الموقف التركي من الحرب على غزة وآفاق دور إستراتيجي جديد

كان لافتا للنظر الحضور الفاعل للدبلوماسية التركية في الحرب الإسرائيلية على غزة والمبادرة التي تقدمت بها، وتظاهر مئات الآلاف من الأتراك في الشوارع.
18 January 2009

حسني محلي


تواجه الدبلوماسية التركية منذ استلام العدالة والتنمية للسلطة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 تحديات جدية وأحيانا خطيرة تارة بسبب الصراعات الإقليمية القومية والمذهبية (إيران الشيعية والعرب السنة) وتارة أخرى بسبب التناقضات العربية وأكثر
من ذلك الفلسطينية.


تحديات كثيرة
وبدأت هذه التحديات باختيار رئيس الوزراء عبد الله غول دمشق محطة أولى لجولته الشرق أوسطية بداية عام 2003 لمنع الحرب على العراق. وهو ما أزعج القاهرة آنذاك بحجة أنها زعيمة الأمة العربية ومقر جامعتها.


وجاء التحدي الثاني بتهرب أنقرة من الدخول في تحالفات سنية ضد إيران. وتحدي آخر عندما رفض أردوغان استضافة شارون في أنقرة وتلا ذلك اتهامه لإسرائيل بالدولة الإرهابية لاغتيالها الشيخ أحمد ياسين في مارس/ آذار 2004.


وكان رد الفعل الإسرائيلي عنيفا على هذه المواقف والتصريحات التي أزعجت اللوبي اليهودي في أمريكا وراحت تهدد أنقرة بخلق مشاكل سياسيا واقتصاديا لها، مذكرا بتخلص هذا اللوبي صيف 2002 من رئيس الوزراء الأسبق الراحل بولنت أجويت الذي أتهم إسرائيل بالقيام بمجازر عرقية جماعية ضد الفلسطينيين خلال أحداث جنين عام 2001.


ودون أن تكون زيارة أردوغان إلى تل أبيب في يونيو/ حزيران 2005 ولقائه بشارون كافيا بالنسبة لتل أبيب واللوبي اليهودي حتى تغفر له "جريمته الكبرى" خاصة بعد أن أستضاف رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في أنقرة 16 فبراير/ شباط 2006.





حرص أردوغان على تطوير علاقات أنقرة مع العواصم العربية بعد أن أقنعها أنه ليس طرفا في الخلافات العربية البينية، بل يسعى إلى تخفيف وطأة الخلافات على الواقع العربي وانعكاسات ذلك على قضايا المنطقة عربيا وإسلاميا
وحرص أردوغان طيلة الفترة الماضية على تطوير علاقات أنقرة مع جميع العواصم العربية بعد أن أقنعها أنه ليس طرفا في الخلافات العربية البينية، بل على العكس من ذلك حاول أردوغان إقناع هذه العواصم أنه يسعى لتخفيف وطأة الخلافات على الواقع العربي وانعكاسات ذلك على قضايا المنطقة عربيا وإسلاميا، والاستناد في ذلك إلى أن تركيا دولة إسلامية مهمة ولها تاريخ طويل مع دول المنطقة العربية.

وهو ما يفسر دعوة أردوغان إلى القمة العربية في الخرطوم عام 2006 ثم الرياض 2007 لأول مرة في تاريخ العلاقات العربية التركية بعد أن تم انتخاب التركي أكمل الدين أحسان أوغلو أمينا عاما لمنظمة المؤتمر الإسلامي عام 2005.


ودون أن يهمل أردوغان ورفاقه الملف الفلسطيني حيث يعرف الجميع عنهم مدى تضامنهم الإنساني والديني والوجداني مع قضية فلسطين منذ أن كانوا شبابا وتلامذة للزعيم الإسلامي ورئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان (الذي أجبر عام 1996 على التوقيع على اتفاقية التعاون العسكري مع تل أبيب) وأحفاد السلطان عبد الحميد الذي يعرف الجميع كيف رفض أعطاء شبر من فلسطين لليهود ودفع ثمن ذلك بإسقاطه من الحكم.


وبذل أردوغان وعبد الله غول مساعي خاصة ومكثفة لتحقيق المصالحة الفلسطينية ليساهم ذلك في تحقيق الوحدة الوطنية ودعم الموقف الفلسطيني الموحد في مواجهة الاحتلال والظلم الإسرائيلي.


لأن الجميع يعرف أن أردوغان ورفاقه لن يكون سهلا عليهم القبول بحقيقة الاحتلال واستمرار العدوان والظلم الإسرائيلي على فلسطين ودول المنطقة العربية التي يسعى أردوغان وغول للعب دور مهم فيها من أجل الأمن والسلام والاستقرار.


ولكن في ظل المعطيات الإقليمية والدولية التي تعني في نفس الوقت الاعتراف والقبول بإسرائيل دولة واقعة في المنطقة على الرغم من التربية الإسلامية لأردوغان وغول اللذان  يريان في إسرائيل خطرا إستراتيجيا ليس فقط على فلسطين والعرب بل على تركيا ايضا.


وهو الشعور الذي تجاهله أردوغان وغول وتابعا اتصالاتهما مع تل أبيب لا عن رضا أو غصب منهما بل بسبب المصالح العليا للدولة والأمة التركية التي تجد نفسها مضطرة للحوار وأحيانا التعاون مع منظمات اللوبي اليهودي المؤثرة في أميركا.


حيث تتصدى هذه المنظمات لمساعي اللوبي الأرمني لتمرير قانون من الكونغرس الأمريكي يقر المجازر التي يقول الأرمن إن الأتراك قد قاموا بها ضدهم عام 1915 كما أنها تشجع المؤسـسات المالية العالمية لإقراض تركيا والاستثمار فيها.


وعرف الجميع أيضا أن أردوغان ورفاقه لا يستطيعون تجاهل الضغوط التي يتعرضون لها من قيادات اللوبي اليهودي الأمريكي وتل أبيب بل وحتى واشنطن وبعض العواصم الأوروبية التي تستغرب الموقف التركي المعادي لإسرائيل في الوقت الذي يتهرب فيه غالبية الزعماء العرب من اتخاذ أي موقف واضح تجاه تل أبيب وسياساتها العدوانية في المنطقة.


كما يواجه أردوغان ورفاقه انتقادات عنيفة من بعض الأوساط التقليدية داخل تركيا والمعروف عنها تضامنها مع تل أبيب وواشنطن التي تقول لأردوغان لماذا هذا التحمس في الاهتمام والتضامن مع الفلسطينيين طالما أن الفلسطينيين أنفسهم يتقاتلون فيما بينهم كما تتآمر بعض الأنظمة العربية عليهم أيضا.


ولا تهمل هذه الأوساط استغلال"التطرف الإسلامي لحماس" لاتهام أردوغان بالانحياز إلى جانبها وهو ما يتناقض مع أسـس ومبادئ الجمهورية العلمانية ومصالحها الإستراتيجية المقصود بها العلاقة مع أمريكا وإسرائيل ومنظمات اللوبي اليهودي مع التذكير بخيانة العرب للدولة العثمانية بثورة الشريف حسين عام 1916.


ويسعى أردوغان للتخفيف من وطأة هذه الضغوط الداخلية والخارجية بالحوار الساخن مع تل أبيب والحفاظ على علاقات التعاون الاقتصادي والعسكري معها في جميع المجالات، خاصة أن إسرائيل تستغل الوضع التركي الداخلي وتتصيد الفرص لإثبات رغبتها في دعم أنقرة في حربها ضد حزب العمال الكردستاني، وهو ما يفسر بيع تل أبيب الجيش التركي طائرات التجسـس بدون طيار لاستخدامها في مراقبة ورصد تحركات عناصر الكردستاني شمال العراق وجنوب شرق تركيا وهو ما يكسب إسرائيل شعبية كبيرة داخل الساحة التركية وخاصة الجيش الذي أنزل ضربات قوية على الحزب الكردستاني شمال العراق وجنوب شرق البلاد بفضل طائرات التجسـس والتكنولوجيا العسكرية المتطورة التي حصل عليها من تل أبيب التي لعبت دورا أساسيا في عملية أخراج عبد الله أوجلان من سوريا في أكتوبر/ تشرين الأول 1998 ثم اختطافه بالتعاون مع المخابرات الأمريكية من العاصمة الكينية نيروبي وتسليمه لتركيا 14 فبراير/ شباط 1999.


دبلوماسية نشطة



إن لم يقتنع مثقفوه وساسته بأهمية الدور التركي الجديد في المنطقة فالحظ لن يحالفهم بعد الآن في حل أي من مشاكلهم هذا بالطبع إن بقي هناك من يريد حل هذه المشاكل بكل صدق وإيمان
ودون أن تمنع كل هذه المعطيات المعقدة عربيا وإقليميا ودوليا أردوغان من متابعة المساعي التي بدأها منذ استلامه للسلطة مؤمنا بضرورة أن تلعب تركيا دورا مهما في مجمل تطورات المنطقة المحيطة بها في الشرق الأوسط والقوقاز وأسيا الوسطى والبلقان.

حيث استمر التحرك التركي على جميع هذه الجبهات خلال الفترة الماضية إلى أن أثمر هذا التحرك بإقناع تل أبيب ودمشق بضرورة الوساطة التركية من أجل التوصل لاتفاق سلام سوري إسرائيلي ينعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على السلام الإسرائيلي مع الفلسطينيين ولبنان.


وحظيت هذه الوساطة التركية خلال الأشهر الماضية بدعم أمريكي وأوربي خاصة بعد لقاء أردوغان مع الرئيس الفرنسي ساركوزي في دمشق نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي حيث اكتسبت هذه الوساطة طابعا وبعدا جديدين من خلال التنسيق والتعاون الفرنسي التركي الهادف إلى تحقيق السلام الشامل في المنطقة بكل أبعاده السورية واللبنانية والفلسطينية.
 
ولم يتردد أردوغان في توجيه انتقادات عنيفة جدا لإسرائيل وساستها مع استمرار الغضب الشعبي العارم على عدون غزة حيث خرج طيلة الأيام الماضية مئات الآلاف من المواطنين الأتراك من مختلف الاتجاهات والميول إلى الشوارع تعبيرا عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني واستنكارهم للعدوان. كما ناشد المتظاهرون وقادة أحزاب المعارضة الحكومة لقطع العلاقات مع تل أبيب فورا ووقف كافة أنواع التعاون وخاصة العسكري معها لإثبات مصداقية تصريحات أردوغان ضد إسرائيل التي مازالت لها علاقات سياسية وعسكرية واقتصادية مع تركيا التي تسمح للطائرات الإسرائيلية بالتدريب في أجوائها منذ عام 1997 حيث قامت تل أبيب بتحديث الطائرات والدبابات التركية.


ووضعت دعوات المعارضة لقطع العلاقات مع تل أبيب أو تعليقها، أردوغان أمام خيارات وتحديات جديدة خاصة بعد أن اتهم تل أبيب بعدم احترام تركيا بسبب هجومها على غزة بعد أيام من زيارة رئيس الوزراء أولمرت إلى أنقرة معتبرا هذا الموقف الإسرائيلي أشارة مهمة لرفضها للسلام في المنطقة حيث سبق لتل أبيب أن سربت بداية عام 2007 المعلومات الخاصة بمساعي وزير الخارجية عبد الله غول السرية لإنقاذ الجندي الإسرائيلي المختطف من قبل حماس. كما لم يتردد أردوغان في اتهام أولمرت خلال زيارته لأنقرة في أبريل/ نيسان 2007 بالكذب فيما يتعلق بالحفريات تحت الحرم الشريف وقال له أمام الصحفيين أنه سيرسل لجنة خاصة للتأكد من صحة المعلومات الخاصة بالحفريات الإسرائيلية التي أكد ت اللجنة التركية فيما بعد صحتها.


وكانت هذه الذكريات وأخيرا موقف أولمرت خلال زيارته الأخيرة لأنقرة كافيا بالنسبة لأردوغان الذي أستبعد أي زيارة لإسرائيل خلال وبعد جولته الإقليمية التي سعى من خلالها لتقريب وجهات النظر العربية وإقناع قيادات حماس وفتح بضرورة الاتفاق على الحد الأدنى من القواسم المشتركة التي يجب أن توحد الصف الفلسطيني أمام العدوان الإسرائيلي.


في الوقت الذي تتوقع فيه المصادر الدبلوماسية لمبادرة أردوغان أن تساهم في أي مشروع يحقق إنهاء العدوان ووقف أطلاق النار خاصة بعد فشل الزعماء العرب في الاتفاق على تحرك عربي مشترك قد يحل محله تحرك تركي (بالتنسيق مع دمشق والدوحة وباريس) بعد أن حرص أردوغان طيلة الفترة الماضية ليبقى على الحياد في علاقاته مع العواصم العربية على الرغم من أنه يؤمن تماما بضرورة استقلالية القرار العربي بعيدا عن أي حسابات خارجية تريد للمنطقة أن تبقى على ما هي عليه.


فرصة تاريخية وإستراتيجية



تركيا تملك كل مقومات الدور الإقليمي ليس فقط بسبب علاقاتها مع جميع دول المنطقة وعضويتها في الحلف الأطلسي وحوارها الساخن مع الاتحاد الأوربي وموقعها الجغرافي بل أيضا لأنها وريثة الإمبراطورية العثمانية التي حكمت هذه المنطقة مدة 400 عام 
ويرى أردوغان في الواقع الفلسطيني والعربي تشجيعا لتل أبيب على الاستمرار في سياستها العدوانية التي تعرقل السلام في المنطقة. وهو ما لا يقبله ولن يقبله أردوغان ورفاقه أيمانا منهم بضرورة وأهمية تحقيق هذا السلام الذي يرى فيه أردوغان فرصة تاريخية وإستراتيجية تخدم مصالح دول وشعوب المنطقة عموما وبشكل خاص تركيا التي تملك كل مقومات الدور الإقليمي ليس فقط بسب علاقاتها مع جميع دول المنطقة وعضويتها في الحلف الأطلسي وحوارها الساخن مع الاتحاد الأوربي وموقعها الجغرافي بل أيضا لأنها وريثة الإمبراطورية العثمانية التي حكمت هذه المنطقة مدة 400 عام إلى أن جاء حزب الاتحاد والترقي الذي أسسه القوميون الأتراك بدعم من الماسونيين واليهود ليقضي على هذه الإمبراطورية ويضع العرب والأتراك في خندقين معاديين من خلال ثورة الشريف حسين التي يعتبرها الأتراك طعنة خائنة من العرب لأشقائهم الأتراك حماة الإسلام لمئات السنين.

وفي الوقت الذي يرى فيه الكثير من المثقفين والساسة الأتراك في هذه الخيانة سببا مباشرا للواقع العربي الممزق فإن أردوغان يسعى وربما لآخر مرة لتوحيده ولو نفسيا من خلال مبادرته الأخيرة وقبل فوات الأوان. ويرى الكثيرون في تركيا أن استمرار هذا الوضع العربي بداية النهاية الحتمية لما يسمى بالأمة العربية نواة الأمة الإسلامية ليس فقط دينيا بل أيضا سياسيا وجغرافيا واجتماعيا وثقافيا. ودفع هذا الرأي والقناعة أردوغان ورفاقه للتدخل العاجل لمواجهة ومنع مثل هذه النهاية التي لا يخفِي الشارع التركي قلقه منها خاصة مع تجاهل الشارع العربي لها عمليا.


كما يستغرب الأتراك مواقف الدول العربية وشعوبها التي تظهر كأنها غير مبالية بكل الجرائم التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ سقوط الدولة العثمانية وظهور ما يسمى بالدول العربية ضمن خارطة سايكس بيكو وفشل العرب من القوميين والإسلاميين واليساريين واليمينيين في التخلص من تبعاتها الخطيرة التي منعتهم طيلة الفترة الماضية وما زالت حتى من الاتفاق على الحد الأدنى من القواسم المشتركة للمصلحة العامة وهي شرف وكرامة الإنسان العربي بالمفهوم الاجتماعي والأخلاقي قبل أن يكون بالمفهوم القومي والسياسي.


وهو ما يفسر استخدام أردوغان لمصطلح الجغرافيا عند حديثه عن ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط أيمانا منه بضرورة الاتفاق على الحد الأدنى من المصالح المشتركة لشعوب ودول هذه الجغرافيا من العرب والأتراك والفرس بل وحتى الأكراد الذين يسعى أردوغان للمصالحة معهم داخل تركيا وفي شمال العراق كما هو يسعى للمصالحة مع العدو التاريخي والتقليدي أرمينيا.


حيث يؤمن أردوغان بضرورة ترتيب البيت داخليا قبل التفكير بأي دور إقليمي خاصة إذا كان بهذه الأهمية الإستراتيجية بالنسبة لمستقبل الجغرافيا التي بدون أقناع العرب بكل ميولهم واتجاهاتهم الدينية والمذهبية والسياسية والفكرية والاجتماعية فالحظ لن يحالف أردوغان في تحقيق أي من أهدافه حتى لو أختار طريق أتاتورك الذي أقام الجمهورية الحديثة عام 1923 على أنقاض الدولة العثمانية قائلا إن هدف هذه الجمهورية هو الحضارة الغربية المعاصرة التي جعلت بدون شك من أردوغان ورفاقه بل والإسلام التركي يختلفون كثيرا عما هو عليه أمثالهم في العالم العربي الذي إن لم يقتنع مثقفوه وساسته بأهمية الدور التركي الجديد في المنطقة فالحظ لن يحالفهم بعد الآن في حل أي من مشاكلهم هذا بالطبع إن بقي هناك من يريد حل هذه المشاكل بكل صدق وأيمان.
_________________
كاتب ومحلل سياسي تركي