراكز المتعاونة: وبرز هذا التصور، عقب فجيعة احتلال العراق، وكان له مقدمات تجلت في أخذ بلدان عربية، أكبر ديمغرافيا وأقدر سياسيا، على قيادة النظام الإقليمي العربي، عبر تبني مواقف محددة، تستطيع هذه البلدان أن تقنع بقية الدول العربية بها. وهناك شروط موضوعية راهنة ترجح هذا التوجه منها التعثر النسبي الذي ينتاب العمل من خلال جامعة الدول العربية.
وقد ظل النظام العربي يعمل لسنوات طويلة على أساس الدول القائدة ومساعديها ثم الأطراف التابعة، لكن التغيرات التي طرأت على بنية هذا النظام من حيث ركائز القوة التي اكتسبتها بعض وحداته، أوجد عدة مراكز، ليس بينها تطابق في القوة والتاريخ، لكنها متقاربة نسبيا من حيث القدرة على التحرك في الخارج، وممارسة نفوذ، بدرجات معينة، على الداخل العربي. ومن ثم يفيد كثيرا قيام تنسيق مستمر وذي بال بين هذه المراكز.
7- من القابلية إلى الفاعلية: إذ اعتاد العرب على سياسة رد الفعل أو "القابلية"، وقد آن لهم الأوان أن ينخرطوا في صناعة السياسة الدولية بما يشكل حائط صد لأي سياسات تسعى إلى النيل من مصالحهم القومية.
8- من التكتيك الأعمى إلى الإستراتيجية المبصرة: فالاكتفاء بقرارات متفرقة لا يجمعها ناظم، ولا تنبع من تصور أو مرجعية أساسية، من أجل علاج مشاكل طارئة والتعامل مع مواقف متتابعة زمنيا، قد فكك أوصال السياسات العربية، وأصابها بالتضارب في كثير من الأحوال. ولتفادي هذا الخطأ لا بد أن يكون هناك تصور إستراتيجي، ينبني على مواقف مبدئية، ويرمي إلى غايات عامة، تشارك كافة وحدات النظام العربي في رسم ملامحها الجوهرية، من خلال الاتصال الرسمي والتفاعل بين النخب غير الرسمية، من مفكرين وقوى مجتمع مدني عربي.
9- من الواقعية الكسيحة إلى الخيال الكاسح: فإذا كانت الواقعية السياسية مطلوبة لاتخاذ إجراءات عملية فإن الخيال السياسي الخلاق واجب لدفع هذا الواقع إلى الأمام، مهما كانت مرارته. ويعاب على النخب السياسية العربية أنها تفتقد كثيرا الجرأة في التعامل مع المواقف، وتفتقر إلى إبداع طرق جديدة أو مبتكرة في معالجة المشكلات الراهنة. ويعود هذا بالأساس إلى تقديم الاستمرارية، مهما بلغت درجة تردي الأحوال، على ما عداها من قيم سياسية، يجب أن تتبناها الأنظمة السياسية في أي زمان ومكان وتعمل وفقها دوما.
10- من اليوم إلى الغد: وبناء هذا الخيال يقوم على عدم الاقتصار في التصور والتحرك على معطيات اليوم، بل يجب الأخذ في الاعتبار ما يحمله المستقبل من مخاطر ومكاسب عديدة، بعضها يأتي بغتة، وكثير منها يبدو متوقعا قياسا على خبرة التاريخ من جهة، وقراءة عميقة لاحتمالات المستقبل من جهة ثانية.
ولا غنى عن هذا الأمر في زمن تبني فيه الدول سيناريوهات لحركتها السياسية المستقبلية في الداخل والخارج لعدة عقود آتية من الزمن، على أن تصحح بشكل مستمر أي طارئ يمكن أن ينال من تلك الخطط، وعندها ستختفي ظاهرة "القمم الفاشلة" من الحياة السياسية العربية.
_____________
المصادر:
4- جميل مطر، "تأملات في السياسة الدولية"، (بيروت ـ القاهرة: دار المستقبل العربي)، 1995، ص: 159 ـ 160
6- المرجع السابق، ص: 160 ـ 161
16- د. فواز جرجس، مرجع سابق، ص: 320 ـ 321
21- أنظر: د. عمار علي حسن، "أمة في أزمة: من أمراض العرب السياسية في الفكر والحركة"، (القاهرة: مركز الحضارة العربية) الطبعة الأولى، 2007