جدلية الاستيعاب والاستبعاد في العلاقات التركية الأوروبية

تتحكم جدلية "الاستيعاب/الاستبعاد" في توجيه مسارات العلاقات التركية الأوروبية -وفي فهمها أيضاً- منذ تأسيس الجمهورية الكمالية على أنقاض الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. هذه الجدلية معقدة إلى أقصى حد في تفاصيل العلاقة بين الجانبين، وفي تفاصيل القوى والتيارات المتنافسة داخلهما.
25 November 2009







إبراهيم البيومي غانم


تتحكم جدلية "الاستيعاب/الاستبعاد" في توجيه مسارات العلاقات التركية الأوروبية -وفي فهمها أيضاً- منذ تأسيس الجمهورية الكمالية على أنقاض الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. هذه الجدلية معقدة إلى أقصى حد في تفاصيل العلاقة بين الجانبين، وفي تفاصيل القوى والتيارات المتنافسة داخل كل من الجانب التركي والجانب الأوروبي.


جدل الانضمام المتبادل 
ليس بيد أوروبا وحدها


جدل الانضمام المتبادل 


من الجانب التركي، هناك رغبة قوية في استيعاب المكتسبات العلمية والتكنولوجية للحضارة الغربية، والاندماج داخل المنظومة الأوروبية "بحلوها" في أغلب الأحيان، و"مرها" في بعض الأحيان، بالمعنيين السياسي والاقتصادي على الأقل، وهو الهدف المعلن لسياسيي العدالة والتنمية منذ وصولهم إلى الحكم في نوفمبر/تشرين الثاني 2002.






منافع الاستمرار في محاولة تركيا نيل عضوية الاتحاد الأوروبي أكبر من التوقف عنها، وقرار المضي في الشوط حتى نهايته صحيح من المنظور الإستراتيجي الذي يأخذ في حسابه جملة المتغيرات المحلية (التركية) والإقليمية، والعالمية

كما أن هناك رغبة علمانية/أتاتوركية أقدم وأقوى تسعى إلى الذوبان في أوروبا والاندماج في حضارتها، بكل المعاني التي يحملها مفهوم الاندماج من النواحي السياسية والاقتصادية، ونمط الحياة الاجتماعية، ورؤية العالم، وكيفية إدراك الذات، وأصول الانتماء الحضاري على النمط الغربي.

وهناك فريق ثالث من الأتراك يرفض الاندماج الحضاري -بكل معانيه- في الغرب، ويناهض عملية التغريب، ويتبنى مشروعاً للاستقلال الحضاري، ويرى أن مستقبل تركيا يكمن في توجهها ناحية الشرق بدل الغرب.


أما على الجانب الأوروبي -على ما فيه من اختلافات بين دوله بشأن الموقف من تركيا- فالنزعة الإقصائية/الاستبعادية كانت ولا تزال هي الأقوى، وهي الأكثر فعالية في ترتيب علاقات أعضاء النادي الأوروبي مع تركيا. فهناك أصوات لأحزاب ولحكومات أوروبية تنادي بالانفتاح على تركيا، وترى أن إيجابيات استيعابها في النادي الأوروبي أكثر من سلبياتها، ولكنها أصوات خافتة، وغير حاسمة ـ حتى اليوم ـ في ترجيح كفة سياسة الاستيعاب والقبول على كفة الإقصاء والرفض.


وثمة أسباب متعددة يتذرع بها الفريق الرافض لأن تكون تركيا عضواً بالنادي الأوروبي، منها ما هو تاريخي يرجع إلى زمن القوة العثمانية وبلوغها أبواب فيينا، ومنها ما هو ديمغرافي يثير المخاوف من الثقل السكاني التركي (حوالي 75 مليون نسمة، وتأتي في المرتبة الثانية بعد ألمانيا الفيدرالية التي يبلغ عدد سكانها حوالي 80 مليون نسمة، ثم تأتي بعد تركيا كل من فرنسا 60 مليون نسمة، وبريطانيا 58 مليون نسمة تقريباً).


ومن أسباب الرفض ما هو ديني/ثقافي يرتبط بهوية حضارية إسلامية، يرى الرافضون أنها لا تنسجم مع الهوية "المسيحية" التي تجمع أعضاء النادي الأوروبي.


وإلى جانب ذلك ، هناك موقف ثالث يقدم حلاً وسطاً مفاده ألا تمنح تركيا عضوية كاملة وإنما  يتم منحها " شراكة متميزة" مع الاتحاد الأوروبي، وتتزعم ألمانيا هذا الاتجاه، بدعاوى مختلفة ترتكز أساسًا على عدم تجانس تركيا دينياً وثقافياً من باقي دول الاتحاد.


من العوامل الكثيرة التي تغذي جدلية "الاستيعاب/الاستبعاد" في العلاقات التركية الأوربية، الدور الإقليمي متعدد الأبعاد الذي يمكن أن تقوم به تركيا في منطقة الشرق العربي خاصة، وفي العالم الإسلامي عامة.


فهذا الدور يغري بعض القوى الأوربية باستيعاب تركيا في الاتحاد، أملاً في أن تسهم في تذليل صعوبات التواصل الاقتصادي والتجاري مع العالم الإسلامي والشرق العربي الأقرب نفسياً وحضارياً لتركيا، والأبعد عن أوروبا بفعل رواسب إرثها الاستعماري المرير.


بينما ترى قوى أوروبية أخرى أنها ليست بحاجة إلى القبول بتركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي كي تقوم –تركيا- بهذا الدور، لسببين رئيسيين:



  1. الأول: أن تركيا لن تنجح في أداء دورها كوسيط حضاري بين أوروبا والعالم الإسلامي إلا في إطار عودتها إلى هويتها المشرقية وهذا الاحتمال يتناقض مع مبدأ عضويتها في الاتحاد الأوروبي.
  2. والثاني: هو أن حصول تركيا على عضوية الاتحاد يكسبها قوة كبيرة من الناحيتين السياسية والاقتصادية، وهي لن تتردد في توظيف هذه القوة لتحقيق مصالحها في المشرق العربي والعالم الإسلامي عامة، وفي هذه الحالة لن تكسب أوروبا شيئاً من انضمامها، بل ربما تخسر بعض المزايا التي تتمتع بها حالياً لصالح النفوذ التركي المتصاعد.

وهكذا تجد أوروبا نفسها بين جدلية الفرص والتهديدات التي تنجم عن استيعاب تركيا أو استبعادها بالنظر إلى دورها الإقليمي في المشرق العربي خاصة، وفي العالم الإسلامي عامة.


ليس بيد أوروبا وحدها 


وللوهلة الأولى قد يبدو أن مفتاح العلاقات التركية الأوروبية في يد أوروبا، وأن تركيا تركض للإمساك بنسخة منه عبر انضمامها للاتحاد الأوروبي، ولكن هذا الانطباع غير صحيح، بل الصحيح هو أن في أنقرة كما في بروكسل قوة للمساومة على العضوية، وإن كانت غير متوازنة بطبيعة الحال لصالح الطرف الأوروبي.






عضوية الاتحاد الأوروبي ليست هدفاً بحد ذاته بالنسبة لتركيا وقد تكون بالفعل -كما يرى البعض- مجرد وهم وخيال، ولكن من المؤكد أنها مفيدة في توليد قوة دفع نحو الخروج من أوضاع تتناقض مع الحريات العامة، ولا تنسجم مع قواعد الحكم الديمقراطي الرشيد

إن قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي ينطوي على احتمالات أكثرها إيجابي بالنسبة لتركيا، ذلك لأن أوروبا ذاتها ستجني مصالح متنوعة إذا أصبحت تركيا عضوا كاملاً في ناديها من منظور متعدد الأبعاد يجمع بين الجوانب الثقافية والسياسية والاقتصادية والأمنية.

ومع ذلك لا توجد حتى الآن مؤشرات مشجعة من الجانب الأوروبي صاحب القرار النهائي في قبول العضوية أو رفضها، وآخرها قرار البرلمان الأوروبي في 13 مارس/آذار 2009 الذي عبر عن "حالة قلق" لتأخر أنقرة في تنفيذ التزاماتها، وخاصة تراجعها عن تعديل الدستور، في حين أن الموقف الأوروبي كان سلبياً عندما جرت محاولة تعديله وتوسيع حرية المرأة في ارتداء الحجاب في المؤسسات الحكومية، وخاصة في الجامعات.


ولكن هل يعني تردد المواقف الأوروبية في استيعاب تركيا أن تكف الأخيرة عن المحاولة؟ وهل يعني ذلك أن محاولاتها تسير في الاتجاه الخطأ وتجرى فقط وراء الوهم والسراب؟.


في تقديرنا إن منافع الاستمرار في المحاولة أكبر بكثير من التوقف عنها، وأن قرار المضي في الشوط حتى نهايته صحيح من المنظور الإستراتيجي الذي يأخذ في حسابه جملة المتغيرات المحلية (التركية) والإقليمية، والعالمية، وإن العضوية ليست هدفاً بحد ذاته وقد تكون بالفعل -كما يرى البعض- مجرد وهم وخيال، ولكن من المؤكد أنها مفيدة في توليد قوة دفع نحو الخروج من أوضاع تتناقض مع الحريات العامة، ولا تنسجم مع قواعد الحكم الديمقراطي الرشيد، وتنتقص-ليس فقط- من حقوق الإنسان وإنما تنتقص من "إنسانية الإسلام" الذي يدين به الشعب التركي.


ولا يغيب عنا في أي لحظة أن العوامل الحضارية والتاريخية ستكون أكثر حسماً من العوامل الاقتصادية في تحديد موقف المجموعة الأوروبية من عضوية تركيا. وأن زعماء أوروبا الذين نراهم اليوم مقتنعين بمركزية الحضارة الغربية غير مستعدين لرؤية دولة مسلمة عضواً في ناديهم الأوروبي.


ولكن المزاج التركي لا يقل اعتزازاً بهويته وعمقه الحضاري من ‘حساس الأوروبيين، وهو ما عبر عنه أردوغان في دافوس نهاية فبراير/شباط 2009 باعتراضه الواضح الذي لا لبس فيه على رواية الرئيس الإسرائيلي للجريمة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، وشهد عليها العالم كله، وبدا في اعتراضه هذا كما لو أنه  يسد قناة رئيسية يمكن أن تسهم في بلوغ تركيا إلى عضوية النادي الأوروبي، ولكنه لم يتردد في إعلان موقف تركيا بشجاعة وجرأة تليقان به وببلده.


ولا حجة لمن يلوم تركيا على تكثيف جهدها الساعي نحو الاتحاد الأوروبي أكثر منه نحو العالم الإسلامي، أولا لأن تركيا هي أصلا تحمل بعدا أوروبيا من الناحية الجغرافية والتاريخية، وثانيا لأن دول العالم الإسلامي لم تبذل مجهوداً يذكر لجذب تركيا إليه، وكان قربه أو بعده من تركيا محصلة لإرادة الطرف التركي أساسًا. وأفضل للعالم الإسلامي أن تكون إحدى دوله الكبيرة عضواً في أحد مراكز صنع القرار الدولي(الاتحاد الأوروبي) من أن لا يكون له صوت في أي من تلك المراكز على الإطلاق، وستظل جدلية الاندماج والاستبعاد هي المتحكمة في مسار العلاقات الأوروبية التركية، وفي مصير عضوية تركيا إلى النادي الأوروبي، إلى أن تتغلب نزعة الاستيعاب على نزعة الاستبعاد لدى الأوروبيين في النظر إلى الآخر الحضاري.
_______________
خبير الشئون التركية، رئيس قسم الرأي العام في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة. النص ملخص لدراسة موسعة يمكن الاطلاع عليها بالضغط هنا.


عودة للصفحة الرئيسية للملف